مسألة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن السماء حيوان

مطيع لله تعالى بحركته الدورية

قولهم وقد قالوا إن السماء حيوان

وإن له نفساً نسبته إلى بدن السماء كنسبة نفوسنا إلى أبداننا، وكما أن أبداننا تتحرك بالإرادة نحو أغراضها بتحريك النفس فكذى السموات، وإن غرض السموات بحركتها الذاتية عبادة رب العالمين على وجه سنذكره.

لا ينكر إمكانه

ومذهبهم في هذه المسألة مما لا ينكر إمكانه ولا يدعى استحالته فإن الله قادر على أن يخلق الحياة في كل جسم فلا كبر الجسم يمنع من كونه حياً ولا كونه مستديراً فإن الشكل المخصوص ليس شرطاً للحياة إذ الحيوانات مع اختلاف أشكالها مشتركة في قبول الحياة.

ولكن لا يعرف بدليل العقل

ولكنا ندعى عجزهم عن معرفة ذلك بدليل العقل وإن هذا إن كان صحيحاً فلا يطلع عليه إلا الأنبياء بإلهام من الله أو وحي وقياس العقل ليس يدل عليه. نعم لا يبعد أن يتعرف مثل ذلك بدليل إن وجد الدليل وساعد، ولكنا نقول ما أوردوه دليلاً لا يصلح إلا لإفادة ظن، فأما أن يفيد قطعاً فلا.

الضلال في قولهم بأن السماء متحرك

وخبالهم فيه أن قالوا: السماء متحرك وهذه مقدمة حسية. وكل جسم متحرك فله محرك وهذه مقدمة عقلية إذ لو كان الجسم يتحرك لكونه جسماً لكان كل جسم متحركاً.

كل متحرك إما أن يكون قسرياً أو طبيعياً أو إرادياً

وكل محرك فإما أن يكون منبعثاً عن ذات المتحرك كالطبيعة في حركة الحجر إلى أسفل والإرادة في حركة الحيوان مع القدرة، وإما أن يكون المحرك خارجاً ولكن يحرك على طريق القسر كدفع الحجر إلى فوق. وكل ما يتحرك بمعنى في ذاته فإما أن لا يشعر ذلك الشيء بالحركة ونحن نسميه طبيعة كحركة الحجر إلى أسفل، وإما أن يشعر به ونحن نسميه إرادياً ونفسانياً فصارت الحركة بهذه التقسيمات الحاصرة الدائرة بين النفي والإثبات إما قسرية طبيعية وإما طبيعية وإما إرادية، وإذا بطل قسمان تعين الثالث.

ولا يمكن أن يكون قسرياً

ولا يمكن أن يكون قسرياً لأن المحرك القاسر إما جسم آخر يتحرك بالإرادة أو بالقسر وينتهي لا محالة إلى إرادة، ومهما أثبت في أجسام السموات متحرك بالإرادة فقد حصل الغرض، فأي فائدة في وضع حركات قسرية وبالآخرة لا بد من الرجوع إلى الإرادة، وإما أن يقال: إنه يتحرك بالقسر والله هو المحرك بغير واسطة وهو محال، لأنه لو تحرك به من حيث أنه جسم وأنه خالقه للزم أن يتحرك كل جسم فلا بد وأن تختص الحركة بصفة به يتميز عن غيره من الأجسام وتلك الصفة هي المحرك القريب إما بالإرادة أو الطبع. ولا يمكن أن يقال إن الله يحركه بالإرادة لأن إرادته تناسب الأجسام نسبة واحدة، فلم استعد هذا الجسم على الخصوص لأن يراد تحريكه دون غيره؟ ولا يمكن أن يكون ذلك جزافاً فإن ذلك محال كما سبق في مسألة حدث العالم وإذا ثبت أن هذا الجسم ينبغي أن يكون فيه صفة هو مبدأ الحركة بطل القسم الأول وهو تقدير الحركة القسرية.

ولا أن يكون طبيعياً لأنه يعود إلى المكان المهروب عنه. فهو إذا إرادياً

فيبقى أن يقال: هي طبيعية وهو غير ممكن لأن الطبيعة بمجردها قط لا تكون سبباً للحركة لأن معنى الحركة هرب من مكان وطلب لمكان آخر، فالمكان الذي فيه الجسم إن كان ملائماً له فلا يتحرك عنه ولهذا لا يتحرك زق مملوء من الهواء على وجه الماء، وإذا غمس في الماء تحرك إلى وجه الماء فإنه وجد المكان الملائم فسكن والطبيعة قائمة، ولكن إن نقل إلى مكان لا يلائمه هرب منه إلى الملائم كما هرب من وسط الماء إلى حيز الهواء. والحركة الدورية لا يتصور أن تكون طبيعية لأن كل وضع وأين يفرض الهرب منه فهو عائد إليه، والمهروب عنه بالطبع لا يكون مطلوباً بالطبع ولذلك لا ينصرف زق الهواء إلى باطن الماء ولا الحجر ينصرف بعد الاستقرار على الأرض فيعود إلى الهوى. فلم يبق إلا القسم الثالث وهي الحركة الإرادية.

الاعتراض هناك ثلاث احتمالات أخرى

أن تكون حركة السماء بجسم غير سماوي الاعتراض هو أنا نقول: نحن نقرر ثلث احتمالات سوى مذهبكم لا برهان على بطلانها .

الأول أن يقدر حركة السماء قهراً لجسم آخر مريد لحركتها يديرها على الدوام وذلك الجسم المحرك لا يكون كرة ولا يكون محيطاً فلا يكون سماء، فيبطل قولهم إن حركة السماء إرادية وإن السماء حيوان. وهذا الذي ذكرناه ممكن وليس في دفعه إلا مجرد استبعاد.

أو تكون بإرادة الله الثاني هو أن يقال الحركة قسرية ومبدؤها إرادة الله، فإنا نقول: حركة الحجر إلى أسفل أيضاً قسري يحدث بخلق الله الحركة فيه، وكذى القول في سائر حركات الأجسام التي ليست حيوانية.

والاعتراض على الإرادة قد أبطلناه

فيبقى استبعادهم أن الإرادة لم اختصت به وسائر الأجسام تشاركها في الجسمية فقد بينا أن الإرادة القديمة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله وأنهم مضطرون إلى إثبات صفة هذا شأنها في تعيين جهة الحركة الدورية وفي تعيين موضع القطب والنقطة فلا نعيده والقول الوجيز إن ما استبعدوه في اختصاص الجسم بتعلق الإرادة به من غير تميز بصفة ينقلب عليهم في تميزه بتلك الصفة، فإنا نقول: ولم تميز جسم السماء بتلك الصفة التي بها فارق غيره من الأجسام، وسائر الأجسام أيضاً أجسام؟ فلم حصل فيه ما لم يحصل في غيره؟ فإن علل ذلك بصفة أخرى توجه السؤال في الصفة الأخرى، وهكذى يتسلسل إلى غير نهاية فيضطرون بالآخرة إلى التحكم في الإرادة وأن في المبادئ ما يميز الشيء عن مثله ويخصصه بصفة عن أمثاله.

أو تكون بالطبع وبدون أن تشعر لا لطلب المكان ولا للهرب منه الثالث هو أن يسلم أن السماء اختص بصفة تلك الصفة مبدأ الحركة كما اعتقدوه في هوى الحجر إلى أسفل إلا أنه لا يشعر به كالحجر. وقولهم: إن المطلوب بالطبع لا يكون مهروباً عنه بالطبع، فتلبيس لأنه ليس ثم أماكن متفاصلة بالعدد عندهم بل الجسم واحد والحركة الدورية واحدة فلا للجسم جزء بالفعل ولا للحركة جزء بالفعل وإنما يتجزى بالوهم، فليست تلك الحركة لطلب المكان ولا للهرب من المكان. فيمكن أن يخلق جسم وفي ذاته معنى يقتضي حركة دورية وتكون الحركة نفسها مقتضى ذلك المعنى لا أن مقتضى المعنى طلب المكان، ثم تكون حركة للوصول إليه.

الحركة نفس المقتضى لا لطلب مكان

وقولكم: إن كل حركة فهو لطلب مكان أو هرب منه إذا كان ضرورياً، فكأنكم جعلتم طلب المكان مقتضى الطبع وجعلتم الحركة غير مقصودة في نفسها بل وسيلة إليه ونحن نقول: لا يبعد أن تكون الحركة نفس المقتضى لا لطلب مكان، فما الذي يحيل ذلك؟

الخلاصة

فاستبان أن ما ذكروه إن ظن أنه أغلب من احتمال آخر فلا يتيقن قطعاً انتفاء غيره. فالحكم على السماء بأنه حيوان تحكم محض لا مستند له.