كتاب النية والإخلاص والصدق - الباب الأول: في حقيقة النية ومعناها

وهو الكتاب السابع من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمد الله حمد الشاكرين، ونؤمن به إيمان الموقنين، ونقر بوحدانيته إقرار الصادقين، ونشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وخالق السموات والأرضين، ومكلف الجن والإنس والملائكة المقربين أن يعبدوه عبادة المخلصين، فقال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " فما لله إلا الدين الخالص المتين، فإنه أغنى الأغنياء عن شركة المشاركين، والصلاة على نبيه محمد سيد المرسلين وعلى جميع النبيين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. أما بعد: فقد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة فالناس كلهم هلكى إلا العالمون؛ والعالمون كلهم هلكى العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم. فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء، ومع العصيان سواه، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قلل الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوباً مغموراً " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً " وليت شعري كيف يصحح نيته من لا يعرف حقيقة النية؟ أو كيف يخلص من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص؟ أو كيف تطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه؟ فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى أن يتعلم النية أولاً لتحصل المعرفة، ثم يصححها بالعمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتا العبد إلى النجاة والخلاص.

ونحن نذكر معاني الصدق والإخلاص في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في حقيقة النية ومعناها.

الباب الثاني: في الإخلاص وحقائقه.

الباب الثالث: في الصدق وحقيقته.

الباب الأول

في حقيقة النية ومعناها

وفيه بيان فضيلة النية، وبيان حقيقة النية، وبيان كون النية خيراً من العمل، وبيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنفس، وبيان خروج النية عن الاختيار.

بيان فضيلة النية

قال الله تعالى " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " والمراد بتلك الإرادة هي النية.

وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

وقال صلى الله عليه وسلم: " أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته".

وقال تعالى: " إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " فجعل النية سبب التوفيق.

وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وإنما نظر إلى القلوب لأنها مظنة النية.

وقال صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول: ألقوا هذه الصحيفة فإنه لم يرد فيها وجهي ثم ينادي الملائكة: اكتبوا له كذا وكذا اكتبوا له كذا وكذا فيقولون: يا ربنا إنه لم يعمل شيئاً من ذلك فيقول الله تعالى: إنه نواه".

وقال صلى الله عليه وسلم: " الناس أربعة: رجل أتاه الله عز وجل علماً ومالاً فهو يعمل بعلمه في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله تعالى مثل ما آتاه لعملت كما يعمل، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله تعالى مالاً ولم يؤته علماً فهو يتخبط بجهله في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت كما يعمل، فهما في الوزر سواء". ألا ترى كيف شركه بالنية في محاسن عمله ومساويه. وكذلك في حديث أنس بن مالك: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال: " إن بالمدينة أقواماً ما قطعنا وادياً ولا وطئنا موطئاً يغيظ الكفار ولا أنفقنا نفقة ولا أصابتنا مخمصة إلا شركونا في ذلك وهم بالمدينة!" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله وليسوا معنا؟ قال: "حبسهم العذر فشركوا بحسن النية".

وفي حديث ابن مسعود: من هاجر يبتغي شيئاً فهو له، فهاجر رجل فتزوج امرأة منا فكان يسمى مهاجر أم قيس.

وكذلك جاء في الخبر: " إن رجلاً قتل في سبيل الله وكان يدعى قتيل الحمار" لأنه قاتل رجلاً ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته.

وفي حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى". وقال أبي: استعنت رجلاً يغزو معي فقال: لا حتى تجعل لي جعلاً، فجعلت له، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ليس له من دنياه وآخرته إلا ما جعلت له".


وروي في الإسرائيليات: أن رجلاً مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه: لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أن قل له إن الله تعالى قد قبل صدقتك وقد شكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به.

وقد ورد في أخبار كثيرة: " من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة".وفي حديث عبد الله بن عمرو: " من كانت الدنيا نيته جعل الله فقره بين عينيه وفارقها أرغب ما يكون فيها ومن تكن الآخرة نيته جعل الله تعالى غناه في قلبه وجمع عليه ضيعته وفارقها أزهد ما يكون فيها".

وفي حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر جيشاً يخسف بهم البيداء فقلت: يا رسول الله أيكون فيهم المكره والأجير؟ فقال: " يحشرون على نياتهم".

وقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما يقتتل المقتتلون على النيات".

وقال عليه السلام: " إذا التقى الصفان نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم فلان يقاتل للدنيا فلان يقاتل حمية فلان يقاتل عصبية ألا فلا تقولوا فلان قتل في سبيل الله فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".

وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يبعث كل عبد على ما مات عليه".

وفي حديث الأحنف عن أبي بكرة: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: " لأنه أراد قتل صاحبه".

وفي حديث أبي هريرة: " من تزوج امرأة على صداق وهو لا ينوي أداءه فهو زان، ومن أدان ديناً وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق".

وقال صلى الله عليه وسلم: " من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة".

وأما الآثار: فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى والورع عما حرم الله تعالى وصدق النية فيما عند الله تعالى.

وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية فمن تمت نيته تم عون الله له وإن نقصت نقص بقدره.

وقال بعض السلف: رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية.

وقال داود الطائي: البر همته التقوى فلو تعلقت جميع جوارحه بالدنيا لردته نيته يوماً إلى نية صالحة وكذلك الجاهل بعكس ذلك.

وقال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل.

وقال بعض العلماء: اطلب النية للعمل قبل العمل، وما دمت تنوي الخير فأنت بخير.

وكان بعض المريدين يطوف على العلماء يقول: من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملاً لله تعالى فإني لا أحب أن يأتي علي ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله، فقيل له: قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت فإذا فترت أو تركته فهم بعمله فإن الهام بعمل الخير كعامله.

وكذلك قال بعض السلف: وإن نعمة الله عليكم أكثر من أن تحصوها وإن ذنوبكم أخفى من أن تعلموها ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين يغفر لكم ما بين ذلك.

وقال عيسى عليه السلام: طوبى لعين نامت ولا تهم بمعصية وانتبهت إلى غير إثم.

وقال أبو هريرة: يبعثون يوم القيامة على قدر نياتهم.

وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ " ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " يبكي ويرددها ويقول إنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.

وقال الحسن: إنما خلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بالنيات.

وقال أبو هريرة: مكتوب في التوراة: ما أريد به وجهي فقليله كثير، وما أريد به غيري فكثيره قليل.

وقال بلال بن سعد: إن العبد ليقول قول مؤمن فلا يدعه الله عز وجل وقوله حتى ينظر في عمله، فإذا عمل لم يدعه الله حتى ينظر في ورعه، فإن تورع لم يدعه حتى ينظر ماذا نوى، فإن صلحت نيته فبالحري أن يصلح ما دون ذلك فإذن عماد الأعمال النيات فالعمل مفتقر إلى النية لصير بها خيراً، والنية في نفسها خير وإن تعذر العمل بعائق.

بيان حقيقة النية

اعلم أن النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد، وهو حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران: علم، وعمل، العلم يقدمه لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه، وذلك لأن كل عمل أعني كل حركة وسكون اختياري فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة. لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه فلا بد وأن يعلم، ولا يعمل ما لم يرد فلا بد من إرادة. ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض إما في الحال أو في المآل، فقد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور ويلائم غرضه، ويخالفه بعض الأمور، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه ودفع الضار المنافي عن نفسه، فافتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك للشيء المضر والنافع حتى يجلب هذا ويهرب من هذا، فإن من لا يبصر الغذاء ولا يعرفه لا يمكنه أن يتناول، ومن لا يبصر النار لا يمكنه الهرب منه، فخلق الله الهداية والمعرفة وجعل لها أسباباً وهي الحواس الظاهرة والباطنة - وليس ذلك من غرضنا - ثم لو أبصر الغذاء وعرف أنه موافق له فلا يكفيه ذلك لنتناول ما لم يكن فيه ميل إليه ورغبة فيه وشهوة له باعثة عليه، إذا المريض يرى الغذاء ويعلم أنه موافق ولا يمكنه التناول لعدم الرغبة والميل ولفقد الداعية المحركة إليه، فخلق الله تعالى له الميل والرغبة والإرادة - وأعني به نزوعاً في نفسه إليه وتوجهاً في قلبه إليه - ثم ذلك لا يكفيه من مشاهد طعاماً راغب فيه مريد تناوله عاجز عنه لكونه زمناً؟ فخلقت له القدرة والأعضاء المتحركة حتى يتم به التناول، والعضو لا يتحرك إلا بالقدرة، والقدرة تنتظر الداعية الباعثة، والداعية تنتظر العلم والمعرفة أو الظن والاعتقاد وهو أن يقوى في نفسه كون الشيء موافقاً له، فإذا جزمت المعرفة بأن الشيء موافق ولا بد وأن يفعل، وسمت عن معارضة باعث آخر صارف عنه انبعثت الإرادة وتحقق الميل، فإذا انبعثت الإرادة انتهضت القدرة لتحريك الأعضاء فالقدرة خادمة للإرادة، والإرادة تابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة. فالنية عبارة عن الصفة المتوسطة وهي الإرادة وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما موافق للغرض إما في الحال وإما في المآل. فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث، والغرض الباعث هو المقصد المنوي، والانبعاث هو القصد والنية، وانتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل، إلا أن انتهاض القدرة للعمل قد يكون بباعث واحد وقد يكون بباعثين اجتمعا في فعل واحد. وإذا كان بباعثين فقد يكون كل واحد بحيث لو انفرد لكان ملياً بإنهاض القدرة، وقد يكون كل واحد قاصراً عنه إلا بالاجتماع؟ وقد يكون أحدهما كافياً لولا الآخر لكن الآخر انتهض عاضداً له ومعاوناً. فيخرج من هذا القسم أربعة أقسام: فلنذكر لكل واحد مثالاً واسماً.

أما الأول: فهو أن ينفرد الباعث الواحد ويتجرد، كما إذا هجم على الإنسان سبع فكلما رآه قام من موضعه، فلا مزعج له إلا غرض من الهرب من السبع فإنه رأى السبع وعرفه ضاراً فانبعثت نفسه إلى الهرب ورغبت فيه، فانتهضت القدرة عاملة بمقتضى الانبعاث، فيقال: نيته الفرار من السبع لا نية له في القيام لغيره. وهذه النية تسمى خالصة ويسمى العمل بموجبها إخلاصاً بالإضافة إلى الغرض الباعث، ومعناه أنه خلص عن مشاركة غيره وممازجته.

وأما الثاني: فهو أن يجتمع باعثان كل واحد مستقل بالإنهاض لو انفرد، ومثاله من المحسوس أن يتعاون رجلان على حمل شيء بمقدار من القوة كان كافياً في الحمل لو انفرد. ومثاله في غرضنا أن يسأله قريبه الفقير حاجة فيقضيها لفقره وقرابته، وعلم أنه لولا فقره لكان يقضيها بمجرد القرابة وأنه لولا قرابته لكان يقضيها بمجرد الفقر، وعلم ذلك من نفسه بأنه يحضره قريب غني فيرغب، في قضاء حاجته، وفقيرا أجنبي فيرغب أيضاً فيه، وكذلك من أمره الطبيب بترك الطعام ودخل عليه يوم عرفة فصام وهو يعلم أنه لو لم يكن يوم عرفة لكان يترك الطعام حمية، ولولا الحية لكان يتركه لأجل أنه يوم عرفة، وقد اجتمعا جميعاً فأقدم على الفعل وكان الباعث الثاني رفيق الأول، فلنسم هذا: مرافقة للبواعث. والثالث: أن لا يستقل كل واحد لو انفرد ولكل قوى مجموعهما على إنهاض القدرة. ومثاله في المحسوس أن يتعاون ضعيفان على حمل ما لا ينفرد أحدهما به، ومثاله غرضنا أن يقصد قريبه الغني فيطلب درهماً فلا يعطيه، ويقصده الأجنبي الفقير فيطلب درهماً فلا يعطيه، ثم يقصده القريب فيعطيه، فيكون انبعاث داعيته بمجموع الباعثين وهو القرابة والفقر. وكذلك الرجل يتصدق بين يدي الناس لغرض الثواب ولغرض الثناء، ويكون بحيث لو كان منفرداً لكان لا يبعثه مجرد قصد الثواب على العطاء، ولو كان الطالب فاسقاً لا ثواب في التصدق عليه لكان لا يبعثه مجرد الرياء على العطاء، ولو اجتمعا أورثا بمجموعهما تحريك القلب. ولنسم هذا الجنس مشاركة.

والرابع: أن يكون أحد الباعثين مستقلاً لو انفرد بنفسه والثاني لا يستقل. ولكن لما انضاف إليه لم ينفك عن تأثير بالإعانة والتسهيل. ومثاله في المحسوس أن يعاون الضعيف الرجل القوي على الحمل، ولو انفرد القوي لاستقل ولو انفرد الضعيف لم يستقل، فإن ذلك بالجملة يسهل العمل ويؤثر في تخفيفه. ومثاله في غرضنا أن يكون للإنسان ورد في الصلاة وعادة في الصدقات فاتفق أن حضر في وقتها جماعة من الناس، فصار الفعل أخف علة بسبب مشاهدتهم، وعلم من نفسه أنه لو كان منفرداً خالياً لم يفتر عن عمله،وعلم أن عمله لو لم يكن طاعة لم يكن مجرد الرياء يحمله عليه، فهو شرب تطرق إلى النية، ولنسم هذا الجنس المعاونة.

فالباعث إما أن يكون رفيقاً أو شريكاً أو معيناً، وسنذكر حكمها في باب الإخلاص. والغرض الآن بيان أقسام النيات، فإن العمل تابع للباعث عليه فيكتسب الحكم منه. ولذلك قيل: إنما الأعمال بالنيات، لأنها تابعة لا حكم لها في نفسها وإنما الحكم للمتبوع.

بيان سر قوله صلى الله عليه وسلم نية المؤمن خير من عمله

اعلم أنه قد يظن أن سبب هذا الترجيح أن النية سر لا يطلع عليه إلا الله تعالى، والعمل الظاهر، ولعمل السر فضل. وهذا صحيح ولكن ليس هو المراد؛ لأنه لو نوى أن يذكر الله بقلبه أو يتفكر في مصالح المسلمين فيقتضي عموم الحديث أن تكون نية التفكر خيراً من التفكر، وقد يظن أن سبب الترجيح أن النية تدوم إلى آخر العمل والأعمال لا تدوم وهو ضعيف، لأن ذلك يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من القليل، بل ليس كذلك فإن نية أعمال الصلاة قد لا تدوم إلا في لحظات معدودة والأعمال تدوم، والعموم يقتضي أن تكون نيته خيراً من عمله. وقد يقال: إن معناه أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهو كذلك ولكنه بعيد أن يكون هو المراد، إذ العمل بلا نية أو على الغفلة لا خير فيه أصلاً، والنية بمجردها خير؛ وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخير، بل المعنى أن كل طاعة تنتظم بنية وعمل وكانت النية من جملة الخيرات وكان العمل من جملة الخيرات ولكن النية من جملة الطاعة خير من العمل، أي لكل واحد منهما أثر في المقصود وأثر في النية أكثر من أثر العمل، فمعناه: نية المؤمن من جملة طاعته خير من عمله الذي هو من جملة طاعته، والغرض أن للعبد اختياراً في النية وفي العمل، فهما عملان والنية من الجملة خيرهما؛ فهذا معناه. وأما سبب كونها خيراً ومترجحة على العمل فلا يفهمه إلا من فهم مقصد الدين وطريقه ومبلغ أثر الطريق في الاتصال إلى المقصد وقاس بعض الآثار بالبعض حتى يظهر له بعد ذلك الأرجح بالإضافة إلى المقصود. فمن قال: الخبز خير من الفاكهة، فإنما يعني به أنه خير بالإضافة إلى مقصود القوت والاغتذاء، ولا يفهم ذلك إلا من فهم أن للغذاء مقصداً وهو الصحة والبقاء، وأن الأغذية مختلفة الآثار فيها، وفهم أثر كل واحد وقاس بعضها بالبعض فالطاعات غذاء للقلوب، والمقصود شفاؤها وبقاؤها وسلامتها في الآخرة، وسعادتها وتنعمها بلقاء الله تعالى، فالمقصد لذة السعادة بلقاء الله فقط، ولن يتنعم بلقاء الله إلا من مات محباً لله تعالى عارفاً بالله، ولن يحبه إلا من عرفه ولن يأنس بربه إلا من طال ذكره له، فالآنس يحصل بدوام الذكر، والمعرفة تحصل بدوام الفكر، والمحبة تتبع المعرفة بالضرورة، ولن يتفرغ القلب لدوام الذكر والفكر إلا إذا فرغ من شواغل الدنيا، ولن يتفرغ من شواغلها إلا إذا انقطع عنه شهواتها حتى يصير مائلاً إلى الخير مريداً له نافراً عن الشر مبغضاً له، وإنما يميل إلى الخيرات والطاعات إذا علم أن سعادته في الآخرة منوطة بها، كما يميل العاقل إلى الفصد والحجامة لعلمه بأن سلامته فيهما، وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة فإنما يقوى بالعمل بمقتضى الميل والمواظبة عليه، فإن المواظبة على مقتضى صفات القلب وأرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفة حتى تترشح الصفة وتقوى بسببها. فالمائل إلى طلب العلم أو الرياسة لا يكون ميله في الابتداء إلا ضعيفاً، فإن اتبع مقتضى الميل واشتغل بالعلم وتربية الرياسة والأعمال المطلوبة لذلك تأكيد ميله ورسخ وعسر عليه النزوع، وإن خالف مقتضى ميله ضعف ميله وانكسر وربما زال وانمحق، بل الذي ينظر إلى وجه حسن مثلاً فيميل إليه طبعه ميلاً ضعيفاً، لو تبعه وعمل بمقتضاه فداوم على النظر والمجالسة والمخالطة والمحاورة تأكد ميله حتى يخرج أمره عن اختياره فلا يقدر على النزوع عنه، ولو فطم نفسه ابتداء وخالف مقتضى ميله لكان ذلك كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل، ويكون ذلك زبراً ودفعاً في وجهه حتى يضعف وينكسر بسببه وينقمع وينمحي. وهكذا جميع الصفات والخيرات والطاعات كلها هي التي تراد بها الآخرة، والشرور كلها هي التي تراد بها الدنيا لا الآخرة. وميل النفس إلى الخيرات الأخروية وانصرافها عن الدنيوية هو الذي يفرغها للذكر والفكر، ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعة وترك المعاصي بالجوارح، لأن بين الجوارح وبين القلب علاقة حتى إنه يتأثر كل واحد منهما بالآخر، فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب، وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز من أعزته أو بهجوم أمر مخوف تأثرت به الأعضاء وارتعدت الفرائض وتغير اللون، إلا أن القلب هو الأصل المتبوع فكأنه الأمير والراعي والجوارح كالخدم والرعايا والأتباع. فالجوارح خادمة للقلب بتأكيد صفاتها فيه، فالقلب هو المقصود والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد".

وقال عليه الصلاة والسلام: " اللهم أصلح الراعي والرعية". وأراد بالراعي القلب.

وقال الله تعالى: " لن ينال لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " وهي صفة القلب. فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح. ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له.

وغرضنا من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير ويؤكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهوات الدنيا ويكب على الذكر والفكر. فبالضرورة يكون خيراً بالإضافة إلى الغرض لأنه متمكن من نفس المقصود، وهذا كما أن المعدة إذا تألمت فقد تداوى بأن يوضع الطلاء على الصدر وتداوى بالشرب والدواء الواصل إلى المعدة، فالشرب خير من طلاء الصدر لأن طلاء الصدر أيضاً إنما أريد به أن يسري منه الأثر إلى المعدة، فما يلاقي عين المعدة فهو خير وأنفع. فهكذا ينبغي أن تفهم تأثير الطاعات كلها، إذ المطلوب منها تغيير القلوب وتبديل صفاتها فقط دون الجوارح، فلا تظنن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب، فإن من يجد في نفسه تواضعاً، فإذا استكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكد تواضعه ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله تأكد الرقة في قلبه، ولهذا لم يكن العمل بغير نية مفيد أصلاً، لأن من يمسح رأس يتيم وهو غافل أو ظان أنه يمسح ثوباً - لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة، وكذلك من يسجد غافلاً وهو مشغول الهم بأعراض الدنيا لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتاكد به التواضع، فكان وجود ذلك كعدمه، وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يسمى باطلاً، فيقال: العبادة بغير نية باطلة وهذا معناه إذا فعل عن غفلة، فإذا قصد به رياء أو تعظيم شخص آخر لم يكن وجوده كعدمه بل زاده شراً، فإنه لم يؤكد الصفة المطلوب تأكيدها حتى أكد الصفة المطلوب قمعها وهي صفة الرياء التي هي من الميل إلى الدنيا. فهذا وجه كون النية خير من العمل.

وبهذا أيضاً يعرف معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة " لأن هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى وحب الدنيا وهي غاية الحسنات، وإنما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيداً، فليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم بل ميل القلب عن حب الدنيا وبذلها إيثاراً لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة وإن عاق عن العمل عائق ف " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " والتقوى ههنا صفة القلب، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: " إن قوماً بالمدينة قد شركونا في جهادنا " - كما تقدم ذكره - لأن قلوبهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى كقلوب الخارجين في الجهاد وإنما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات. وبهذه المعاني تفهم جميع الأحاديث التي أوردناه في فضيلة النية فاعرضها عليها لينكشف لك أسرارها فلا تطول بالإعادة.

بيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنية

اعلم أن الأعمال وإن انقسمت أقساماً كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه - فهي ثلاثة أقسام: معاص وطاعات ومباحات. القسم الأول: المعاصي، وهي لا تتغير عن موضعها بالنية، فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات" فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية، كالذي يغتاب إنساناً مراعاة لقلب غيره، أو يطعم فقيراً من مال غيره، أو يبني مدرسة أو مسجداً أو رباطاً بمال حرام، وقصده الخير. فهذا كله جهل، والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلماً وعدواناً ومعصية، بل قصده الخير بالشر - على خلاف مقتضى الشرع - شر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم، والخيرات إنما يعرف كونها خيرات للشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خير؟ هيهات، بل المروج لذلك على القلب خفي الشهوة وباطن الهوى، فإن القلب إذا كان مائلاً إلى طلب الجاه واستمالة قلوب الناس وسائر حظوظ النفس توسل الشيطان به إلى التلبيس على الجاهل، ولذلك قال سهل رحمه الله تعالى: ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل! قيل: يا أبا محمد هل تعرف شيئاً أشد من الجهل؟ قال: نعم الجهل بالجهل. وهو كما قال، لأن الجهل بالجهل يسد بالكلية باب التعلم، فمن يظن بالكلية بنفسه أنه عالم فكيف يتعلم؟ وكذلك أفضل ما أطيع الله تعالى به العلم، ورأس العلم: العلم بالعلم، كما أن رأس الجهل: الجهل بالجهل، فإن من لا يعلم العلم النافع من العلم الضار اشتغل بما أكب الناس عليه من العلوم المزخرفة التي هي وسائلهم إلى الدنيا، وذلك هو مادة الجهل ومنبع فساد العلم، والمقصود أن من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام ولم يجد بعد مهلة للتعلم، وقد قال اللهسبحانه: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يعذر الجاهل على الجهل، ولا يحل للجاهل أن يسكت على جهله، ولا للعالم أن يسكت على علمه".

ويقرب من تقرب السلاطين ببناء المساجد والمدارس بالمال الحرام تقرب العلماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار؛ المشغولين بالفسق والفجور القاصرين هممهم على مماراة العلماء ومباراة السفهاء واستمالة وجوه الناس وجمع حطام الدنيا وأخذ أموال السلاطين واليتامى والمساكين، فإن هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله تعالى، وانتهض كل واحد منهم في بلدته نائباً عن الدجال يتكالب على الدنيا ويتبع الهوى عن التقوى ويستجرئ الناس بسبب مشاهدته على معاصي الله تعالى، ثم قد ينتشر ذلك العلم إلى مثله وأمثاله ويتخذونه أيضاً آلة ووسيلة في الشر وإتباع الهوى. ويتسلسل ذلك، ووبال جميعه يرجع إلى المعلم الذي علمه العلم مع علمه بفساد نيته وقصده، ومشاهدته أنواع المعاصي من أقواله وأفعاله وفي مطعمه وملبسه ومسكنه، فيموت هذا العالم وتبقى آثار شره منتشرة في العالم ألف سنة مثلاً وألفي سنة، وطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، ثم العجب من جهله حيث يقول: " إنما الأعمال بالنيات " وقد قصدت بذلك نشر علم الدين؛ فإن استعماله هو الفساد فالمعصية منه لا مني وما قصدت به إلا أن يستعين به على الخير. وإنما حب الرياسة والاستتباع والتفاخر بعلو العلم يحسن ذلك في قلبه، والشيطان بواسطة حب الرياسة يلبس عليه. وليت شعري ما جوابه عمن وهب سيفاً من قاطع طريق وأعد له خيلاً وأسباباً يستعين بها على مقصوده؛ ويقول إنما أردت الذل والسخاء والتخلق بأخلاق الله الجميلة؛ وقصدت به أن يغزو بهذا السيف والفرس في سبيل الله تعالى، فإن إعداد الخيل والرباط والقوة للغزاة من أفضل القربات، فإن صرفه إلى قطع الطريق فهو العاصي. وقد أجمع الفقهاء على أن ذلك حرام مع أن السخاء هو أحب الأخلاق إلى الله تعالى حتى قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن لله تعالى ثلثمائة خلق من تقرب إليه بواحد منها دخل الجنة وأحبها إليه السخاء". فليت شعري لم حرم هذا السخاء؟ ولم وجب عليه أن ينظر إلى قرينه الحال من هذا الظالم فإذا لاح له من عادته أنه يستعين بالسلاح على الشر فينبغي أن يسعى في سلب سلاحه لا أن يمده بغيره؟ والعلم سلاح يقاتل به الشيطان وأعداء الله تعالى وقد يعاون به أعداء الله عز وجل وهو الهوى! فمن لا يزال مؤثراً لدنياه على دينه ولهواه على آخرته وهو عاجز عنها لقلة فضله فكيف يجوز إمداده بنوع علم يتمكن به من الوصول إلى شهواته؟ بل لم يزل علماء السلف رحمهم الله تعالى يتفقدون أحوال من يتردد إليهم، فلو رأوا منه تقصير في نفل من النوافل أنكروه وتركوا إكرامه، وإذا رأوا منه فجوراً واستحلال حرام هجروه، ونفوه عن مجالسهم وتركوا تكليمه فضلاً عن تعليمه، لعلمهم بأن من تعلم مسألة ولم يعمل بها وجاوزها إلى غيرها فليس يطلب إلا آلة الشر، وقد تعوذ جميع السلف بالله تعالى من الفاجر العالم بالسنة وما تعوذوا من الفاجر الجاهل، حكي عن بعض أصحاب أحمد بن حنبل رحمه الله انه كان يتردد إليه سنين، ثم اتفق أن أعرض عنه أحمد وهجره وصار لا يكلمه، فلم يزل يسأله عن تغيره عليه وهو لا يذكره، حتى قال: بلغني أنك طينت حائط دارك من جانب الشارع وقد أخذت قدر سمك الطين وهو أنملة من شارع المسلمين فلا تصلح لنقل العلم. فهكذا كانت مراقبة السلف لأحوال طلاب العلم، وهذا وأمثاله مما يلتبس على الأغبياء وأتباع الشيطان وإن كانوا أرباب الطيالسة والأكمام الواسعة وأصحاب الألسنة الطويلة والفضل الكثير، أعني الفضل من العلوم التي لا تشتمل على التحذير من الدنيا والزجر عنها والترغيب في الآخرة والدعاء إليها، بل هي العلوم التي تتعلق بالخلق ويتوصل بها إلى جمع الحطام واستتباع الناس والتقدم على الأقران.

فإذن قوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات " يختص من الأقسام الثلاثة بالطاعات والمباحات دون المعاصي، إذ الطاعة تنقلب معصية بالقصد، والمباح ينقلب معصية وطاعة بالقصد، فأما المعصية فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلاً نعم للنية دخل فيها وهو أنه إذا انضاف إليها قصود خبيثة تضاعف وزرها وعظم وبالها - كما ذكرنا ذلك في كتاب التوبة.

القسم الثاني: الطاعات، وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها. أما الأصل: فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية، وأما تضاعف الفضل: فبكثرة النيات الحسنة فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة فيكون له بكل نية ثواب، إذ كل واحدة منها حسنة ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها" كما ورد به الخبر.

ومثاله القعود في المسجد فإنه طاعة ويمكن أن ينوي فيه نيات كثيرة حتى يصير من فضائل أعمال المتقين ويبلغ به درجات المقربين: أولها أن يعتقد أنه بيت الله وأن داخله زائر الله، فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما وعد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: " من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى وحق على المزور أن يكرم زائره".

وثانيها: أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون في جملة انتظاره في الصلاة وهو معنى قوله تعالى " ورابطوا ".

وثالثها: الترهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات والترددات، فإن الاعتكاف كف - وهو في معنى الصوم - وهو نوع ترهب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رهبانية أمتي القعود في المساجد".

ورابعها: عكوف الهم على الله ولزوم السر للفكر في الآخرة ودفع الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد.

وخامسها: التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره وللتذكر به كما روي في الخبر " من غدا إلى المسجد ليذكر الله تعالى أو يذكرها به كان كالمجاهد في سبيل الله تعالى".

وسادسها: أن يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف ونهي عن منكر، إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته أو يتعاطى ما لا يحل له فيأمره بالمعروف ويرشده إلى الدين فيكون شريكاً معه في خيره الذي يعلم منه فتتضاعف خيراته.

وسابعها: أن يستفيد أخاً في الله فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة، والمسجد معشش أهل الدين المحبين لله وفي الله.

وثامنها: أن يترك الذنوب حياء من الله تعالى وحياء من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة، وقد قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: من أدمن الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى سبع خصال: أخاً مستفاداً في الله، أو رحمة مستنزلة، أو علماً مستظرفاً، أو كلمة تدل على هدى، أو تصرفه عن ردى، أو يترك الذنوب خشية أو حياء.

فهذا طريق تكثير النيات، وقس به سائر الطاعات والمباحات إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة، وإنما تحضر في قلب العبد المؤمن بقدر جده في طلب الخير وتشمره له وتفكره فيه. فبهذا تزكوا الأعمال وتتضاعف الحسنات.

القسم الثالث: المباحات، وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات وينال بها معالي الدرجات، فما أعظم خسران من يغفل عنها ويتعاطاه تعاطي البهائم المهملة عن سهو وغفلة، ولا ينبغي أن يستحقر العبد شيئاً من الخطرات والخطوات واللحظات فكل ذلك يسأل عنه يوم القيامة أنه لم فعله وما الذي قصد به؟ هذا في مباح محض لا يشوبه كراهة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " حلالها حساب وحرامها عقاب".

وفي حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد ليسأل يوم القيامة عن كل شيء حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بإصبعيه وعن لمسه ثوب أخيه".

وفي خبر آخر " من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك ومن تطيب لغير الله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة " فاستعمال الطيب مباح ولكن لا بد فيه من نية. فإن قلت: فما الذي يمكن أن ينوي بالطيب وهو حظ من حظوظ النفس وكيف يتطيب لله؟ فاعلم أن من يتطيب مثلاً يوم الجمعة وفي سائر الأوقات يتصور أن يقصد التنعم بلذات الدنيا، أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال ليحسده الأقران، أو يقصد به رياء الخلق ليقوم له الجاه في قلوبهم ويذكر بطيب الرائحة، أو ليتودد به إلى قلوب النساء الأجنبيات إذا كان مستحيلاً للنظر إليهن، ولأمور أخرى لا تحصى. وكل هذا يجعل التطيب معصية فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة إلا القصد الأول وهو التلذذ والتنعم فإن ذلك ليس بمعصية إلا أنه يسأل عنه، ومن نوقش الحساب عذب، ومن أتى شيئاً من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الآخرة ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره، وناهيك خسراناً بأن يستعجل ما يفنى ويخسر زيادة نعيم لا يفنى. وأما النية الحسنة فإنه ينوي به إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وينوي بذلك أيضاً تعظيم المسجد واحترام بيت الله فلا يرى أن يدخله زائراً لله إلا طيب الرائحة، وأن يقصد به ترويح جيرانه ليستريحوا في المسجد عند مجاورته بروائحه، وأن يقصد به دفع الروائح الكريهة عن نفسه التي تؤدي إلى إيذاء مخالطيه، وأن يقصد جسم باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة فيعصون الله بسببه، فمن تعرض للغيبة وهو قادر على الاحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية كما قيل:  

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا

 

أن لا تفارقهم فالراحلون هم

وقال الله تعالى " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم " أشار به إلى أن التسبب إلى الشر شر، وأن يقصد به معالجة دماغه لتزيد به فطنته وذكاؤه ويسهل عليه درك مهمات دينه بالفكر، فقد قال الشافعي رحمه الله: من طاب ريحه زاد عقله، فهذا وأمثاله من النيات لا يعجز الفقيه عنها إذا كانت تجارة الآخرة وطلب الخير غالبة على قلبه. وإذا لم يغلب على قلبه إلا نعيم الدنيا لم تحضره هذه النيات وإن ذكرت له لم ينبعث لها قلبه فلا يكون معه منها إلا حديث النفس وليس ذلك من النية في شيء.

والمباحات كثيرة ولا يمكن إحصاء النيات فيها فقس بهذا الواحد ما عداه، ولهذا قال بعض العارفين من السلف: إني أستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي إلى الخلاء، وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات البدن فهو معين على الدين، فمن قصده من الأكل التقوى على العبادة، ومن الوقاع تحصين دينه وتطييب قلب أهله والتوصل به إلى نسل صالح يعبد الله تعالى بعده فتكثر به أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان مطيعاً بأكله ونكاحه، وأغلب حظوظ النفس الأكل والوقاع وقصد الخير بهما غير ممتنع لمن غلب على قلبه هم الآخرة، ولذلك ينبغي أن يحسن نيته مهما ضاع له مال ويقول هو في سبيل الله، وإذا بلغه اغتياب غيره فليطيب قلبه بأنه سيحمل سيآته وستنتقل إلى ديوانه حسناته، ولينوي ذلك بسكوته عن الجواب. ففي الخبر " إن العبد ليحاسب فتبطل أعماله لدخول الآفة فيها حتى يستوجب النار، ثم ينشر له من الأعمال الصالحة ما يستوجب به الجنة فيتعجب ويقول: يا رب هذه أعمال ما عملتها قط؟ فيقال: هذه أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك".

وفي الخبر " إن العبد ليوافى يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال لو خلصت له لدخل الجنة فيأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا فيقتص لهذا من حسناته ولهذا من حسناته حتى لا يبقى له حسنة. فتقول الملائكة: قد فنيت حسناته وبقي طالبون فيقول الله تعالى: ألقوا عليه من سيآتهم ثم صكوا له صكاً إلى النار" وبالجملة فإياك ثم إياك أن تستحقر شيئاً من حركاتك فلا تحترز من غرورها وشرورها ولا تعد جوابها يوم السؤال والحساب فإن الله تعالى مطلع عليك وشهيد " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ".

وقال بعض السلف: كتبت كتاباً وأردت أن أتربه من حائط جار لي فتحرجت ثم قلت: تراب وما تراب! فتربته فتهتف بي هاتف: سيعلم من استخف بتراب جاره ما يلقى غداً من سوء الحساب.

وصلى رجل مع الثوري فرآه مقلوب الثوب فعرفه فمد يده ليصلحه ثم قبضها فلم يسوه، فسأله عن ذلك فقال: إني لبسته لله تعالى ولا أريد أن أسويه لغير الله. وقد قال الحسن: إن الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: بيني وبينك الله! فيقول: والله ما أعرفك؟ فيقول: بلى أنت أخذت لبنة من حائطي وأخذت خيطاً من ثوبي!.

فهذا وأمثاله من الأخبار قطع قلوب الخائفين، فإن كنت من أولي العزم والنهي ولم تكن من المغترين فانظر لنفسك الآن ودقق الحساب على نفسك قبل أن يدقق عليك. وراقب أحوالك ولا تسكن ولا تتحرك ما لم تتأمل أولاً أنك لم تتحرك، وماذا تقصد، وما الذي تنال به من الدنيا، وما الذي يفوتك من الآخرة، وبماذا ترجح الدنيا على الآخرة؟ فإذا علمت أنه لا باعث إلا الدين فأمض عزمك وما خطر ببالك وإلا فأمسك، ثم راقب أيضاً قلبك في إمساكك وامتناعك فإن ترك الفعل فعل ولا بد له من نية صحيحة، فلا ينبغي أن يكون الداعي هوى خفي لا يطلع عليه، ولا يغرنك ظواهر الأمور ومشهورات الخيرات وافطن للأغوار والأسرار تخرج من حيز أهل الاغترار.

فقد روي عن زكريا عليه السلام أنه كان يعمل في حائط بالطين، وكان أجيراً لقوم فقدموا له رغيفاً - إذا كان لا يأكل إلا من كسب يده - فدخل عليه قوم فلم يدعهم إلى الطعام حتى فرغ، فتعجبوا منه لما علموا من سخائه وزهده وظنوا أن الخير في طلب المساعدة في الطعام، فقال: إني أعمل لقوم بالأجرة وقدموا إلي الرغيف لأتقوى به على عملهم، فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم. فالبصير هكذا ينظر في البواطن بنور الله، فإن ضعفه عن العمل نقص في فرض وترك الدعوة إلى الطعام نقص في فضل، ولا حكم للفضائل مع الفرائض.

وقال بعضهم: دخلت على سفيان وهو يأكل فما كلمني حتى لعق أصابعه ثم قال: لولا أني أخذته بدين لأحببت أن تأكل منه.

وقال سفيان: من دعا رجلاً إلى طعامه وليس له رغبة أن يأكل منه فإن أجابه فأكل فعليه وزران وإن لم يأكل فعليه وزر واحد. وأراد بأحد الوزرين النفاق وبالثاني تعريضه أخاه لما يكره لو علمه. فهكذا ينبغي أن يتفقد العبد نيته في سائر الأعمال فلا يقدم ولا يحجم إلا بنية، فإن لم تحضره النية توقف فإن النية لا تدخل تحت الاختيار.

بيان أن النية غير داخلة تحت الاختيار

اعلم أن الجاهل يسمع ما ذكرناه من الوصية بتحسين النية وتكثيرها مع قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " فيقول في نفسه عند تدريسه أو تجارته أو أكله: نويت أن أدرس لله أو آكل لله، ويظن ذلك نية وهيهات! فذلك حديث نفس وحديث لسان وفكر أو انتقال من خاطر إلى خاطر، والنية بمعزل من جميع ذلك. وإنما النية انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً وإما آجلاً. والميل إذا لم يكن لا يمكن اختراعه واكتسابه بمجرد الإرادة، بل ذلك كقول الشبعان: نويت أن أشتهي الطعام وأميل إليه، أو قول الفارغ: نويت أن أعشق فلاناً وأحبه وأعظمه بقلبي، فذلك محال. بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وتوجهه نحوه إلا باكتساب أسبابه وذلك مما قدم يقدر عليه وقد لا يقدر عليه. وإنما تنبعث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث الموافق للنفس الملائم لها، وما لم يعتقد الإنسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه نحوه قصده. وذلك مما لا يقدر على اعتقاده في كل حين، وإذا اعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغاً غير مصروف عنه شاغل أقوى منه وذلك لا يمكن في كل وقت، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها تجتمع، ويختلف ذلك بالأشخاص وبالأحوال وبالأعمال. فإذا غلبت شهوة النكاح مثلاً ولم يعتقد غرضاً صحيحاً في الولد ديناً ولا دنيا لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة، إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة، فكيف ينوي الولد؟ وإذا لم يغلب على قلبه أن إقامة سنة النكاحإتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فضلها لا يمكن أن ينوى بالنكاح إتباع السنة إلا أن يقول ذلك بلسانه وقلبه، وهو حديث محض ليس بنية، نعم طريق اكتساب هذه النية مثلاً أن يقوي أولاً إيمانه بالشرع ويقوي إيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد من ثقل المؤنة وطول التعب وغيره، فإذا فعل ذلك ربما انبعث من قلبه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب فتحركه تلك الرغبة وتتحرك أعضاؤه لمباشرة العقد، فإذا انتهضت القدرة المحركة للسان بقبول العقد طاعة لهذا الباعث الغالب على القلب كان ناوياً، فإن لم يكن كذلك فما يقدره في نفسه ويردده في قلبه من قصد الولد وسواس وهذيان.

ولهذا امتنع جماعة من السلف من جملة من الطاعات إذ لم تحضرهم النية وكانوا يقولون ليس تحضرنا فيه نية، حتى إن ابن سيرين لم يصل على جنازة الحسن البصري وقال: ليس تحضرني نية.

ونادى بعضهم امرأته وكان يسرح شعره أن هات المدري، فقالت: أجيء بالمرآة؟ فسكت ساعة ثم قال: نعم، فقيل له في ذلك، فقال: كان لي في المدري نية ولم تحضرني في المرآة نية فتوقفت حتى هيأها الله تعالى.

ومات حماد بن سليمان - وكان أحد علماء أهل الكوفة - فقيل للثوري: ألا تشهد جنازته؟ فقال: لو كان لي نية لفعلت.

وكان أحدهم إذا سئل عملاً من أعمال البر يقول: إن رزقني الله تعالى نية فعلت.

وكان طاوس لا يحدث إلا بنية وكان يسأل أن يحدث فلا يحدث، ولا يسأل فيبتدئ! فقيل له في ذلك قال: أفتحبون أن أحدث بغير نية؟ إذا حضرتني نية فعلت.

وحكي أن داود بن المحبر لما صنف كتاب العقل، جاءه أحمد بن حنبل فطلبه منه فنظر فيه أحمد صفحاً ورده فقال: ما لك؟ قال: فيه أسانيد ضعاف، فقال له داود: أنا لم أخرجه على الأسانيد، فانظر فيه بعين الخبر إنما نظرت فيه بعين العمل فانتفعت، قال أحمد: فرده علي حتى أنظر فيه بالعين التي نظرت فأخذه ومكث عنده طويلاً ثم قال: جزاك الله خيراً فقد انتفعت به.

وقيل لطاوس: ادع لنا! فقال: حتى أجد له نية.

وقال بعضهم: أنا في طلب نية لعيادة رجل منذ شهر فما صحت لي بعد.

وقال عيسى بن كثير: مشيت مع ميمون بن مهران فلما انتهى إلى باب داره انصرفت فقال ابنه: ألا تعرض عليه العشاء؟ قال: ليس من نيتي. وهذا لأن النية تتبع النظر فإذا تغير النظر تغيرت النية، وكانوا لا يرون أن يعملوا عملاً إلا بنية لعلمهم بأن النية روح العمل وأن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف وهو سبب مقت لا سبب قرب، وعلموا أن النية ليست هي قول القائل بلسانه: نويت، بل هو انبعاث القلب يجري مجرى الفتوح من الله تعالى، فقد تتيسر في بعض الأوقات وقد تتعذر في بعضها، نعم من كان الغالب على قلبه أمر الدين تيسر عليه في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات فإن قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير فينبعث إلى التفاصيل غالباً. ومن مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه لم يتيسر له ذلك بلا لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد، وغايته أن يتذكر النار ويحذر نفسه عقابها أو نعيم الجنة ويرغب نفسه فيها فربما تنبعث له داعية ضعيفة فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته. وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدنيا، وهذه أعز النيات وأعلاها، ويعز على بسيط الأرض من يفهمها فضلاً عمن يتعاطاها. ونيات الناس في الطاعات أقسام: إذ منهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار. ومنهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة، وهذا وإن كان نازلاً بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله لا لأمر سواه، فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة وإن كان من جنس المألوفات في الدنيا، وأغلب البواعث باعث الفرج والبطن وموضع قضاء وطرهما الجنة، فالعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه - كالأجير السوء - ودرجته درجة البله وإنه لينالها بعمله إذ أكثر أهل الجنة البله. وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حباً لجماله وجلاله وسائر الأعمال تكون مؤكدات وروادف، وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها، بل هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه فقط، وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم يتنعمون بالنظر إلى وجهه الكريم، ويسخرون ممن يلتفت إلى وجه الحور العين كما يسخر المتنعم بالنظر إلى الحور العين ممن يتنعم بالنظر إلى وجه الصور المصنوعة من الطين! بل أشد. فإن التفاوت بين جمال حضرة الربوبية وجمال الحور العين أشد وأعظم كثيراً من التفاوت بين جمال الحور العين والصور المصنوعة من الطين، بل استعظام النفوس البهيمية الشهوانية لقضاء الوطر من مخالطة الحسان وإعراضهم عن جمال وجه الله الكريم يضاهي استعظام الخنفساء لصاحبتها وإلفها لها وإعراضها عن النظر إلى جمال وجوه النساء، فعمي أكثر القلوب عن إبصار جمال الله وجلاله يضاهي عمى الخنفساء عن إدراك جمال النساء بأنها لا تشعر به أصلاً ولا تلتفت إليه، ولو كان لها عقل وذكرن لها لاستحسنت عقل من يلتفت إليهن " ولا يزالون مختلفين - كل حزب بما لديهم فرحون - ولذلك خلقهم ".

حكي أن أحمد بن خضرويه رأى ربه عز وجل في المنام فقال له: كل الناس يطلبون مني الجنة إلا أبا يزيد فإنه يطلبني.

ورأى أبو يزيد ربه في المنام فقال: يا رب كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعالى إلي.

ورؤي الشبلي بعد موته في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: لم يطالبني على الدعاوي بالبرهان إلا على قول واحد: قلت يوماً وبأي خسارة أعظم من خسران الجنة؟ فقال: أي خسارة أعظم من خسران لقائي.

والغرض من هذه النيات متفاوتة الدرجات ومن غلب على قلبه واحدة منها ربما لا يتيسر له العدول إلى غيرها. ومعرفة هذه الحقائق تورث أعمالاً وأفعالاً لا يستنكرها الظاهريون من الفقهاء. فإنا نقول: من حضرت له نية في مباح ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى وانتقلت الفضيلة إليه وصارت الفضيلة في حقه نقيصة لأن الأعمال بالنيات. وذلك مثل العفو فإنه أفضل من الانتصار في الظالم، وربما تحضره نية في الانتصار دون العفو فيكون ذلك أفضل ومثل أن يكون له نية في الأكل والشرب والنوم ليريح نفسه ويتقوى على العبادات في المستقبل وليس تنبعث نيته في الحالين للصوم والصلاة فالأكل والشرب والنوم هو الأفضل له. بل لو مل العبادة لمواظبته عليها وسكن نشاطه وضعفت رغبته وعلم أنه لو ترفه ساعة بلهو وحديث عاد نشاطه فاللهو أفضل له من الصلاة. قال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فيكون ذلك عوناً لي على الحق.

وقال علي كرم الله وجهه: روحوا القلوب فإنها إذا أكرهت عميت. وهذه دقائق لا يدركها إلا سماسرة العلماء دون الحشوية منهم، بل الحاذق بالطب قد يعالج المحرور باللحم مع حرارته ويستبعده القاصر في الطب وإنما يبتغي به أن يعيد أولاًً قوته ليحتمل المعالجة بالضد، والحاذق في لعب الشطرنج مثلاً قد ينزل عن الرخ والفرس مجاناً ليتوصل بذلك إلى الغلبة، والضعيف البصيرة قد يضحك به ويتعجب منه. وكذلك الخبير بالقتال قد يفر بين يدي قرينه ويوليه دبره حيلة منه ليستجره إلى مضيق فيكر عليه فيقهره. فكذلك سلوك طريق الله تعالى كله قتال مع الشيطان ومعالجة للقلب والبصير الموفق يقف فيها على لطائف من الحيل يستبعدها الضعفاء، فلا ينبغي للمريد أن يضمر إنكاراً على ما يراه من شيخه ولا للمتعلم أن يعترض على أستاذه، بل ينبغي أن يقف عند حد بصيرته وما لا يفهمه من أحوالهما يسلمه لهما إلى أن ينكشف له أسرار ذلك بأن يبلغ رتبتهما وينال درجتهما ومن الله حسن التوفيق.