مسألة في بيان تلبيسهم بقولهم إن الله فاعل العالم وصانعه

وأن العالم صنعه وفعله وبيان أن ذلك مجاز عندهم وليس بحقيقته قولنا لا يتصور على مساق أصلهم أن يكون العالم من صنع الله

وقد اتفقت الفلاسفة سوى الدهرية على أن للعالم صانعاً وأن الله هو صانع العالم وفاعله وأن العالم فعله وصنعه، وهذا تلبيس على أصلهم. بل لا يتصور على مساق أصلهم أن يكون العالم من صنع الله، من ثلاثة أوجه: وجه في الفاعل ووجه في الفعل ووجه في نسبة مشتركة بين الفعل والفاعل.

خبالهم من ثلاثة وجوه

أما الذي في الفاعل فهو أنه لا بد وأن يكون مريداً مختاراً عالماً بما يريده، حتى يكون فاعلاً لما يريده. والله تعالى عندهم ليس مريداً بل لا صفة له أصلاً، وما يصدر عنه فيلزم منه لزوماً ضرورياً. والثاني أن العالم قديم والفعل هو الحادث. والثالث أن الله واحد عندهم من كل وجه، والواحد لا يصدر منه عندهم إلا واحد من كل وجه، والعالم مركب من مختلفات، فكيف يصدر عنه؟ في الفاعل: تقولون أن العالم من الله باللزوم...

ولنحقق وجه كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة مع خبالهم في دفعه.

الأول فنقول: الفاعل عبارة عمن يصدر منه الفعل، مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار ومع العلم بالمراد. وعندكم أن العالم من الله كالمعلول من العلة يلزم لزوماً ضرورياً، لا يتصور من الله دفعه، لزوم الظل من الشخص والنور من الشمس، وليس هذا من الفعل في شيء.

ولا يقال الفاعل فاعلاً إلا على وجه الإرادة والاختيار

بل من قال إن السراج يفعل الضوء والشخص يفعل الظل فقد جازف وتوسع في التجوز توسعاً خارجاً من الحد واستعار اللفظ اكتفاء بوقوع المشاركة بين المستعار له والمستعار عنه في وصف واحد، وهو أن الفاعل سبب على الجملة والسراج سبب الضوء والشمس سبب النور. ولكن الفاعل لم يسم فاعلاً صانعاً بمجرد كونه سبباً بل بكونه سبباً على وجه مخصوص، وهو على وجه الإرادة والاختيار، حتى لو قال القائل: الجدار ليس بفاعل والحجر ليس بفاعل والجماد ليس بفاعل وإنما الفعل للحيوان، لم ينكر ذلك ولم يكن قوله كاذباً. وللحجر فعل عندهم وهو الهوى والثقل والميل إلى المركز، كما أن للنار فعلاً وهو التسخين، وللحائط فعل وهو الميل إلى المركز ووقوع الظل، فإن كل ذلك صادر منه، وهذا محال.

قولهم الفعل جنسان

فإن قيل: كل موجود ليس واجب الوجود بذاته بل هو موجود بغيره، فإنا نسمي ذلك الشيء مفعولاً ونسمي سببه فاعلاً ولا نبالي كان السبب فاعلاً بالطبع أو بالإرادة، كما أنكم لا تبالون أنه كان فاعلاً بآلة أو بغير آلة. بل الفعل جنس وينقسم إلى ما يقع بآلة وإلى ما يقع بغير آلة، فكذلك هو جنس وينقسم إلى ما يقع بالطبع وإلى ما يقع بالاختيار.

ويقال "فعل" بالطبع والاختيار

بدليل أنا إذا قلنا "فعل" بالطبع لم يكن قولنا "بالطبع" ضداً لقولنا "فعل"، ولا دفعاً ونقضاً له بل كان بياناً لنوع الفعل كما إذا قلنا "فعل" مباشرة بغير آلة لم يكن نقضاً بل كان تنويعاً وبياناً. وإذا قلنا "فعل" بالاختيار لم يكن تكراراً مثل قولنا: حيوان إنسان، بل كان بياناً لنوع الفعل كقولنا "فعل" بآلة. ولو كان قولنا "فعل" يتضمن الإرادة وكانت الإرادة ذاتية للفعل من حيث أنه فعل لكان قولنا "فعل" بالطبع متناقضاً كقولنا فعل وما فعل.

قولنا الجماد لا فعل له

قلنا: هذه التسمية فاسدة ولا يجوز أن يسمى كل سبب بأي وجه كان فاعلاً ولا كل مسبب مفعولاً. ولو كان كذلك لما صح أن يقال الجماد لا فعل له وإنما الفعل للحيوان، وهذه من الكلمات المشهورة الصادقة.

إلا بالاستعادة

فإن سمى الجماد فاعلاً فبالاستعارة كما قد يسمى طالباً مريداً على سبيل المجاز، إذ يقال الحجر يهوى لأنه يريد المركز ويطلبه، والطلب والإرادة حقيقية لا يتصور إلا مع العلم بالمراد المطلوب، ولا يتصور إلا من الحيوان.

فالفعل يتضمن الإرادة

وأما قولكم: إن قولنا "فعل" عام وينقسم إلى ما هو بالطبع وإلى ما هو بالإرادة، غير مسلم وهو كقول القائل: قولنا "أراد" عام وينقسم إلى من يريد مع العلم بالمراد وإلى من يريد ولا يعلم ما يريد، وهو فاسد، إذ الإرادة تتضمن العلم بالضرورة، فكذلك الفعل يتضمن الإرادة بالضرورة.

"الفعل بالطبع" استعارة

وأما قولكم: إن قولنا "فعل" بالطبع ليس بنقض للأول، فليس كذلك فإنه نقض له من حيث الحقيقة، ولكن لا يسبق إلى الفهم التناقض ولا يشتد نفور الطبع عنه لأنه يبقى مجازاً، فإنه لما أن كان سبباً بوجه ما والفاعل أيضاً سبب سمي فعلاً مجازاً.

الفعل بالاختيار حقيقة هو فعل حقيقي

وإذا قال "فعل" بالاختيار فهو تكرير على التحقيق كقوله "أراد" وهو عالم بما أراده. إلا أنه لما تصور أن يقال "فعل" وهو مجاز ويقال "فعل" وهو حقيقة لم تنفر النفس عن قوله "فعل" بالاختيار وكان معناه فعل فعلاً حقيقياً لا مجازياً كقول القائل: تكلم بلسانه ونظر بعينه فإنه لما جاز أن يستعمل النظر في القلب مجازاً والكلام في تحريك الرأس واليد حتى يقال قال برأسه أي نعم، لم يستقبح أن يقال: قال بلسانه ونظر بعينه، ويكون معناه نفي احتمال المجاز. فهذا مزلة القدم، فليتنبه لمحل انخداع هؤلاء الأغبياء.

قولهم يقال النار تحرق

فإن قيل: تسمية الفاعل فاعلاً إنما يعرف من اللغة، وإلا فقد ظهر في العقل أن ما يكون سبباً للشيء ينقسم إلى ما يكون مريداً وإلى ما لا يكون. ووقع النزاع في أن اسم الفعل على كلى القسمين حقيقة أم لا؟ ولا سبيل إلى إنكاره، إذ العرب تقول: النار تحرق والسيف يقطع والثلج يبرد والسقمونيا تسهل والخبز يشبع والماء يروي. وقولنا "يضرب" معناه يفعل الضرب، وقولنا "تحرق" معناه تفعل الاحتراق، وقولنا "يقطع" معناه يفعل القطع. فإن قلتم: إن كل ذلك مجاز كنتم متحكمين فيه من غير مستند.

قولنا من ألقى إنساناً في نار فمات هو القاتل دون النار

والجواب أن كل ذلك بطريق المجاز وإنما الفعل الحقيقي ما يكون بالإرادة. والدليل عليه أنا لو فرضنا حادثاً توقف في حصوله على أمرين أحدهما إرادي والآخر غير إرادي، أضاف العقل الفعل إلى الإرادي. وكذى اللغة فإن من ألقى إنساناً في نار فمات يقال: هو القاتل دون النار، حتى إذا قيل: ما قتله إلا فلان، صدق قائله.

لأنه مختار

فإن كان اسم الفاعل على المريد وغير المريد على وجه واحد لا بطريق كون أحدهما أصلاً وكون الآخر مستعاراً منه، فلم يضاف القتل إلى المريد لغة وعرفاً وعقلاً؟ مع أن النار هي العلة القريبة في القتل، وكأن الملقى لم يتعاط إلا الجمع بينه وبين النار. ولكن لما أن كان الجمع بالإرادة وتأثير النار بغير إرادة سمي قاتلاً ولم تسم النار قاتلاً إلا بنوع من الاستعارة. فدل أن الفاعل من صدر الفعل عن إرادته، وإذا لم يكن الله مريداً عندهم ولا مختاراً لفعل لم يكن صانعاً ولا فاعلاً إلا مجازاً.

قولهم نعني بكون الله فاعلاً أن العالم قوامه به

فإن قيل: نحن نعني بكون الله فاعلاً أنه سبب لوجود كل موجود سواه وأن العالم قوامه به، ولولا وجود البارئ لما تصور وجود العالم، ولو قدر عدم البارئ لانعدم العالم، كما لو قدر عدم الشمس لانعدم الضوء. فهذا ما نعنيه بكونه فاعلاً، فإن كان الخصم يأبى أن يسمي هذا المعنى فعلاً فلا مشاحة في الأسامي بعد ظهور المعنى.

قولنا لا تقولوا إن الله "صانع" العالم

قلنا: غرضنا أن نبين أن هذا المعنى لا يسمى فعلاً وصنعاً، وإنما المعنى بالفعل والصنع ما يصدر عن الإرادة حقيقية. وقد نفيتم حقيقة معنى الفعل ونطقتم بلفظه تجملاً بالإسلاميين، ولا يتم الدين بإطلاق الألفاظ الفارغة عن المعاني. فصرحوا بأن الله لا فعل له، حتى يتضح أن معتقدكم مخالف لدين المسلمين. ولا تلبسوا بأن الله صانع العالم وأن العالم صنعه فإن هذه لفظة أطلقتموها ونفيتم حقيقتها، ومقصود هذه المسألة الكشف عن هذا التلبيس فقط.

الثاني

إن كان العالم موجوداً فلا يمكن إيجاده

في إبطال كون العالم فعلاً لله على أصلهم بشرط في الفعل، وهو أن الفعل عبارة عن الأحداث، والعالم عندهم قديم وليس بحادث، ومعنى الفعل إخراج الشيء من العدم إلى الوجود بإحداثه. وذلك لا يتصور في القديم إذ الموجود لا يمكن إيجاده. فإذن شرط الفعل أن يكون حادثاً، والعالم قديم عندهم، فكيف يكون فعلاً لله؟

قولهم الوجود متعلق بالفاعل

فإن قيل: معنى الحادث موجود بعد عدم، فلنبحث أن الفاعل إذا أحدث كان الصادر منه المتعلق به الوجود المجرد أو العدم المجرد أو كلاهما. وباطل أن يقال: إن المتعلق به العدم السابق إذ لا تأثير للفاعل في العدم، وباطل أن يقال: كلاهما إذ بان أن العدم لا يتعلق به أصلاً، وأن العدم في كونه عدماً لا يحتاج إلى فاعل البتة، فبقي أنه متعلق به من حيث أنه موجود، وأن الصادر منه مجرد الوجود، وأنه لا نسبة إليه إلا الوجود. فإن فرض الوجود دائماً فرضت النسبة دائمة، وإذا دامت هذه النسبة كان المنسوب إليه أفعل وأدوم تأثيراً لأنه لم يتعلق العدم بالفاعل بحال.

لا سبق العدم، وإن كان مشترطاً به

فبقي أن يقال: إنه متعلق به من حيث أنه حادث، ولا معنى لكونه حادثاً إلا أنه وجود بعد عدم، والعدم لم يتعلق به، فإن جعل سبق العدم وصف الوجود وقيل: المتعلق به وجود مخصوص لا كل وجود وهو وجود مسبوق بالعدم، فيقال: كونه مسبوقاً بالعدم ليس من فعل فاعل وصنع صانع، فإن هذا الوجود لا يتصور صدوره من فاعله إلا والعدم سابق عليه، وسبق العدم ليس بفعل الفاعل. فكونه مسبوق العدم ليس بفعل الفاعل فلا تعلق له به. فاشتراطه في كونه فعلاً اشتراط ما لا تأثير للفاعل فيه بحال. وأما قولكم: إن الموجود لا يمكن إيجاده، إن عنيتم به أنه لا يستأنف له وجود بعد عدم فصحيح.

لا إيجاد إلا لموجود

وإن عنيتم به أنه في حال كونه موجوداً لا يكون موجداً، فقد بينا أنه يكون موجداً في حال كونه موجوداً لا في حال كونه معدوماً. فإنه إنما يكون الشيء موجداً إذا كان الفاعل موجداً، ولا يكون الفاعل موجداً في حال العدم بل في حال وجود الشيء منه. والإيجاد مقارن لكون الفاعل موجداً وكون المفعول موجداً لأته عبارة عن نسبة الموجد إلى الموجد، وكل ذلك مع الوجود لا قبله. فإذن لا إيجاد إلا لموجود إن كان المراد بالإيجاد النسبة التي بها يكون الفاعل موجداً والمفعول موجداً.

العالم فعل الله أزلاً وأبداً

قالوا: ولهذا قضينا بأن العالم فعل الله أزلاً وأبداً، وما من حال إلا وهو فاعل له لأن المرتبط بالفاعل الوجود، فإن دام الارتباط دام الوجود، وإن انقطع انقطع لا كما تخيلتموه من أن البارئ لو قدر عدمه لبقى العالم، إذ ظننتم أنه كالبناء مع البناء، فإنه ينعدم ويبقى البناء، فإن بقاء البناء ليس بالباني بل هو باليبوسة الممسكة لتركيبه، إذ لو لم يكن فيه قوة ماسكة كالماء مثلاً لم يتصور بقاء الشكل الحادث بفعل الفاعل فيه.

قولنا الفعل يتعلق بالفاعل من حيث حدوثه

والجواب: إن الفعل يتعلق بالفاعل من حيث حدوثه لا من حيث عدمه السابق ولا من حيث كونه موجوداً فقط، فإنه لا يتعلق به في ثاني حال الحدوث عندنا وهو موجود، بل يتعلق به في حال حدوثه من حيث أنه حدوث وخروج من العدم إلى الوجود، فإن نفى منه معنى الحدوث لم يعقل كونه فعلاً ولا تعلقه بالفاعل.

ولا يتعلق به سبق العدم

وقولكم: إن كونه حادثاً يرجع إلى كونه مسبوقاً بالعدم وكونه مسبوقاً بالعدم، ليس من فعل الفاعل وجعل الجاعل فهو كذلك، لكنه شرط في كون الوجود فعل الفاعل، أعني كونه مسبوقاً بالعدم. فالوجود الذي ليس مسبوقاً بعدم بل هو دائم لا يصلح لأن يكون فعل الفاعل، وليس كل ما يشترط في كون الفعل فعلاً ينبغي أن يكون بفعل الفاعل، فإن ذات الفاعل وقدرته وإرادته وعلمه شرط في كونه وليس ذلك من أثر الفعل ولكن لا يعقل فعل إلا من موجود، فكان وجود الفاعل شرطاً وإرادته وقدرته وعلمه ليكون فاعلاً وإن لم يكن من أثر الفاعل.

الفعل مع الفاعل كالماء مع اليد في تحريك الماء

فإن قيل: إن اعترفتم بجواز كون الفعل مع الفاعل غير متأخر عنه، فيلزم أن يكون الفعل حادثاً إن كان الفاعل حادثاً، وقديماً إن كان قديماً. وإن شرطتم أن يتأخر الفعل عن الفاعل بالزمان، فهذا محال إذ من حرك اليد في قدح ماء تحرك الماء مع حركة اليد لا قبله ولا بعده، إذ لو تحرك بعده لكان اليد مع الماء قبل تنحيه في حيز واحد، ولو، تحرك قبله لانفصل الماء عن اليد، وهو مع كونه معه معلوله وفعل من جهته. فإن فرضنا اليد قديمة في الماء متحركة كانت حركة الماء أيضاً دائمة وهي مع دوامها معلولة ومفعولة. ولا يمتنع ذلك بفرض الدوام، فكذلك نسبة العالم إلى الله.

قولنا يكون الفعل حادثاً! وليس الكلام عن المعلول

قلنا: لا نحيل أن يكون الفعل مع الفاعل بعد كون الفعل حادثاً، كحركة الماء فإنها حادثة عن عدم، فجاز أن يكون فعلاً ثم سواء كان متأخراً عن ذات الفاعل أو مقارناً له. وإنما نحيل الفعل القديم فإن ما ليس حادثاً عن عدم فتسميته فعلاً مجاز مجرد لا حقيقة له. وأما المعلول مع العلة فيجوز أن يكونا حادثين وأن يكونا قديمين، كما يقال: إن العلم القديم علة لكون القديم عالماً، ولا كلام فيه وإنما الكلام فيما يسمى فعلاً، ومعلول العلة لا يسمى فعل العلة إلا مجازاً، بل ما يسمى فعلاً فشرطه أن يكون حادثاً عن عدم، فإن تجوز متجوز بتسمية القديم الدائم الوجود فعلاً لغيره كان متجوزاً في الاستعارة.

الحركة دائمة الحدوث

وقولكم: لو قدرنا حركة الإصبع مع الإصبع قديماً دائماً لم يخرج حركة الماء عن كونه فعلاً، تلبيس، لأن الإصبع لا فعل له وإنما الفاعل ذو الإصبع وهو المريد، ولو قدر قديماً لكانت حركة الإصبع فعلاً له من حيث أن كل جزء من الحركة فحادث عن عدم، فبهذا الاعتبار كان فعلاً وأما حركة الماء فقد لا نقول أنه من فعله بل هو من فعل الله. وعلى أي وجه كان فكونه فعلاً من حيث أنه حادث، إلا أنه دائم الحدوث وهو فعل من حيث أنه حادث.

قولهم لا تسمي هذا فعلاً بل معلولاً

فإن قيل: فإذا اعترفتم بأن نسبة الفعل إلى الفاعل من حيث أنه موجود كنسبة المعلول إلى العلة ثم سلمتم تصور الدوام في نسبة العلة، فنحن لا نعني بكون العالم فعلاً إلا كونه معلولاً دائم النسبة إلى الله تعالى فإن لم تسموا هذا فعلاً فلا مضايقة في التسميات بعد ظهور المعاني.

قولنا استعمالكم لفظة "فعل" مجاز

قلنا: ولا غرض من هذه المسألة إلا بيان أنكم تتجملون بهذه الأسماء من غير تحقيق وأن الله عندكم ليس فاعلاً تحقيقاً ولا العالم فعله تحقيقاً وأن إطلاق هذا الاسم مجاز منكم لا تحقيق له، وقد ظهر هذا.

الثالث لا يكون العالم فعل الله إذا لا يصور من الواحد إلا شيء واحد في استحالة كون العالم فعلاً لله على أصلهم بشرط مشترك بين الفاعل والفعل، وهو أنهم قالوا: لا يصدر من الواحد إلا شيء واحد، والمبدأ واحد من كل وجه والعالم مركب من مختلفات، فلا يتصور أن يكون فعلاً لله بموجب أصلهم.

قولهم بطريق التوسط

فإن قيل: العالم بجملته ليس صادراً من الله بغير واسطة، بل الصادر منه موجود واحد هو أول المخلوقات وهو عقل مجرد، أي هو جوهر قائم بنفسه غير متحيز يعرف نفسه ويعرف مبدأه ويعبر عنه في لسان الشرع بالملك، ثم يصدر منه الثالث ومن الثالث رابع وتكثر الموجودات بالتوسط.

عن أسباب الكثرة
فإن اختلاف الفعل وكثرته إما أن يكون لاختلاف القوى الفاعلة كما أنا نفعل بقوة الشهوة خلاف ما نفعل بقوة الغضب، وإما أن يكون لاختلاف المواد كما أن الشمس تبيض الثوب المغسول وتسود وجه الإنسان وتذيب بعض الجواهر وتصلب بعضها، وإما لاختلاف الآلات كالنجار الواحد ينشر بالمنشار وينحت بالقدوم ويثقب بالمثقب، وإما أن تكون كثرة الفعل بالتوسط بأن يفعل فعلاً واحداً ثم ذلك الفعل يفعل غيره فيكثر الفعل.
والتوسط وحده ممكن وهذه الأقسام كلها محال في المبدأ الأول إذ ليس في ذاته اختلاف واثنينية وكثرة، كما سيأتي في أدلة التوحيد، ولا ثم اختلاف مواد فإن الكلام في المعلول الأول والذي هي المادة الأولى مثلاً، ولا ثم اختلاف آلة إذ لا موجود مع الله في رتبته. فالكلام في حدوث الآلة الأولى، فلم يبق إلا أن تكون الكثرة في العالم صادرة من الله بطريق التوسط كما سبق.
 قولنا في العالم مركبات

قلنا: فيلزم من هذا أن لا يكون في العالم شيء واحد مركب من أفراد، بل تكون الموجودات كلها آحاداً وكل واحد معلول لواحد آخر فوقه وعلة لآخر تحته إلى أن ينتهي إلى معلول لا معلول له كما انتهى في جهة التصاعد إلى علة لا علة له. وليس كذلك فإن الجسم عندهم مركب من صورة وهيولى وقد صار باجتماعهما شيئاً واحداً. والإنسان مركب من جسم ونفس ليس وجود أحدهما من الآخر بل وجودهما جميعاً بعلة أخرى. والفلك عندهم كذلك فإنه جرم ذو نفس، لم تحدث النفس بالجرم ولا الجرم بالنفس بل كلاهما صدرا من علة سواهما.

حيث يقع التقاء الواحد والمركب يبطل القول بأن الواحد لا يصدر منه إلا واحد فكيف وجدت هذه المركبات؟ أمن علة واحدة؟ فيبطل قولهم: لا يصدر من الواحد إلا واحد، أو من علة مركبة؟ فيتوجه السؤال في تركيب العلة إلى أن يلتقي بالضرورة مركب ببسيط. فإن المبدأ بسيط وفي الأواخر تركيب ولا يتصور ذلك إلا بالتقاء، وحيث يقع التقاء يبطل قولهم إن الواحد لا يصدر منه إلا واحد.

قولهم مذهبنا في انقسام الموجودات

فإن قيل: إذا عرف مذهبنا اندفع الإشكال، فإن الموجودات تنقسم إلى ما هي في محال كالأعراض والصور وإلى ما ليست في محال، وهذا ينقسم إلى ما هي محال لغيرها كالأجسام وإلى ما ليست بمحال كالموجودات التي هي جواهر قائمة بأنفسها، وهي تنقسم إلى ما يؤثر في الأجسام ونسميها نفوساً وإلى ما لا يؤثر في الأجسام بل في النفوس ونسميها عقولاً مجردة. أما الموجودات التي تحل في المحال كالأعراض فهي حادثة ولها علل حادثة وتنتهي إلى مبدأ هو حادث من وجه دائم من وجه، وهي الحركة الدورية وليس الكلام فيها.

القائمة بأنفسها

وإنما الكلام في الأصول القائمة بأنفسها لا في محال وهي ثلاثة: أجسام وهي أخسها، وعقول مجردة وهي التي لا تتعلق بالأجسام لا بالعلاقة الفعلية ولا بالانطباع فيها وهي أشرفها، ونفوس وهي أوسطها فإنها تتعلق بالأجسام نوعاً من التعلق وهو التأثير والفعل فيها، فهي متوسطة في الشرف فإنها تتأثر من العقول وتؤثر في الأجسام. ثم الأجسام عشرة تسع سموات والعاشر المادة التي هي حشو مقعر فلك القمر، والسموات التسع حيوانات لها أجرام ونفوس ولها ترتيب في الوجود كما نذكره.

ترتيب الصدور

وهو أن المبدأ الأول فاض من وجوده العقل الأول، وهو موجود قائم بنفسه ليس بجسم ولا منطبع في جسم، يعرف نفسه ويعرف مبدأه، وقد سميناه العقل الأول ولا مشاحة في الأسامي سمي ملكاً أو عقلاً أو ما أريد. ويلزم عن وجوده ثلاثة أمور: عقل ونفس الفلك الأقصى وهي السماء التاسعة وجرم الفلك الأقصى. ثم لزم من العقل الثاني عقل ثالث ونفس فلك الكواكب وجرمه، ثم لزم من العقل الثالث عقل رابع ونفس فلك زحل وجرمه، ولزم من العقل الرابع عقل خامس ونفس فلك المشتري وجرمه، وهكذى حتى انتهى إلى العقل الذي لزم منه عقل ونفس فلك القمر وجرمه.

وأخيراً العقل الفعال والمادة الخ.

والعقل الأخير هو الذي يسمى العقل الفعال، ولزم حشو فلك القمر وهي المادة القابلة للكون والفساد من العقل الفعال وطبائع الأفلاك.


ثم إن المواد تمتزج بسبب حركات الكواكب امتزاجات مختلفة يحصل منها المعادن والنبات والحيوان، ولا يلزم أن يلزم من كل عقل عقل إلى غير نهاية، لأن هذه العقول مختلفة الأنواع، فما ثبت لواحد لا يلزم للآخر.

في المعلول الأول ثلاثة أشياء

فخرج منه أن العقول بعد المبدأ الأول عشرة والأفلاك تسعة ومجموع هذه المبادئ الشريفة بعد الأول تسعة عشر، وحصل منه أن تحت كل عقل من العقول الأول ثلاثة أشياء: عقل ونفس فلك وجرمه، فلا بد وأن يكون في مبدئه تثليث لا محالة، ولا يتصور كثرة في المعلول الأول إلا من وجه واحد وهو أنه يعقل مبدأه ويعقل نفسه، وهو باعتبار ذاته ممكن الوجود لأن وجوب وجوده بغيره لا بنفسه، وهذه معان ثلاثة مختلفة. والأشرف من المعلولات الثلاثة ينبغي أن ينسب إلى الأشرف من هذه المعاني فيصدر منه العقل من حيث أنه يعقل مبدأه، ويصدر نفس الفلك من حيث أنه يعقل نفسه، ويصدر جرم الفلك من حيث أنه ممكن الوجود بذاته.

لا يصدر من المبدأ الأول لزوماً إلا واحد

 فيبقى أن يقال: هذا التثليث من أين حصل في المعلول الأول ومبدؤه واحد؟ فنقول: لم يصدر من المبدأ الأول إلا واحد وهو ذات هذا العقل الذي به يعقل نفسه، ولزمه ضرورة لا من جهة المبدأ إن عقل المبدأ، وهو في ذاته ممكن الوجود وليس له الإمكان من المبدأ الأول بل هو لذاته. ونحن لا نبعد أن يوجد من الواحد واحد يلزم ذلك المعلول، لا من جهة المبدأ، أمور ضرورية إضافية أو غير إضافية، فيحصل بسبه كثرة ويصير بذلك مبدأ لوجود الكثرة. فعلى هذا الوجه يمكن أن يلتقي المركب بالبسيط إذ لا بد من الالتقاء، ولا يمكن إلا كذلك فهو الذي يجب الحكم به. فهذا هو القول في تفهيم مذهبهم.

قولنا إنها ترهات! والاعتراضات لا تنحصر، وإليكم بعضها قلنا: ما ذكرتموه تحكمات وهي على التحقيق ظلمات فوق ظلمات، لو حكاه الإنسان عن منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه، أو أورد جنسه في الفقهيات التي قصارى المطلب فيها تخمينات لقيل أنها ترهات لا تفيد غلبات الظنون.

ومداخل الاعتراض على مثله لا تنحصر ولكنا نورد وجوهاً معدودة.

إن جاز صدور الكثرة عن إمكان الوجود، جاز صدورها عن وجوب الوجود الأول هو أنا نقول: ادعيتم أن أحد معاني الكثرة في المعلول الأول أنه ممكن الوجود، فنقول: كونه ممكن الوجود عين وجوده أو غيره، فإن كان عينه فلا ينشأ منه كثرة، وإن كان غيره فهلا قلتم: في المبدأ الأول كثرة، لأنه موجود وهو مع ذلك واجب الوجود، فوجوب الوجود غير نفس الوجود، فليجز صدور المختلفات منه لهذه الكثرة. وإن قيل: لا معنى لوجوب الوجود إلا الوجود، فلا معنى لإمكان الوجود إلا الوجود. فإن قلتم: يمكن أن يعرف كونه موجوداً ولا يعرف كونه ممكناً فهو غيره، فكذا واجب الوجود يمكن أن يعرف وجوده ولا يعرف وجوبه إلا بعد دليل آخر فليكن غيره. وبالجملة الوجود أمر عام ينقسم إلى واجب وإلى ممكن، فإن كان فصل أحد القسمين زائداً على العام فكذى الفصل الثاني ولا فرق.

قولهم إمكان الوجود غير الوجود فإن قيل: إمكان الوجود له من ذاته ووجوده من غيره، فكيف يكون ما له من ذاته وما له من غيره واحداً؟

قولنا كذلك وجوب الوجود

قلنا: وكيف يكون وجوب الوجود عين الوجود ويمكن أن ينفى وجوب الوجود ويثبت الوجود؟ والواحد الحق من كل وجه هو الذي لا يتسع للنفي والإثبات إذ لا يمكن أن يقال: موجود وليس بموجود أو واجب الوجود وليس بواجب الوجود، ويمكن أن يقال: موجود وليس بواجب الوجود كما يمكن أن يقال: موجود وليس بممكن الوجود. وإنما يعرف الوحدة بهذا فلا يستقيم تقدير ذلك في الأول إن صح ما ذكروه من أن إمكان الوجود غير الوجود الممكن.

إن جاز صدور الكثرة عن قوة العقل، جاز صدورها عن المبدأ الأول

الاعتراض الثاني هو أن نقول: عقله مبدأه عين وجوده وعين عقله نفسه أم غيره؟ فإن كان عينه فلا كثرة في ذاته إلا في العبارة عن ذاته، وإن كان غيره فهذه الكثرة موجودة في الأول فإنه يعقل ذاته ويعقل غيره. فإن زعموا أن عقله ذاته عين ذاته ولا يعقل ذاته ما لم يعقل أنه مبدأ لغيره، فإن العقل يطابق المعقول فيكون راجعاً إلى ذاته. فنقول: والمعلول عقله ذاته عين ذاته فإنه عقل بجوهره فيعقل نفسه، والعقل والعاقل والمعقول منه أيضاً واحد. ثم إذا كان عقله ذاته عين ذاته فليعقل ذاته معلولاً لعلة فإنه كذلك، والعقل يطابق المعقول فيرجع الكل إلى ذاته فلا كثرة إذن. وإن كانت هذه كثرة فهي موجودة في الأول، فليصدر منه المختلفات. ولنترك دعوى وحدانيته من كل وجه إن كانت الوحدانية تزول بهذا النوع من الكثرة.

قولهم الأول لا يعقل إلا ذاته فإن قيل: الأول لا يعقل إلا ذاته وعقله ذاته هو عين ذاته، فالعقل والعاقل والمعقول واحد ولا يعقل غيره.

قولنا لا

والجواب من وجهين:  أحدهما أن هذا المذهب لشناعته هجره ابن سينا وسائر المحققين وزعموا أن الأول يعلم نفسه مبدأ لفيضان ما يفيض منه ويعقل الموجودات كلها بأنواعها عقلاً كلياً لا جزئياً، إذ استقبحوا قول القائل: المبدأ الأول لا يصدر منه إلا عقل واحد ثم لا يعقل ما يصدر منه، ومعلوله عقل ويفيض منه عقل ونفس فلك وجرم فلك ويعقل نفسه ومعلولاته الثلاث وعلته ومبدأه، فيكون المعلول أشرف من العلة من حيث أن العلة ما فاض منها إلا واحد. وقد فاض من هذا ثلاثة أمور، والأول ما عقل إلا نفسه، وهذا عقل نفسه ونفس المبدأ ونفس المعلولات. ومن قنع أن يكون قوله في الله راجعاً إلى هذه الرتبة فقد جعله أحقر من كل موجود يعقل نفسه ويعقله، فإن ما يعقله ويعقل نفسه أشرف منه إذا كان هو لا يعقل إلا نفسه.

أنزلوا الله منزلة الجاهل! هكذا يعامل الله المتكبرين

فقد انتهى منهم التعمق في التعظيم إلى أن أبطلوا كل ما يفهم من العظمة وقربوا حاله من حال الميت الذي لا خبر له مما يجري في العالم، إلا أنه فارق الميت في شعوره بنفسه فقط. وهكذى يفعل الله بالزائغين عن سبيله والناكبين لطريق الهدى المنكرين لقوله: "ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم"، "الظانين بالله ظن السوء"، المعتقدين أن الأمور الربوبية يستولي على كنهها القوى البشرية، المغرورين بعقولهم زاعمين أن فيها مندوحة عن تقليد الرسل وأتباعهم. فلا جرم اضطروا إلى الاعتراف بأن لباب معقولا رجعت إلى ما لو حكي في منام لتعجب منه.

ولا يعقل المعلول الأول غيره

الجواب الثاني هو أن من ذهب إلى أن الأول لا يعقل إلا نفسه إنما حاذر من لزوم الكثرة، إذ لو قال به للزم أن يقال: عقله غيره غير عقله نفسه. وهذا لازم في المعلول الأول فينبغي أن لا يعقل إلا نفسه، لأنه لو عقل الأول أو غيره لكان ذلك غير ذاته ولافتقر إلى علة غير علة ذاته، ولا علة إلا علة ذاته وهو المبدأ الأول، فينبغي أن لا يعلم إلا ذاته، وتبطل الكثرة التي نشأت من هذا الوجه.

قولهم يعقل المبدأ فإن قيل: لما وجد وعقل ذاته لزمه أن يعقل المبدأ.

قولنا لا يلزمه ذلك بعلة وجوده

قلنا: لزمه ذلك بعلة أو بغير علة؟ فإن كان بعلة فلا علة إلا المبدأ الأول وهو واحد، ولا يتصور أن يصدر منه إلا واحد وقد صدر وهو ذات المعلول، فالثاني كيف يصدر منه؟ وإن لزم بغير علة فليلزم وجود الأول موجودات بلا علة كثيرة وليلزم منها الكثرة. فإن لم يعقل هذا من حيث أن واجب الوجود لا يكون إلا واحداً والزائد على الواحد ممكن والممكن يفتقر إلى علة، فهذا اللازم في حق المعلول. إن كان واجب الوجود بذاته فقد بطل قولهم: واجب الوجود واحد، وإن كان ممكناً فلا بد له من علة ولا علة له فلا يعقل وجوده.

ولا بعلة إمكان وجوده

وليس هو من ضرورة المعلول الأول لكونه ممكن الوجود فإن إمكان الوجود ضروري في كل معلول. أما كون المعلول عالماً بالعلة ليس ضرورياً في وجود ذاته كما أن كون العلة عالماً بالمعلول ليس ضرورياً في وجود ذاته. بل لزوم العلم بالمعلول أظهر من لزوم العلم بالعلة، فبان أن الكثرة الحاصلة من علمه بالمبدأ محال فإنه لا مبدأ له وليس هو من ضرورة وجود ذات المعلول، وهذا أيضاً لا مخرج منه.

في المعلول الأول أكثر من التثليث

الاعتراض الثالث هو أن عقل المعلول الأول ذات نفسه عين ذاته أو غيره. فإن كان عينه فهو محال لأن العلم غير المعلوم، وإن كان غيره فليكن كذلك في المبدأ الأول فيلزم منه كثرة ويلزم فيه تربيع لا تثليث بزعمهم، فإنه ذاته وعقله مبدأه وإنه ممكن الوجود بذاته. ويمكن أن يزاد أنه واجب الوجود بغيره فيظهر تخميس، وبهذا يتعرف تعمق هؤلاء في الهوس.

التثيلث لا يكفي في جرم السماء الأول الاعتراض الرابع أن نقول: التثليث لا يكفي في المعلول الأول فإن جرم السماء الأول لزم عندهم من معنى واحد من ذات المبدأ وفيه تركيب من ثلاثة أوجه: لا بد له من صورة وهيولى أحدها أنه مركب من صورة وهيولى وهكذى كل جسم عندهم. فلا بد لكل واحد من مبدأ إذ الصورة تخالف الهيولى. وليست كل واحدة على مذهبهم علة مستقلة للأخرى حتى يكون أحدهما بواسطة الآخر من غير علة أخرى زائدة عليه.

ومقدار... الثاني أن الجرم الأقصى على حد مخصوص في الكبر. فاختصاصه بذلك القدر من بين سائر المقادير زائد على وجود ذاته إذ كان ذاته ممكناً أصغر منه وأكبر فلا بد له من مخصص بذلك المقدار زائد على المعنى البسيط الموجب لوجوده، لا كوجود العقل فإنه وجود محض لا يختص بمقدار مقابل لسائر المقادير. فيجوز أن يقال: لا يحتاج إلا إلى علة بسيطة.


قولهم لا غنى عنه في تحصيل النظام فإن قيل: سببه أنه لو كان أكبر منه لكان مستغنى عنه في تحصيل النظام الكلي، ولو كان أصغر منه لم يصلح للنظام المقصود.

قولنا النظام ليس هو كاف

فنقول: وتعين جهة النظام هل هو كاف في وجود ما به النظام أم يفتقر إلى علة موجدة؟ فإن كان كافياً فقد استغنيتم عن وضع العلل، فاحكموا بأن كون النظام في هذه الموجودات اقتضى هذه الموجودات بلا علة زائدة، وإن كان ذلك لا يكفي بل افتقر إلى علة فذلك أيضاً لا يكفي للاختصاص بالمقادير بل يحتاج أيضاً إلى علة التركيب.

خواص القطب الثالث أن الفلك الأقصى انقسم إلى نقطتين هما القطبان وهما ثابتا الوضع لا يفارقان وضعهما. وأجزاء المنطقة يختلف وضعها فلا يخلوا أما إن كان جميع أجزاء الفلك الأقصى متشابهاً، فلم لزم تعين نقطتين من بين سائر النقط لكونهما قطبين؟ أو أجزاؤها مختلفة ففي بعضها خواص ليست في البعض، فما مبدأ تلك الاختلافات؟ والجرم الأقصى لم يصدر إلا من معنى واحد بسيط، والبسيط لا يوجب إلا بسيطاً في الشكل وهو الكرى ومتشابهاً في المعنى وهو الخلو عن الخواص المميزة، وهذا أيضاً لا مخرج منه.

قولهم لعل في المبدأ أنواعاً من الكثرة لازمة لا من جهة المبدأ فإن قيل: لعل في المبدأ أنواعاً من الكثرة لازمة لا من جهة المبدأ، وإنما ظهر لنا ثلاثة أو أربعة والباقي لم نطلع عليه، وعدم عثورنا على عينه لا يشككنا في أن مبدأ الكثرة كثرة وأن الواحد لا يصدر منه كثير.

قولنا الموجودات كلها تكون صادرة عن المعلول الأول

قلنا: فإذا جوزتم هذا فقولوا: إن الموجودات كلها على كثرتها وقد بلغت آلافاً صدرت من المعلول الأول، فلا يحتاج أن يقتصر على جرم الفلك الأقصى ونفسه، بل يجوز أن يكون قد صدر منه جميع النفوس الفلكية والإنسانية وجميع الأجسام الأرضية والسماوية، بأنواع كثرة لازمة فيها لم يطلعوا عليها فيقع الاستغناء بالمعلول الأول.

لا بل عن العلة الأولى

ثم يلزم منه الاستغناء بالعلة الأولى، فإنه إذا جاز تولد كثرة يقال إنها لازمة لا بعلة مع أنها ليست ضرورية في وجود المعلول الأول، جاز أن يقدر ذلك مع العلة الأولى ويكون وجودها لا بعلة ويقال: إنها لزمت ولا يدرى عددها، وكلما تخيل وجودها بلا علة مع الأول تخيل ذلك بلا علة مع الثاني، بل لا معنى لقولنا: مع الأول والثاني، إذ ليس بينهما مفارقة في زمان ولا مكان. فما لا يفارقهما في مكان وزمان ويجوز أن يكون موجوداً بلا علة لم يختص أحدهما بالإضافة إليه.

قولهم يبعد أن يبلغ الألف في المعلول الأول فإن قيل: لقد كثرت الأشياء حتى زادت على ألف، ويبعد أن تبلغ الكثرة في المعلول إلى هذا الحد، فلذلك أكثرنا الوسائط.

قولنا ولماذا؟

قلنا: قول القائل: "يبعد" هذا رجم ظن لا يحكم به في المعقولات إلا أن يقول: إنه يستحيل. فنقول: لم يستحيل؟ وما المرد والفيصل مهما جاوزنا الواحد واعتقدنا أنه يجوز أن يلزم المعلول الأول، لا من جهة العلة، لازم واثنان وثلث؟ فما المحيل لأربع وخمس وهكذى إلى الألف؟ وإلا فمن يتحكم بمقدار دون مقدار؟ فليس بعد مجاوزة مرد، الواحد، وهذا أيضاً قاطع.

عن تلك الكواكب صدر المعلول الثاني

ثم نقول: هذا باطل بالمعلول الثاني فإنه صدر منه فلك الكواكب وفيه ألف ونيف ومئتا كوكب، وهي مختلفة العظم والشكل والوضع واللون والتأثير والنحوسة والسعادة، فبعضها على صورة الحمل والثور والأسد وبعضها على صورة الإنسان، ويختلف تأثيرها في محل واحد من العالم السفلي في التبريد والتسخين والسعادة والنحوس، وتختلف مقاديرها في ذاتها.

ففيه أنواع من العلل

فلا يمكن أن يقال: الكل نوع واحد مع هذا الاختلاف، ولو جاز هذا أن يقال: كل أجسام العالم نوع واحد في الجسمية فيكفيها علة واحدة. فإن كان اختلاف صفاتها وجواهرها وطبائعها دل على اختلافها فكذى الكواكب مختلفة لا محالة، ويفتقر كل واحد إلى علة لصورته وعلة لهيولاه وعلة لاختصاصه بطبيعته المسخنة أو المبردة أو المسعدة أو المنحسة ولاختصاصه بموضعه ثم لاختصاص جملها بأشكال البهائم المختلفة. وهذه الكثرة إن تصور أن تعقل في المعلول الثاني تصور في الأول ووقع الاستغناء.

إن بيان العلل التي ذكرتموها لمما يضحك منها

الاعتراض الخامس هو أنا نقول: سلمنا هذه الأوضاع الباردة والتحكمات الفاسدة ولكن كيف لا تستحيون من قولكم: إن كون المعلول الأول ممكن الوجود اقتضى وجود جرم الفلك الأقصى منه، وعقله نفسه اقتضى وجود نفس الفلك منه، وعقله الأول يقتضي وجود عقل منه؟ وما الفصل بين هذا وبين قائل عرف وجود إنسان غائب وأنه ممكن الوجود وأنه يعقل نفسه وصانعه فقال: يلزم من كونه ممكن الوجود وجود فلك؟ فيقال: وأي مناسبة بين كونه ممكن الوجود وبين وجود فلك منه؟ وكذلك يلزم من كونه عاقلاً لنفسه ولصانعه شيئان آخران. وهذا إذا قيل في إنسان ضحك منه، فكذى في موجود آخر إذ إمكان الوجود قضية لا تختلف باختلاف ذات الممكن إنساناً كان أو ملكاً أو فلكاً. فلست أدري كيف يقنع المجنون في نفسه بمثل هذه الأوضاع فضلاً من العقلاء الذين يشقون الشعر بزعمهم في المعقولات.

اعتراض فماذا تقولون أنتم؟

فإن قال قائل: فإذا أبطلتم مذهبهم فماذى تقولون أنتم؟ أتزعمون أنه يصدر من الشيء الواحد من كل وجه شيئان مختلفان، فتكابرون المعقول؟ أو تقولون: المبدأ الأول فيه كثرة، فتتركون التوحيد؟ أو تقولون لا كثرة في العالم، فتنكرون الحس؟ أو تقولون: لزمت بالوسائط، فتضطرون إلى الاعتراف بما قالوه؟

قولنا ليس من غير المعقول أن يصدر اثنان من واحد
وهذا ما ورد به الأنبياء

قلنا: نحن لم نخض في هذا الكتاب خوض ممهد، وإنما غرضنا أن نشوش دعاويهم وقد حصل. على أنا نقول: ومن زعم أن المصير إلى صدور اثنين من واحد مكابرة المعقول أو اتصاف المبدأ بصفات قديمة أزلية مناقض للتوحيد، فهاتان دعوتان باطلتان لا برهان لهم عليهما، فإنه ليس يعرف استحالة صدور الاثنين من واحد كما يعرف استحالة كون الشخص الواحد في مكانين، وعلى الجملة لا يعرف بالضرورة ولا بالنظر. وما المانع من أن يقال: المبدأ الأول عالم قادر مريد يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يخلق المختلفات والمتجانسات كما يريد وعلى ما يريد؟ فاستحالة هذا لا يعرف بضرورة ولا نظر، وقد ورد به الأنبياء المؤيدون بالمعجزات فيجب قبوله.

البحث عن الكيفية من الفضول وأما البحث عن كيفية صدور الفعل من الله بالإرادة ففضول وطمع في غير مطمع. والذين طمعوا في طلب المناسبة ومعرفته رجع حاصل نظرهم إلى أن المعلول الأول من حيث أنه ممكن الوجود صدر منه فلك، ومن حيث أنه يعقل نفسه صدر منه نفس الفلك، وهذه حماقة لا إظهار مناسبة.

فلتتقبل مبادئ هذه الأمور من الأنبياء! فلتتقبل مبادئ هذه الأمور من الأنبياء وليصدقوا فيها إذ العقل لا يحيلها، وليترك البحث عن الكيفية والكمية والماهية. فليس ذلك يتسع له القوى البشرية، ولذلك قال صاحب الشرع: تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله.