مسألة الفلاسفة أجمعوا على نفي الصفات

اتفقت الفلاسفة على استحالة إثبات العلم والقدرة والإرادة للمبدأ الأول، كما اتفقت المعتزلة عليه وزعموا أن هذه الأسامي وردت شرعاً، ويجوز إطلاقها لغة ولكن ترجع إلى ذات واحدة كما سبق، ولا يجوز إثبات صفات زائدة على ذاته، كما يجوز في حقنا أن يكون علمنا وقدرتنا وصفاً لنا زائداً على ذاتنا.

لأنها توجب الكثرة في الله

وزعموا أن ذلك يوجب كثرة، لأن هذه الصفات لو طرت علينا لكنا نعلم أنها زائدة على الذات إذ تجددت، ولو قدر مقارناً لوجودنا من غير تأخر لما خرج عن كونه زائدا على الذات بالمقارنة. فكل شيئين إذا طرى أحدهما على الآخر وعلم أن هذا ليس ذاك وذاك ليس هذا، فلو اقترنا أيضاً عقل كونهما شيئين، فإذن لا تخرج هذه الصفات بأن تكون مقارنة لذات الأول عن أن تكون أشياء سوى الذات، فيوجب ذلك كثرة في واجب الوجود وهو محال. فلهذا أجمعوا على نفي الصفات.

قولنا ما المانع أن تكون الصفات مقارنة للذات؟

فيقال لهم: وبم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه، وأنتم مخالفون من كافة المسلمين سوى المعتزلة، فما البرهان عليه؟ فإن قول القائل: الكثرة محال في واجب الوجود مع كون الذات الموصوفة واحدة، يرجع إلى أنه يستحيل كثرة الصفات، وفيه النزاع. وليس استحالته معلومة بالضرورة، فلا بد من البرهان.

قولهم إما أن يستغني كل واحد من الصفة والموصو

عن الآخ أو يفتقر كل واحد إلى الآخر أو يستغني واحد عن الآخ

ويحتاج الآخر: وكل ذلك محال ولهم مسلكان: الأول قولهم: البرهان عليه أن كل واحد من الصفة والموصوف، إذا لم يكن هذا ذاك ولا ذاك هذا، فإما أن يستغني كل واحد عن الآخر في وجوده، أو يفتقر كل واحد إلى الآخر، أو يستغني واحد عن الآخر ويحتاج الآخر. فإن فرض كل واحد مستغنياً فهما واجبا وجود وهو التثنية المطلقة وهو محال. وإما أن يحتاج كل واحد منهما إلى الآخر فلا يكون واحد منهما واجب الوجود، إذ معنى واجب الوجود ما قوامه بذاته وهو مستغن من كل وجه عن غيره، فما احتاج إلى غيره فذك الغير علته، إذ لو رفع ذلك الغير لامتنع وجوده فلا يكون وجوده من ذاته بل من غيره. وإن قيل: أحدهما يحتاج دون الآخر، فالذي يحتاج معلول والواجب الوجود هو الآخر، ومهما كان معلولاً افتقر إلى سبب، فيؤدي إلى أن ترتبط ذات واجب الوجود بسبب.

قولنا المختار من هذه الأقسام

هو القسم الأخير هذا وإنكم لا تنفون القسم الأول

والاعتراض على هذا أن يقال: المختار من هذه الأقسام هو القسم الأخير. ولكن إبطالكم القسم الأول وهو التثنية المطلقة قد بينا أنه لا برهان لكم عليها في المسألة التي قبل هذه وأنها لا تتم إلا بالبناء على نفي الكثرة في هذه المسألة وما بعدها. فما هو فرع هذه المسألة؟ كيف تنبنى هذه المسألة عليه؟ ولكن المختار أن يقال: الذات في قوامه غير محتاج إلى الصفات، والصفة محتاجة إلى الموصوف كما في حقنا.

قولهم المحتاج إلى غيره لا يكون واجب الوجود

فيبقى قولهم: إن المحتاج إلى غيره لا يكون واجب الوجود.

قولنا الصفة قديمة لا فاعل لها

فيقال: إن أردت بواجب الوجود أنه ليس له علة فاعلية، فلم قلت ذلك؟ ولم استحال أن يقال: كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفته قديمة معه ولا فاعل لها؟ وإن أردت بواجب الوجود أن لا يكون له علة قابلية، فهو ليس بواجب الوجود على هذا التأويل ولكنه مع هذا قديم لا فاعل له. فما المحيل لذلك؟

قولهم هي معلولة

فإن قيل: واجب الوجود المطلق هو الذي ليس له علة فاعلية ولا قابلية. فإذا سلم أن له علة قابلية فقد سلم كونه معلولاً.

قولنا قطع تسلل العلل ممكن بواحد له صفات

قلنا: تسمية الذات القابلة علة قابلية من اصطلاحكم، والدليل لم يدل على ثبوت واجب وجود بحكم اصطلاحكم وإنما دل على إثبات طرف ينقطع به تسلسل العلل والمعلولات ولم يدل إلا على هذا القدر، وقطع التسلسل ممكن بواحد له صفات قديمة لا فاعل لها كما لا فاعل لذاته ولكنها تكون متقررة في ذاته. فليطرح لفظ واجب الوجود فإنه ممكن التلبس فيه، فإن البرهان لم يدل إلا على قطع التسلسل ولم يدل على غيره البتة. فدعوى غيره تحكم.

قولهم لا في العلل القابلية

فإن قيل: كما يجب قطع التسلسل في العلة الفاعلية يجب قطعها في القابلية، إذ لو افتقر كل موجود إلى محل يقوم فيه وافتقر المحل أيضاً للزم التسلسل كما لو افتقر كل موجود إلى علة وافتقرت العلة أيضاً إلى علة.

قولنا يكفي أن ينقطع التسلسل بالذات

قلنا: صدقتم، فلا جرم قطعنا هذا التسلسل أيضاً وقلنا: إن الصفة في ذاته وليس ذاته قائماً بغيره، كما أن علمنا في ذاتنا وذاتنا محل له وليس ذاتنا في محل. فالصفة انقطع تسلسل علتها الفاعلية مع الذات إذ لا فاعل لها كما لا فاعل للذات، بل لم تزل الذات بهذه الصفة موجودة بلا علة له ولا لصفته. وأما العلة القابلية لم ينقطع تسلسلها إلا على الذات. ومن أين يلزم أن ينتفي المحل حتى تنتفي العلة؟ والبرهان ليس يضطر إلا إلى قطع التسلسل. فكل طريق أمكن قطع التسلسل به فهو وفاء بقضية البرهان الداعي إلى واجب الوجود.

واجب الوجود ما ليس له علة فاعلية وإن أريد بواجب الوجود شيء سوى موجود ليس له علة فاعلية حتى ينقطع به التسلسل، فلا نسلم أن ذلك واجب أصلاً. ومهما اتسع العقل لقبول موجود قديم لا علة لوجوده، اتسع لقبول قديم موصوف لا علة لوجوده في ذاته وفي صفاته جميعاً.

قولهم تكون الذات علة العلم

المسلك الثاني قولهم: إن العلم والقدرة فينا ليس داخلاً في ماهية ذاتنا بل هو عارض. وإذا أثبت هذه الصفات للأول لم يكن أيضاً داخلاً في ماهية ذاته بل كان عارضاً بالإضافة إليه وإن كان دائماً له. ورب عارض لا يفارق أو يكون لازماً لماهية ولا يصير بذلك مقوماً لذاته. وإذا كان عارضاً كان تابعاً للذات وكان الذات سبباً فيه فكان معلولاً، فكيف يكون واجب الوجود؟

قولنا لا تكون علة، بل محلاً

وهذا هو الأول مع تغيير عبارة.

فنقول: إن عنيتم بكونه تابعاً للذات وكون الذات سبباً له أن الذات علة فاعلية له وأنه مفعول للذات فليس كذلك، فإن ذلك ليس يلزم في علمنا بالإضافة إلى ذاتنا إذ ذواتنا ليست بعلة فاعلة لعلمنا. وإن عنيتم أن الذات محل وأن الصفة لا تقوم بنفسها في غير محل، فهذا مسلم فلم يمتنع هذا. فبأن يعبر عنه بالتابع أو العارض أو المعلول أو ما أراده المعبر لم يتغير المعنى إذا لم يكن المعنى سوى أنه قائم بالذات قيام الصفات بالموصوفات، ولم يستحيل أن يكون قائماً في ذات وهو مع ذلك قديم ولا فاعل له.


فإن أريد هذا المعنى، فليعبر عنه بغير عبارة فكل أدلتهم تهويل بتقبيح العبارة بتسميته ممكناً وجائزاً وتابعاً ولازماً ومعلولاً، وإن ذلك مستنكر. فيقال: إن أريد بذلك أن له فاعلاً فليس كذلك. وإن لم يرد به إلا أنه لا فاعل له ولكن له محل هو قائم فيه فليعبر عن هذا المعنى بأي عبارة أريد فلا استحالة فيه.

قولهم هذا يؤدي إلى أن يكون الأول محتاجاً إلى الصفات

وربما هولوا بتقبيح العبارة من وجه آخر فقالوا: هذا يؤدي إلى أن يكون الأول محتاجاً إلى هذه الصفات فلا يكون غنياً مطلقاً إذ الغني المطلق من لا يحتاج إلى غير ذاته.

قولنا بها يتم له الكمال!

وهذا كلام وعظي في غاية الركاكة، فإن صفات الكمال لا تباين ذات الكامل حتى يقال: إنه محتاج إلى غيره. فإذا لم يزل ولا يزال كاملاً بالعلم والقدرة والحياة فكيف يكون محتاجاً؟ أو كيف يجوز أن يعبر عن ملازمة الكمال بالحاجة وهو كقول القائل: الكامل من لا يحتاج إلى كمال؟ فالمحتاج إلى وجود صفات الكمال لذاته ناقص فيقال: لا معنى لكونه كاملاً إلا وجود الكمال لذاته. فكذلك لا معنى لكونه غنياً إلا وجود الصفات المنافية للحاجات لذاته. فكيف تنكر صفات الكمال التي بها تتم الإلهية بمثل هذه التخييلات اللفظية؟

قولهم فيحتاج إلى مركب فليس هو جسماً

فإن قيل: إذا أثبتم ذاتاً وصفة وحلولاً للصفة بالذات فهو تركيب، وكل تركيب يحتاج إلى مركب، ولذلك لم يجز أن يكون الأول جسماً لأنه مركب.

قولنا كله قديم الجسم حادث

قلنا: قول القائل: كل تركيب يحتاج إلى مركب، كقوله: كل موجود يحتاج إلى موجد، فيقال له: الأول موجود قديم لا علة له ولا موجد. فكذلك يقال: هو موصوف قديم ولا علة لذاته ولا لصفته ولا لقيام صفته بذاته بل الكل قديم بلا علة. وأما الجسم فإنما لم يجز أن يكون هو الأول لأنه حادث من حيث أنه لا يخلوا عن الحوادث، ومن لم يثبت له حدوث الجسم يلزمه أن يجوز أن تكون العلة الأولى جسماً كما سنلزمه عليكم من بعد.

فالأدلة باطلة وكل مسالكهم في هذه المسألة تخييلات.

لا يقدرون رد الجميع إلى نفس الذات ثم إنهم لا يقدرون على رد جميع ما يثبتونه إلى نفس الذات. فإنهم أثبتوا كونه عالماً ويلزمهم أن يكون ذلك زائداً على مجرد الوجود فيقال لهم: أتسلمون أن الأول يعلم غير ذاته؟ ومنهم من يسلم ذلك ومنهم من قال: لا يعلم إلا ذاته.

علمه بالكليات... فأما الأول فهو الذي اختاره ابن سينا. فإنه زعم أنه يعلم الأشياء كلها بنوع كلي لا يدخل تحت الزمان، ولا يعلم الجزئيات التي يوجب تجدد الإحاطة بها تغيراً في ذات العالم. فنقول: علم الأول بوجود كل الأنواع والأجناس التي لا نهاية لها عين علمه بنفسه أو غيره. فإن قلتم: إنه غيره، فقد أثبتم كثرة ونقضتم القاعدة. وإن قلتم: إنه عينه، لم تتميزوا عن من يدعي أن علم الإنسان بغيره عين علمه بنفسه وعين ذاته، ومن قال ذلك سفه في عقله.

غير علمه بذاته وقيل: حد الشيء الواحد أن يستحيل في الوهم الجمع فيه بين النفي والإثبات. فالعلم بالشيء الواحد لما كان شيئاً واحداً استحال أن يتوهم في حالة واحدة موجوداً ومعدوماً، ولما لم يستحل في الوهم أن يقدر علم الإنسان بنفسه دون علمه بغيره قيل: إن علمه بغيره غير علمه بنفسه، إذ لو كان هو هو لكان نفيه نفياً له وإثباته إثباتاً له، إذ يستحيل أن يكون زيد موجوداً وزيد معدوماً، أعني هو بعينه في حالة واحدة، ولا يستحيل مثل ذلك في العلم بالغير مع العلم بنفسه. وكذى في علم الأول بذاته مع علمه بغيره إذ يمكن أن يتوهم وجود أحدهما دون الآخر، فهما إذن شيئان. ولا يمكن أن يتوهم وجود ذاته دون وجود ذاته. فلو كان الكل كذلك لكان هذا التوهم محالاً. فكل من اعترف من الفلاسفة بأن الأول يعرف غير ذاته فقد أثبت كثرة لا محالة.

قولهم كونه يعلم ذاته مبدأ للكل

يؤدي إلى أن يعلم الأشياء بالقصد الثاني

فإن قيل: هو لا يعلم الغير بالقصد الأول بل يعلم ذاته مبدأ للكل، فيلزمه العلم بالكل بالقصد الثاني إذ لا يمكن أن يعلم ذاته إلا مبدأ فإنه حقيقة ذاته، ولا يمكن أن يعلم ذاته مبدأ لغيره إلا ويدخل الغير في علمه بطريق التضمن واللزوم، ولا يبعد أن يكون لذاته لوازم. وذلك لا يوجب كثرة في ماهية الذات وإنما يمتنع أن يكون في نفس الذات كثرة.

قولنا علمه بوجود ذاته غير علمه بكونه مبدأ للكل

والجواب من وجوه: الأول أن قولكم: إنه يعلم ذاته مبدأ، تحكم، بل ينبغي أن يعلم وجود ذاته فقط. فأما العلم بكونه مبدأ يزيد على العلم بالوجود لأن المبدئية إضافة للذات ويجوز أن يعلم الذات ولا يعلم إضافته، ولو لم تكن المبدئية إضافة لتكثر ذاته وكان له وجود ومبدئية وهما شيئان. وكما يجوز أن يعرف الإنسان ذاته ولا يعلم كونه معلولاً إلى أن يعلم، لأن كونه معلولاً إضافة له إلى علته، فكذلك كونه علة إضافة له إلى معلوله. فالإلزام قائم في مجرد قولهم: إنه يعلم كونه مبدأ إذ فيه علم بالذات وبالمبدئية، وهو الإضافة والإضافة غير الذات، فالعلم بالإضافة غير العلم بالذات بالدليل الذي ذكرناه وهو أنه يمكن أن يتوهم العلم بالذات دون العلم بالمبدئية ولا يمكن أن يتوهم العلم بالذات دون العلم بالذات لأن الذات واحدة.

هناك معلومان، فهناك علمان الوجه الثاني هو أن قولهم: إن الكل معلوم له بالقصد الثاني، كلام غير معقول فإنه مهما كان علمه محيطاً بغيره كما يحيط بذاته كان له معلومان متغايران وكان له علم بهما، وتعدد المعلوم وتغايره يوجب تعدد العلم إذ يقبل أحد المعلومين الفصل عن الآخر في الوهم، فلا يكون العلم بأحدهما عين العلم بالآخر إذ لو كان لتعذر تقدير وجود أحدهما دون الآخر، وليس ثم آخر مهما كان الكل واحداً. فهذا لا يختلف بأن يعبر عنه بالقصد الثاني.

الكليات لا تتناهى! ثم ليت شعري كيف يقدم على نفي الكثرة من يقول: إنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض إلا أنه يعرف الكل بنوع كلي، والكليات المعلومة له لا تتناهى، فيكون العلم المتعلق بها مع كثرتها وتغايرها واحداً من كل وجه.

فابن سينا لا يحترز من لزوم "الكثرة"  وقد خالف ابن سينا في هذا غيره من الفلاسفة الذين ذهبوا إلى أنه لا يعلم إلا نفسه احترازاً من لزوم الكثرة. فكيف شاركهم في نفي الكثرة ثم باينهم في إثبات العلم بالغير؟ ولما استحيا أن يقال: إن الله لا يعلم شيئاً أصلاً في الدنيا والآخرة وإنما يعلم نفسه فقط وأما غيره فيعرفه ويعرف أيضاً نفسه وغيره فيكون غيره أشرف منه في العلم.


فترك هذا حياء من هذا المذهب واستنكافاً منه، ثم لم يستحي من الإصرار على نفي الكثرة من كل وجه وزعم أن علمه بنفسه وبغيره بل وبجميع الأشياء هو ذاته من غير مزيد، وهو عين التناقض الذي استحيا منه سائر الفلاسفة لظهور التناقض فيه في أول النظر. فإذن ليس ينفك فريق منهم عن خزي في مذهب، وهكذى يفعل الله بمن ضل عن سبيله وظن أن الأمور الإلهية يستولي على كنهها بنظره وتخييله.

قولهم العلم يكون بمعرفة واحدة علم الأب والابن

فإن قيل: إذا ثبت أنه يعرف نفسه مبدأ على سبيل الإضافة فالعلم بالمضاف واحد، إذ من عرف الابن عرفه بمعرفة واحدة وفيه العلم بالأب وبالأبوة والبنوة ضمناً، فيكثر المعلوم ويتحد العلم. فكذلك هو يعلم ذاته مبدأ لغيره، فيتحد العلم وإن تعدد المعلوم. ثم إذا عقل هذا في معلول واحد وإضافته إليه ولم يوجب ذلك كثرة، فالزيادة فيما لا يوجب جنسه كثرة لا توجب كثرة.

العلم يكون بعلم الشيء وبعلم العلم بالشيء وكذلك من يعلم الشيء ويعلم علمه بالشيء فإنه يعلمه بذلك العلم. فكل علم هو علم بنفسه وبمعلومه فيتعدد المعلوم ويتحد العلم.

تقولون إن معلومات الله لا نهاية لها وعلمه واحد ويدل عليه أيضاً أنكم ترون أن معلومات الله لا نهاية لها وعلمه واحد ولا تصفونه بعلوم لا نهاية لأعدادها. فإن كان تعدد المعلوم يوجب تعدد ذات العلم فليكن في ذات الله علوم لا نهاية لأعدادها وهذا محال.

قولنا يقتضي ذلك كثرة أكثر مما إذا أضيف وجود إلى ماهية

قلنا: مهما كان العلم واحداً من كل وجه لم يتصور تعلقه بمعلومين، بل يقتضي ذلك كثرة ما على ما هو وضع الفلاسفة واصطلاحهم في تقدير الكثرة، حتى بالغوا فقالوا: لو كان للأول ماهية موصوفة بالوجود لكان لذلك كثرة. فلم يعقلوا شيئاً واحداً له حقيقية ثم يوصف بالوجود، بل زعموا أن الوجود مضاف إلى الحقيقة وهو غريه فيقتضي كثرة. فعلى هذا الوجه لا يمكن تقدير علم يتعلق بمعلومات كثيرة إلا ويلزم فيه نوع كثرة أجلى وأبلغ من اللازم في تقدير وجود مضاف إلى ماهية.

القول الأول باطل... وأما العلم بالابن وكذى سائر المضافات ففيه كثرة، إذ لا بد من العلم بذات الابن وذات الأب وهما علمان. وعلم ثالث وهو الإضافة. نعم هذا الثالث مضمن بالعلمين السابقين إذ هما من شرطه وضرورته وإلا فما لم يعلم المضاف أولاً لا تعلم الإضافة. فهي علوم متعددة بعضها مشروطة في البعض. فكذلك إذا علم الأول ذاته مضافاً إلى سائر الأجناس والأنواع بكونه مبدأ لها افتقر إلى أن يعلم ذاته وآحاد الأجناس وأن يعلم إضافة نفسه بالمبدئية إليها، وإلا لم يعقل كون الإضافة معلومة له.

والثاني أيضاً... وأما قولهم: إن من علم شيئاً علم كونه عالماً بذلك العلم بعينه فيكون المعلوم متعدداً والعلم واحداً، فليس كذلك بل يعلم كونه عالماً بعلم آخر وينتهي إلى علم يغفل عنه ولا يعلمه. ولا نقول: يتسلسل إلى غير نهاية، بل ينقطع على علم متعلق بمعلومه وهو غافل عن وجود العلم لا عن وجود المعلوم، كالذي يعلم السواد وهو في حال علمه مستغرق النفس بمعلومه الذي هو سواد وغافل عن علمه بالسواد وليس ملتفتاً إليه، فإن التفت إليه افتقر إلى علم آخر إلى أن ينقطع التفاته.

وأما الثالث، فعليكم البرهان وأما قولهم: إن هذا ينقلب عليكم في معلومات الله فإنها غير متناهية والعلم عندكم واحد، فنقول: نحن لم نخض في هذا الكتاب خوض الممهدين بل خوض الهادمين المعترضين ولذلك سمينا الكتاب: تهافت الفلاسفة، لا تمهيد الحق. فليس يلزمنا هذا الجواب.

قولهم في الأمر إشكال على جميع الفرق

فإن قيل: إنا لا نلزمكم مذهب فرقة معينة من الفرق. فأما ما ينقلب على كافة الخلق وتستوي الأقدام في إشكاله فلا يجوز لكم إيراده، وهذا الإشكال منقلب عليكم ولا محيص لأحد من الفرق عنه. قولنا المقصود تشكيككم في دعاويكم

قلنا: لا، بل المقصود تعجيزكم عن دعواكم معرفة حقائق الأمور بالبراهين القطعية وتشكيككم في دعاويكم.

أنتم تعترضون على المؤمنين بالرسول... وإذا ظهر عجزكم ففي الناس من يذهب إلى أن حقائق الأمور الإلهية لا تنال بنظر العقل، بل ليس في قوة البشر الإطلاع عليه. ولذلك قال صاحب الشرع: تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله. فما إنكاركم على هذه الفرقة المعتقدة صدق الرسول بدليل المعجزة المقتصرة من قضية العقل على إثبات ذات المرسل المحترزة عن النظر في الصفات بنظر العقل المتبعة صاحب الشرع فيما أتى به من صفات الله المقتفية أثره في إطلاق العالم والمريد والقادر والحي المنتهية عن إطلاق ما لم يؤذن فيه المعترفة بالعجز عن درك العقل.

ونحن نعترض عليكم! وإنما إنكاركم عليهم بنسبتهم إلى الجهل بمسالك البراهين ووجه ترتيب المقدمات على أشكال المقاييس ودعواكم أنا قد عرفنا ذلك بمسالك عقلية. وقد بان عجزكم وتهافت مسالككم وافتضاحكم في دعوى معرفتكم وهو المقصود من هذا البيان. فأين من يدعي أن براهين الإلهيات قاطعة كبراهين الهندسيات؟

قولهم الأول لم يعلم إلا نفسه

فإن قيل: هذا الإشكال إنما لزم على ابن سينا حيث زعم أن الأول يعلم غيره. فأما المحققون من الفلاسفة قد اتفقوا على أنه لا يعلم إلا نفسه، فيندفع هذا الإشكال.

قولنا كل واحد من العقلاء يعلم أشياء كثيرة!

فنقول: ناهيكم خزياً بهذا المذهب، ولولا أنه في غاية الركاكة لما استنكف المتأخرون عن نصرته. ونحن ننبه على وجه الخزي فيه، فإن فيه تفضيل معلولاته عليه، إذ الملك والإنسان وكل واحد من العقلاء يعرف نفسه ومبدأه ويعرف غيره، والأول لا يعرف إلا نفسه فهو ناقص بالإضافة إلى آحاد الناس فضلاً عن الملائكة، بل البهيمة مع شعورها بنفسها تعرف أموراً أخر سواها. ولا شك في أن العلم شرف وان عدمه نقصان. فأين قولهم: إنه عاشق ومعشوق لأن له البهاء الأكمل والجمال الأتم؟ وأي جمال لوجود بسيط لا ماهية له ولا حقيقة ولا خبر له مما يجري في العالم ولا مما يلزم ذاته ويصدر منه؟ وأي نقصان في عالم الله يزيد على هذا؟ بلغ الفلاسفة هذا المبلغ! وليتعجب العاقل من طائفة يتعمقون في المعقولات بزعمهم ثم ينتهي آخر نظرهم إلى أن رب الأرباب ومسبب الأسباب لا علم له أصلاً بما يجري في العالم. وأي فرق بينه وبين الميت إلا في علمه بنفسه؟ وأي كمال في علمه بنفسه مع جهله بغيره؟ وهذا مذهب تغني صورته في الافتضاح عن الإطناب والإيضاح.

الذات غير العلم بالذات، كما في الإنسان ثم يقال لهؤلاء: لم تتخلصوا عن الكثرة مع اقتحام هذه المخازي أيضاً، فإنا نقول: علمه بذاته عين ذاته أو غير ذاته. فإن قلتم: إنه غيره، فقد جاءت الكثرة، وإن قلتم: إنه عينه، فما الفصل بينكم وبين قائل: إن علم الإنسان بذاته عين ذاته؟ وهو حماقة إذ يعقل وجود ذاته في حالة هو فيها غافل عن ذاته ثم تزول غفلته ويتنبه لذاته فيكون شعوره بذاته غير ذاته لا محالة.

قولهم الإنسان قد يطرى عليه العلم فيكون غيره

فإن قلتم: إن الإنسان قد يخلوا عن العلم بذاته فيطرى عليه فيكون غيره لا محالة.

قولنا يقدر طريان الذات

فنقول: الغيرية لا تعرف بالطريان والمقارنة فإن عين الشيء لا يجوز أن يطرى على الشيء، وغير الشيء إذا قارن الشيء لم يصر هو هو ولم يخرج عن كونه غيراً. فبأن كان الأول لم يزل عالماً بذاته لا يدل على أن علمه بذاته عين ذاته، ويتسع الوهم لتقدير الذات ثم طريان الشعور. ولو كان هو الذات بعينه لما تصور هذا التوهم.

قولهم ذاته عقل وعلم...

فإن قيل: ذاته عقل وعلم فليس له ذات ثم علم قائم به.

قولنا يردون الله إلى حقائق الأغراض! ...

قلنا: الحماقة ظاهرة في هذا الكلام، فإن العلم صفة وعرض يستدعي موصوفاً، وقول القائل: هو في ذاته عقل وعلم، كقوله: هو قدرة وإرادة وهو قائم بنفسه. ولو قيل: به، فهو كقول القائل في سواد وبياض: إنه قائم بنفسه، وفي كمية وتربيع وتثليث: إنه قائم بنفسه. وكذى في كل الأعراض. وبالطريق الذي يستحيل أن تقوم صفات الأجسام بنفسها دون جسم هو غير الصفات، بعين ذلك الطريق يعلم أن صفات الأحياء من العلم والحياة والقدرة والإرادة أيضاً لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بذات. فالحياة تقوم بالذات فيكون حياته بها، وكذلك سائر الصفات. فإذن لم يقنعوا بسلب الأول سائر الصفات ولا بسلبه الحقيقة والماهية حتى سلبوه أيضاً القيام بنفسه وردوه إلى حقائق الأعراض والصفات التي لا قوام لها بنفسها.

ولا يقيمون الدليل على كونه عالماً... وسنبين ذلك على أنا سنبين بعد هذا عجزهم عن إقامة الدليل على كونه عالماً بنفسه وبغيره في مسألة مفردة.