كتاب النية والإخلاص والصدق - الباب الثاني: في الإخلاص وفضيلته وحقيقته ودرجاته

الباب الثاني

في الإخلاص وفضيلته وحقيقته ودرجاته

فضيلة الإخلاص

قال الله تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين.

وقال: " ألا لله الدين الخالص ".

وقال تعالى: " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ".

وقال تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً " نزلت فيمن يعمل لله ويحب أن يحمد عليه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن قلب رجل مسلم إخلاص العمل لله".

وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: ظن أبي أن له فضلاً على من هو دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما نصر الله عز وجل هذه الأمة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم".

وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: الإخلاص سر من سري استودعه قلب من أحببت من عبادي".

وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لا تهتموا لقلة العمل واهتموا للقبول فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: " أخلص العمل يجزك منه القليل".

وقال عليه السلام: " ما من عبد يخلص لله العمل أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".

وقال عليه الصلاة والسلام: " أول من يسأل يوم القيامة ثلاثة: رجل آتاه الله العلم فيقول الله تعالى ما صنعت فيما علمت؟ فيقول: يا رب كنت أقوم آناء الليل وأطراف النهار، فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال فلان عالم ألا فقد قيل ذلك، ورجل آتاه الله مالاً فيقول الله تعالى: لقد أنعمت عليك فماذا صنعت؟ فيقول: يا رب كنت أتصدق به آناء الليل والنهار، فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد ألا فقد قيل ذلك. ورجل قتل في سبيل الله تعالى فيقول الله تعالى: ماذا صنعت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع ألا فقد قيل ذلك ". قال أبو هريرة، ثم خبط رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذي وقال: " يا أبا هريرة أولئك أول خلق تسعر نار جهنم بهم يوم القيامة". فدخل راوي هذا الحديث على معاوية وروى له ذلك فبكى حتى كادت نفسه تزهق ثم قال: صدق الله إذ قال: "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها " الآية. وفي الإسرائيليات: أن عابداً كان يعبد الله دهراً طويلاً فجاءه قوم فقالوا: إن ههنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى، فغضب لذلك وأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها، فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك الله؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة، قال: وما أنت وذاك! تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرغت لغير ذلك! فقال: إن هذا من عبادتي، قال: إني لا أتركك أن تقطعها، فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره فقال له إبليس: أطلقني حتى أكلمك، فقام عنه فقال إبليس: يا هذا إن الله تعالى قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك! وما تعبدها أنت وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض ولو شاء لبعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها! فقال العابد: لا بد لي من قطعها، فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد على صدره فعجز إبليس فقال له: هل لك في أمر فصل بيني وبينك وهو خير لك وأنفع؟ قال: وما هو؟ قال: أطلقني حتى أقول لك، فأطلقه فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك إنما أنت كل على الناس يعولونك، ولعلك تحب أن تتفضل على إخوانك وتواسي جيرانك وتشبع وتستغني عن الناس! قال: نعم، قال: فارجع عن هذا الأمر ولك على أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت على نفسك وعيالك وتصدقت على إخوانك، فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانها ولا يضرهم قطعها شيئاً ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إياها! فتفكر العابد فيما قال وقال: صدق الشيخ! لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصياً بتركها، وما ذكره أكثر منفعة، فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له، فرجع العابد إلى متعبده فبات، فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه فأخذهما وكذلك الغد، ثم أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم ير شيئاً، فغضب وأخذ فأسه على عاتقه فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال له: إلى أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة، فقال: كذبت والله ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليها، قال: فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة فقال: هيهات، فأخذه إبليس وصرعه، فإذا هو كالعصفور بين رجليه وقعد إبليس على صدره، وقال: لتنتهين عن هذا الأمر أو لأذبحنك؟ فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا غلبتني فخل عني وأخبرني كيف غلبتك أولاً وغلبتني الآن؟ فقال: لأنك غضبت أول مرة لله وكانت نيتك الآخرة فسخرني الله لك، وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك.

هذه الحكايات تصديق قوله تعالى " إلا عبادك منهم المخلصين " إذ لا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص، ولذلك كان معروف الكرخي رحمه الله تعالى يضرب نفسه ويقول: يا نفس أخلصي تتخلصي.

وقال يعقوب المكفوف: المخلص من يكتم إحسانه كما يكتم سيئاته.

وقال سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى.

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعري: من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، وكتب بعض الأولياء إلى أخ له: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل.

وقال أيوب السختياني: تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال.

وكان مطرف يقول: من صفا صفي له ومن خلط خلط عليه.

ورؤي بعضهم في المنام فقيل له: كيف وجدت أعمالك؟ فقال: كل شيء عملته لله وجدته، حتى حبة رمان لفظتها من طريق وحتى هرة ماتت لنا رأيتها في كفة الحسنات، وكان في قلنسوتي خيط من حرير فرأيته في كفة السيئات، وكان قد نفق حمار لي قيمته مائة دينار فما رأيت له ثواباً فقلت: موت سنور في كفة الحسنات وموت حمار ليس فيها؟ فقيل لي: إنه قد وجه حيث بعثت به، فإنه لما قيل لك: قد مات، قلت: في لعنة الله، فبطل أجرك فيه، ولو قلت: في سبيل الله، لوجدته في حسناتك. وفي رواية قال: وكنت قد تصدقت بصدقة بين الناس فأعجبني نظرهم إلي فوجدت ذلك لا علي ولا لي. قال سفيان - لما سمع هذا -: ما أحسن حاله؟ إذ لم يكن عليه فقد أحسن إليه.

وقال يحيى بن معاذ: الإخلاص يميز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم.

وقيل: كان رجل يخرج في زي النساء ويحضر كل موضع يجتمع فيه النساء من عرس أو مأتم، فاتفق أن حضر يوماً موضعاً فيه مجمع للنساء فسرقت درة فصاحوا: أن أغلقوا الباب حتى نفتش، فكانوا يفتشون واحدة واحدة حتى بلغت النوبة إلى الرجل وإلى امرأة معه، فدعا الله تعالى بالإخلاص وقال: إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا، فوجدت الدرة مع تلك المرأة فصاحوا: أن أطلقوا الحرة فقد وجدنا الدرة.

وقال بعض الصوفية: كنت قائماً مع أبي عبيد التستري وهو يحرث أرضه بعد العصر من يوم عرفة، فمر به بعض أخوانه من الأبدال فساره بشيء فقال أبو عبيد: لا، فمر كالسحاب يمسح الأرض حتى غاب عن عيني، فقلت لأبي عبيد: ما قال لك؟ فقال: سألني أن أحج معه، قلت: لا، قلت: فهلا فعلت؟ قال: ليس لي في الحج نية وقد نويت أن أتمم هذه الأرض العشية فأخاف إن حججت معه لأجله تعرضت لمقت الله تعالى، لأني أدخل في عمل الله شيئاً غيره فيكون ما أنا فيه أعظم عندي من سبعين حجة.

ويروى عن بعضهم قال: غزوت في البحر فعرض بعضنا مخلاة، فقلت: أشتريها فأنتفع بها في غزوي فإذا دخلت مدينة كذا بعتها فربحت فيها، فاشتريتها فرأيت تلك الليلة في النوم كأن شخصين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه: اكتب الغزاة، فأملي عليه، خرج فلان متنزهاً وفلان مرائياً وفلان تاجراً وفلان في سبيل الله، ثم نظر إلي وقال: اكتب فلان خرج تاجراً، فقلت: الله الله في أمري! ما خرجت أتجر وما معي تجارة أتجر فيها ما خرجت إلا للغزو، فقال: يا شيخ قد اشتريت أمس مخلاة تريد أن تربح بها، فبكيت وقلت: لا تكتبوني تاجراً، فنظر إلى صاحبه وقال: ما ترى؟ فقال: اكتب خرج فلان غازياً إلا أنه اشترى في طريقه مخلاة ليربح فيها حتى يحكم الله عز وجل فيه بما يرى.

وقال سري السقطي رحمه الله تعالى: لأن تصلي ركعتين في خلوة تخلصهما خير لك من أن تكتب سبعين حديثاً أو سبعمائة بعلو وقال بعضهم: في إخلاص ساعة نجاة الأبد ولكن الإخلاص عزيز.

ويقال: العلم بذر والعمل زرع وماؤه الإخلاص.

وقال بعضهم: إذا أبغض الله عبداً أعطاه ثلاثاً ومنعه ثلاثاً: أعطاه صحبة الصالحين ومنعه القبول منهم، وأعطاه الأعمال الصالحة ومنعه الإخلاص فيها، وأعطاه الحكمة ومنعه الصدق فيها.

وقال السوسي: مراد الله من عمل الخلائق الإخلاص فقط.

وقال الجنيد: إن لله عباداً عقلوا فلما عقلوا عملوا فلما عملوا أخلصوا فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع.

وقال محمد بن سعيد المروزي: الأمر كله يرجع إلى أصلين: فعل منه بك، وفعل منك له، فترضى ما فعل وتخلص فيما تعمل. فإذن أنت سعدت بهذين وفزت في الدارين.

بيان حقيقة الإخلاص

اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي خالصاً، ويسمى الفعل المصفى المخلص: إخلاصاً. قال الله تعالى: " من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين " فإنما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ومن كل ما يمكن أن يمتزج به، والإخلاص بضادة الإشراك، فمن ليس مخلصاً فهو مشرك إلا أن الشرك درجات، فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية. والشرك - منه خفي ومنه جلي وكذا الإخلاص - والإخلاص وضده يتواردان على القلب فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات. وقد ذكر حقيقة النية وأنها ترجع إلى إجابة البواعث، فمهما كان الباعث واحد على التجرد سمي الفعل الصادر عنه إخلاصاً بالإضافة إلى المنوي، فمن تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص، ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص. ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، كما أن الإلحاد عبارة عن الميل ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق، ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو معرض للهلاك - ولسنا نتكلم فيه إذ قد ذكرنا ما يتعلق به في كتاب الرياء من ربع المهلكات - وأقل أموره ما ورد في الخبر من " إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربع أسام: يا مرائي يا مخادع يا مشرك يا كافر".وإنما نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر إما من الرياء أو من غيره من حظوظ النفس. ومثال ذلك أن الصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب. أو يعتق عبد ليتخلص من مؤنته وسوء خلقه، أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر، أو يتخلص من شر يعرض له في بلده، أو ليهرب عن عدو له في منزله، أو يتبرم بأهله وولده، أو بشغل هو فيه فأراد أن يستريح منه أياماً. أو ليغزو وليمارس الحرب ويتعلم أسبابه ويقدر به على تهيئة العساكر وجرها. أو يصلي بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه به ليراقب أهله أو رحله، أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال أو ليكون عزيزاً بين العشيرة، أو ليكون عقاره أو ماله محروساً بعز العلم عن الأطماع، أو اشتغل بالدرس والوعظ ليتخلص عن كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث. أو تكفل بخدمة العلماء الصوفية لتكون حرمته وافرة عندهم وعند الناس، أو لينال به رفقاً في الدنيا. أو كتب مصحفاً ليجود بالمواظبة على الكتابة خطه. أو حج ماشياً ليخفف عن نفسه الكراء. أو توضأ ليتنظف أو يتبرد. أو اغتسل لتطيب رائحته، أو روى الحديث ليعرف بعلو الإسناد أو اعتكف في المسجد ليخف كراء المسكن، أو صام ليخفف عن نفسه التردد في طبخ الطعام أو ليتفرغ لأشغاله فلا يشغله الأكل عنها، أو تصدق على السائل ليقطع إبرامه في السؤال عن نفسه. أو يعود مريضاً ليعاد إذا مرض. أو يشيع جنازة ليشيع جنائز أهله أو يفعل شيئاً من ذلك ليعرف بالخير ويذكر به وينظر إليه بعين الصلاح والوقار فمهما كان باعثه هو التقرب إلى الله تعالى ولكن انضاف إليه خطرة من هذه الخطرات، حتى صار العمل أخف عليه بسبب هذه الأمور، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص وخرج عن أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى وتطرق إليه الشرك. وقد قال تعالى: " أنا أغني الشركاء عن الشركة " وبالجملة كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب - قل أم كثر - إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه وزال به إخلاصه. والإنسان مرتبط في حظوظه منغمس في شهواته قلما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس. فلذلك قيل: من سلم له من عمره لحظة واحد خالصة لوجه الله نجا. وذلك لعزة الإخلاص وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب، بل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى. وهذه الحظوظ إن كانت هي الباعثة وحدها فلا يخفى شدة الأمر على صاحبه فيها، وإنما نظرنا فيما إذا كان القصد الأصلي هو التقرب وانضافت إليه هذه الأمور، ثم هذه الشوائب إما أن تكون رتبة الموافقة أو في رتبة المشاركة أو في رتبة المعاونة - كما سبق في النية - وبالجملة؛ فإما أن يكون الباعث النفسي مثل الباعث الديني أو أقوى منه أو أضعف، ولكل واحد حكم آخر - كما سنذكره - وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها - قليلها وكثيرها - حتى يتجرد فيه قصد التقرب فلا يكون فيه باعث سواه. وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر بالله مستغرق الهم بالآخرة بحيث لم يبق لحب الدنيا في قلبه قرار حتى لا يحب الأكل والشرب أيضاً، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة، فلا يشتهي الطعام لأنه طعام بل لأنه يقويه على عبادة الله تعالى، ويتمنى أن لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل فلا يبقى في قلبه حظ من الفضول الزائدة على الضرورة، ويكون قدر الضرورة مطلوباً عنده لأنه ضرورة دينه فلا يكون له هم إلا الله تعالى. فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته، فلو نام مثلاً حتى يريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده كان نومه عبادة وكان له درجة المخلصين فيه، ومن ليس كذلك فباب الإخلاص في الأعمال مسدود عليه إلا على الندور، وكما أن من غلب عليه حب الله وحب الآخرة فاكتسبت حركاته الاعتيادية صفة همه وصارت إخلاصاً؛ فالذي يغلب على نفسه: الدنيا والعلو والرياسة - وبالجملة غير الله - فقد اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، فلا تسلم له عباداته من صوم وصلاة وغير ذلك إلا نادراً. فإذن علاج الإخلاص كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا والتجرد للآخرة بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر الإخلاص، وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظن أنها خالصة  لوجه الله ويكون فيها مغرور لأنه لا يرى وجه الآفة فيها إلا كما حكي عن بعضهم أنه قال: قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتها في المسجد في الصف الأول لأني تأخرت يوماً لعذر فصليت في الصف الثاني فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني، فعرفت أن نظر الناس إلي في الصف الأول كان مسرتي وسبب استراحة قلبي من حيث لا أشعر، وهذا دقيق غامض قلما تسلم الأعمال من أمثاله وقل من يتنبه إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون يرون حسناتهم كلها في الآخرة سيئات وهم المرادون بقوله تعالى: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون - وبدا لهم سيئات ما كسبوا " وبقوله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً " وأشد الخلق تعرضاً لهذه الفتنة العلماء، فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع والاستبشار بالحمد والثناء، والشيطان يلبس عليهم ذلك ويقول: غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحة الخلق ووعظه للسلاطين ويفرح بقبول الناس قوله وإقبالهم عليه، وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظاً وانصرف الناس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه، ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره، ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه ويقول: إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب واغتمامك لفوات الثواب محمود، ولا يدري المسكين أن انقياده للحق وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثواباً وأعود عليه في الآخرة من انفراده. وليت شعري لو اغتم عمر رضي الله عنه بتصدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه للإمامة أكان غمه محموداً أو مذموماً؟ ولا يستريب ذو دين أن لو كان ذلك لكان مذموماً. لأن انقياده للحق وتسليمه الأمر إلى من هو أصلح منه أعود عليه في الدين من تكفله بمصالح الخلق مع ما فيه من الثواب الجزيل، بل فرح عمر رضي الله تعالى عنه باستقلال من هو أولى منه بالأمر. فما بال العلماء لا يفرحون بمثل ذلك؟ وقد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشيطان فيحدث نفسه بأنه لو ظهر من هو أولى منه بالأمر لفرح به، وإخباره بذلك عن نفسه قبل التجربة والامتحان محض الجهل والغرور، فإن النفس سهلة القياد في الوعد بأمثال ذلك قبل نزول الأمر، ثم إذا دهاه الأمر تغير ورجع ولم يف بالوعد. وذلك لا يعرفه إلا من عرف مكايد الشيطان والنفس وطال اشتغاله بامتحانها، فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ النادر والفرد الفذ وهو المستثنى في قوله تعالى " إلا عبادك منهم المخلصين " فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق وإلا التحق بأتباع الشياطين وهو لا يشعر.

بيان أقاويل الشيوخ في الإخلاص

قال السوسي: الإخلاص فقد رؤية الإخلاص، فإن من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص. وما ذكره إشارة إلى تصفية العمل عن العجب بالفعل فإن الالتفات إلى الإخلاص والنظر إليه عجب؛ وهو من جملة الآفات، والخالص: ما صفا عن جميع الآفات، فهذا تعرض لآفة واحدة.

وقال سهل رحمه الله تعالى: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة، وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض، وفي معناه قول إبراهيم بن أدهم: الإخلاص صدق النية مع الله تعالى.

وقيل لسهل: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب.

وقال رويم: الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضاً في الدارين. وهذا إشارة إلى أن حظوظ النفس آفة آجلاً وعاجلاً. والعابد لأجل التنعم بالشهوات في الجنة معلول، بل الحقيقة أن لا يراد بالعمل إلا وجه الله تعالى وهو إشارة إلى إخلاص الصديقين وهو الإخلاص المطلق. فأما من يعمل لرجاء الجنة وخوف النار فهو مخلص بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة وإلا فهو في طلب حظ البطن والفرج، وإنما المطلوب الحق لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط، وهو القائل لا يتحرك الإنسان إلا لحظ، والبراءة من الحظوظ صفة الإلهية، ومن ادعى ذلك فهو كافر. وقد قضى القاضي أبو بكر الباقلاني بتكفير من يدعي البراءة من الحظوظ وقال: هذا من صفات الإلهية وما ذكره حق، ولكن القوم إنما أرادوا به البراءة عما يسميه الناس حظوظاً، وهو الشهوات الموصوفة في الجنة فقط. فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة والنظر إلى وجه الله تعالى فهذا حظ هؤلاء، وهذا لا يعده الناس حظاً بل يتعجبون منه. وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة وملازمة السجود للحضرة الإلهية سراً وجهراً جميع نعيم الجنة لاستحقروه ولم يلتفتوا إليه؛ فحركتهم لحظ وطاعتهم لحظ ولكن حظهم معبودهم فقط دون غيره.

وقال أبو عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط. وهذا إشارة إلى آفة الرياء فقط؛ ولذلك قال بعضهم: الإخلاص في العمل أن لا يطلع عليه شيطان فيفسده ولا ملك فيكتبه، فإنه إشارة إلى مجرد الإخفاء.

وقد قيل: الإخلاص ما استتر عن الخلق وصفا عن العلائق. وهذا أجمع للمقاصد.

وقال المحاسبي: الإخلاص هو إخراج الخلق عن معاملة الرب. وهذا إشارة إلى مجرد نفي الرياء. وكذلك قول الخواص: من شرب من كأس الرياسة فقد خرج عن إخلاص العبودية.

وقال الحواريون لعيسى عليه السلام: ما الخالص من الأعمال؟ فقال: الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده عليه أحد. وهذا أيضاً تعرض لترك الرياء وإنما خصه بالذكر لأنه أقوى الأسباب المشوشة للإخلاص.

وقال الجنيد: الإخلاص تصفية العمل من الكدورات.

وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص بأن يعافيك الله منهما.

وقيل: الإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها. وهذا هو البيان الكامل والأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة.

وإنما البيان الشافي بيان سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الإخلاص، فقال: " أن تقول ربي الله ثم تستقيم كما أمرت". أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربك وتستقيم في عبادته كما أمرت وهذا إشارة إلى قطع ما سوى الله عن مجرى النظر وهو الإخلاص حقاً.

بيان درجات الشوائب والآفات المكدرة للإخلاص: اعلم أن الآفات المشوشة للإخلاص بعضها جلي وبعضها خفي وبعضها ضعيف مع الجلاء وبعضها قوي مع الخفاء، ولا يفهم اختلاف درجاته في الخفاء والجلاء إلا بمثال. وأظهر مشوشات الإخلاص الرياء فلنذكر منه مثالاً: فنقول: الشيطان يدخل الآفة على المصلي مهما كان مخلصاً في صلاته؛ ثم نظر إليه جماعة أو دخل عليه داخل فيقول له: حسن صلاتك حتى ينظر إليك هذا الحاضر بعين الوقار والصلاح ولا يزدريك ولا يغتابك! فتخشع جوارحه، وتسكن أطرافه، وتحسن صلاته، وهذا هو الرياء الظاهر؛ ولا يخفى ذلك على المبتدئين من المريدين. الدرجة الثانية: يكون المريد قد فهم هذه الآفة وأخذ منها حذره فصار لا يطيع الشيطان فيها ولا يلتفت إليه ويستمر في صلاته كما كان. فيأتيه في معرض الخير ويقول: أنت متبوع ومقتدى بك ومنظور إليك وما تفعله يؤثر عنك ويتأسى بك غيرك، فيكون لك ثواب أعمالهم إن أحسنت وعليك الوزر إن أسأت، فأحسن عملك بين يديه فعساه يقتدي بك في الخشوع وتحسين العبادة! وهذا أغمض من الأول وقد ينخدع به من لا ينخدع بالأول، وهو أيضاً عين الرياء ومبطل للإخلاص، فإنه إن كان يرى الخشوع وحسن العبادة خيراً لا يرضى لغيره تركه فلم لم يرتض لنفسه ذلك في الخلوة ولا يمكن أن تكون نفس غيره أعز عليه من نفسه؟ فهذا محض التلبيس، بل المقتدي به هو الذي في نفسه واستنار قلبه فانتشر نوره إلى غيره فيكون له ثواب عليه فأما هذا فمحض النفاق والتلبيس، فمن اقتدى به أثيب عليه وأما هو فيطالب بتلبيسه ويعاقب على إظهاره من نفسه ما ليس متصفاً به.

الدرجة الثالثة: وهي أدق مما قبلها، أن يجرب العبد نفسه في ذلك ويتنبه لكيد الشيطان ويعلم أن مخالفته بين الخلوة والمشاهدة للغير محض الرياء، ويعلم أن الإخلاص في أن تكون صلاته في الخلوة مثل صلاته في الملأ، ويستحيي من نفسه ومن ربه أن يتخشع لمشاهدة خلقه تخشعاً زائداً على عادته، فيقبل على نفسه في الخلوة ويحسن صلاته على الوجه الذي يرتضيه في الملأ، ويصلي في الملأ أيضاً كذلك، فهذا أيضاً من الرياء الغامض لأنه حسن صلاته في الخلوة لتحسن في الملأ فلا يكون قد فرق بينهما، فالتفاته في الخلوة والملأ إلى الخلق، بل الإخلاص أن تكون مشاهدة البهائم لصلاته ومشاهدة الخلق على وتيرة واحدة، فكأن نفس هذا ليست تسمح بإساءة الصلاة بين أظهر الناس ثم يستحيي من نفسه أن يكون في صورة المرائين، ويظن أن ذلك يزول بأن تستوي صلاته في الخلا والملا وهيهات! بل زوال ذلك بأن لا يلتفت إلى الخلق كما لا يلتفت إلى الجمادات في الخلا والملأ جميعاً، وهذا من شخص مشغول الهم بالخلق في الملأ والخلا جميعاً، وهذا من المكايد الخفية للشيطان. الدرجة الرابعة: وهي أدق وأخفى، أن ينظر إليه الناس وهو في صلاته فيعجز الشيطان عن أن يقول له: اخشع لأجلهم، فإنه قد عرف أنه قد تفطن لذلك فيقول له الشيطان: تفكر في عظمة الله تعالى وجلاله ومن أنت واقف بين يديه واستحي من أن ينظر الله إلى قلبك وهو غافل عنه، فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه ويظن أن ذلك عين الإخلاص وهو عين المكر والخداع، فإن خشوعه لو كان لنظره إلى جلاله لكانت هذه الخطرة تلازمه في الخلوة ولكان لا يختص حضورها بحالة حضور غيره، وعلامة الأمن من هذه الآفة أن يكون هذا الخاطر مما يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ، ولا يكون حضور الغير هو السبب في حضور الخاطر كما لا يكون حضور البهيمة سبباً فما دام يفرق في أحواله بين مشاهدة إنسان ومشاهدة بهيمة فهو بعد خارج عن صفو الإخلاص مدنس الباطن بالشرك الخفي من الرياء، وهذا الشرك أخفي في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كما ورد في الخبر ولا يسلم من الشيطان إلا من دق نظره وسعد بعصمة الله تعالى وتوفيقه وهدايته، وإلا فالشيطان ملازم للمتشمرين لعبادة الله تعالى لا يغفل عنهم لحظة حتى يحملهم على الرياء في كل حركة من الحركات حتى في كحل العين وقص الشارب وطيب يوم الجمعة ولبس الثياب، فإن هذه سنن في أوقات مخصوصة وللنفس فيها حظ خفي لارتباط نظر الخلق بها ولاستئناس الطبع بها، فيدعوه الشيطان إلى فعل ذلك ويقول هذه سنة لا ينبغي أن تتركها، ويكون انبعاث القلب باطناً لها لأجل تلك الشهوة الخفية، أو مشوبة بها شوباً يخرج عن حد الإخلاص بسببه، وما لا يسلم عن هذه الآفات كلها فليس بخالص، بل من يتعكف في مسجد معمور نظيف حسن العمارة يأنس إليه الطبع فالشيطان يرغبه ويكثر عليه من فضائل الاعتكاف، وقد يكون المحرك الخفي في سره هو الأنس بحسن صورة المسجد واستراحة الطبع إليه، ويتبين ذلك في ميله إلى أحد المسجدين أو أحد الموضعين إذا كان أحسن من الآخر، وكل ذلك امتزاج بشوائب الطبع وكدورات النفس ومبطل حقيقة الإخلاص لعمري الغش الذي يمزج بخالص الذهب له درجات متفاوتة. فمنها ما يغلب ومنها ما يقل لكن يسهل دركه. ومنها ما يدق بحيث لا يدركه إلا الناقد البصير. وغش القلب ودغل الشيطان وخبث النفس أغمض من ذلك وأدق كثيراً. ولهذا قيل: ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة من جاهل، وأريد به العالم البصير بدقائق آفات الأعمال حتى يخلص عنها، فإن الجاهل نظره إلى ظاهر العبادة واغتراره بها كنظر السوادي إلى حمرة الدينار المموه واستدارته وهو مغشوش زائف في نفسه، وقيراط من الخالص الذي يرتضيه الناقد البصير خير من دينار يرتضيه الغر الغبي. فهكذا يتفاوت أمر العبادات بل أشد وأعظم. ومداخل الآفات المتطرقة إلى فنون الأعمال لا يمكن حصرها وإحصاؤها فلينتفع بما ذكرناه مثالاً، والفطن يغنيه القليل عن الكثير والبليد لا يغنيه التطويل أيضاً فلا فائدة في التفصيل.

بيان حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب به

اعلم أن العمل إذا لم يكن خالصاً لوجه الله تعالى بل امتزج به شوب من الرياء أو حظوظ النفس فقد اختلف الناس في أن ذلك هل يقتضي ثواباً أم يقتضي عقاباً أم لا يقتضي شيئاً أصلاً فلا يكون له ولا عليه؟ أما الذي لم يرد به إلا الرياء فهو عليه قطعاً وهو سبب المقت والعقاب. وأما الخالص لوجه الله تعالى فهو سبب الثواب وإنما النظر في المشوب، وظاهر الأخبار تدل على أنه لا ثواب له، وليس تخلو الأخبار عن تعارض فيه. والذي ينقدح لما فيه - والعلم عند الله - أن ينظر إلى قدر قوة الباعث. فإن كان الباعثالديني مساوياً للباعث النفسي تقاوماً وتساقطاً وصار العمل لا له ولا عليه، وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع وهو مع ذلك مضر ومفض للعقاب. نعم العقاب الذي فيه من عقاب العمل الذي تجرد للرياء ولم يمتزج به شائبة التقرب. وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني وهذا لقوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره "، ولقوله تعالى: " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها " فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير، بل إن كان غالباً على قصد الرياء حبط منه القدر الذي يساويه وبقيت زيادة، وإن كان مغلوباً سقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد، وكشف الغطاء عن هذا أن الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها. فداعية الرياء من المهلكات وإنما غذاء هذا المهلك وقوته العمل على وفقه، وداعية الخير من المنجيات وإنما قوتها بالعمل على وفقها، فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادتان، فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء فقد قوي تلك الصفة، وإذا كان العمل على وفق مقتضى التقرب فقد قوي أيضاً تلك الصفة، وأحدهما مهلك والآخر منج، فإن كان تقوية هذا بقدر تقوية الآخر فقد تقاوما، فكان كالمستضر بالحرارة إذا تناول ما يضره ثم تناول من المبردات ما يقاوم قدر قوته، فيكون بعد تناولهما كأنه لم يتناولهما، وإن كان أحدهما غالباً لم يخل الغالب عن أثر، فكما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام والشراب والأدوية ولا ينفك عن أثر في الجسد بحكم سنة الله تعالى، فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير والشر ولا ينفك عن تأثير في إنارة القلب أو تسويده وفي تقريبه من الله أو إبعاده، فإذا جاء بما يقربه شبراً مع ما يبعده شبراً فقد عاد إلى ما كان فلم يكن له ولا عليه، وإن كان الفعل مما يقربه شبرين والآخر يبعده شبراً واحداً فضل له لا محالة شبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتبع السيئة الحسنة تمحها" فإذا كان الرياء المحض يمحوه الإخلاص المحض عقيبه، فإذا اجتمعا جميعاً فلا بد وأن يتدافعا بالضرورة. ويشهد لهذا إجماع الأمة على أن من خرج حاجاً ومعه تجارة صح حجه وأثيب عليه، وقد امتزج به حظ من حظوظ النفس. نعم يمكن أن يقال: إنما يثاب على أعمال الحج عند انتهائه إلى مكة وتجارته غير موقوفة عليه فهو خالص، وإنما المشترك طول المسافة ولا ثواب فيه مهما قصد التجارة. ولكن الصواب أن يقال: مهما كان الحج هو المحرك الأصلي وكان غرض التجارة كالمعين والتابع فلا ينفك نفس السفر عن ثواب ما. وعندي: أن الغزاة لا يدركون في أنفسهم تفرقة بين غزو الكفار في جهة تكثر فيها الغنائم وبين جهة لا غنيمة فيها، ويبعد أن يقال: إدراك هذه التفرقة يحبط بالكلية ثواب جهادهم، بل العدل أن يقال: إذا كان الباعث الأصلي والمزعج القوي هو إعلاء كلمة الله تعالى وإنما الرغبة في الغنيمة على سبيل التبعية فلا يحبط به الثواب. نعم لا يساوي ثوابه ثواب من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلاً، فإن هذا الالتفات نقصان لا محالة.

فإن قلت: فالآيات والخبار تدل على أن شوب الرياء محبط للثواب، وفي معناه شوب طلب الغنيمة والتجارة وسائر الحظوظ فقد روى طاوس وغيره من التابعين: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يصطنع المعروف - أو قال يتصدق - فيحب أن يحمد ويؤجر فلم يدر ما يقوله حتى نزلت " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحد "، وقد قصد الأجر والحمد جميعاً.

وروى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أدنى الرياء شرك".

وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يقال لمن أشرك في عمله خذ أجرك ممن عملت له".وروي عن عبادة " أن الله عز وجل يقول: أنا أغنى الأغنياء عن الشركة من عمل لي عملاً فأشرك معي غيري ودعت نصيبي لشريكي ".

وروى أبو موسى أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه فأيهم في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".

وقال عمر رضي الله عنه: تقولون فلان شهيد ولعله أن يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقاً.

وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من هاجر يبتغي شيئاً من الدنيا فهو له".

فنقول هذه الأحاديث لا تناقض ما ذكرناه بل المراد بها من لم يرد بذلك إلا الدنيا كقوله: " من هاجر يبتغي شيئاً من الدنيا " وكان ذلك هو الأغلب على همه وقد ذكرنا أن ذلك عصيان وعدوان لا لأن طلب الدنيا حرام ولكن طلبها بأعمال الدين حرام لما فيه من الرياء وتغيير العبادة عن موضعها، وأما لفظ الشركة حيث ورد فمطلق للتساوي وقد بينا أنه إذا تساوى القصدان تقاوما ولم يكن له ولا عليه، فلا ينبغي أن يرجى عليه ثواب، ثم إن الإنسان عند الشركة أبداً في خطر فإنه لا يدري أي الأمرين أغلب على قصده فربما يكون عليه وبالاً ولذلك قال تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحد " أي لا يرجى اللقاء مع الشركة التي أحسن أحوالها التساقط، ويجوز أن يقال: منصب الشهادة لا ينال إلا بالإخلاص في الغزو. وبعيد أن يقال: من كانت داعيته الدينية بحيث تزعجه إلى مجرد الغزو - وإن لم يكن غنيمة - وقدر على غزو طائفتين من الكفار إحداهما غنية والأخرى فقيرة فمال إلى جهة الأغنياء - لإعلاء كلمة الله وللغنيمة - لا ثواب له على غزوه البتة، ونعوذ بالله أن يكون الأمر كذلك فإن هذا حرج في الدين ومدخل لليأس على المسلمين، لأن أمثال هذه الشوائب التابعة قط لا ينفك الإنسان عنها إلا على الندور، فيكون تأثير هذا في نقصان الثواب، فأما أن يكون في إحباطه فلا، نعم الإنسان فيه على خطر عظيم لأنه ربما يظن أن الباعث الأقوى هو قصد التقرب إلى الله ويكون الأغلب على سره الحظ النفسي، وذلك مما يخفى غاية الخفاء، فلا يحصل الأجر إلا بالإخلاص والإخلاص قلما يستيقنه العبد من نفسه وإن بالغ في الاحتياط، فلذلك ينبغي أن يكون أبداً بعد كمال الاجتهاد متردداً بين الرد والقبول خائفاً أن تكون في عبادته آفة يكون وبالها أكثر من ثوابها. وهكذا كان الخائفون من ذوي البصائر، وهكذا ينبغي أن يكون كل ذي بصيرة. ولذلك قال سفيان رحمه الله: لا أعتد بما ظهر من عملي.

وقال عبد العزيز بن أبي رواد: جاورت هذا البيت ستين سنة وحججت ستين حجة فما دخلت في شيء من أعمال الله تعالى إلا وحاسبت نفسي فوجدت نصيب الشيطان أوفى من نصيب الله، ليته لا لي ولا علي.

ومع هذا فلا ينبغي أن يترك العمل عند خوف الآفة والرياء فإن ذلك منتهى بغية الشيطان منه إذ المقصود أن لا يفوت الإخلاص، ومهما ترك العمل فقد ضيع العمل والإخلاص جميعاً. وقد حكي أن بعض الفقراء كان يخدم أبا سعيد الخراز ويخف في أعماله فتكلم أبو سعيد في الإخلاص يوماً - يريد إخلاص الحركات - فأخذ الفقير يتفقد قلبه عند كل حركة ويطالبه بالإخلاص فتعذر عليه قضاء الحوائج واستضر الشيخ بذلك، فسأله عن أمره فأخبره بمطالبته نفسه بحقيقة الإخلاص وأنه يعجز عنها في أكثر أعماله فيتركها، فقال أبو سعيد: لا تفعل إذ الإخلاص لا يقطع المعاملة فواظب على العمل واجتهد في تحصيل الإخلاص، فما قلت لك اترك العمل وإنما قلت لك أخلص العمل.

وقد قال الفضيل: ترك العمل بسبب الخلق رياء وفعله لأجل الخلق شرك.