مسألة في تعجيزهم عن إقامة البرهان العقلي

على أن النفس الإنساني جوهر روحاني قائم بنفسه لا يتحيز وليس بجسم ولا منطبع في الجسم ولا هو متصل بالبدن ولا هو منفصل عنه كما أن الله ليس خارج العالم ولا داخل العالم وكذى الملائكة عندهم

مذهبهم في القوى وأقسامها القوى المدركة هي باطنة

والخوض في هذا يستدعي شرح مذهبهم في القوى الحيوانية والإنسانية.


والقوى الحيوائية تنقسم عندهم إلى قسمين: محركة ومدركة.

والمدركة قسمان: ظاهرة وباطنة.

والظاهرة هي الحواس الخمسة وهي معان منطبعة في الأجسام، أعني هذه القوى.

وأما الباطنة فثلثة:

والباطنة تنقسم إلى خيالية

إحديها القوة الخيالية في مقدمة الدماغ وراء القوة الباصرة، وفيه تبقى صور الأشياء المرئية بعد تغميض العين، بل ينطبع فيها ما تورده الحواس الخمس فيجتمع فيه، ويسمى الحس المشترك لذلك. ولولاه لكان من رأى العسل الأبيض ولم يدرك حلاوته إلا بالذوق فإذا رآه ثانياً لا يدرك حلاوته ما لم يذق كالمرة الأولى، ولكن فيه معنى يحكم بأن هذا الأبيض هو الحلو، فلا بد وأن يكون عنده حاكم قد اجتمع عنده الأمر أعني اللون والحلاوة حتى قضى عند وجود أحدهما بوجود الآخر.

ووهمية

والثانية القوة الوهمية وهي التي تدرك المعاني، وكان القوة الأولى تدرك الصور. والمراد بالصور ما لا بد لوجوده من مادة أي جسم، والمراد بالمعاني ما لا يستدعي وجوده جسماً ولكن قد يعرض له أن يكون جسم كالعداوة والموافقة، فإن الشاة تدرك من الذب لونه وشكله وهيئته، وذلك لا يكون إلا في جسم، وتدرك أيضاً كونه مخالفاً لها. وتدرك السخلة شكل الأم ولونه ثم تدرك موافقته وملايمته ولذلك تهرب من الذئب وتعدو خلف الأم. والمخالفة والموافقة ليس من ضرورتها أن تكون في الأجسام لا كاللون والشكل ولكن قد يعرض لها أن تكون في الأجسام أيضاً فكانت هذه القوة مباينة للقوة الثانية وهذا محله التجويف الأخير من الدماغ.

ومتخيلة-مفكرة

أما الثالثة فهي القوة التي تسمى في الحيوانات متخيلة وفي الإنسان مفكرة وشأنها أن تركب الصور المحسوسة بعضها مع بعض وتركب المعاني على الصور، وهي في التجويف الأوسط بين حافظ الصور وحافظ المعاني. ولذلك يقدر الإنسان على أن يتخيل فرساً يطير وشخصاً رأسه رأس إنسان وبدنه بدن فرس إلى غير ذلك من التركيبات وإن لم يشاهد مثل ذلك، والأولى أن تلحق هذه القوة بالقوى المحركة كما سيأتي لا بالقوى المدركة، وإنما عرفت مواضع هذه القوى بصناعة الطب فإن الآفة إذا نزلت بهذه التجويفات اختلت هذه الأمور.

وإليها تضم القوة الحافظة والقوة الذاكرة

ثم زعموا أن القوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات بالحواس الخمس تحفظ تلك الصور حتى تبقى بعد القبول، والشيء يحفظ الشيء لا بالقوة التي بها يقبل، فإن الماء يقبل ولا يحفظ والشمع يقبل برطوبته ويحفظ بيبوسته بخلاف الماء، فكانت الحافظة بهذا الاعتبار غير القابلة فتسمى هذه قوة حافظة. وكذى المعاني تنطبع في الوهمية وتحفظها قوة تسمى ذاكرة فتصير الإدراكات الباطنة بهذا الاعتبار إذا ضم إليها المتخيلة خمسة كما كانت الظاهرة خمسة.

والقوى المتحركة تنقسم إلى باعثة شهوانية وغضبية

وأما القوى المحركة فتنقسم إلى محركة على معنى أنها باعثة على الحركة وإلى محركة على معنى أنها مباشرة للحركة فاعلة.

والمحركة على أنها باعثة هي القوة النزوعية الشوقية وهي التي إذا ارتسم في القوة الخيالية التي ذكرناها صورة مطلوب أو مهروب عنه بعثت القوة المحركة الفاعلة على التحريك. ولها شعبتان شعبة تسمى قوة شهوانية وهي قوة تبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية أو نافعة طلباً للذة، وشعبة تسمى قوة غضبية وهي قوة تبعث على تحريك يدفع به الشيء المتخيل ضاراً أو مفسداً طلباً للغلبة. وبهذه القوة يتم الإجماع التام على الفعل المسمى إرادة.

وفاعلة

وأما القوة المحركة على أنها فاعلة هي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات المتصلة بالأعضاء إلى جهة الموضع الذي فيه القوة أو ترخيها وتمددها طولاً فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف الجهة. فهذه قوى النفس الحيوانية على طريق الإجمال وترك التفصيل.

للنفس العاقلة قوتان عملية ونظرية

فأما النفس العاقلة الإنسانية المسماة الناطقة عندهم، والمراد بالناطقة العاقلة لأن النطق أخص ثمرات العقل في الظاهر، فنسبت إليه فلها قوتان: قوة عالمة وقوة عاملة، وقد يسمى كل واحدة عقلاً ولكن باشتراك الاسم. فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الصناعات المرتبة الإنسانية المستنبط ترتيبها بالروية الخاصة بالإنسان. وأما العالمة فهي التي تسمى النظرية وهي قوة من شأنها أن تدرك حقائق المعقولات المجردة عن المادة والمكان والجهات، وهي القضايا الكلية التي يسميها المتكلمون أحوالاً مرة ووجودها أخرى وتسميها الفلاسفة الكليات المجردة.

الأولى تنقاد للبدن، والثانية مأخوذة من الملائكة

فإذن للنفس قوتان بالقياس إلى جنبتين: القوة النظرية بالقياس إلى جنبة الملائكة إذ بها تأخذ من الملائكة العلوم الحقيقية، وينبغي أن تكون هذه القوة دائمة القبول من جهة فوق. والقوة العملية لها بالنسبة إلى أسفل وهي جهة البدن وتدبيره وإصلاح الأخلاق، وهذه القوة ينبغي أن تتسلط على سائر القوى البدنية وأن تكون سائر القوى متأدبة بتأديبها مقهورة دونها حتى لا تنفعل ولا تتأثر هي عنها بل تنفعل تلك القوى عنها لئلا يحدث في النفس من الصفات البدنية هيآت انقيادية تسمى رذائل بل تكون هي الغالبة ليحصل للنفس بسببها هيآت تسمى فضائل.

هذه كلها لا تنكر

فهذا إيجاز ما فصلوه من القوى الحيوانية والإنسانية وطولوا بذكرها مع الإعراض عن ذكر القوى النباتية إذ لا حاجة إلى ذكرها في غرضنا. وليس شيء مما ذكروه مما يجب إنكاره في الشرع فإنها أمور مشاهدة أجرى الله العادة بها.

اعتراضنا عليهم لأنهم يقصدون الدلالة

وإنما نريد أن نعترض الآن على دعواهم معرفة كون النفس جوهراً قائماً بنفسه ببراهين العقل. ولسنا نعترض اعتراض من يبعد ذلك من قدرة الله أو يرى أن الشرع جاء بنقيضه بل ربما نبين في تفصيل الحشر والنشر أن الشرع مصدق له، ولكنا ننكر دعواهم دلالة مجرد العقل عليه والاستغناء عن الشرع فيه.
فلنطالبهم بالأدلة ولهم فيه براهين كثيرة بزعمهم.

الأول

دليلهم الأول أن محل العلم لا ينقسم، فهو ليس جسماً

قولهم إن العلوم العقلية تحل محل النفس الإنساني وهي محصورة وفيها آحاد لا تنقسم فلا بد وأن يكون محله أيضاً لا ينقسم، وكل جسم فمنقسم فدل أن محله شيء لا ينقسم. ويمكن إيراد هذا على شرط المنطق بأشكاله ولكن أقربه أن يقال إن كان محل العلم جسماً منقسماً فالعلم الحال أيضاً منقسم لكن العلم الحال غير منقسم فالمحل ليس جسماً. وهذا هو قياس شرطي استثنى فيه نقيض التالي فينتج نقيض المقدم بالاتفاق فلا نظر في صحة شكل القياس ولا أيضاً في المقدمتين فإن الأول قولنا إن كل حال في منقسم ينقسم لا محالة بفرض القسمة في محله وهو أولي لا يمكن التشكك فيه، والثاني قولنا إن العلم الواحد يحل في الآدمي وهو لا ينقسم لأنه لو انقسم إلى غير نهاية كان محالاً وإن كان له نهاية فيشتمل على آحاد لا محالة لا تنقسم. وعلى الجملة نحن نعلم أشياء ولا نقدر أن نفرض زوال بعضها وبقاء بعض من حيث أنه لا بعض لها.

اعتراضنا لماذا لا يكون محل العلم جوهراً فرداً ؟

والاعتراض على مقامين: المقام الأول أن يقال: بم تنكرون على من يقول. محل العلم جوهر فرد متحيز لا ينقسم، وقد عرف هذا من مذهب المتكلمين. ولا يبقى بعده إلا استبعاد وهو أنه كيف تحل العلوم كلها في جوهر فرد وتكون جميع الجواهر المطيفة بها معطلة مجاورة. والاستبعاد لا خير فيه إذ يتوجه على مذهبهم أيضاً أنه كيف تكون النفس شيئاً واحداً لا يتحيز ولا يشار إليه ولا يكون داخل البدن ولا خارجه ولا متصلاً بالجسم ولا منفصلاً عنه.

لكن هذه المسألة يطول حلها

إلا أنا لا نؤثر هذا المقام فإن القول في مسألة الجزء الذي لا يتجزى طويل ولهم فيه أدلة هندسية يطول الكلام عليها ومن جملتها قولهم: جوهر فرد بين جوهرين، هل يلاقي أحد الطرفين منه عين ما يلاقيه الآخر أو غيره؟ فإن كان عينه فهو محال إذ يلزم منه تلاقي الطرفين فإن ملاقي الملاقي ملاق، وإن كان ما يلاقيه غيره ففيه إثبات التعدد والانقسام، وهذه شبهة يطول حلها وبنا غنية عن الخوض فيها، فلنعدل إلى مقام آخر. إن الشاة تدرك عداوة الذئب وهي لا تنقسم

المقام الثاني أن نقول: ما ذكرتموه من أن كل حال في جسم فينبغي أن ينقسم باطل عليكم بما تدركه القوة من الشاة من عداوة الذئب فإنها في حكم شيء وحد لا يتصور تقسيمه إذ ليس للعداوة بعض حتى يقدر إدراك بعضه وزوال بعضه، وقد حصل إدراكها في قوة جسمانية عندكم فإن نفس البهائم منطبعة في الأجسام لا تبقى بعد الموت. وقد اتفقوا عليه فإن أمكنهم أن يتكلفوا تقدير الانقسام في المدركات بالحواس الخمس وبالحس المشترك وبالقوة الحافظة للصور فلا يمكنهم تقدير الانقسام في هذه المعاني التي ليس من شرطها أن تكون في مادة.

قد يقال ليس الكلام عن العداوة المجردة

فإن قيل: الشاة لا تدرك العداوة المطلقة المجردة عن المادة بل تدرك عداوة الذئب المعين المشخص مقروناً بشخصه وهيكله. والقوة العاقلة تدرك الحقائق مجردة عن المواد والأشخاص.

الإدراك لا ينقسم

قلنا: الشاة قد أدركت لون الذئب وشكله ثم عداوته، فإن كان اللون ينطبع في القوة الباصرة وكذى الشكل وينقسم بانقسام محل البصر فالعداوة بماذى تدركها؟ فإن أدرك بجسم فلينقسم وليت شعري ما حال ذلك الإدراك إذا قسم، وكيف يكون بعضه؟ أهو إدراك لبعض العداوة فكيف يكون لها بعض؟ أو كل قسم إدراك لكل العداوة فتكون العداوة معلومة مراراً بثبوت إدراكها في كل قسم من أقسام المحل. فإذن هذه شبهة مشكلة لهم في برهانهم فلا بد من الحل.

قد يقال لا شك في المقدمتين

فإن قيل: هذه مناقضة في المعقولات والمعقولات لا تنقض فإنكم مهما لم تقدروا على الشك في المقدمتين، وهو أن العلم الواحد لا ينقسم وأن ما لا ينقسم لا يقوم بجسم منقسم، لم يمكنكم الشك في النتيجة.

جوابنا بينا أن أقوالهم تتناقض

والجواب أن هذا الكتاب ما صنفناه إلا لبيان التهافت والتناقض في كلام الفلاسفة، وقد حصل إذ انتقض به أحد الأمرين: إما ما ذكروه في النفس الناطقة أو ما ذكروه في القوة الوهمية.

ليس العلم كاللون

ثم نقول: هذه المناقضة تبين أنهم غفلوا عن موضع تلبيس في القياس ولعل موضع الالتباس قولهم إن العلم منطبع في الجسم انطباع اللون في المتلون، وينقسم اللون بانقسام المتلون فينقسم العلم بانقسام محله. والخلل في لفظ الانطباع إذ يمكن أن لا تكون نسبة العلم إلى محله كنسبة اللون إلى المتلون حتى يقال إنه منبسط عليه ومنطبع فيه ومنتشر في جوانبه فينقسم بانقسامه. فلعل نسبة العلم إلى محله على وجه آخر وذلك الوجه لا يجوز فيه الانقسام عند انقسام المحل بل نسبته إليه كنسبة إدراك العداوة إلى الجسم. ووجوه نسبة الأوصاف إلى محلها ليست محصورة في فن واحد ولا هي معلومة التفاصيل لنا علماً نثق به، فالحكم عليه دون الإحاطة بتفصيل النسبة حكم غير موثوق به.

لا دليل لهم

وعلى الجملة لا ينكر أن ما ذكروه مما يقوي الظن ويغلبه وإنما ينكر كونه معلوماً يقيناً علماً لا يجوز الغلط فيه ولا يتطرق إليه الشك وهذا القدر مشكك فيه.

دليل ثان

دليلهم الثاني للعلم نسبة إلى العالم

قالوا: إن كان العلم بالمعلوم الواحد العقلي وهو المعلوم المجرد عن المواد منطبعاً في المادة انطباع الأعراض في الجوهر الجسمانية لزم انقسامه بالضرورة بانقسام الجسم كما سبق، وإن لم يكن منطبعاً فيه ولا منبسطاً عليه واستكره لفظ الانطباع فنعدل إلى عبارة أخرى ونقول: هل للعلم نسبة إلى العالم أم لا؟ ومحال قطع النسبة فإنه إن قطعت النسبة عنه فكونه عالماً به لم صار أولى من كون غيره عالماً؟

وهذه النسبة تكون من ثلاثة أقسام

إما إلى الكل أو إلى البعض أو لا تكون، وثلاثتها باطلة

وإن كان له نسبة فلا يخلوا من ثلثة أقسام: إما أن تكون النسبة لكل جزء من أجزاء المحل أو تكون لبعض أجزاء المحل دون البعض أو لا يكون لواحد من الأجزاء نسبة إليه. وباطل أن يقال: لا نسبة لواحد من الأجزاء، فإنه إذا لم يكن للآحاد نسبة لم يكن للمجموع نسبة فإن المجتمع من المباينات مباين. وباطل أن يقال: النسبة للبعض، فإن الذي لا نسبة له ليس هو من معناه في شيء وليس كلامنا عنه. وباطل أن يقال: لكل جزء مفروض نسبة إلى الذات، لأنه إن كانت النسبة إلى ذات العلم بأسره فمعلوم كل واحد من الأجزاء ليس هو جزءاً من المعلوم كما هو فيكون معقولاً مرات لا نهاية لها بالفعل، وإن كان كل جزء له نسبة أخرى غير النسبة التي للجزء الآخر إلى ذات العلم فذات العلم إذن منقسمة في المعنى، وقد بينا أن العلم بالمعلوم الواحد من كل وجه لا ينقسم في المعنى، وإن كان نسبة كل واحد إلى شيء من ذات العلم غير ما إليه نسبة الآخر فانقسام ذات العلم بهذا أظهر وهو محال.

في الحس أقسام

ومن هذا يتبين أن المحسوسات المنطبعة في الحواس الخمس لا تكون إلا أمثلة لصور جزئية منقسمة، فإن الإدراك معناه حصول مثال المدرك في نفس المدرك، ويكون لكل جزء من مثال المحسوس نسبة إلى جزء من الآلة الجسمانية.

اعتراضنا وهذا شأن عداوة الذئب

والاعتراض على هذا ما سبق فإن تبديل لفظ الانطباع بلفظ النسبة لا يدرأ الشبهة فيما ينطبع في القوة الوهمية للشاة من عداوة الذئب كما ذكروه فإنه إدراك لا محالة وله نسبة إليه، ويلزم في تلك النسبة ما ذكرتموه فإن العداوة ليس أمراً مقدراً له كمية مقدارية حتى ينطبع مثالها في جسم مقدر وتنتسب أجزاؤها إلى أجزائه، وكون شكل الذئب مقدراً لا يكفي فإن الشاة أدركت شيئاً سوى شكله وهو المخالفة والمضادة والعداوة، والزيادة على الشكل من العداوة ليس لها مقدار وقد أدركته بجسم مقدر. فهذه الصور مشككة في هذا البرهان كما في الأول.

قد يقال هلا تعترضون على الجوهر الفرد؟

فإن قال قائل: هلا دفعتم هذه البراهين بأن العلم يحل من الجسم في جوهر متحيز لا يتجزى وهو الجزء الفرد.

جوابنا هذا البحث طويل لا فائدة فيه

قلنا: لأن الكلام في الجوهر الفرد يتعلق بأمور هندسية يطول القول في حلها. ثم ليس فيه ما يدفع الإشكال فإنه يلزم أن تكون القدرة والإرادة أيضاً في ذلك الجزء فإن للإنسان فعلاً ولا يتصور ذلك إلا بقدرة وإرادة ولا يتصور الإرادة إلا بعلم وقدرة الكتابة في اليد والأصابع، والعلم بها ليس في اليد إذ لا يزول بقطع اليد ولا إرادتها في اليد فإنه قد يريدها بعد شلل اليد وتتعذر لا لعدم الإرادة بل لعدم القدرة.

دليل ثالث

دليلهم الثالث الإنسان دون الجزء هو العالم

قولهم: العلم لو كان في جزء من الجسم لكان العالم ذلك الجزء دون سائر أجزاء الإنسان، والإنسان يقال له عالم والعالمية صفة له على الجملة من غير نسبة إلى محل مخصوص

جوابنا وهو المبصر!

وهذا هوس فإنه يسمى مبصراً وسامعاً وذائقاً، وكذى البهيمة توصف به وذلك لا يدل على أن إدراك المحسوسات ليس بالجسم بل هو نوع من التجوز كما يقال فلان في بغداذ وإن كان هو في جزء من جملة بغداذ لا في جملتها ولكن يضاف إلى الجملة.

دليل رابع

دليلهم الرابع قد يكون العلم والجهل في المحل الواحد

إن كان العلم يحل جزءاً من القلب أو الدماغ مثلاً فالجهل ضده فينبغي أن يجوز قيامه بجزء آخر من القلب أو الدماغ ويكون الإنسان في حالة واحدة عالماً وجاهلاً بشيء واحد، فلما استحال ذلك تبين أن محل الجهل هو محل العلم وأن ذلك المحل واحد يستحيل اجتماع الضدين فيه فإنه لو كان منقسماً لما استحال قيام الجهل ببعضه والعلم ببعضه لأن الشيء في محل لا يضاده ضده في محل آخر، كما تجتمع البلقة في الفرس الواحد والسواد والبياض في العين الواحدة ولكن في محلين.

الحواس لا ضد لإدراكاتها

ولا يلزم هذا في الحواس فإنه لا ضد لإدراكاتها ولكنه قد يدرك وقد لا يدرك فليس بينهما إلا تقابل الوجود والعدم. فلا جرم نقول: يدرك ببعض أجزائه كالعين والأذن ولا يدرك بسائر بدنه، وليس فيه تناقض.

في المحل الواحد بغير المجاز

ولا يغني عن هذا قولكم إن العالمية مضادة للجاهلية، والحكم عام لجميع البدن إذ يستحيل أن يكون الحكم في غير محل العلة فالعالم هو المحل الذي قام العلم به، فإن أطلق الاسم على الجملة فبالمجاز، كما يقال: هو في بغداذ وإن كان هو في بعضها، وكما يقال: مبصر، وإن كنا بالضرورة نعلم أن حكم الإبصار لا يثبت للرجل واليد بل يختص بالعين، وتضاد الأحكام كتضاد العلل فإن الأحكام تقتصر على محل العلل.

في المحل المهيأ لكل من العلم والجهل

ولا يخلص من هذا قول القائل إن المحل المهيأ لقبول العلم والجهل من الإنسان واحد فيتضادان عليه، فإن عندكم أن كل جسم فيه حيوة فهو قابل للعلم والجهل ولم تشترطوا سوى الحيوة شريطة أخرى، وسائر أجزاء البدن عندكم في قبول العلم على وتيرة واحدة.

اعتراضنا ولا تكون الشهوة والنفرة في المحل الواحد

الاعتراض أن هذا ينقلب عليكم في الشهوة والشوق والإرادة فإن هذه الأمور تثبت للبهائم والإنسان، وهي معان تنطبع في الجسم، ثم يستحيل أن ينفر عما يشتاق إليه فيجتمع فيه النفرة والميل إلى شيء واحد بوجود الشوق في محل والنفرة في محل آخر، وذلك لا يدل على أنها لا تحل الأجسام وذلك لأن هذه القوى وإن كانت كثيرة ومتوزعة على آلات مختلفة فلها رابطة واحدة وهي النفس، وذلك للبهيمة والإنسان جميعاً، وإذا اتحدت الرابطة استحالت الإضافات المتناقضة بالنسبة إليه، وهذا لا يدل على كون النفس غير منطبع في الجسم كما في البهائم.

دليل خامس

دليلهم الخامس لولا ذلك لما عقل العقل نفسه

قولهم: إن كان العقل يدرك المعقول بآلة جسمانية فهو لا يعقل نفسه والتالي محال فإنه يعقل نفسه فالمقدم محال.

جوابنا ما الدليل عليه؟

قلنا: مسلم أن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم ولكن إذا ثبت اللزوم بين التالي والمقدم،، بل نقول: ما يسلم لزوم التالي وما الدليل عليه؟

قد يقال الإبصار لا يبصر

فإن قيل: الدليل عليه أن الإبصار لما كان بجسم فالإبصار لا يتعلق بالأبصار فالرؤية لا ترى والسمع لا يسمع وكذى سائر الحواس. فإن كان العقل أيضاً لا يدرك إلا بجسم فلم يدرك نفسه، والعقل كما يعقل غيره يعقل نفسه فإن الواحد منا كما يعقل غيره يعقل نفسه ويعقل أنه عقل غيره وأنه عقل نفسه.

جوابنا هذا يجوز بخرق العادات

قلنا: ما ذكرتموه فاسد من وجهين: أحدهما أن الإبصار عندنا يجوز أن يتعلق بنفسه فيكون إبصاراً لغيره ولنفسه كما يكون العلم الواحد علماً بغيره وعلماً بنفسه. ولكن العادة جارية بخلاف ذلك وخرق العادات عندنا جائز.

فيكون حاسة منفردة

والثاني وهو أقوى أنا سلمنا هذا في الحواس ولكن لم إذا امتنع ذلك في بعض الحواس يمتنع في بعض؟ وأي بعد في أن يفترق حكم الحواس في وجه الإدراك مع اشتراكها في أنها جسمانية،؟ كما اختلف البصر واللمس في أن اللمس لا يفيد الإدراك إلا باتصال الملموس بالآلة اللامسة، وكذى الذوق ويخالفه البصر فإنه يشترط فيه الانفصال حتى لو أطبق أجفانه لم ير لون الجفن لأنه لم يبعد عنه، وهذا الاختلاف لا يوجب الاختلاف في الحاجة إلى الجسم فلا يبعد أن يكون في الحواس الجسمانية ما يسمى عقلاً ويخالف سائرها في أنها تدرك نفسها.

دليل سادس

دليلهم السادس لولا ذلك لما أدرك العقل القلب

قالوا: لو كان العقل يدرك بآلة جسمانية كالأبصار لما أدرك آلته كسائر الحواس ولكنه يدرك الدماغ والقلب وما يدعى آلته، فدل أنه ليس آلة له ولا محلاً وإلا لما أدركه.

اعتراضنا كما سبق

والاعتراض على هذا كالاعتراض على الذي قبله. فإنا نقول: لا يبعد أن يدرك الإبصار محله ولكنه حوالة على العادة. أو نقول: لم يستحيل أن تفترق الحواس في هذا المعنى وإن اشتركت في الانطباع في الأجسام كما سبق؟ ولم قلتم أن ما هو قائم في جسم يستحيل أن يدرك الجسم الذي هو محله ولم يلزم أن يحكم من جزئي معين على كلي مرسل؟

لا يحكم ببعض الحواس على جميعها

ومما عرف بالاتفاق بطلانه وذكر في المنطق أن يحكم بسبب جزئي أو جزئيات كثيرة على كلي حتى مثلوه بما إذا قال الإنسان إن كل حيوان فإنه يحرك عند المضغ فكه الأسفل لأنا استقرأنا الحيوانات كلها فرأيناها كذلك، فيكون ذلك لغفلته عن التمساح فإنه يحرك فكه الأعلى وهؤلاء لم يستقرئوا إلا الحواس الخمس، فوجدوها على وجه معلوم فحكموا على الكل به. فلعل العقل حاسة أخرى تجري من سائر الحواس مجرى التمساح من سائر الحيوانات، فتكون إذن الحواس مع كونها جسمانية منقسمة إلى ما يدرك محلها وإلى ما لا يدرك كما انقسمت إلى ما يدرك مدركه من غير مماسة كالبصر وإلى ما لا يدرك إلا باتصال كالذوق واللمس. فما ذكروه أيضاً إن أورث ظناً فلا يورث يقيناً موثوقاً به.

قد يقال على العقل أن يدرك القلب دائماً إما ألا يدركه أبداً

فإن قيل: لسنا نعول على مجرد الاستقراء للحواس بل نعول على البرهان ونقول: لو كان القلب أو الدماغ هو نفس الإنسان لكان لا يعزب عنه إدراكهما حتى لا يخلوا عن أن يعقلهما جميعاً كما أنه لا يخلوا عن إدراك نفسه، فإن أحداً لا يعزب ذاته عن ذاته بل يكون مثبتاً لنفسه في نفسه أبداً، والإنسان ما لم يسمع حديث القلب والدماغ أو لم يشاهد بالتشريح من إنسان آخر لا يدركهما ولا يعتقد وجودهما. فإن كان العقل حالاً في جسم فينبغي أن يعقل ذلك الجسم أبداً أو لا يدركه أبداً وليس واحد من الأمرين بصحيح بل يعقل حالة ولا يعقل حالة.

فهناك نسبة واحدة

وهذا التحقيق وهو أن الإدراك الحال في محل إنما يدرك المحل لنسبة له إلى المحل، ولا يتصور أن يكون له نسبة إليه سوى الحلول فيه فليدركه أبداً، وإن كان هذه النسبة لا تكفي فينبغي أن لا يدرك أبداً إذ لا يمكن أن يكون له نسبة أخرى إليه كما أنه لما أن كان يعقل نفسه عقل نفسه أبداً ولم يغفل عنه بحال.

جوابنا الإنسان يشعر بجسده

قلنا: الإنسان ما دام يشعر بنفسه ولا يغفل عنه فإنه يشعر بجسده وجسمه. نعم لا يتعين له اسم القلب وصورته وشكله ولكنه يثبت نفسه جسماً حتى يثبت نفسه في ثيابه وفي بيته، والنفس الذي ذكروه لا يناسب البيت والثوب.

دائماً وإن على وجه غير معين

فإثباته لأصل الجسم ملازم له وغفلته عن شكله واسمه كغفلته عن محل الشم وإنهما زائدتان في مقدم الدماغ شبيهتين بحلمتي الثدي، فإن كل إنسان يعلم أنه يدرك الرائحة بجسمه ولكن محل الإدراك لا يتشكل له ولا يتعين وإن كان يدرك أنه إلى الرأس أقرب منه إلى العقب ومن جملة الرأس إلى داخل الأنف أقرب منه إلى داخل الأذن. فكذلك يشعر الإنسان بنفسه ويعلم أن هويته التي بها قوامه إلى قلبه وصدره أقرب منه إلى رجله فإنه يقدر نفسه باقياً مع عدم الرجل ولا يقدر على تقدير نفسه باقياً مع عدم القلب، فما ذكروه من أنه يغفل عن الجسم تارة وتارة لا يغفل عنه ليس كذلك.

دليل سابع

دليلهم السابع أن القوى الآلية يعرض لها من المواظبة على العمل كلال

قالوا القوى الدراكة بالآلات الجسمانية يعرض لها من المواظبة على العمل بإدامة الإدراك كلال لأن إدامة الحركة تفسد مزاج الأجسام فتكلها، وكذلك الأمور القوية الجلية الإدراك توهنها وربما تفسدها حتى لا تدرك عقيبها الأخفى الأضعف كالصوت العظيم للسمع والنور العظيم للبصر فإنه ربما يفسد أو يمنع عقيبه من إدراك الصوت الخفي والمرئيات الدقيقة، بل من ذاق الحلاوة الشديدة لا يحس بعده بحلاوة دونه.

والأمر في القوة العقلية بالعكس

والأمر القوة العقلية بالعكس فإن إدامتها للنظر إلى المعقولات لا يتعبها ودرك الضروريات الجلية يقويها على درك النظريات الخفية ولا يضعفها، وإن عرض لها في بعض الأوقات كلال فذلك لاستعمالها القوة الخيالية واستعانتها بها فتضعف آلة القوة الخيالية فلا تخدم العقل.

قولنا الحواس تختلف بعضها عن بعض

وهذا من الطراز السابق فإنا نقول: لا يبعد أن تختلف الحواس الجسمانية في هذه الأمور فليس ما يثبت منها للبعض يجب أن يثبت للآخر، بل لا يبعد أن تتفاوت الأجسام فيكون منها ما يضعفها نوع من الحركة ومنها ما يقويها نوع من الحركة ولا يوهنها وإن كان يؤثر فيها فيكون ثم سبب يجدد قوتها بحيث لا تحس بالأثر فيها. فكل هذا ممكن إذا الحكم الثابت لبعض الأشياء ليس يلزم أن يثبت لكله.

دليل ثامن

دليلهم الثامن العقل لا تعتريه الشيخوخة

قالوا: أجزاء البدن كلها تضعف قواها بعد منتهى النشو والوقوف عند الأربعين سنة فما بعدها فيضعف البصر والسمع وسائر القوى والقوة العقلية في أكثر الأمر إنما تقوى بعد ذلك.

يعوقه المرض

ولا يلزم على هذا تعذر النظر في المعقولات عند حلول المرض في البدن وعند الخرف بسبب الشيخوخة، فإنه مهما بان أنه يتقوى مع ضعف البدن في بعض الأحوال فقد بان قوامه بنفسه، فتعطله عند تعطل البدن لا يوجب كونه قائماً بالبدن فإن استثناء عين التالي لا ينتج فإنا نقول: إن كانت القوة العقلية قائمة بالبدن فيضعفها ضعف البدن بكل حال والتالي محال فالمقدم محال. وإذا قلنا: التالي موجود في بعض الأحوال، فلا يلزم أن يكون المقدم موجوداً.

ولهذا الأمر مدلول

ثم السبب فيه أن النفس لها فعل بذاتها إذا لم يعق عائق ولم يشغلها شاغل، فإن للنفس فعلين: فعل بالقياس إلى البدن وهو السياسة له وتدبيره وفعل بالقياس إلى مبادئه وإلى ذاته وهو إدراك المعقولات، وهما متمانعان متعاندان فمهما اشتغل بأحدهما انصرف عن الآخر وتعذر عليه الجمع بين الأمرين. وشواغله من جهة البدن الإحساس والتخيل والشهوات والغضب والخوف والغم والوجع، فإذا أخذت تفكر في معقول تعطل عليك كل هذه الأشياء الأخر. بل مجرد الحس قد يمنع من إدراك العقل ونظره من غير أن يصيب آلة العقل شيء أو يصيب ذاتها آفة، والسبب في كل ذلك اشتغال النفس بفعل عن فعل ولذلك يتعطل نظر العقل عند الوجع والمرض والخوف فإنه أيضاً مرض في الدماغ. وكيف يستبعد التمانع في اختلاف جهتي فعل النفس؟ وتعدد الجهة الواحدة قد يوجب التمانع فإن الفرق يذهل عن الوجع والشهوة عن الغضب والنظر في معقول عن معقول آخر.

إذا عاد المريض صحيحاً عاد العلم من غير استئناف تعلم

وآية أن المرض الحال في البدن ليس يتعرض لمحل العلوم، أنه إذا عاد صحيحاً لم يفتقر إلى تعلم العلوم من رأس بل تعود هيئة نفسه كما كانت وتعود تلك العلوم بعينها من غير استئناف تعلم.

اعتراضنا هناك أسباب كثيرة لزيادة بعض الحواس

والاعتراض أن نقول: نقصان القوى وزيادتها لها أسباب كثيرة لا تنحصر، فقد يقوى بعض القوى في ابتداء العمر وبعضها في الوسط وبعضها في الآخر وأمر العقل أيضاً كذلك. فلا يبقى إلا أن يدعى الغالب.

مثل الشم

ولا بعد في أن يختلف الشم والبصر في أن الشم يقوى بعد الأربعين والبصر يضعف وإن تساويا في كونهما حالين في الجسم، كما تتفاوت هذه القوى في الحيوانات فيقوى الشم من بعضها والسمع من بعضها والبصر من بعضها لاختلاف في أمزجتها لا يمكن الوقوف على ضبطه، فلا يبعد أن يكون مزاج الآلات أيضاً يختلف في حق الأشخاص وفي حق الأحوال.

والعقل

ويكون أحد الأسباب في سبق الضعف إلى البصر دون العقل أن البصر أقدم فإنه مبصر في أول فطرته ولا يتم عقله إلا بعد خمسة عشر سنة أو زيادة على ما يشاهد اختلاف الناس فيه، حتى قيل إن الشيب إلى شعر الرأس أسبق منه إلى شعر اللحية لأن شعر الرأس أقدم. فهذه الأسباب إن خاض الخائض فيها ولم يرد هذه الأمور إلى مجاري العادات فلا يمكن أن ينبنى عليها علم موثوق به لأن جهات الاحتمال فيما تزيد بها القوى أو تضعف لا تنحصر فلا يورث شيء من ذلك يقيناً.

دليل تاسع

دليلهم التاسع مهما تبدل الجسم فالإنسان يبقى بعينه ومعه علوم

قالوا: كيف يكون الإنسان عبارة عن الجسم مع عوارضه؟ وهذه الأجسام لا تزال تنحل والغذاء يسد مسد ما ينحل، حتى إذا رأينا صبياً انفصل من الجنين فيمرض مراراً ويذبل ثم يسمن وينموا فيمكننا أن نقول: لم يبق فيه بعد الأربعين شيء من الأجزاء التي كانت موجودة عند الانفصال بل كان أول وجوده من أجزاء المني فقط ولم يبق فيه شيء من أجزاء المني بل انحل كل ذلك وتبدل بغيره. فيكون هذا الجسم غير ذلك الجسم. ونقول: هذا الإنسان هو ذلك الإنسان بعينه وحتى أنه يبقى معه علوم من أول صباه ويكون قد تبدل جميع أجسامه. فدل أن للنفس وجوداً سوى البدن وأن البدن آلته.

وكلك الشجرة

الاعتراض أن هذا ينتقض بالبهيمة والشجرة إذا قيست حالة كبرهما بحالة الصغر فإنه يقال إن هذا ذاك بعينه، كما يقال في الإنسان، وليس يدل ذلك على أن له وجوداً غير الجسم.

وتبقى الصور المتخيلة

وما ذكر في العلم يبطل بحفظ الصور المتخيلة فإنه يبقى في الصبي إلى الكبر وإن تبدل سائر أجزاء الدماغ فإن زعموا أنه لم يتبدل سائر أجزاء الدماغ فكذى سائر أجزاء القلب وهما من البدن فكيف يتصور أن يتبدل الجميع ؟

والإنسان يبقى منه شيء

بل نقول: الإنسان وإن عاش مائة سنة مثلاً فلا بد وأن يكون قد بقي فيه أجزاء من النطفة فأما أن تنمحى عنه فلا فهو ذلك الإنسان باعتبار ما بقي، كم أنه يقال: هذا ذاك الشجر وهذا ذاك الفرس، ويكون بقاء المني مع كثرة التحلل والتبدل.

مثل الماء الذي تصب عليه وتأخذ منه

مثاله ما إذا صب في موضع رطل من الماء ثم صب عليه رطل آخر حتى اختلط به ثم أخذ منه رطل ثم صب عليه رطل آخر ثم أخذ منه رطل ثم لا يزال يفعل كذلك ألف مرة فنحن في المرة الأخيرة نحكم بأن شيئاً من الماء الأول باق وأنه ما من رطل يؤخذ منه إلا وفيه شيء من ذلك الماء لأنه كان موجوداً في الكرة الثانية، والثالثة قريبة من الثانية والرابعة من الثالثة وهكذى إلى الآخر. وهذا على أصلهم ألزم حيث جوزوا انقسام الأجسام إلى غير نهاية، فانصباب الغذاء في البدن وانحلال أجزاء البدن يضاهي صب الماء في هذا الإناء واغترافه عنه.

دليل عاشر

دليلهم العاشر في العقل كليات عامة

قالوا: القوة العقلية تدرك الكليات العامة العقلية التي يسميها المتكلمون أحوالاً فتدرك الإنسان المطلق عند مشاهدة الحس لشخص إنسان معين وهو غير الشخص المشاهد فإن المشاهد في مكان مخصوص ولون مخصوص ومقدار مخصوص ووضع مخصوص، والإنسان المعقول المطلق مجرد عن هذه الأمور بل يدخل فيه كل ما ينطلق عليه اسم الإنسان وإن لم يكن على لون المشاهد وقدره ووضعه ومكانه، بل الذي يمكن وجوده في المستقبل يدخل فيه، بل لو عدم الإنسان يبقى حقيقة الإنسان في العقل مجرداً عن هذه الخواص، وهكذى كل شيء شاهده الحس مشخصاً فيحصل منه للعقل حقيقة ذلك الشخص كلياً مجرداً عن المواد والأوضاع حتى تنقسم أوصافه إلى ما هو ذاتي كالجسمية للشجر والحيوان والحيوانية للإنسان وإلى ما هو عرضي له كالبياض والطول للإنسان والشجر، ويحكم بكونه ذاتياً وعرضياً على جنس الإنسان والشجر وكل ما يدرك لا على الشخص المشاهد، فدل أن الكلي المجرد عن القرائن المحسوسة معقولة عنده وثابتة في عقله.

تجردها عن القرائن المحسوسة تتعلق بالنفس المجردة

وذلك الكلي المعقول لا إشارة إليه ولا وضع له ولا مقدار، فإما أن يكون تجرده عن الوضع والمادة بالإضافة إلى المأخوذ منه وهو محال فإن المأخوذ منه ذو وضع وأين ومقدار، وإما أن يكون بالإضافة إلى الآخذ وهو النفس العاقلة فينبغي أن لا يكون للنفس وضع ولا إليه إشارة ولا له مقدار، وإلا لو ثبت ذلك لثبت للذي حل فيه .

اعتراضنا ما يحل في الحس يحل في العقل، ولكن مفصلاً

والاعتراض أن المعنى الكلي الذي وضعتموه حالاً في العقل غير مسلم بل لا يحل في العقل إلا ما يحل في الحس ولكن يحل في الحس مجموعاً ولا يقدر الحس على تفصيله والعقل يقدر على تفصيله.

في العقل النسبة إلى جميع المفردات نسبة واحدة

ثم إذا فصل كان المفصل المفرد عن القرائن في العقل في كونه جزئياً كالمقرون بقرائنه، إلا أن الثابت في العقل يناسب المعقول وأمثاله مناسبة واحدة فيقال إنه كلي على هذا المعنى وهو أن في العقل صورة المعقول المفرد الذي أدركه الحس أولاً، ونسبة تلك الصورة إلى سائر آحاد ذلك الجنس نسبة واحدة فإنه لو رأى إنساناً آخر لم يحدث له هيئة أخرى كما إذا رأى فرساً بعد إنسان فإنه يحدث فيه صورتان مختلفتان.

ومثل هذا في الحس

ومثل هذا قد يعرض في مجرد الحس فإن من رأى الماء حصل في خياله صورة، فلو رأى الدم بعده حصلت صورة أخرى، فلو رأى ماء آخر لم تحدث صورة أخرى بل الصورة التي انطبعت في خياله من الماء مثال لكل واحد من آحاد المياه فقد يظن أنه كلي بهذا المعنى. فكذلك إذا رأى اليد مثلاً حصل في الخيال وفي العقل وضع أجزائه بعضها مع بعض وهو انبساط الكف وانقسام الأصابع عليه وانتهاء الأصابع على الأظفار، ويحصل مع ذلك صغره وكبره ولونه. فإن رأى يداً أخرى تماثله في كل شيء لم يتجدد له صورة أخرى بل لا تؤثر المشاهدة الثانية في إحداث شيء جديد في الخيال، كما إذا رأى الماء بعد الماء في إناء واحد على قدر واحد وقد يرى يداً أخرى تخالفه في اللون والقدر فيحدث له لون آخر وقدر آخر ولا يحدث له صورة جديدة لليد، فإن اليد الصغير الأسود يشارك اليد الكبير الأبيض في وضع الأجزاء ويخالفه في اللون والقدر، فما يساوي فيه الأول لا تتجدد صورته إذ تلك الصورة هي هذه الصورة بعينها وما يخالفه يتجدد صورته.

وهذا لا يؤذن بثبوت كلي في العقل لا وضع له أصلاً

فهذا معنى الكلي في العقل والحس جميعاً فإن العقل إذا أدرك صورة الجسم من الحيوان فلا يستفيد من الشجر صورة جديدة في الجسمية كما في الخيال بإدراك صورة الماءين في وقتين، وكذى في كل متشابهين وهذا لا يؤذن بثبوت كلي لا وضع له أصلاً. على أن العقل قد يحكم بثبوت شيء لا إشارة إليه ولا وضع كحكمه بوجود صانع العالم، ولكن من أين أن ذلك لا يتصور قيامه بجسم؟ وفي هذا القسم يكون المنتزع عن المادة هو المعقول في نفسه دون العقل والعاقل. فأما المأخوذ من المواد فوجهه ما ذكرناه.