الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر مثل الري والشرب والشبع والأكل والاحتراق ولقاء النار والنور وطلوع الشمس والموت وجز الرقبة والشفاء وشرب الدواء وإسهال البطن واستعمال المسهل وهلم جرا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه يخلقها على التساوق لا لكونه ضرورياً في نفسه غير قابل للفرق بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون جز الرقبة وإدامة الحيوة مع جز الرقبة وهلم جرا إلى جميع المقترنات، وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته.
والنظر في هذه الأمور الخارجة عن الحصر يطول، فلنعين مثالاً واحداً وهو الاحتراق في القطن مثلاً مع ملاقاة النار، فإنا نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق ونجوز حدوث انقلاب القطن رماداً محترقاً دون ملاقاة النار وهم ينكرون جوازه.
وللكلام في المسألة ثلثة مقامات: المقام الأول أن يدعي الخصم أن فاعل الاحتراق هو النار فقط وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار فلا يمكنه الكف عما هو طبعه بعد ملاقاته لمحل قابل له.
وهذا مما ننكره بل نقول: فاعل الاحتراق بخلق السواد في القطن والتفرق في أجزائه وجعله حراقاً أو رماداً هو الله إما بواسطة الملائكة أو بغير واسطة، فأما النار وهي جماد فلا فعل لها.
فما الدليل على أنها الفاعل وليس له دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار؟ والمشاهدة تدل على الحصول عنده ولا تدل على الحصول به وأنه لا علة سواه، إذ لا خلاف في أن انسلاك الروح والقوى المدركة والمحركة في نطفة الحيوانات ليس يتولد عن الطبائع المحصورة في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ولا أن الأب فاعل ابنه بإيداع النطفة في الرحم ولا هو فاعل حيوته وبصره وسمعه وسائر المعاني التي هي فيه، ومعلوم أنها موجودة عنده، ولم نقل أنها موجودة به بل وجودها من جهة الأول إما بغير واسطة وإما بواسطة الملائكة الموكلين بهذه الأمور الحادثة، وهذا مما يقطع به الفلاسفة القائلون بالصانع والكلام معهم فقد تبين أن الوجود عند الشيء لا يدل على أنه موجود به.
فالأكمه إذا بصر فجأة ورأى الألوان لا يعلم أن نور الشمس هو السبب في انطباعها في بصره بل نبين هذا بمثال وهو أن الأكمه لو كان في عينه غشاوة ولم يسمع من الناس الفرق بين الليل والنهار لو انكشفت الغشاوة عن عينه نهاراً وفتح أجفانه فرأى الألوان ظن أن الإدراك الحاصل في عينه لصور الألوان فاعله فتح البصر وأنه مهما كان بصره سليماً ومفتوحاً والحجاب مرتفعاً والشخص المقابل متلوناً فيلزم لا محالة أن يبصر، ولا يعقل أن لا يبصر حتى إذا غربت الشمس وأظلم الهواء علم أن نور الشمس هو السبب في انطباع الألوان في بصره. فمن أين يأمن الخصم أن يكون في المبادئ للوجود علل وأسباب يفيض منها الحوادث عند حصول ملاقاة بينها؟ إلا أنها ثابتة ليست تنعدم ولا هي أجسام متحركة فتغيب، ولو انعدمت أو غابت لأدركنا التفرقة وفهمنا أن ثم سبباً وراء ما شاهدناه، وهذا لا مخرج منه على قياس أصلهم.
ولهذا اتفق محققوهم على أن هذه الأعراض والحوادث التي تحصل عند وقوع الملاقاة بين الأجسام وعلى الجملة عند اختلاف نسبها إنما تفيض من عند واهب الصور وهو ملك أو ملائكة، حتى قالوا: انطباع صورة الألوان في العين يحصل من جهة واهب الصور وإنما طلوع الشمس والحدقة السليمة والجسم المتلون معدات ومهيئات لقبول المحل هذه الصورة، وطردوا هذا في كل حادث، وبهذا يبطل دعوى من يدعي أن النار هي الفاعلة للاحتراق والخبز هو الفاعل للشبع والدواء هو الفاعل للصحة إلى غير ذلك من الأسباب.
المقام الثاني مع من يسلم أن هذه الحوادث تفيض من مبادئ الحوادث ولكن الاستعداد لقبول الصور يحصل بهذه الأسباب المشاهدة الحاضرة، إلا أن تيك المبادئ أيضاً تصدر الأشياء عنها باللزوم والطبع لا على سبيل التروي والاختيار صدور النور من الشمس، وإنما افترقت المحال في القبول لاختلاف استعدادها فإن الجسم الصقيل يقبل شعاع الشمس ويرده حتى يستضيء به موضع آخر والمدر لا يقبل والهواء لا يمنع نفوذ نوره والحجر يمنع وبعض الأشياء يلين بالشمس وبعضها يتصلب وبعضها يبيض كثوب القصار وبعضها يسود كوجهه، والمبدأ واحد والآثار مختلفة لاختلاف الاستعدادات في المحل، فكذى مبادئ الوجود فياضة بما هو صادر منها لا منع عندها ولا بخل وإنما التقصير من القوابل.
وإذا كان كذلك فمهما فرضنا النار بصفتها وفرضنا قطنتين متماثلتين لاقتا النار على وتيرة واحدة فكيف يتصور أن تحترق إحديهما دون الأخرى وليس ثم اختيار؟ وعن هذا المعنى أنكروا وقوع إبراهيم في النار مع عدم الاحتراق وبقاء النار ناراً وزعموا أن ذلك لا يمكن إلا بسلب الحرارة من النار وذلك يخرجه عن كونه ناراً أو بقلب ذات إبراهيم وبدنه حجراً أو شيئاً لا يؤثر فيه النار، ولا هذا ممكن ولا ذاك ممكن.
والجواب له مسلكان: الأول أن نقول: لا نسلم أن المبادي ليست تفعل بالاختيار وأن الله لا يفعل بالإرادة، وقد فرغنا عن إبطال دعواهم في ذلك في مسألة حدث العالم. وإذا ثبت أن الفاعل يخلق الاحتراق بإرادته عند ملاقاة القطنة النار أمكن في العقل أن لا يخلق مع وجود الملاقاة.
فإن قيل: فهذا يجر إلى ارتكاب محالات شنيعة، فإنه إذا أنكرت لزوم المسببات عن أسبابها وأضيف إلى إرادة مخترعها ولم يكن للإرادة أيضاً منهج مخصوص متعين بل أمكن تفننه وتنوعه فليجوز كل واحد منا أن يكون بين يديه سباع ضارية ونيران مشتعلة وجبال راسية وأعداء مستعدة بالأسلحة وهو لا يراها لأن الله تعالى ليس يخلق الرؤية له.
ومن وضع كتاباً في بيته فليجوز أن يكون قد انقلب عند رجوعه إلى بيته غلاماً أمرد عاقلاً متصرفاً أو انقلب حيواناً، أو ترك غلاماً في بيته فليجوز انقلابه كلباً أو ترك الرماد فليجوز انقلابه مسكاً وانقلاب الحجر ذهباً والذهب حجراً. وإذا سئل عن شيء من هذا فينبغي أن يقول: لا أدري ما في البيت الآن وإنما القدر الذي أعلمه أني تركت في البيت كتاباً ولعله الآن فرس وقد لطخ بيت الكتب ببوله وروثه، وإني تركت في البيت جرة من الماء ولعلها انقلبت شجرة تفاح، فإن الله قادر على كل شيء وليس من ضرورة الفرس أن يخلق من النطفة ولا من ضرورة الشجرة أن تخلق من البذر بل ليس من ضرورته أن يخلق شيء فلعله خلق أشياء لم يكن لها وجود من قبل، بل إذا نظر إلى إنسان لم يره إلا الآن وقيل له: هل هذا مولود: ؟ فليتردد وليقل يحتمل أن يكون بعض الفواكه في السوق قد انقلب إنساناً وهو ذلك الإنسان فإن الله قادر على كل شيء ممكن وهذا ممكن فلا بد من التردد فيه، وهذا فن يتسع المجال في تصويره وهذا القدر كاف فيه.
والجواب أن نقول: إن ثبت أن الممكن كونه لا يجوز أن يخلق للإنسان علم بعدم كونه لزم هذه المحالات. ونحن لا نشك في هذه الصور التي أوردتموها فإن الله خلق لنا علماً بأن هذه الممكنات لم يفعلها، ولم ندع أن هذه الأمور واجبة بل هي ممكنة يجوز أن تقع ويجوز أن لا تقع، واستمرار العادة بها مرة بعد أخرى يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية ترسخاً لا تنفك عنه.
بل يجوز أن يعلم نبي من الأنبياء بالطرق التي ذكرتموها أن فلاناً لا يقدم من سفره غداً، وقدومه ممكن ولكن يعلم عدم وقوع ذلك الممكن، بل كما ينظر إلى العامي فيعلم أنه ليس يعلم الغيب في أمر من الأمور ولا يدرك المعقولات من غير تعلم، ومع ذلك فلا ينكر أن تتقوى نفسه وحدسه بحيث يدرك ما يدركه الأنبياء على ما اعترفوا بإمكانه، ولكن يعلمون أن ذلك لم يقع، فإن خرق الله العادة بإيقاعها في زمان خرق العادات فيها انسلت هذه العلوم عن القلوب ولم يخلقها. فلا مانع إذن من أن يكون الشيء ممكناً في مقدورات الله ويكون قد جرى في سابق علمه أنه لا يفعله مع إمكانه في بعض الأوقات ويخلق لنا العلم بأنه ليس يفعله في ذلك الوقت، فليس في هذا الكلام إلا تشنيع محض.
المسلك الثاني وفيه الخلاص من هذه التشنيعات وهو أن نسلم أن النار خلقت خلقة إذا لاقاها قطنتان متماثلتان أحرقتهما ولم تفرق بينهما إذا تماثلتا من كل وجه، ولكنا مع هذا نجوز أن يلقى نبي في النار فلا يحترق إما بتغيير صفة النار أو بتغيير صفة النبي فيحدث من الله أو من الملائكة صفة في النار يقصر سخونتها على جسمها بحيث لا تتعداه فيبقى معها سخونتها وتكون على صورة النار وحقيقتها ولكن لا تتعدى سخونتها وأثرها أو يحدث في بدن الشخص صفة ولا يخرجه عن كونه لحماً وعظماً فيدفع أثر النار.
فإنا نرى من يطلي نفسه بالطلق ثم يقعد في تنور موقدة ولا يتأثر به. والذي لم يشاهد ذلك ينكره. فإنكار الخصم اشتمال القدرة على إثبات صفة من الصفات في النار أو في البدن يمنع الاحتراق كإنكار من لم يشاهد الطلق وأثره. وفي مقدورات الله غرائب وعجائب ونحن لم نشاهد جميعها، فلم ينبغي أن ننكر إمكانها ونحكم باستحالتها؟
وكذلك إحياء الميت وقلب العصا ثعباناً يمكن بهذا الطريق وهو أن المادة قابلة لكل شيء فالتراب وسائر العناصر يستحيل نباتاً ثم النبات يستحيل عند أكل الحيوان دماً ثم الدم يستحيل منياً ثم المني ينصب في الرحم فيتخلق حيواناً، وهذا بحكم العادة واقع في زمان متطاول فلم يحيل الخصم أن يكون في مقدور الله أن يدير المادة في هذه الأطوار في وقت أقرب مما عهد فيه، وإذا جاز في وقت أقرب فلا ضبط للأقل فتستعجل هذه القوى في عملها ويحصل به ما هو معجزة النبي.
فإن قيل: وهذا يصدر من نفس النبي أو من مبدأ آخر من المبادئ عند اقتراح النبي.
قلنا: وما سلمتموه من جواز نزول الأمطار والصواعق وتزلزل الأرض بقوة نفس النبي يحصل منه أو من مبدأ آخر. فقولنا في هذا كقولكم في ذاك والأولى بنا وبكم إضافة ذلك إلى الله إما بغير واسطة أو بواسطة الملائكة. ولكن وقت استحقاق حصولها انصراف همة النبي إليه وتعين نظام الخير في ظهوره لاستمرار نظام الشرع فيكون ذلك مرجحاً جهة الوجود ويكون الشيء في نفسه ممكناً والمبدأ به سمحاً جواداً، ولكن لا يفيض منه إلا إذا ترجحت الحاجة إلى وجوده وصار الخير، متعيناً فيه، ولا يصير الخير متعيناً فيه إلا إذا احتاج نبي في إثبات نبوته إليه لإفاضة الخير.
فهذا كله لائق بمساق كلامهم ولازم لهم مهما فتحوا باب الاختصاص للنبي بخاصية تخالف عادة الناس، فإن مقادير ذلك الاختصاص لا ينضبط في العقل إمكانه فلم يجب معه التكذيب لما تواتر نقله وورد الشرع بتصديقه.
وعلى الجملة لما كان لا يقبل صورة الحيوان إلا النطفة وإنما تفيض القوى الحيوانية عليها من الملائكة التي هي مبادي الموجودات عندهم ولم يتخلق قط من نطفة الإنسان إلا إنسان ومن نطفة الفرس إلا فرس من حيث أن حصوله من الفرس أوجب ترجيحاً لمناسبة صورة الفرس على سائر الصور فلم يقبل إلا الصورة المترجحة بهذا الطريق، ولذلك لم ينبت قط من الشعير حنطة ولا من بذر الكمثرى تفاح. ثم رأينا أجناساً من الحيوانات تتولد من التراب ولا تتوالد قط كالديدان ومنها ما يتولد ويتوالد جميعاً كالفار والحية والعقرب وكان تولدها من التراب ويختلف استعدادها لقبول الصور بأمور غابت عنا ولم يكن في القوة البشرية الإطلاع عليها، إذ ليس تفيض الصور عندهم من الملائكة بالتشهي ولا جزافاً بل لا يفيض على كل محل إلا ما تعين قبوله له بكونه مستعداً في نفسه، والاستعدادات مختلفة ومبادئها عندهم امتزاجات الكواكب واختلاف نسب الأجرام العلوية في حركاتها.
فقد انفتح من هذا أن مبادىء الاستعدادات فيها غرائب وعجائب حتى توصل أرباب الطلسمات من علم خواص الجواهر المعدنية وعلم النجوم إلى مزج القوى السماوية بالخواص المعدنية فاتخذوا أشكالاً من هذه الأرضية وطلبوا لها طالعاً مخصوصاً من الطوالع وأحدثوا بها أموراً غريبة في العالم فربما دفعوا الحية والعقرب عن بلد والبق عن بلد إلى غير ذلك من أمور تعرف من علم الطلسمات.
فإذا خرجت عن الضبط مبادىء الاستعدادات ولم نقف على كنهها ولم يكن لنا سبيل إلى حصرها فمن أين نعلم استحالة حصول الاستعداد في بعض الأجسام للاستحالة في الأطوار في أقرب زمان حتى يستعد لقبول صورة ما كان يستعد لها من قبل وينتهض ذلك معجزة؟ ما إنكار هذا إلا لضيق الحوصلة والأنس بالموجودات العالية والذهول عن أسرار الله سبحانه في الخلقة والفطرة، ومن استقرأ عجائب العلوم لم يستبعد من قدرة الله ما يحكى من معجزات الأنبياء بحال من الأحوال.
وقولوا إن الله يقدر على خلق إرادة من غير علم بالمراد وخلق علم من غير حيوة ويقدر على أن يحرك يد ميت ويقعده ويكتب بيد مجلدات ويتعاطى صناعات وهو مفتوح العين محدق بصره نحوه ولكنه لا يرى ولا حيوة فيه ولا قدرة له عليه، وإنما هذه الأفعال المنظومة يخلقها الله تعالى مع تحريك يده والحركة من جهة الله، وبتجويز هذا يبطل الفرق بين الحركة الاختيارية وبين الرعدة فلا يدل الفعل المحكم على العلم ولا على قدرة الفاعل.
وينبغي أن يقدر على قلب الأجناس فيقلب الجوهر عرضاً ويقلب العلم قدرة والسواد بياضاً والصوت رائحة كما اقتدر على قلب الجماد حيواناً والحجر ذهباً، ويلزم عليه أيضاً من المحالات ما لا حصر له.
والجواب أن المحال غير مقدور عليه والمحال إثبات الشيء مع نفيه أو إثبات الأخص مع نفي الأعم أو إثبات الاثنين مع نفي الواحد، وما لا يرجع إلى هذا فليس بمحال وما ليس بمحال فهو مقدور.
أما الجمع بين السواد والبياض فمحال لأنا لا نفهم من إثبات صورة السواد في المحل نفي هيئة البياض ووجود السواد فإذا صار نفي البياض مفهوماً من إثبات السواد كان إثبات البياض مع نفيه محالاً. وإنما لا يجوز كون الشخص في مكانين لأنا نفهم من كونه في البيت عدم كونه في غير البيت فلا يمكن تقديره في غير البيت مع كونه في البيت المفهم لنفيه عن غير البيت. وكذلك نفهم من الإرادة طلب معلوم فإن فرض طلب ولا علم لم تكن إرادة فكان فيه نفي ما فهمناه. والجماد يستحيل أن يخلق فيه العلم لأنا نفهم من الجماد ما لا يدرك فإن خلق فيه إدراك فتسميته جماداً بالمعنى الذي فهمناه محال وإن لم يدرك فتسميته الحادث علماً ولا يدرك به محله شيئاً محال فهذا وجه استحالته.
وأما قلب الأجناس فقد قال بعض المتكلمين أنه مقدور لله فنقول: مصير الشيء شيئاً آخر غير معقول لأن السواد إذا انقلب قدرة مثلاً فالسواد باق أم لا، فإن كان معدوماً فلم ينقلب بل عدم ذاك ووجد غيره وإن كان موجوداً مع القدرة فلم ينقلب ولكن انضاف إليه غيره وإن بقي السواد والقدرة معدومة فلم ينقلب بل بقي على ما هو عليه. وإذا قلنا: انقلب الدم منياً أردنا به أن تلك المادة بعينها خلعت صورة ولبست صورة أخرى فرجع الحاصل إلى أن صورة عدمت وصورة حدثت وثم مادة قائمة تعاقب عليها الصورتان. وإذا قلنا: انقلب الماء هواء بالتسخين أردنا به أن المادة القابلة لصورة المائية خلعت هذه الصورة وقبلت صورة أخرى فالمادة مشتركة والصفة متغيرة. وكذلك إذا قلنا: انقلب العصا ثعباناً والتراب حيواناً وليس بين العرض والجوهر مادة مشتركة ولا بين السواد والقدرة ولا بين سائر الأجناس مادة مشتركة فكان هذا محالاً من هذا الوجه.
وأما تحريك الله يد ميت ونصبه على صورة حي يقعد ويكتب حتى يحدث من حركة يده الكتابة المنظومة فليس بمستحيل في نفسه مهما أحلنا الحوادث إلى إرادة مختار وإنما هو مستنكر لاطراد العادة بخلافه.
وقولكم: تبطل به دلالة أحكام الفعل على علم الفاعل، فليس كذلك فإن الفاعل الآن هو الله وهو المحكم وهو فاعل به.
وأما قولكم إنه لا يبقى فرق بين الرعشة والحركة المختارة فنقول: إنما أدركنا ذلك من أنفسنا لأنا شاهدنا من أنفسنا تفرقة بين الحالتين فعبرنا عن ذلك الفارق بالقدرة فعرفنا أن الواقع من القسمين الممكنين أحدهما في حالة والآخر في حالة، وهو إيجاد الحركة مع القدرة عليها في حالة وإيجاد الحركة دون القدرة في حالة أخرى. وأما إذا نظرنا إلى غيرنا ورأينا حركات كثيرة منظومة حصل لنا علم بقدرتها، فهذه علوم يخلقها الله تعالى بمجاري العادات يعرف بها وجود أحد قسمي الإمكان ولا يتبين به استحالة القسم الثاني كما سبق.