مسألة في إبطال قولهم أن الأول لا يجوز أن يشارك غيره في جنس

ويفارقه بفصل وأنه لا يتطرق إليه انقسام في حق العقل بالجنس والفصل

رأيهم

وقد اتفقوا على هذا وبنوا عليه أنه إذا لم يشارك غيره بمعنى جنسي لم ينفصل عنه بمعنى فصلي، فلم يكن له حد إذ الحد ينتظم من الجنس والفصل، وما لا تركيب فيه فلا حد له. وهذا نوع من التركيب. وزعموا أن قول القائل: أنه يساوي المعلول الأول في كونه موجوداً وجوهراً وعلة لغيره ويباينه بشيء آخر لا محالة، فليس هذا مشاركة في الجنس بل هو مشاركة في لازم عام.

في الجنس

وفرق بين الجنس واللازم في الحقيقة وإن لم يفترقا في العموم على ما عرف في المنطق، فإن الجنس الذاتي هو العام المقول في جواب ما هو ويدخل في ماهية الشيء المحدود ويكون مقوماً لذاته. فكون الإنسان حياً داخل في ماهية الإنسان أعني الحيوانية فكان جنساً. وكونه مولوداً ومخلوقاً لازم له لا يفارقه قط ولكنه ليس داخلاً في الماهية.

وإن كان لازماً عاماً، ويعرف ذلك في المنطق معرفة لا يتمارى فيها.

قولهم إن الوجود لا يدخل في ماهية الأشياء

وزعموا أن الوجود لا يدخل قط في ماهية الأشياء بل هو مضاف إلى الماهية: إما لازماً لا يفارق كالسماء، أو وارداً بعد أن لم يكن كالأشياء الحادثة، فالمشاركة في الوجود ليس مشاركة في الجنس.

ولا يدخل فيها "كونه علة"... وأما مشاركته في كونه علة لغيره كسائر العلل فهو مشاركة في إضافة لازمة لا تدخل أيضاً في الماهية، فإن المبدئية والوجود لا يقوم واحد منهما الذات بل يلزمان الذات بعد تقوم الذات بأجزاء ماهيته. فليس المشاركة فيه إلا مشاركة في لازم عام يتبع الذات لزومه لا في جنس. ولذلك لا تحد الأشياء إلا بالمقومات، فإن حدث باللوازم كان ذلك رسماً للتمييز لا لتصوير حقيقة الشيء. فلا يقال في حد المثلث إنه الذي تساوي زواياه القائمتين، وإن كان ذلك لازماً عاماً لكل مثلث، بل يقال إنه شكل يحيط به ثلاثة أضلاع.

ولا يدخل فيها كونه جوهراً... وكذلك المشاركة في كونه جوهراً، فإن معنى كونه جوهراً أنه موجود لا في موضوع، والموجود ليس بجنس. فبأن يضاف إليه أمر سلبي وهو أنه لا في موضوع فلا يصير جنساً مقوماً، بل لو أضيف إليه إيجابه وقيل موجود في موضوع لم يصر جنساً في العرض، وهذا لأن من عرف الجوهر بحده الذي هو كالرسم له وهو أنه موجود لا في موضوع فليس يعرف كونه موجوداً، فضلاً أن يعرف أنه في موضوع أو لا في موضوع، بل معنى قولنا في رسم الجوهر أنه الموجود لا في موضوع أي أنه حقيقة ما إذا وجد وجد لا في موضوع. ولسنا نعني به أنه موجود بالفعل حالة التحديد فليس المشاركة فيه مشاركة في جنس.

بل الوجود الواجب هو للأول لا لغيره بل المشاركة في مقومات الماهية هي المشاركة في الجنس المحوج إلى المباينة بعده بالفصل وليس للأول ماهية سوى الوجود الواجب. فالوجود الواجب طبيعة حقيقية وماهية في نفسه هو له لا لغيره. وإذا لم يكن وجوب الوجود إلا له لم يشارك غيره فلم ينفصل عنه بفصل نوعي، فلم يكن له حد. 

قولنا المطالبة

فهذا تفهيم مذهبهم. والكلام عليه من وجهين: مطالبة وإبطال. أما المطالبة فهو أن يقال: هذا حكاية المذهب، فبم عرفتم استحالة ذلك في حق الأول حتى بنيتم عليه نفي التثنية؟ إذ قلتم: إن الثاني ينبغي أن يشاركه في شيء ويباينه في شيء والذي فيه ما يشارك به وما يباين به فهو مركب والمركب محال.


أبطلنا إمكان التركيب في الأول فنقول: هذا النوع من التركيب من أين عرفتم استحالته؟ ولا دليل عليه إلا قولكم المحكي عنكم في نفي الصفات وهو أن المركب من الجنس والفصل مجتمع من أجزاء، فإن كان يصح لواحد من الأجزاء أو الجملة وجود دون الآخر فهو واجب الوجود دون ما عداه، وإن كان لا يصح للأجزاء وجود دون المجتمع ولا للمجتمع وجود دون الأجزاء فالكل معلول محتاج. وقد تكلمنا عليه في الصفات وبينا أن ذلك ليس بمحال في قطع تسلسل العلل، والبرهان لم يدل على قطع التسلسل.

البرهان لا يدل إلا على قطع التسلسل فقط فأما العظائم التي اخترعوها في لزوم اتصاف واجب الوجود به فلم يدل عليه دليل. فإن كان واجب الوجود ما وصفوه به وهو أنه لا يكون فيه كثرة فلا يحتاج في قوامه إلى غيره، فلا دليل إذن على إثبات واجب الوجود وإنما الدليل دل على قطع التسلسل فقط، وهذا قد فرغنا منه في الصفات.

ليس بين الجنس والفصل مباينة تامة وهو في هذا النوع أظهر فإن انقسام الشيء إلى الجنس والفصل ليس كانقسام الموصوف إلى ذات وصفة، فإن الصفة غير الذات والذات غير الصفة والنوع ليس غير الجنس من كل وجه، فمهما ذكرنا النوع فقد ذكرنا الجنس وزيادة. وإذا ذكرنا الإنسان فلم نذكر إلا الحيوان مع زيادة نطق. فقول القائل: إن الإنسانية هل تستغني عن الحيوانية؟ كقوله: إن الإنسانية هل تستغني عن نفسها إذا انضم إليها شيء آخر؟ فهذا أبعد عن الكثرة من الصفة والموصوف.

إن لم تكن المباينة في الفصل... ومن أي وجه يستحيل أن تنقطع سلسلة المعلولات على علتين إحديهما علة السموات والأخرى علة العناصر أو أحدهما علة العقول والآخر علة الأجسام كلها ويكون بينهما مباينة ومفارقة في المعنى كما بين الحمرة والحرارة في محل واحد؟ فإنهما يتباينان بالمعنى من غير أن نفرض في الحمرة تركيباً جنسياً وفصلياً بحيث يقبل الانفصال، بل إن كان فيه كثرة فهو نوع كثرة لا يقدح في وحدة الذات. فمن أي وجه يستحيل هذا في العلل؟ وبهذا يتبين عجزهم عن نفي إلهين صانعين.

إما أن يكون هذا شرطاً في وجوب الوجود وإما أن لا يكون، ولا يصح في الحالين فإن قيل: إنما يستحيل هذا من حيث أن ما به من المباينة بين الذاتين إن كان شرطاً في وجوب الوجود فينبغي أن يوجد لكل واجب وجود فلا يتباينان، وإن لم يكن هذا شرطاً ولا الآخر شرطاً فكل ما لا يشترط في وجوب الوجود فوجوده مستغنى عنه ويتم وجوب الوجود بغيره.

قولنا يجب الكلام عن الموجود الذي لا علة له

قلنا: هذا عين ما ذكرتموه في الصفات وقد تكلمنا عليه. ومنشأ التلبيس في جميع ذلك في لفظ واجب الوجود، فليطرح فإنا لا نسلم أن الدليل يدل على واجب الوجود إن لم يكن المراد به موجود لا فاعل له قديم، وإن كان المراد هذا فليترك لفظ واجب الوجود وليبين أن موجوداً لا علة له ولا فاعل يستحيل فيه التعدد والتباين ولا يقوم عليه دليل.

بعض التباين هو شرط في "كون" اللون لوناً فيبقى قولهم: إن ذلك هل هو شرط في أن لا يكون له علة؟ فهو هوس فإن ما لا علة له قد بينا أنه لا يعلل كونه لا علة له حتى يطلب شرطه، أو هو كقول القائل: إن السوادية هل هي شرط في كون اللون لوناً؟ فإن كان شرطاً فلم كان الحمرة لوناً؟ فيقال: أما في حقيقته فلا يشترط واحد منهما، أعني ثبوت حقيقة اللونية في العقل، وأما في وجوده فالشرط أحدهما لا بعينه، أي لا يمكن جنس في الوجود إلا وله فصل. فكذلك من يثبت علتين ويقطع التسلسل بهما فيقول: يتباينان بفصل، وأحد الفصول شرط الوجود لا محالة ولكن لا على التعين.

قولهم وجوب الوجود كوجود اللونية لا كماهيته

فإن قيل: هذا يجوز في اللون فإن له وجوداً مضافاً إلى الماهية زائداً على الماهية، ولا يجوز في واجب الوجود إذ ليس له إلا وجوب الوجود، وليس ثم ماهية يضاف الوجود إليها. وكما أن فصل السواد وفصل الحمرة لا يشترط للونية في كونها لونية إنما يشترط في وجودها الحاصل بعلة، فكذلك ينبغي أن لا يشترط في الوجود الواجب فإن الوجود الواجب للأول كاللونية للون لا كالوجود المضاف إلى اللونية.

قولنا كلا، وسيأتي الكلام عن الأمر

قلنا: لا نسلم، بل له حقيقة موصوفة بالوجود على ما سنبينه في المسألة التي بعده. وقولهم: إنه وجود بلا ماهية، خارج عن المعقول. ورجع حاصل الكلام إلى انهم بنوا نفي التثنية على نفي التركيب الجنسي والفصلي ثم بنوا ذاك على نفي الماهية وراء الوجود، فمهما أبطلنا الأخير الوجود، فمهما أبطلنا الأخير الذي هو أساس الأساس بطل عليهم الكل، وهو بنيان ضعيف الثبوت قريب من بيوت العنكبوت.

العقلية مشتركة بين الأول والمعلول الأول المسلك الثاني الإلزام وهو أنا نقول: إن لم يكن الوجود والجوهرية والمبدئية جنساً لأنه ليس مقولاً في جواب ما هو فالأول عندكم عقل مجرد، كما أن سائر العقول التي هي المبادئ للوجود المسمى بالملائكة عندهم التي هي معلومات الأول عقول مجردة عن المواد، فهذه الحقيقة تشمل الأول ومعلوله الأول فإن المعلول الأول أيضاً بسيط لا تركيب في ذاته إلا من حيث لوازمه وهما مشتركان في أن كل واحد عقل مجرد عن المادة وهذه حقيقة جنسية. فليس العقلية المجردة للذات من اللوازم بل هي الماهية وهذه الماهية مشتركة بين الأول وسائر العقول. فإن لم يباينها بشيء آخر فقد عقلتم اثنينية من غير مباينة، وإن باينها فما به المباينة غير ما به المشاركة والعقلية.

وهذه المشاركة هي في ذات كليهما والمشاركة فيها مشاركة في الحقيقية فإن الأول عقل نفسه وعقل غيره عند من يرى ذلك من حيث أنه في ذاته عقل مجرد عن المادة، وكذى المعلول الأول وهو العقل الأول الذي أبدعه الله من غير واسطة مشارك في هذا المعنى، والدليل عليه أن العقول التي هي معلولات أنواع مختلفة وإنما اشتراكها في العقلية وافتراقها بفصول سوى ذلك، وكذلك الأول شارك جميعها في العقلية فهم فيه بين نقض القاعدة أو المصير إلى أن العقلية ليست مقومة للذات، وكلاهما محالان عندهم.