مسألة في بيان عجزهم عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم

قولنا يقولون إن صانع العالم قديم

فنقول: الناس فرقتان: فرقة أهل الحق وقد رأوا أن العالم حادث وعلموا ضرورة أن الحادث لا يوجد بنفسه فافتقر إلى صانع، فيعقل مذهبهم في القول بالصانع، وفرقة أخرى هم الدهرية وقد رأوا العالم قديماً كما هو عليه ولم يثبتوا له صانعاً، ومعتقدهم مفهوم وإن كان الدليل يدل على بطلانه. وأما الفلاسفة فقد رأوا أن العالم قديم ثم أثبتوا له مع ذلك صانعاً، وهذا المذهب بوضعه متناقض لا يحتاج فيه إلى إبطال.

قولهم هو المبدأ الأول

فإن قيل: نحن إذا قلنا: للعالم صانع، لم نرد به فاعلاً مختاراً يفعل بعد أن لم يفعل كما نشاهد في أصناف الفاعلين من الخياط والنساج والبناء، بل نعني به علة العالم ونسميه المبدأ الأول على معنى أنه لا علة لوجوده وهو علة لوجود غيره، فإن سميناه صانعاً فبهذا التأويل.

لأنه من المحال أن تتسلسل العلل إلى غير نهاية.

وثبوت موجود لا علة لوجوده يقوم عليه البرهان القطعي على قرب، فإنا نقول: العالم وموجوداته إما أن يكون له علة أو لا علة له. فإن كان له علة فتلك العلة لها علة أم لا علة لها؟ وكذى القول في علة العلة: فإما أن يتسلسل إلى غير نهاية وهو محال، وإما أن ينتهي إلى طرف فالأخير علة أولى لا علة لوجودها، فنسميه المبدأ الأول. وإن كان العالم موجوداً بنفسه لا علة له فقد ظهر المبدأ الأول، فإنا لم نعن به إلا موجوداً لا علة له، وهو ثابت بالضرورة.

الخلاف في الصفات مسألة غير هذه

نعم لا يجوز أن يكون المبدأ الأول هي السموات لأنها عدد، ودليل التوحيد يمنعه فيعرف بطلانه بنظر في صفة المبدأ، ولا يجوز أن يقال إنه سماء واحد أو جسم واحد أو شمس أو غيره لأنه جسم والجسم مركب من الصورة والهيولى، والمبدأ الأول لا يجوز أن يكون مركباً، وذلك يعرف بنظر ثان. والمقصود أن موجوداً لا علة لوجوده ثابت بالضرورة والاتفاق. وإنما الخلاف في الصفات وهو الذي نعنيه بالمبدأ الأول.

قولنا الأجسام تكون لا علة لها

والجواب من وجهين: أحدهما أنه يلزم على مساق مذهبكم أن تكون أجسام العالم قديمة، كذلك لا علة لها. وقولكم: إن بطلان ذلك يعلم بنظر ثان فسيبطل ذلك عليكم في مسألة التوحيد وفي نفي الصفات بعد هذه المسألة.

تلك العلل تكون إلى غير نهاية

الثاني وهو الخاص بهذه المسألة هو أن يقال: ثبت تقديراً أن هذه الموجودات لها علة ولكن لعلتها علة ولعلة العلة علة، كذلك وهكذى إلى غير نهاية.

وتقولون إنها حوادث هكذا

وقولكم: إنه يستحيل إثبات علل لا نهاية لها، لا يستقيم منكم، فإنا نقول: عرفتم ذلك ضرورة بغير وسط أو عرفتموه بوسط، ولا سبيل إلى دعوى الضرورة. وكل مسلك ذكرتموه في النظر بطل عليكم بتجويز حوادث لا أول لها. وإذا جاز أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له فلم يبعد أن يكون بعضها علة للبعض، وينتهي من الطرف الأخير إلى معلول لا معلول له، ولا ينتهي من الجانب الآخر إلى علة لا علة لها، كما أن الزمان السابق له آخر وهو الآن الراهن ولا أول له.

حتى الموجودة معاً، كالنفوس البشرية

فإن زعمتم أن الحوادث الماضية ليست موجودة معاً في الحال ولا في بعض الأحوال والمعدوم لا يوصف بالتناهي وعدم التناهي، فيلزمكم النفوس البشرية المفارقة للأبدان فإنها لا تفنى عندكم، والموجود المفارق للبدن من النفوس لا نهاية لأعدادها، إذ لم تزل نطفة من إنسان وإنسان من نطفة إلى غير نهاية. ثم كل إنسان مات فقد بقي نفسه وهو بالعدد غير نفس من مات قبله ومعه وبعده، وإن مكان الكل بالنوع واحداً فعندكم في الوجود في كل حال نفوس لا نهاية لأعدادها.

قولهم لا ترتيب لها

فإن قيل: النفوس ليس لبعضها ارتباط بالبعض ولا ترتيب لها لا بالطبع ولا بالوضع، وإنما نحيل نحن موجودات لا نهاية لها إذا كان لها ترتيب بالوضع كالأجسام فإنها مرتبة بعضها فوق البعض، أو كان لها ترتيب بالطبع كالعلل والمعلولات، وأما النفوس فليست كذلك.

قولنا الترتيب بالزمان يكفي

قلنا: وهذا الحكم في الوضع ليس طرده بأولى من عكسه، فلم أحلتم أحد القسمين دون الآخر؟ وما البرهان المفرق؟ وبم تنكرون على من يقول: إن هذه النفوس التي لا نهاية لها لا تخلوا عن ترتيب إذ وجود بعضها قبل البعض؟ فإن الأيام والليالي الماضية لا نهاية لها. وإذا قدرنا وجود نفس واحد في كل يوم وليلة كان الحاصل في الوجود الآن خارجاً عن النهاية واقعاً على ترتيب في الوجود أي بعضها بعد البعض. والعلة غايتها أن يقال: إنها قبل المعلول بالطبع كما يقال إنها فوق المعلول بالذات لا بالمكان. فإذا لم يستحل ذلك في القبل الحقيقي الزماني فينبغي أن لا يستحيل في القبل الذاتي الطبعي. وما بالهم لم يجوزوا أجساماً بعضها فوق البعض بالمكان إلى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل البعض بالزمان إلى غير نهاية؟ وهل هذا إلا تحكم بارد لا أصل له؟

قولهم إن العلل، إن كانت ممكنة، افتقرت إلى علة زائدة.

فإن قيل: البرهان القاطع على استحالة علل إلى غير نهاية أن يقال: كل واحد من آحاد العلل ممكنة في نفسها أو واجبة. فإن كانت واجبة فلم تفتقر إلى علة، وإن كانت ممكنة فالكل موصوف بالإمكان، وكل ممكن فيفتقر إلى علة زائدة على ذاته، فيفتقر الكل إلى علة خارجة عنها.

قولنا كل واحد ممكن، والكل ليس بممكن.

قلنا: لفظ الممكن والواجب لفظ مبهم، إلا أن يراد بالواجب ما لا علة لوجوده ويراد بالممكن ما لوجوده علة. وإن كان المراد هذا فلنرجع إلى هذه اللفظة فنقول: كل واحد ممكن على معنى أن له علة زائدة على ذاته، والكل ليس بممكن على معنى أنه ليس له علة زائدة على ذاته خارجة منه. وإن أريد بلفظ الممكن غير ما أردناه فهو ليس بمفهوم.

قولهم فهذا يؤدي إلى أن يتقوم واجب الوجود

بممكنات الوجود وهو محال

فإن قيل: فهذا يؤدي إلى أن يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود وهو محال.

قولنا كما يتقوم القديم بالأوائل

قلنا: إن أردتم بالواجب والممكن ما ذكرناه فهو نفس المطلوب. فلا نسلم أنه محال وهو كقول القائل: يستحيل أن يتقوم القديم بالحوادث، والزمان عندهم قديم، وآحاد الدورات حادثة وهي ذوات أوائل، والمجموع لا أول له. فقد تقوم ما لا أول له بذوات أوائل وصدق ذوات الأوائل على الآحاد ولم يصدق على المجموع. فكذلك يقال على كل واحد: إن له علة، ولا يقال: للمجموع علة وليس كل ما صدق على الآحاد يلزم أن يصدق على المجموع، إذ يصدق على كل واحد أنه واحد وأنه بعض وأنه جزء ولا يصدق على المجموع. وكل موضوع عيناه من الأرض فإنه قد استضاء بالشمس في النهار وأظلم بالليل. وكل واحد حادث بعد أن لم يكن أي له أول. والمجموع عندهم ما له أول.

فلا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول فتبين أن من يجوز حوادث لا أول لها، وهي صور العناصر الأربعة والمتغيرات، فلا يتمكن من إنكار علل لا نهاية لها. ويخرج من هذا أنه لا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول لهذا الإشكال، ويرجع فرقهم إلى التحكم المحض.

قولهم إنما الكلام في الموجود في الأعيان

فإن قيل: الدورات ليست موجودة في الحال ولا صور العناصر وإنما الموجود منها صورة واحدة بالفعل، وما لا وجود له لا يوصف بالتناهي وعدم التناهي إلا إذا قدر في الوهم وجودها، ولا يبعد ما يقدر في الوهم وإن كانت المقدرات أيضاً بعضها عللاً لبعض فالإنسان قد يفرض ذلك في وهمه، وإنما الكلام في الموجود في الأعيان لا في الأذهان.

نفوس الأموات لا يكون فيها عدد

لا يبقي إلا نفوس الأموات. وقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أنها كانت واحدة أزلية قبل التعلق بالأبدان وعند مفارقة الأبدان تتحد فلا يكون فيه عدد، فضلاً من أن توصف بأنه لا نهاية لها. وقال آخرون: النفس تابع للمزاج وإنما معنى الموت عدمها ولا قوام لها بجوهرها دون الجسم. فإذن لا وجود في النفوس إلا في حق الأحياء، والأحياء الموجودون محصورون ولا تنتفي النهاية عنهم، والمعدمون لا يوصفون أصلاً لا بوجود النهاية ولا بعدمها، إلا في الوهم إذا فرضوا موجودين.

قولنا هذا ما أوردناه على ابن سينا والفارابي الخ. والجواب: إن هذا الإشكال في النفوس أوردناه على ابن سينا والفارابي والمحققين منهم إذ حكموا بأن النفس جوهر قائم بنفسه وهو اختيار أرسطاليس والمعتبرين من الأوائل.

ونقول لغيرهم عوض النفس قدروا أي حادث لا ينقضي. ومن عدل عن هذا المسلك فنقول له: هل يتصور أن يحدث شيء يبقى أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهو محال، وإن قالوا: نعم، قلنا: فإذا قدرنا كل يوم حدوث شيء وبقاءه اجتمع إلى الآن لا محالة موجودات لا نهاية لها. فالدورة وإن كانت منقضية فحصول موجود فيها يبقي ولا ينقضى غير مستحيل. وبهذا التقدير يتقرر الإشكال. ولا غرض في أن يكون ذلك الباقي نفس آدمي أو جني أو شيطان أو ملك أو ما شئت من الموجودات. وهو لازم على كل مذهب لهم، إذ أثبتوا دورات لانهاية لها.