كتاب المراقبة والمحاسبة

وهو الكتاب الثامن من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على كل جارحة بما اجترحت، المطلع على ضمائر القلوب إذا هجست، الحسيب على خواطر عباده إذا اختلجت، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض تحركت أو سكنت، المحاسب على النقير والقطمير والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت، المتفضل بقبول طاعات العباد وإن صغرت، المتطول بالعفو عن معاصيهم وإن كثرت. وإنما يحاسبهم لتعلم كل نفس ما أحضرت وتنظر فيما قدمت وأخرت، فتعلم أنه لولا لزومها للمراقبة والمحاسبة في الدنية لشقيت في صعيد القيامة وهلكت، وبعد المجاهدة والمحاسبة والمراقبة لولا فضله بقبول بضاعتها المزجاة لخابت وخسرت، فسبحان من عمت نعمته كافة العباد وشملت، واستغرقت رحمته الخلائق في الدنيا والآخرة وغمرت، فبنفحات فضله اتسعت القلوب للإيمان وانشرحت، وببمن توفيقه تقيدت الجوارح بالعبادات وتأدبت، وبحسن هدايته انجلت عن القلوب ظلمات الجهل وانقشعت، وبتأييده ونصرته انقطعت مكايد الشيطان واندفعت، وبلطف عنايته تترجح كفة الحسنات إذا ثقلت، وبتيسيره تيسرت من الطاعات ما تيسرت. فمنه العطاء والجزاء والإبعاد والإدناء والإسعاد والإشقاء والصلاة والسلام على محمد سيد الأنبياء وعلى آله سادة الأصفياء وعلى أصحابه قادة الأتقياء.

أما بعد: فقد قال الله تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ".

وقال تعالى: " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغاد صغير ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً ". وقال تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ".

وقال تعالى: " يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ".

وقال تعالى: " ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم يظلمون ".

وقال تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه ".وقال تعالى: " واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه " فعرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته، فلما انكشف لهم ذلك علموا أنه لا ينجيهم منه إلا طاعة الله وقد أمرهم بالصبر والمرابطة فقال عز من قائل: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا ورابطوا " فرابطوا أنفسهم أولاً بالمشارطة، ثم بالمراقبة، ثم بالمحاسبة، ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدة، ثم بالمعاتبة. فكانت لهم في المرابطة ست مقامات، ولا بد من شرحها وبيان حقيقتها وفضيلتها وتفصيل الأعمال فيها وأصل ذلك المحاسبة، ولكن كل حساب فبعد مشارطة ومراقبة ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة فلنذكر شرح هذه المقامات وبالله التوفيق.

المقام الأول من المرابطة

المشارطة

اعلم أن مطالب المتعاملين في التجارات المشتركين في البضائع عند المحاسبة سلامة الربح وكما أن التاجر يستعين بشريكه فيسلم إليه المال حتى يتجر ثم يحاسبه، فكذلك العقل هو التاجر في طريق الآخرة وإنما مطلبه وربحه تزكية النفس لأن بذلك فلاحها قال الله تعالى: "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " وإنما فلاحها بالأعمال الصالحة، والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذ يستعملها ويستسخرها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله، وكما أن الشريك يصير خصماً منازعاً يجاذبه في الربح فيحتاج إلى أن يشارطه أولاً ويراقبه ثانياً ويحاسبه ثالثا ويعاقبه رابعاً؛ فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولاً فيوظب عليها الوظائف ويشترط عليها الشروط ويرشدها إلى طريق الفلاح ويجزم عليها الأمر بسلوك تلك الطرق، ثم لا يغفل عن مراقبتهما لحظة، فإنه لو أهملها لم ير منها إلا الخيانة وتضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا خلا له الجو وانفرد بالمال، ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها فإن هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى وبلوغ سدرة المنتهى مع الأنبياء والشهداء، فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيراً من تدقيقه في أرباح الدنيا معه أنها محتقرة بالإضافة إلى نعيم العقبى، ثم كيفما كانت فمصيرها إلى التصرم والانقضاء، ولا خير في خير لا يدوم بل شر لا يدوم خير من خير لا يدوم، لأن الشر الذي لا يدوم إذا انقطع بقي الفرح بانقطاعه دائماً وقد انقضى الشر، والخير الذي لا يدوم يبقى الأسف على انقطاعه دائماً وقد انقضى الخير. ولذلك قيل:

أشد الغم عندي في سرور

 

تيقن عنه صاحبه انتقالا

فحتم على كل ذي حزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها. فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد، فانقباض هذه الأنفاس ضائعة أو مصروفة إلى ما يجلب الهلاك خسران عظيم هائل لا تسمح به نفس عاقل. فإذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصبح ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة النفس كما أن التاجر عند تسليم البضاعة إلى الشريك العامل يفرغ المجلس لمشارطته. فيقول للنفس: ما لي بضاعة إلا العمر ومهما فني فقد فني رأس المال ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه وأنسأ في أجلي وأنعم علي به ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوماً واحداً حتى أعمل فيه صالحاً، فاحسبي أنك قد توفيت ثم قد رددت فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم فإن كل نفس من الأنفاس جوهرة لا قيمة لها واعلمي يا نفس أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وقد ورد في الخبر: " أنه ينشر للعبد بكل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له منها خزانة فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيناله من الفرح والسرور والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسيلته عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الإحساس بألم النار، ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح نتنها ويغشاه ظلامها وهي الساعة التي عصي فيها فيناله من الهول والفزع ما لو قسم على أهل الجنة لتنغص عليهم نعيمها ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما يسوءه" وهي الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من مباحات الدنيا فيتحسر على خلوها ويناله من غبن ذلك ما ينال القادر على الربح الكثير والملك الكبير إذا أهمله وتساهل فيه حتى فاته، ناهيك به حسرة وغبناً، وهكذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه: اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك ولا تدعيها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملكك ولا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك وتبقى عندك حسرة لا تفارقك وإن دخلت الجنة، فألم الغبن وحسرته لا يطاق وإن كان دون ألم النار.

وقد قال بعضهم: هب أن المسيء قد عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين؟ أشار به إلى الغبن والحسرة وقال الله تعالى: " يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن " فهذه وصيته لنفسه في أوقاته.

ثم ليستأنف لها وصية في أعضائه السبعة وهي العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، وتسليمها إليها فإنها رعايا خادمة لنفسه في هذه التجارة وبها تتم أعمال هذه التجارة. وإن لجهنم سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، وإنما تتعين تلك الأبواب لمن عصى الله تعالى بهذه الأعضاء، فيوصيها بحفظها عن معاصيها.

أما العين فيحفظها عن النظر إلى وجه من ليس له بمحرم، أو إلى عورة مسلم، أو النظر إلى مسلم بعين الاحتقار، بل عن كل فضول مستغنى عنه، فإن الله تعالى يسأل عبده عن فضول النظر كما يسأله عن فضول الكلام، ثم إذا صرفها عن هذا لم تقنع به حتى يشغلها بما فيه تجارتها وربحها؛ وهو ما خلقت له من النظر إلى عجائب صنع الله بعين الاعتبار، والنظر إلى أعمال الخير للإقتداء، والنظر في كتاب الله وسنة رسوله ومطالعة كتب الحكمة للاتعاظ والاستفادة. وهكذا ينبغي أن يفصل الأمر عليها في عضو عضو لا سيما اللسان والبطن. أما اللسان: فلأنه منطلق بالطبع ولا مؤنة عليه في الحركة وجنايته عظيمة بالغيبة والكذب والنميمة وتزكية النفس ومذمة الخلق والأطعمة واللعن والدعاء على الأعداء والمماراة في الكلام وغير ذلك - مما ذكرناه في كتاب آفات اللسان فهو بصدد ذلك كله - مع أنه خلق للذكر والتذكير وتكرار العلم والتعليم وإرشاد عباد الله إلى طريق الله وإصلاح ذات البين وسائر خيراته فليشترط على نفسه أن لا يحرك اللسان طول النهار إلا في الذكر: فنطق المؤمن ذكر ونظره عبرة وصمته فكرة و " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " " وأما البطن " فيكلفه ترك الشره وتقليل الأكل من الحلال واجتناب الشبهات، ويمنعه من الشهوات، ويقتصر على قدر الضرورة، ويشرط على نفسه أنه إن خالفت شيئاً من ذلك عاقبها بالمنع عن شهوات البطن ليفوتها أكثر مما نالته بشهواتها. هكذا يشرط عليها في جميع الأعضاء. واستقصاء ذلك يطول ولا تخفى معاصي الأعضاء وطاعاتها.

ثم يستأنف وصيتها في وظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة، ثم النوافل التي يقدر عليها ويقدر على الاستكثار منها، ويرتب لها تفصيلها وكيفيتها وكيفية الاستعداد لها بأسبابها، وهذه شروط يفتقر إليها في كل يوم ولكن إذا تعود الإنسان شرط ذلك على نفسه أياماً وطاوعته نفسه في الوفاء بجميعها استغنى عن المشارطة فيها، وإن أطاعت في بعضها بقيت الحاجة إلى تجديد المشارطة فيما بقي، ولكن لا يحلو كل يوم عن مهم جديد وواقعة حادثة لها حكم جديد، ولله عليه في ذلك حق. ويكثر هذا على من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا من ولاية أو تجارة أو تدريس إذ قلما يخلو يوم عن واقعة جديدة يحتاج إلى أن يقضي حق الله فيها، فعليه أن يشترط على نفسه الاستقامة فيها والانقياد للحق في مجاريها ويحذرها مغبة الإهمال ويعظها كما يوعظ العبد الآبق المتمرد: فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات مستعصية عن العبودية ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمينن " فهذا وما يجري مجراه هو أول مقام المرابطة مع النفس وهي محاسبة قبل العمل، والمحاسبة تارة تكون بعد العمل وتارة قبله للتحذير قال الله تعالى: "واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه " وهذا للمستقبل، وكل نظر في كثرة ومقدار لمعرفة زيادة ونقصان فإنه يسمى محاسبة، فالنظر فيما بين يدي العبد في نهاره ليعرف زيادته من نقصانه من المحاسبة وقد قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " وقال تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه " ذكر ذلك تحذيراً وتنبيهاً للاحتراز منه في المستقبل.

وروى عبادة بن الصامت: أنه عليه السلام قال لرجل سأله أن يوصيه ويعظه: " إذا أردت أمراً فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فامضه وإن كان غياً فانته عنه".

وقال بعض الحكماء: إذا أردت أن يكون العقل غالباً للهوى فلا تعمل بقضاء الشهوة حتى تنظر العاقبة فإن مكث الندامة في القلب أكثر من مكث خفة الشهوة.

وقال لقمان: إن المؤمن إذا أبصر العاقبة أمن الندامة.

وروى شداد بن أوس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله" دان نفسها: أي حاسبها. ويوم الدين: يوم الحساب، وقوله " أئنا لمدينون " أي لمحاسبون.

وقال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر.

وكتب إلى أبي موسى الأشعري: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة. وقال لكعب: كيف تجدها في كتاب الله؟ قال: ويل لديان الأرض من ديان السماء؛ فعلاه بالدرة وقال: إلا من حاسب نفسه، فقال كعب: يا أمير المؤمنين إنها إلى جنبها في التوراة ما بينهما حرف إلا من حاسب نفسه. وهذا كله إشارة إلى المحاسبة للمستقبل إذ قال: من دان نفسه يعمل لما بعد الموت. ومعناه: وزن الأمور وقدرها ونظر فيها وتدبرها ثم أقدم عليها فباشرها.

صفة الصراط

ثم تفكر بعد هذه الأهوال في قول الله تعالى: " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً " وفي قوله تعالى: " فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون " فالناس من بعد هذه الأهوال يساقون إلى الصراط - وهو جسر ممدود على متن النار أحد من السيف وأدق من الشعر - فمن استقام في هذا العالم على الصراط المستقيم خف على صراط الآخرة ونجا ومن عدل عن الاستقامة في الدنيا وأثقل ظهره بالأوزار وعصى تعثر في أول قدم من الصراط وتردى، فتفكر الآن فيما يحل من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفتها أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك واضطراب قلبك وتزلزل قدمك وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك عن المشي على بساط الأرض فضلاً عن حدة الصراط، فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع القدم الثانية والخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون، وتتنازلهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف يتنكسون فتتسفل إلى جهة النار رؤوسهم وتعلوا أرجلهم، فيا له من منظر ما أفظعه ومرتقى ما أصعبه ومجاز ما أضيقه! فانظر إلى حالك وأنت تزحف عليه وتصعد إليه وأنت مثقل الظهر بأوزارك، تلتفت يميناً وشمالاً إلى الخلق وهم يتهافتون في النار والرسول عليه السلام يقول: "يا رب سلم سلم " والزعقات بالويل والثبور قد ارتفعت إليك من قعر جهنم لكثرة من زل عن الصراط من الخلائق، فكيف بك لو زلت قدمك ولم ينفعك ندمك؟ فناديت بالويل والثبور وقلت: هذا ما كنت أخافه فيا ليتني قدمت لحياتي! يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً! يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً! يا ليتني كنت تراباً! يا ليتني كنت نسياً منسياً! يا ليت أمي لم تلدني! وعند ذلك تختطفك النيران - والعياذ بالله - وينادي المنادي "اخسؤوا فيها ولا تكلمون " فلا يبقى سبيل إلا الصياح والأنين والتنفس والاستغاثة، فكيف ترى الآن عقلك وهذه الأخطار بين يديك؟ فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار في دركات جهنم، وإن كنت مؤمناً وعنه غافلاً وبالاستعداد له متهاوناً فما أعظم خسرانك وطغيانك وماذا ينفعك إيمانك إذا لم يبعثك على السعي في طلب رضا الله تعالى بطاعته وترك معاصيه! فلو لم يكن بين يديك إلا هول الصراط وارتياع قلبك من خطر الجواز عليه - وإن سلمت - فناهيك به هولاً وفزعاً ورعباً! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجيز بأمته من الرسل، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم اللهم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان؟" قالوا: نعم يا رسول الله، قال: " فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى تختطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو".

وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمر الناس على جسر جهنم وعليه حسك وكلاليب وخطاطيف تختطف الناس يميناً وشمالاً وعلى جنبتيه ملائكة يقولون: اللهم سلم اللهم سلم، فمن الناس من يمر مثل البرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس المجري ومنهم من يسعى سعياً ومنهم من يمشي مشياً ومنهم من يحبوا حبواً ومنهم من يزحف زحفاً، فأما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون، وأما الناس فيؤخذون بذنوب وخطايا فيحترقون فيكونون فحماً ثم يؤذن في الشفاعة". وذكر إلى آخر الحديث. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء " وذكر الحديث إلى أن ذكر وقت سجود المؤمنين قال: " ثم يقول للمؤمنين ارفعوا رؤوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك حتى يكون آخرهم رجلاً يعطى نوره على إبهام قدمه فيضيء مرة ويخبو مرة فإذا أضاء قدم قدمه فمشى وإذا أظلم قام " ثم ذكر مرورهم على الصراط على قدر نورهم، فمنهم من يمر كطرف العين ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالسحاب ومنهم من يمر كانقضاض الكواكب ومنهم من يمر كشد الفرس ومنهم من يمر كشد الرجل حتى يمر الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه تجر منه يد وتعلق أخرى وتعلق رجل وتجر أخرى وتصيب جوانبه النار " قال: " فلا يزال كذلك حتى يخلص فإذا خلص وقف عليها ثم قال الحمد لله لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة فيغتسل".

وقال أنس بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الصراط كحد السيف أو كحد الشعرة وإن الملائكة ينجون المؤمنين والمؤمنات وإن جبريل عليه السلام لآخذ بججزتي وإني لأقول: يا رب سلم سلم فالزالون والزالات يومئذ كثير".

فهذه أهوال الصراط وعظائمه، فطول فيه فكرك فإن أسلم الناس من أهوال يوم القيامة من طال فيها فكره في الدنيا، فإن الله لا يجمع بين خوفين على عبد، فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة، ولست أعني بالخوف رقة كرقة النساء تدمع عينك ويرق قلبك حال السماع ثم تنساه على القرب وتعود إلى لهوك ولعبك؟ فماذا من الخوف في شيء؟ بل من خاف شيئاً هرب منه، ومن رجا شيئاً طلبه، فلا ينجيك إلا خوف يمنعك عن معاصي الله تعالى ويحثك على طاعته، وابعد من ورقة النساء خوف الحمقى إذا سمعوا الأهوال سبق إلى ألسنتهم الاستعاذة فقال أحدهم: استعنت بالله نعوذ بالله اللهم سلم سلم، وهم مع ذلك مصرون على المعاصي التي هي سبب هلاكهم، فالشيطان يضحك من استعاذتهم، كما يضحك على من يقصده سبع ضار في صحراء ووراءه حصن، فإذا رأى أنياب السبع وصولته من بعد قال لسانه: أعوذ بهذا الحصن الحصين وأستعين بشدة بنيانه وإحكام أركانه؟ فيقول ذلك بلسانه وهو قاعد في مكانه فأنى يغني عنه ذلك من السبع، وكذلك أهوال الآخرة ليس لها حصن إلا قول: " لا إله إلا الله " صادقاً ومعنى صدقه أن لا يكون له مقصود سوى الله تعالى ولا معبود غيره. ومن اتخذه إلهه هواه فهو بعيد من الصدق في توحيده وأمره مخطر في نفسه، فإن عجزت عن ذلك كله فكن محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تعظيم سننه ومتشوقاً إلى مراعاة قلوب الصالحين من أمته ومتبركاً بأدعيتهم فعساك أن تنال من شفاعته أو شفاعتهم فتنجو بالشفاعة إن كنت قليل البضاعة.

صفة الشفاعة

اعلم أنه إذا حق دخول النار على طوائف من المؤمنين فإن الله تعالى بفضله يقبل فيهم شفاعة الأنبياء والصديقين، بل شفاعة العلماء والصالحين، وكل من له عند الله تعالى جاه وحسن معاملة فإن له شفاعة في أهله وقرابته وأصدقائه ومعارفه، فكن حريصاً على أن تكتسب لنفسك عندهم رتبة الشفاعة، وذلك بأن لا تحقر آدمياً أصلاً فإن الله تعالى خبأ ولايته في عباده فلعل الذي تزدريه عينك هو ولي الله، ولا تستصغر معصية أصلاً فإن الله تعالى خبأ غضبه في معاصيه فلعل مقت الله فيه، ولا تستحقر أصلاً طاعة فإن الله تعالى خبأ رضاه في طاعته فلعل رضاه فيه. ولو الكلمة الطيبة أو النية الحسنة أو ما يجري مجراه.

وشواهد الشفاعة في القرآن والأخبار كثيرة: قال الله تعالى: " ولسوف يعطيك ربك فترضى ".روى عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام: "رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " وقول عيسى عليه السلام: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " ثم رفع يديه وقال: " أمتي أمتي " ثم بكى فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل فسأله فأخبره - والله أعلم به - فقال: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك".

وقال صلى الله عليه وسلم: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة، وكل نبي بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة".

وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم من غير فخر ".

وقال صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق الأرض عنه وأنا شافع وأول مشفع بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه".

وقال صلى الله عليه وسلم: " لكل نبي دعوة مستجابة فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ينصب للأنبياء منابر من ذهب فيجلسون عليها، ويبقى منبري لا أجلس عليه قائماً بين يدي ربي منتصباً مخافة أن يبعث بي إلى الجنة وتبقى أمتي بعدي، فأقول: يا رب أمتي، فيقول الله عز وجل: يا محمد وما تريد أن أصنع بأمتك، فأقول: يا رب عجل حسابهم فما أزال أشفع حتى أعطي صكاكاً برجال قد بعث بهم إلى النار وحتى إن مالكاً خازن النار يقول: يا محمد ما تركت للنار لغضب ربك في أمتك من بقية".

وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على وجه الأرض من حجر ومدر".وقال أبو هريرة: أتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال: " أنا سيد المرسلين يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم عليه السلام فيأتون آدم فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله تعالى بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم آدم عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته؛ نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً عليه السلام فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبداً شكوراً اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي؛ نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم خليل الله. فيأتون إبراهيم خليل الله عليه السلام فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإني كذبت ثلاث كذبات ويذكرها؛ نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى عليه السلام فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها؛ نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى عليه السلام، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنباً؛ نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وخاتم النبيين وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله لي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي أمتي يا رب؛ فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب " ثم قال: " والذي نفسي بيده إن بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى".

وفي حديث آخر: هذا السياق بعينه مع ذكر خطايا إبراهيم، وهو قوله في الكواكب: هذا ربي، وقوله لآلهتهم: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: لإني سقيم.

فهذه شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولآحاد أمته من العلماء والصالحين شفاعة أيضاً حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر".

وقال صلى الله عليه وسلم: يقال للرجل: قم يا فلان فاشفع فيقوم الرجل فيشفع للقبيلة ولأهل البيت وللرجل والرجلين على قدر عمله".

وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن رجلاً من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار ويقول: يا فلان هل تعرفني؟ فيقول: لا والله ما أعرفك من أنت؟ فيقول: أنا الذي مررت بي في الدنيا فاستسقيتني شربة ماء فسقيتك، قال: قد عرفت، قال: فاشفع لي بها عند ربك! فيسأل الله تعالى ذكره، ويقول: إني أشرفت على أهل النار فناداني رجل من أهلها فقال: هل تعرفني؟ فقلت: لا من أنت؟ فقال: أنا الذي استسقيتني في الدنيا فسقيتك فاشفع لي عند ربك فشفعني فيه، فيشفعه الله فيه فيؤمر به فيخرج من النار".وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أقوم بين يدي ربي عز وجل فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري".

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم: عجباً إن الله عز وجل اتخذ من خلقه خليلاً اتخذ إبراهيم خليلاً! وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً! وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه! وقال آخر: آدم اصطفاه الله، فخرج عليهم صلى الله عليه وسلم وقال: " قد سمعت كلامكم وتعجبكم إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى نجي الله وهو كذلك وعيسى روح الله وكلمته وهو كذلك وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فأدخلهما ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر".

صفة الحوض

اعلم أن الحوض مكرمة عظيمة خص الله بها نبينا صلى الله عليه وسلم وقد اشتملت الأخبار على وصفه، ونحن نرجو أن يرزقنا الله تعالى في الدنيا علمه وفي الآخرة ذوقه، فإن من صفاته أن من شرب منه لم يظمأ أبداً.

قال أنس: أغفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إغفاءة فرفع رأسه مبتسماً فقالوا له: يا رسول الله لم ضحكت؟ فقال: " آية أنزلت علي آنفاً " وقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم - إنا أعطيناك الكوثر " حتى ختمها ثم قال: " هل تدرون ما الكوثر؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة عليه خير كثير عليه حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء".

وقال أنس: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " بينما أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر". وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين لابتي حوضي مثل ما بين المدينة وصنعاء - أو مثل ما بين المدينة وعمان -" وروى ابن عمر أنه لما نزل قوله تعالى " إنا أعطيناك الكوثر " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو نهر في الجنة حافتاه من ذهب، شرابه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك يجري على جنادل اللؤلؤ والمرجان".

وقال ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن حوضي ما بين عدن إلى عمان البلقان ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أول الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين" فقال عمر بن الخطاب: ومن هم يا رسول الله؟ قال: " هم الشعث رؤوساً الدنس ثياباً الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد" فقال عمر بن عبد العزيز: " والله لقد نكحت المتنعمات فاطمة بنت عبد الملك وفتحت لي أبواب السدد إلا أن يرحمني الله، لا جرم لا أدهن رأسي حتى يشعث ولا أغسل ثوبي الذي على جسدي حتى يتسخ.

وعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ما آنية الحوض؟ قال: " والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها في الليلة المظلمة المضحية، من شرب منه لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة عرضه مثل طوله ما بين عمان وأيلة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل".وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل نبي حوضاً وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة" فهذا رجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فليرج كل عبد أن يكون في جملة الواردين، وليحذر أن يكون متمنياً ومغتراً وهو يظن أنه راج، فإن الراجي للحصاد من بث البذر ونقى الأرض وسقاها الماء ثم جلس يرجو فضل الله بالإنبات ودفع الصواعق إلى أوان الحصاد، فأما من ترك الحراثة أو الزراعة وتنقية الأرض، وسقيها وأخذ يرجو من فضل الله أن ينبت له الحب والفاكهة فهذا مغتر ومتمن وليس من الراجين في شيء، وهكذا رجاء أكثر الخلق وهو غرور الحمقى، نعوذ بالله من الغرور والغفلة فإن الاغترار بالله أعظم من الاغترار بالدنيا قال الله تعالى: " فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ".

القول في صفة جهنم وأهوالها وأنكالها

يا أيها الغافل عن نفسه المغرور بما هو فيه من شواطئ هذه الدنيا المشرفة على الانقضاء والزوال؛ دع التفكر فيما أنت مرتحل عنه واصرف الفكر إلى موردك فإنك أخبرت بأن النار مورد للجميع إذ قيل: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " فأنت من الورود على يقين ومن النجاة في شك، فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه، وتأمل في حال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها وقوفاً ينتظرون حقيقة أنبائها وتشفيع شفعائها إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب، وأطلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وجرجرة تفصح عن شدة الغيظ والغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب وجثت الأمم على الركب حتى أشفق البرءاء من سوء المنقلب، وخرج المنادي من الزبانية قائلاً: أين فلان بن فلان المسوف نفسه في الدنيا بطول الأمل المضيع عمره في سوء العمل؟ فيبادرونه بمقامع حديد ويستقبلونه بعظائم التهديد ويسوقونه إلى العذاب الشديد، وينكسونه في قعر الجحيم ويقولون له: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " فأسكنوا داراً ضيقة الأرجاء مظلمة المسالك مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير ويوقد فيها السعير، شرابهم فيها الحميم ومستقرهم الجحيم، الزبانية تقمعهم والهاوية تجمعهم، أمانيهم فيها الهلاك وما لهم منها فكاك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها ويصيحون في نواحيها وأطرافها: يا مالك قد حق علينا الوعيد يا مالك قد أثقلنا الحديد يا مالك قد نضجت منا الجلود يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فتقول الزبانية: هيهات لات حين أمان! ولا خروج لكم من دار الهوان فاخسؤوا فيها ولا تكلمون، ولو أخرجتم منها لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعودون فعند ذلك يقنطون وعلى ما فرطوا في جنب الله يتأسفون ولا ينجيهم الندم ولا يغنيهم الأسف، بل يكبون على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم والنار من تحتهم والنار عن أيمانهم والنار عن شمائلهم، فهم غرقى في النار طعامهم نار وشرابهم نار ولباسهم نار ومهادهم نار، فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع وثقل السلاسل، فهم يتجلجلون في مضايقها ويتحطمون في دركاتها ويضطربون بين غواشيها، تغلى بهم النار كغلي القدور ويهتفون بالويل والعويل، ومهما دعوا بالثبور صب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد تهشم بها جباههم فيتفجر الصديد من أفواههم وتنقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود أحداقهم ويسقط من الوجنات لحومها ويتمعط من الأطراف شعورها بل جلودها، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها، قد عريت من اللحم والعظم فبقيت الأرواح منوطة بالعروق وعلائق العصب وهي تنش في لفح تلك النيران، وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون! فكيف بك لو نظرت إليهم وقد سوّدت وجوههم أشد سواداً من الحميم، وأعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم وكسرت عظامهم، وجدعت آذانهم ومزقت جلودهم، وغلت أيديهم إلى أعناقهم، وجمع بين نواصيهم وأقدامهم. وهم يمشون على النار بوجوههم ويطأون حسك الحديد بأحداقهم، فلهيب النار سار في بواطن أجزائها وحيات الهاوية وعقاربها متشبثة بظواهر أعضائهم، هذا بعض جملة أحوالهم، وانظر الآن في تفصيل أهوالهم وتفكر أيضاً في أودية جهنم وشعابها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في جهنم سبعين ألف واد في كل واد سبعين ألف شعب في كل شعب سبعون ألف ثعبان وسبعون ألف عقرب لا ينتهي الكافر والمنافق حتى يوقع ذلك كله".

 وقال علي كرم الله وجهه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعوذوا بالله من جب الحزن - أو وادي الحزن " قيل: يا رسول الله وما وادي - أو جب - الحزن؟ قال: " واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم سبعين مرة أعده الله تعالى للقراء المرائين" فهذه سعة جهنم وانشعاب أوديتها وهي بحسب عدد أودية الدنيا وشهواتها، وعدد أبوابها بعدد الأعضاء السبعة التي بها يعصي العبد بعضها فوق بعض، الأعلى: جهنم ثم سقر ثم لظى ثم الحطمة ثم السير ثم الجحيم ثم الهاوية، فانظر الآن في عمق الهاوية فإنه لا حد لعمقها كما لا حد لعمق شهوات الدنيا، فكما لا ينتهي أرب من الدنيا إلا إلى أرب عظيم منه فلا تنتهي هاوية من جهنم إلا إلى هاوية أعمق منها.

قال أبو هريرة: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين عاماً الآن انتهى إلى قعرها".

ثم انظر إلى تفاوت الدركات فإن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً، فكما أن إكباب الناس على الدنيا يتفاوت فمن منهمك مستكثر كالغريق فيها، ومن خائض فيها إلى حد محدود، فكذلك تناول النار لهم متفاوت فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، فلا تترادف أنواع العذاب على كل من في النار كيفما كان، بل لكل واحد حد معلوم على قدر عصيانه وذنبه، إلا أن أقلهم عذاباً لو عرضت عليه الدنيا بحذافير لافتدى بها من شدة ما هو فيه ما هو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أدنى أهل النار عذاباً يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه". فانظر الآن إلى من خفف عليه واعتبر بمن شدد عليه. ومهما تشككت في شدة عذاب النار فقرب إصبعك من النار وقس ذلك به. ثم اعلم أنك أخطأ في القياس فإن نار الدنيا لا تناسب نار جهنم، ولكن لما كان أشد عذاب في الدنيا عذاب هذه النار عرف عذاب جهنم بها وهيهات! لو وجد أهل الجحيم مثل هذه النار لخاضوها طائعين هرباً مما هم فيه، وعن هذا عبر في بعض الأخبار حيث قيل: " إن نار الدنيا غسلت بسبعين ماء من مياه الرحمة حتى أطاقها أهل الدنيا" بل صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة نار جهنم فقال: " أمر الله تعالى أن يوقد على النار ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليه ألف عام حتى ابيضت ثم أوقد عليه ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة".

وقال صلى الله عليه وسلم: " اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها في نفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدونه في الصيف من حرها وأشد ما تجدونه في الشتاء من زمهريرها".

وقال أنس بن مالك: يؤتى بأنعم الناس في الدنيا من الكفار فيقال: اغمسوه في النار غمسة ثم يقال له هل رأيت نعيماً قط فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس ضراً في الدنيا فيقال: اغمسوه في الجنة غمسة ثم يقال له: هل رأيت ضراً قط؟ فيقول: لا ".

وقال أبو هريرة: لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون ثم تنفس رجل من أهل النار لماتوا. وقد قال بعض العلماء في قوله " تلفح وجوههم النار " إنها لفحتهم لفحة واحدة فما أبقت لحماً على عظم إلا ألقته عند أعقابهم.

ثم انظر بعد هذا في نتن الصديد الذي يسيل من أبدانهم حتى يغرقون فيه وهو الغساق: قال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن دلواً من غساق جهنم ألقى في الدنيا لأنتن أهل الأرض" فهذا شرابهم إذا استغاثوا من العطش فيسقى أحرهم من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو ميت وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً.

ثم انظر إلى طعامهم وهو الزقوم كما قال الله تعالى: " ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم " وقال تعالى: " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنه لآكلون منا فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم " وقال تعالى: " تصلى ناراً حامية تسقى من عين آنية " وقال تعالى: " إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذابه أليماً ".

 وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا أفسدت على أهل الدنيا معايشهم" فكيف من يكون طعامه ذلك؟.

وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارغبوا فيما رغبكم الله واحذروا وخافوا ما خوفكم الله به من عذابه وعقابه ومن جهنم، فإنه لو كانت قطرة من الجنة معكم في دنياكم التي أنتم فيها طيبتها لكم، ولو كانت قطرة من النار معكم في دنياكم التي أنتم فيها خبثتها عليكم".

وقال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ويستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون كما كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بشراب فيستغيثون بشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا دخل الشراب بطونهم قطع ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم " قال: " فيدعون خزنة جهنم " أن ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب فيقولون أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبيت قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " قال: " فيقولون ادعوا مالكاً فيدعون فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك " قال: " فيجيبهم إنكم ماكثون".

قال الأعمش: أنبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام قال: فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " قال: فيجيبهم "اخسؤوا فيها ولا تكلمون" قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك أخذوا في الزفير والحسرة والويل.

وقال أبو أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه " قال: " يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدني منه شوي وجهه فوقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره " يقول الله تعالى: " وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم " وقال تعالى: " وإن يستغيثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه " فهذه طعامهم وشرابهم عند جوعهم وعطشهم".

فانظر الآن إلى حيات جهنم وعقاربها وإلى شدة سمومها وعظم أشخاصها وفظاظة منظرها وقد سلطت على أهلها وأغريت بهم، فهي لا تفتر عن النهش واللدغ ساعة واحدة! قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زييبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهازمه - يعني أشداقه - فيقول أنا مالك أنا كنزك " ثم تلا قوله تعالى: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ... الآية".

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن في النار لحيات مثل أعناق البخت يلسعن اللسعة فيجد حموتها أربعين خريفاً، وإن فيها لعقارب كالبغال الموكفة يلسعن اللسعة فيجد حموتها أربعين خريفاً وهذه الحيات والعقارب إنما تسلط على من سلط عليه فيالدنيا البخل وإيذاء الناس ومن وقي ذلك وقي هذه الحيات فلم تمثل له". ثم تفكر بعد هذا كله في تعظيم أجسام أهل النار فإن الله تعالى يزيد في أجسامهم طولاً وعرضاً حتى يتزايد عذابهم بسببه، فيحسون بلفح النار ولدغ العقارب والحيات من جميع أجزائها دفعة واحدة على التوالي".

قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ضرس الكافر في النار مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شفته السفلى ساقطة على صدره والعليا فالصة قد غطت وجهه".

وقال عليه السلام: " إن الكافر ليجر لسانه في سجين يوم القيامة يتواطوه الناس". ومع عظم الأجسام كذلك تحرقهم النار مرات فتجدد جلودهم ولحومهم.

قال الحسن في قوله تعالى: " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها " قال: تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا.

ثم تفكر الآن في بكاء أهل النار وشهيقهم ودعائهم بالويل والثبور، فإن ذلك يسلط عليهم في أول إلقائهم في النار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك".وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرسل على أهل النار البكاء فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى يرى في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيها السفن لجرت وما دام يؤذن لهم في البكاء والشهيق والزفير والدعوة بالويل والثبور فلهم فيه مستروح ولكنهم يمنعون أيضاً من ذلك".

قال محمد بن كعب: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله عز وجل في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبداً يقولون " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل " فيقول الله تعالى مجيباً لهم " ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير " ثم يقولون: " ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل " فيجيبهم الله تعالى: " أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال " فيقولون: " ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل به " فيجيبهم الله تعالى: " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير " ثم يقولون: "ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " فيجيبهم الله تعالى: " اخسؤوا فيها ولا تكلمون " فلا يتكلمون بعدها أبداً وذلك غاية شدة العذاب. قال مالك بن أنس رضي الله عنه: قال زيد بن أسلم في قوله تعالى: " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " قال: صبروا مائة سنة ثم جزعوا مائة سنة ثم صبروا مائة سنة ثم قالوا: " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ".

وقال صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ويقال يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت"

وعن الحسن قال: يخرج من النار رجل بعد ألف عام وليتني كنت ذلك الرجل.

ورؤي الحسن رضي الله عنه جالساً في زاوية وهو يبكي فقيل له: لم تبكي؟ فقال: أخشى أن يطرحني في النار ولا يبالي.

فهذه أصناف عذاب جهنم على الجملة، وتفصيل عمومها وأجزائها ومحنها وحسرتها لا نهاية له، فأعظم الأمور عليهم مع ما يلاقونه من شدة العذاب حسرة فوت نعيم الجنة وفوت لقاء الله تعالى وفوت رضاه، مع علمهم بأنهم باعوا كل ذلك بثمن بخس دراهم معدودة؛ إذ لم يبيعوا ذلك إلا بشهوات حقيرة في الدنيا أياماً قصيرة وكانت غير صافية، بل كانت مكدرة منغصة فيقولون في أنفسهم واحسرتاه كيف أهلكنا أنفسنا بعصيان ربنا! وكيف لم نكلف أنفسنا الصبر أياماً قلائل ولو صبرنا لكانت قد انقضت عنا أيامه وبقينا الآن في جوار رب العالمين متنعمين بالرضا والرضوان؟ فيا لحسرة هؤلاء وقد فاتهم وبلوا بما بلوا به ولم يبق معهم شيء من نعيم الدنيا ولذاتها، ثم إنهم لو لم يشاهدوا نعيم الجنة لن تعظم حسرتها لكنها تعرض عليهم. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى يوم القيامة بناس من النار إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها، فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا، فيقول الله تعالى: ذاك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب الأليم مع ما حرمتكم من الثواب المقيم".

وقال أحمد بن حرب: إن أحدنا يؤثر الظل على الشمس ثم لا يؤثر الجنة على النار.

وقال عيسى عليه السلام: كم من جسد صحيح ووجه صبيح ولسان فصيح غدا بين أطباق النار يصيح.

وقال داود: إلهي لا صبر لي على حر شمسك فكيف صبري على حر نارك؟ ولا صبر لي على صوت رحمتك فكيف على صوت عذابك؟.

فانظر يا مسكين في هذه الأهوال واعلم أن الله تعالى خلق النار بأهوالها وخلق أهلاً لا يزيدون ولا ينقصون وأن هذا أمر قد قضي وفرغ منه قال الله تعالى: "وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون" ولعمري الإشارة به يوم القيامة، بل في أزل ولكن أظهر يوم القيامة ما سبق به القضاء، فالعجب منك حيث تضحك وتلهو وتشتغل بمحقرات الدنيا ولست تدري أن القضاء بماذا سبق في حقك!.

فإن قلت: فليت شعري ماذا موردي وإلى ماذا مآلي ومرجعي الذي سبق به القضاء في حقي؟ فلك علامة تستأنس بها وتصدق رجاءك بسببها وهي أن تنظر إلى أحوالك وأعمالك، فإن كلاً ميسر لما خلق له، فإن كان قد يسر لك سبيل الخير فأبشر فإنك مبعد عن النار، وإن كنت لا تقصد خيراً إلا وتحيط بك العوائق فتدفعه ولا تقصد شراً إلا ويتيسر لك أسبابه فاعلم أنك مقضي عليك، فإن دلالة هذا على العاقبة كدلالة المطر عل النبات ودلالة الدخان على النار. فقد قال الله تعالى "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" فاعرض نفسك على الآيتين وقد عرفت مستقرك من الدارين والله أعلم.

القول في صفة الجنة وأصناف نعيمها

اعلم أن تلك الدار التي عرفت همومها وغمومها تقابلها دار أخرى، فتأمل نعيمها وسرورها فإن من بعد من أحدهما استقر لا محالة في الأخرى فاستثر الخوف من قلبك بطول الفكر في أهوال الجحيم واستثر الرجاء بطول الفكر في النعيم المقيم الموعود لأهل الجنان، وسق نفسك بسوط الخوف وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم فبذلك تنال الملك العظيم وتسلم من العذاب الأليم، فتفكر في أهل الجنة وفي وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم، جالسين على منابر الياقوت الأحمر في خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض فيها بسط من العبقري الأخضر، متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل، محفوفة بالغلمان والولدان، مزينة بالحور العين من الخيرات الحسان كأنهن والمرجان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، يمشين في درجات الجنان إذا اختالت إحداهن في مشيها حمل أعطافها سبعون ألفاً من الولدان، عليها من طرائف الحرير الأبيض ما تتحير فيه الأبصار، مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان، شكلات غنجات عطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات في الخيام في قصور من الياقوت بنيت وسط روضات الجنان، قاصرات الطرف عين، ثم يطاف عليهم وعليهن بأكواب وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين، ويطوف عليهم خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون، في مقام أمين في جنات وعيون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ينظرون فيها إلى وجه الملك الكريم وقد أشرقت في وجوههم نضرة النعيم، لا يرهقهم فتر ولا ذلة بل عباد مكرمون وبأنواع التحف من ربهم يتعاهدون، فهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يخافون فيها ولا يحزنون، وهم من ريب المنون آمنون، فهم يتنعمون ويأكلون من أطعمتها، ويشربون من أنهارها لبناً وخمراً وعسلاً في أنهار أراضيها من فضة وحصباؤها مرجان، وعلى أرض ترابها مسك أذفر ونباتها زعفران، ويمطرون من سحاب فيها من ماء النسرين على كثبان الكافور، ويؤتون بأكواب وأي أكواب بأكواب من فضة مرصعة بالدر والياقوت والمرجان كوب فيه من الرحيق المختوم ممزوج به السلسبيل العذب، كوب يشرق نوره من صفاء جوهره يبدو الشراب من ورائه برقته وحمرته، لم يصنعه آدمي فيقصر في تسوية صنعته وتحسين صناعته، في كف خادم يحكي ضياء وجهه الشمس في إشراقها، ولكن من أين للشمس حلاوة مثل حلاوة صورته وحسن أصداغه وملاحة أحداقه، فيا عجباً لمن يؤمن بدار هذه صفتها ويوقن بأنه لا يموت أهلها ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها ولا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها كيف يأنس بدار قد أذن الله في خرابها ويتهنأ بعيش دونها؟ والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان مع الأمن من الموت والجوع والعطش وسائر أصناف الحدثان لكان جديراً بأن يهجر الدنيا بسببها! وان لا يؤثر عليها ما التصرم والتنغص من ضرورته! كيف وأهلها ملوك آمنون وفي أنواع السرير ممتعون لهم فيها كل ما يشتهون، وهم في كل يوم بفناء العرش يحضرون وإلى وجه الله الكريم ينظرون، وينالون بالنظر من الله ما لا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجنان ولا يلتفتون، وهم على الدوام بين أصناف هذه النعم يترددون وهم من زوالها آمنون، قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ينادي مناد يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً فذلك قوله عز وجل " ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون".ومهما أردت أن تعرف صفة الجنة فاقرأ القرآن فليس وراء بيان الله تعالى بيان، واقرأ من قوله تعالى: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " إلى آخر سورة الرحمن، واقرأ الواقعة وغيرها من السور، وإن أردت أن تعرف تفصيل من الأخبار فتأمل الآن تفصيلها بعد أن اطلعت على جملتها، وتأمل أولاً عدد الجنان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " ولمن خاف مقام ربه جنتان " قال: " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن". ثم انظر إلى أبواب الجنة فإنها كثيرة بحسب أصول الطاعات، كما أن أبواب النار بحسب أصول المعاصي. قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي من أبواب الجنة كلها وللجنة ثمانية أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام ومن كان من أهل الصدقة دعي من الباب الصدقة ومن كان من باب الجهاد دعي من باب الجهاد " فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله ما على أحد من ضرورة من أيها دعي فهل يدعى أحد منها كلها؟ قال: " نعم، وأرجو أن تكون منهم".

وعن عاصم بن ضمرة عن علي كرم الله وجهه أنه ذكر النار فعظم أمرها ذكراً لا أحفظه ثم قال " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً " حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان فعمدوا إلى إحداهما كما أمروا به فشربوا منها فأذهبت ما في بطونهم من أذى أو بأس، ثم عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم فلم تتغير أشعارهم بعدها أبداً ولا تشعث رؤوسهم كأنما دهنوا بالدهان، ثم انتهوا إلى الجنة فقال لهم خزنتها " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " ثم تلقاهم الولدان يطيفون بهم كما تطيف ولدان أهل الدنيا بالحبيب يقدم عليهم من غيبة، يقولوا له: أبشر أعد الله لك من الكرامة كذا، قال: فينطق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين فيقول: قد جاء فلان - باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا - فتقول: أنت رأيته؟ فيقول: أنا رأيته وهو بأثري، فيستخفها الفرح حتى تقوم إلى أسكفة بابها، فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرح أحمر وأخضر وأصفر من كل لون، ثم يرفع رأسه فينظر إلى سقفه فإذا مثل البرق ولولا أن الله تعالى قدره لألم أن يذهب بصره، ثم يطأطئ رأسه فإذا أزواجه "وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة " ثم اتكأ فقال: " الحمد الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " ثم ينادي مناد: تحيون فلا تموتون أبداً وتقيمون فلا تظعنون أبداً وتصحون فلا تمرضون أبداً.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آتي يوم القيامة باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك".

ثم تأمل الآن في غرف الجنة واختلاف درجات العلو فيها فإن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً، وكما أن بين الناس في الطاعات والأخلاق الباطنة المحمودة تفاوتاً ظاهراً فكذلك فيما يجازون به تفاوت ظاهر، فإن كنت تطلب أعلى الدرجات فاجتهد أن لا يسبقك أحد بطاعة الله تعالى فقد أمرك الله بالمسابقة والمنافسة فيها فيقول تعالى: " سابقوا إلى مغفرة من ربكم " وقال تعالى " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " والعجب أنه لو تقدم عليك أقرانك أو جيرانك بزيادة درهم أو بعلو بناء ثقيل عليك ذلك وضاق صدرك وتنغص بسبب الحسد عيشك، وأحسن أحوالك أن تستقر في الجنة وأنت لا تسلم فيها من أقوام يسبقونك بلطائف لا توازيها الدنيا بحذافيرها. فقد قال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف وفوقهم كما تتراءون الكوكب الغائر في الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم " قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" وقال أيضاً: " إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق من آفاق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما".وقال جابر: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أحدثكم بغرف الجنة " قال: قلت بلى يا رسول الله صلى الله عليك، بأبينا أنت وأمنا، قال: " إن في الجنة غرفاً من أصناف الجوهر كله يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها وفيها من النعيم واللذات والسرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " قال: يا رسول الله ولمن هذه الغرف؟ قال: "لمن أفشى السلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام " قال: قلنا يا رسول الله ومن يطيق ذلك؟ قال: " أمتي تطيق ذلك وسأخبركم عن ذلك، من لقي أخاه فسلم عليه أو رد عليه فقد أفشى السلام، ومن أطعم أهله وعياله من الطعام حتى يشبعهم فقد أطعم الطعام، ومن صام شهر رمضان ومن كل شهر ثلاثة أيام فقد أدام الصيام، ومن صلى العشاء الآخرة وصلى الغداة في جماعة فقد صلى بالليل والناس نيام". يعني اليهود والنصارى والمجوس.

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله " ومساكن طيبة في جنات عدن " قال: "قصور من لؤلؤ، في كل قصر سبعون داراً من ياقوت أحمر، في كل دار سبعون بيتاً من زمرد أخضر، في كل بيت سرير، على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون، على كل فراش زوجة من الحوار العين، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفة، ويعطى المؤمن في كل غداة - يعني من القوة - ما يأتي على ذلك أجمع".

صفة حائط الجنة وأراضيها وأشجارها وأنهارها

تأمل في صورة الجنة وتفكر في غبطة سكانها وفي حسرة من حرمها لقناعته بالدنيا عوضاً عنها فقد قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن حائط الجنة لبنة من فضة ولبنة من ذهب ترابها زعفران وطينها مسك".

وسئل صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال: " درمكة بيضاء مسك خالص".

وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن يسقيه الله عز وجل الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا، ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا" وقال " أنهار الجنة تتفجر من تحت تلال - أو تحت جبال - المسك". ولو كان أدنى أهل الجنة حلية عدلت بحلية أهل الدنيا جميعها لكان ما يحليه الله عز وجل به في الآخرة أفضل من حلية الدنيا جميعها".

وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرؤوا إن شئتم " وظل ممدود".

وقال أبو أمامة: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله عز وجل ينفعنا بالأعراب ومسائلهم. أقبل أعرابي فقال: يا رسول الله قد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أدري أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هي؟" قال: السدر فإن لها شوكاً، فقال: " قد قال الله تعالى: "في سدر مخضود " يخضد الله شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة ثم تنفتق الثمرة عن اثنتين وسبعين لوناً من الطعام ما منها لون يشبه الآخر".

وقال جرير بن عبد الله: نزلنا الصفاح فإذا رجل نائم تحت شجرة قد كادت الشمس أن تبلغه، فقلت الغلام: انطلق بهذا النطع فأظله فانطلق فأظله فلما استيقظ فإذا هو سلمان فأتيته أسلم عليه فقال: يا جرير تواضع لله فإن من تواضع لله في الدنيا رفعه الله يوم القيامة هل تدري ما الظلمات يوم القيامة؟ قلت: لا أدري! قال: ظلم الناس بعضهم بعضاً، ثم أخذ عويداً لا أكاد أراه من صغره فقال: يا جرير لو طلبت مثل هذا في الجنة لم تجده، قلت: يا أبا عبد الله فأين النخل والشجر؟ قال: أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلاها الثمر.

صفة لباس أهل الجنة وفرشهم وسررهم وأرائكهم وخيامهم

قال الله " يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير " والآيات في ذلك كثيرة وإنما تفصيله في الأخبار، فقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر عن قلب بشر".وقال رجل: يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلق تخلق أو نسج تنسج؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مم تضحكون؟ من جاهل سأل عالماً " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل ينشق عنها ثمار الجنة مرتين".

وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة ورشحهم المسك، لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشية "، وفي رواية " على كل زوجة سبعون حلة".

وقال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " يحلون فيها من أساور من ذهب " قال: " إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة فيها تضيء ما بين المشرق والمغرب".

وقال صلى الله عليه وسلم: " الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون" رواه البخاري في الصحيح. قال ابن عباس: الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.

وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " وفرش مرفوعة " قال: ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض".

صفة طعام أهل الجنة

بيان طعام أهل الجنة مذكور في القرآن من الفواكه والطيور السمان والمن والسلوى والعسل واللبن وأصناف كثيرة لا تحصى، قال الله تعالى " كلما رزقوا منها ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً " وذكر الله تعالى شراب أهل الجنة في مواضع كثيرة.

وقد قال ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فكر أسئلة إلى أن قال: فمن أول إجازة - يعني على الصراط -؟ فقال: " فقراء المهاجرين " قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: " زيادة كبد الحوت " قال: فما غداؤهم على أثرها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل في أطرافها " قال: فما شرابهم عليه؟ قال: " من عين تسمى سلسبيلاً " فقال: صدقت.

وقال زيد بن أرقم: جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليهوسلم وقال: يا أبا القاسم ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون؟ وقال لأصحابه: إن أقر لي بها خصمته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى والذي نفسي بيده إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والجماع " فقال اليهودي: فإن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حاجتهم عرق يفيض من جلودهم مثل المسك فإذا البطن قد ضمر".

وقال ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً".

وقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة طيراً مثل البخاتي ". قال أبو بكر رضي الله عنه: إنها لناعمة يا رسول الله؟ قال: " أنعم منها من يأكلها وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر".

وقال عبد الله بن عمر في قوله تعالى " يطاف عليهم بصحاف " قال: يطاف عليهم بسبعين صحفة من ذهب كل صحفة فيها لون ليس في الأخرى مثله.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " ومزاجه من تسنيم " قال: يمزج لأصحاب اليمين ويشربه المقربون صرفاً. وقال: لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل يده فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها.

صفة الحور العين والولدان

قد تكرر في القرآن وصفهم ووردت الأخبار بزيادة شرح فيه.

روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع قدمه من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ولملأت ما بينهما رائحة ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا بما فيها" يعني الخمار.

 وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " كأنهن الياقوت والمرجان " قال: "تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وإنه ليكون عليها سبعون ثوباً ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك".

وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أسري بي دخلت في الجنة موضعاً يسمى البيدخ عليه خيام اللؤلؤ والزبرجد الأخضر والياقوت الأحمر فقلن: السلام عليك يا رسول الله؛ فقلت: يا جبريل ما هذا النداء قال: هؤلاء المقصورات في الخيام استأذن ربهن في السلام عليك فأذن لهم، فطفقن يقلن: نحن الراضيات فلا نسخط أبداً ونحن الخالدات فلا نظعن أبداً ". وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول تعالى " حور مقصورات في الخيام".

وقال مجاهد في قوله تعالى " وأزواج مطهرة " قال: من الحيض والغائط والبول والبصاق والنخامة والمني والولد.

وقال الأوزاعي " في شغل فاكهون " قال: شغلهم افتضاض الأبكار.

وقال رجل: يا رسول الله أيباضع أهل الجنة؟ قال: يعطى الرجل منهم من القوة في اليوم الواحد أفضل من سبعين منكم".

وقال عبد الله بن عمر: إن أدنى أهل الجنة منزلة من يسعى له ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل من أهل الجنة ليتزوج خمسمائة حوراء وأربعة آلاف بكر وثمانية آلاف ثيب يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدنيا".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة سوقاً ما فيها بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها، وإن فيها لمجتمع الحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق مثلها يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الناعمات فلا نيأس ونحن الراضيات فلا نسخط فطوبى لمن كان لنا وكنا له".

وقال أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحور العين في الجنة يتغنين: نحن الحور الحسان خبئنا لأزواج كرام".

وقال يحيى بن كثير في قوله تعالى: "في روضة يحبرن" قال: السماع في الجنة.

وقال أبو أمامة الباهلي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين يغنيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن وليس بمزمار الشيطان ولكن بتحميد الله وتقديسه".

بيان جمل مفرقة من أوصاف أهل الجنة وردت بها الأخبار

روى أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " ألا هل من مشمر للجنة إن الجنة لا خطر لها وهي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وفاكهة كثيرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة في حبرة ونعمة في مقام أبداً ونضرة في دار عالية بهية سليمة ". قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله قال: " قولوا إن شاء الله تعالى " ثم ذكر الجهاد وحض عليه.

وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل في الجنة خيل فإنها تعجبني؟ قال: "إن أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك من الجنة حيث شئت ".

وقال له رجل: إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل؟ فقال: " يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عيناك".

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد كما يشتهي، يكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا استقر أهل الجنة في الجنة اشتاق الإخوان إلى الإخوان فيسير سرير هذا إلى سرير هذا فيلتقيان ويتحدثان ما كان بينهما في دار الدنيا فيقول: يا أخي تذكر يوم كذا في مجلس كذا فدعونا الله عز وجل فغفر لنا".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أهل الجنة جرد مرد جعاد مكحولون أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم طولهم ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم وثنتان وسبعون زوجة وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء وإن عليهم التيجان وإن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب".وقال صلى الله عليه وسلم: " نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كجلد البعير المقتب وإذا طيرها كالبخت، وإذا فيها جارية فقلت: يا جارية لمن أنت؟ فقالت: لزيد بن حارثة، وإذا في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".

وقال كعب: خلق الله تعالى آدم عليه السلام بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الجنة بيده، ثم قال لها تكلمي فقالت "قد أفلح المؤمنون " فهذه صفات الجنة ذكرناها جملة ثم نقلناها تفصيلاً.

وقد ذكر الحسن البصري رحمه الله جملتها فقال: إن رمانها مثل الدلاء، وإن أنهارها لمن ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من عسل مصفى لم يصفه الرجال وأنهار من خمر لذة للشاربين لا تسفه الأحلام ولا تصدع منها الرؤوس، وإن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ملوك ناعمون أبناء ثلاث وثلاثون في سن واحد طولهم ستون ذراعاً في السماء، كحل جرد مرد قد أمنوا العذاب واطمأنت بهم الدار، وإن أنهارها لتجري على رضراض من ياقوت وزبرجد، وإن عروقها ونخلها وكرمها اللؤلؤ وثمارها لا يعلم علمها إلا الله تعالى، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة، وإن لهم فيها خيلاً وإبلاً هفافة رحالها وأزمتها وسروجها من ياقوت يتزاورون فيها وأزواجهم الحور العين كأنهن بيض مكنون، وإن المرأة لتأخذ بين إصبعيها سبعين حلة فتلبسها فيرى مخ ساقها من وراء تلك السبعين حلة، قد طهر الله الأخلاق من السوء والأجساد من الموت، لا يمتخطون فيها ولا يبولون ولا يتغوطون وإنما هو جشاء ورشح مسك، لهم رزقهم فيها بكرة وعشياً أما إنه ليس ليل يكدر الغدو على الرواح والرواح على الغدو، وإن آخر من يدخل الجنة وأدناهم منزلة ليمد له في بصره وملكه مسيرة مائة عام في قصور من الذهب والفضة وخيام اللؤلؤ ، ويفسح له في بصره حتى ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه يغدى عليهم بسبعين ألف صفحة من ذهب ويراح عليهم بمثلها، في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثله، ويجد طعم آخره كما يجد طعم أوله، وإن في الجنة لياقوتة فيها سبعون ألف دار في كل دار سبعون ألف بيت ليس فيها صدع ولا ثقب. وقال مجاهد: إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن يسير في ملكه ألف سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه؛ وأرفعهم الذي ينظر إلى ربه بالغداة والعشي.

وقال سعيد بن المسيب: ليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة؛ سوار من ذهب وسوار من لؤلؤ وسوار من فضة.

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إن في الجنة حوراء يقال لها العيناء إذا مشت مشى عن يمينها ويسارها سبعون ألف وصيفة وهي تقول: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟.

وقال يحيى بن معاذ: ترك الدنيا شديد وفوت الجنة أشد وترك الدنيا مهر الآخرة. وقال أيضاً: في طلب الدنيا ذل النفوس، وفي طلب الآخرة عز النفوس، فيا عجباً لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى ويترك العز في طلب ما يبقى!.

صفة الرؤية والنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى

قال الله تعالى " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " وهذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى، وهي اللذة الكبرى التي ينسى فيها نعيم أهل الجنة - وقد ذكرناه حقيقتها في كتاب المحبة - وقد شهد لها الكتاب والسنة على خلاف ما يعتقده أهل البدعة. قال جرير بن عبد الله البجلي: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى القمر ليلة البدر فقال: " إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " ثم قرأ " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " وهو في الصحيحين.

 وروى مسلم في الصحيح عن صهيب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا: ما هذا الموعد؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوههنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟" قال: " فيرفع الحجاب وينظرون إلى وجه الله عز وجل فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إليه". وقد روى حديث الرؤيا جماعة من الصحابة، وهذه هي غاية الحسنى ونهاية النعمى، وكل ما فصلناه من التنعم عند هذه النعمة ينسى وليس لسرور أهل الجنة عند سعادة اللقاء منتهى، بل لا نسبة لشي من لذات الجنة إلى لذة اللقاء: وقد أوجزنا في الكلام هنا لما فصلناه في كتاب المحبة والشوق والرضا فلا ينبغي أن تكون همة العبد من الجنة بشيء سوى لقاء المولى. وأما سائر نعيم الجنة فإنه يشارك فيه البهيمة المسرحة في المرعى.

نختتم الكتاب بباب في سعة رحمة الله تعالى على سبيل التفاؤل بذلك

فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يحب الفألوليس لنا من الأعمال ما نرجو به المغفرة فنقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في التفاؤل، ونرجو أن يختم عاقبتنا بالخير في الدنيا والآخرة كما ختمنا الكتاب بذكر رحمة الله تعالى. فقد قال الله تعالى " إن لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ".

وقال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ".

وقال تعالى: " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ".

ونحن نستغفر الله تعالى من كل ما زلت به القدم أو طغى به القلم في كتابنا هذا وفي سائر كتبنا، ونستغفره من أقوالنا التي لا توافقها أعمالنا، ونستغفره مما ادعيناه وأظهرناه من العلم والبصيرة بدين الله تعالى مع التقصير فيه ونستغفره من كل علم وعمل قصدنا به وجهه الكريم ثم خالطه غيره، ونستغفره من كل وعد وعدناه به من أنفسنا ثم قصرنا في الوفاء به، ونستغفره من كل نعمة أنعم بها علينا فاستعملناها في معصيته، ونستغفره من كل تصريح وتعريض بنقصان ناقص وتقصير مقصر كنا متصفين به، ونستغفره من كل خطرة دعتنا إلى تصنع وتكلف تزينا للناس في كتاب سطرناه أو كلام نظمناه أو علم أفدناه أو استفدناه ونرجو بعد الاستغفار من جميع ذلك كله لنا ولمن طالع كتابنا هذا أو كتبه أو سمعه أن نكرم بالمغفرة والرحمة والتجاوز عن جميع السيئات ظاهراً وباطناً فإن الكرم عميم والرحمة واسعة والجود على أصناف الخلائق فائض. ونحن خلق من خلق الله عز وجل لا وسيلة لنا إليه إلا فضله وكرمه. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والأنس والطير والبهائم والهوام فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة".

ويروى أنه كان يوم القيامة أخرج الله تعالى كتاباً من تحت العرش فيه: إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين فيخرج من النار مثلا أهل الجنة.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يتجلى الله عز وجل لنا يوم القيامة ضاحكاً فيقول: أبشروا معشر المسلمين فإنه ليس منكم أحد إلا وقد جعلت مكانه في النار يهودياً أو نصرانياً".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يشفع الله تعالى آدم يوم القيامة من جميع ذريته في مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف".

وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة للمؤمنين: هل أحببتم لقائي فيقولون: نعم يا ربنا فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك فيقول: قد أوجبت لكم مغفرتي".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عز وجل يوم القيامة: أخرجوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام".وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا اجتمع أهل النار في النار ومن شاء الله معهم من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين قالوا: بلى، فيقولون: ما أغنى عنكم إسلامكم إذ أنتم معنا في النار فيقولون: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فيسمع الله عز وجل ما قالوا فيأمر بإخراج من كان في النار من أهل القبلة فيخرجون فإذا رأى ذلك الكفار قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما أخرجوا " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها".

وقال جابر بن عبد الله: من زادت حسناته على سيئاته يوم القيامة فذلك الذي يدخل الجنة بغير حساب ومن استوت حسناته وسيآته فذلك الذي يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، وإنما شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أوبق نفسه وأثقل ظهره.

ويروى أنه الله عز وجل قال لموسى عليه السلام: يا موسى استغاث بك قارون فلم تغثه وعزتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته وعفوت عنه.

وقال سعد بن بلال: يؤمر يوم القيامة بإخراج رجلين من النار، فيقول الله تبارك وتعالى: ذلك بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد، ويأمر بردهما إلى النار، فيعدو أحدهما في سلاسله حتى يقتحمها ويتلكأ الآخر ويأمر بردهما ويسألهما عن فعلهما، فيقول الذي عدا إلى النار: قد حذرت من وبال المعصية فلم أكن لأتعرض لسخطك ثانية، ويقول الذي تلكأ: حسن ظني بك كان يشعرني أن لا تردني إليها بعد ما أخرجتني منها، فيأمر بهما إلى الجنة.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة: يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم وبقيت التبعات فتواهبوها وادخلوا الجنة برحمتي".

ويروى أن أعرابياً سمع ابن عباس يقرأ " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " فقال الأعرابي: فوالله ما أنقذكم منها وهو يريد أن يوقعكم فيها، فقال ابن عباس: خذوها من غير فقيه.

وقال الصنابحي: دخلت على عبادة بن الصامت وهو في مرض الموت فبكيت فقال: مهلاً . . لم تبكي؟ فوالله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً سوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله النار عليه".

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون، فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر فيقول: لا يا رب فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم " قال: " فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة " قال: " فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء".وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حديث طويل يصف فيه القيامة والصراط: " إن الله يقول للملائكة من وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه من النار فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: يا ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: يا ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: يا ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ". فكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً " قال: فيقول الله تعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال لهم نهر الحياة فيخرجون منها كما تخرج الحية في حميل السيل ألا ترونها تكون مما يلي الحجر والشجر ما يكون إلى الشمس أصفر وأخضر، وما يكون منها إلى الظل أبيض ؟ قالوا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة يقولون هؤلاء عتقاء الرحمن الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتم فهو لكم فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول الله تعالى: إن لكم عندي ما هو أفضل من هذا فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم بعده أبداً". رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: " عرضت علي الأمم يمر النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد، والنبي معه الرهط، فرأيت سواداً كثيراً فرجوت أن تكون أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سواداً كثيراً قد سد الأفق، فقيل لي انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً، فقيل لي: هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب " فتفرق الناس ولم يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكر ذلك الصحابة فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكن قد آمنا بالله ورسوله هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة فقال: ادع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله، فقال: " أنت منهم " ثم قام آخر فقال مثل قول عكاشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها عكاشة".

وعن عمر بن حزم الأنصاري قال: تغيب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً لا يخرج إلا لصلاة مكتوبة ثم يرجع، فلما كان اليوم الرابع خرج إلينا فقلنا: يا رسول الله احتبست عنا حتى ظننا أنه قد حدث حدث، قال: " لم يحدث إلا خير إن ربي عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم وإني سألت ربي في هذه الثلاثة أيام المزيد فوجدت ربي ماجداً واجداً كريماً فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعين ألفاً " قال "قلت: يا رب وتبلغ أمتي هذا؟ قال: أكمل لك العدد من الأعراب".

وقال أبو ذر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عرض لي جبريل في جانت الحرة فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فقلت: يا جبريل وإن سرق وإن زنا؟ قال: نعم وإن سرق وإن زنى، قلت: وإن سرق وإن زنا؟ قال: نعم وإن سرق وإن زنى، قلت: وإن سرق وإن زنا؟ قال: نعم وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر".

وقال أبو الدرداء: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقلت: وإن سرق وإن زنى يا رسول الله؟ فقال: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقلت: وإن سرق وإن زنى يا رسول الله؟ فقال: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقلت: وإن سرق وإن زنى يا رسول الله؟ قال: وإن رغم أنف أبي الدرداء.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل مؤمن رجل من أهل الملل فقيل له هذا فداؤك من النار".وروى مسلم في الصحيح عن أبي بردة: أنه حدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله تعالى مكانه النار يهودياً أو نصرانياً " فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو - ثلاث مرات - أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف له.

وروي أنه وقف صبي في بعض المغازي ينادي عليه فيمن يزيد - في يوم صائف شديد الحر- فبصرت به امرأة في خباء القوم فأقبلت تشتد وأقبل أصحابها خلفها، حتى أخذت الصبي وألصقته إلى صدرها ثم ألقت ظهرها على البطحاء وجعلته على بطنها تقيه الحر، وقالت: ابني ابني! فبكى الناس وتركوا ما هم فيه، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم فأخبروه الخبر فسر برحمتهم ثم بشرهم فقال: " أعجبتم من رحمة هذه لابنها؟" قالوا: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: " فإن الله تبارك وتعالى أرحم بكم جميعاً من هذه بابنها" فتفرق المسلمون على أفضل السرور وأعظم البشارة.

فهذه الأحاديث وما أوردنا في كتاب الرجاء يبشرنا بسعة رحمة الله تعالى، فنرجو من الله تعالى أن لا يعاملنا بما نستحقه ويتفضل علينا بما هو أهله بمنه وسعة جوده ورحمته.