وقد قالوا: إن السماء مطيع لله بحركته ومتقرب إليه لأن كل حركة بالإرادة فهو لغرض إذ لا يتصور أن يصدر الفعل والحركة من حيوان إلا إذا كان الفعل أولى به من الترك وإلا فلو استوى الفعل والترك لما تصور الفعل.
ثم التقرب إلى الله ليس معناه طلب الرضا والحذر من السخط فإن الله يتقدس عن السخط والرضا وإن أطلق هذه الألفاظ فعلى سبيل المجاز يكني بها عن إرادة العقاب وإرادة الثواب، ولا يجوز أن يكون التقرب بطلب القرب منه في المكان فإنه محال فلا يبقى إلا طلب القرب في الصفات، فإن الوجود الأكمل وجوده وكل وجود فبالإضافة إلى وجوده ناقص وللنقصان درجات وتفاوت فالملك أقرب إليه صفة لا مكاناً، وهو المراد بالملائكة المقربين أي الجواهر العقلية التي لا تتغير ولا تفنى ولا تستحيل وتعلم الأشياء على ما هي عليه، والإنسان كلما ازداد قرباً من الملك في الصفات ازداد قرباً من الله، ومنتهى طبقة الآدميين التشبه بالملائكة.
وإذا ثبت أن هذا معنى التقرب إلى الله وأنه يرجع إلى طلب القرب منه في الصفات وذلك للآدمي بأن يعلم حقائق الأشياء وبأن يبقى بقاءً مؤبداً على أكمل أحواله الممكن له، فإن البقاء على الكمال الأقصى هو الله. والملائكة المقربون كل ما يمكن لهم من الكمال فهو حاضر معهم في الوجود إذ ليس فيهم شيء بالقوة حتى يخرج إلى الفعل، فإذن كمالهم في الغاية القصوى بالإضافة إلى ما سوى الله.
والملائكة السماوية هي عبارة عن النفوس المحركة للسموات وفيها ما بالقوة، وكمالاتها منقسمة إلى ما هو بالفعل كالشكل الكري والهيئة وذلك حاضر وإلى ما هو بالقوة وهو الهيئة في الوضع والأين. وما من وضع معين إلا وهو ممكن له ولكن ليست له سائر الأوضاع بالفعل فإن الجمع بين جميعها غير ممكن، فلما لم يمكنها استيفاء آحاد الأوضاع على الدوام قصد استيفاءها بالنوع فلا يزال يطلب وضعاً بعد وضع وأيناً بعد أين ولا ينقطع قط هذا الإمكان فلا تنقطع هذه الحركات وإنما قصده التشبه بالمبدأ الأول في نيل الكمال الأقصى على حسب الإمكان في حقه وهو معنى طاعة الملائكة السماوية لله.
وقد حصل لها التشبه من وجهين: أحدهما استيفاء كل وضع ممكن له بالنوع وهو المقصود بالقصد الأول. والثاني ما يترتب على حركته من اختلاف النسب في التثليث والتربيع والمقارنة والمقابلة واختلاف الطوالع بالنسبة إلى الأرض فيفيض منه الخير على ما تحت فلك القمر ويحصل منه هذه الحوادث كلها، فهذا وجه استكمال النفس السماوية. وكل نفس عاقلة فمتشوقة إلى الاستكمال بذاتها.
والاعتراض على هذا هو أن في مقدمات هذا الكلام ما يمكن النزاع فيه، ولكنا لا نطول به ونعود إلى الغرض الذي عنيتموه آخراً ونبطله من وجهين.
أحدهما أن طلب الاستكمال بالكون في كل أين يمكن أن يكون له حماقة لا طاعة، وما هذا إلا كإنسان لم يكن له شغل وقد كفي المؤونة في شهواته وحاجاته فقام وهو يدور في بلد أو بيت ويزعم أنه يتقرب إلى الله فإنه يستكمل بأن يحصل لنفسه الكون في كل مكان أمكن، وزعم أن الكون في الأماكن ممكن لي ولست أقدر على الجمع بينها بالعدد فأستوفيه بالنوع فإن فيه استكمالاً وتقرباً، فيسفه عقله فيه ويحمل على الحماقة ويقال: الانتقال من حيز إلى حيز ومن مكان إلى مكان ليس كمالاً يعتد به أو يتشوف إليه، ولا فرق بين ما ذكروه وبين هذا.
والثاني هو أنا نقول: ما ذكرتموه من الغرض حاصل بالحركة المغربية فلم كانت الحركة الأولى مشرقية وهلا كانت حركات الكل إلى جهة واحدة؟ فإن كان في اختلافها غرض فهلا اختلفت بالعكس فكانت التي هي مشرقية مغربية والتي هي مغربية مشرقية؟ فإن كل ما ذكروه من حصول الحوادث باختلاف الحركات من التثليثات والتسديسات وغيرها يحصل بعكسه. وكذى ما ذكروه من استيفاء الأوضاع والأيون كيف ومن الممكن لها الحركة إلى الجهة الأخرى فما بالها لا تتحرك مرة من جانب ومرة من جانب استيفاء لما يمكن لها إن كان في استيفاء كل ممكن كمال؟
فدل أن هذه خيالات لا حاصل لها وأن أسرار ملكوت السموات لا يطلع عليه بأمثال هذه الخيالات وإنما يطلع الله عليه أنبياءه وأولياءه على سبيل الإلهام لا على سبيل الاستدلال ولذلك عجز الفلاسفة من عند آخرهم عن بيان السبب في جهة الحركة واختيارها.
وقال بعضهم: لما كان استكمالها يحصل بالحركة من أي جهة كانت وكان انتظام الحوادث الأرضية يستدعي اختلاف حركات وتعين جهات، كان الداعي لها إلى أصل الحركة التقرب إلى الله والداعي إلى جهة الحركة إفاضة الخير على العالم السفلي.
وهذا باطل من وجهين. أحدهما أن ذلك إن أمكن أن يتخيل فليقض بأن مقتضى طبعه السكون احترازاً عن الحركة والتغير وهو التشبه بالله على التحقيق فإنه مقدس عن التغير والحركة تغير، ولكنه اختار الحركة لإفاضة الخير فإنه كان ينتفع به غيره وليس يثقل عليه الحركة وليس تتعبه، فما المانع من هذا الخيال؟
والثاني أن الحوادث تنبنى على اختلاف النسب المتولدة من اختلاف جهات الحركات، فلتكن الحركة الأولى مغربية وما عداها مشرقية وقد حصل به الاختلاف ويحصل به تفاوت النسب. فلم تعينت جهة واحدة، وهذه الاختلافات لا تستدعي إلا أصل الاختلاف، فأما جهة بعينها فليس بأولى من نقيضها في هذا الغرض.