مسألة في إبطال قولهم إن النفوس الإنسانية يستحيل عليها العدم

بعد وجودها وأنها سرمدية لا يتصور فناؤها

فيطالبون بالدليل عليه. ولهم دليلان:

دليلهم الأول لا يكون بموت البدن

أحدهما قولهم إن عدمها لا يخلوا إما أن يكون بموت البدن أو بضد يطرى عليها أو بقدرة القادر. وباطل أن تنعدم بموت البدن فإن البدن ليس محلاً لها بل هو آلة تستعملها النفس بواسطة القوى التي في البدن، وفساد الآلة لا يوجب فساد مستعمل الآلة إلا أن يكون حالاً فيها منطبعاً كالنفوس البهيمية والقوى الجسمانية، ولأن النفس فعلاً بغير مشاركة الآلة وفعلاً بمشاركتها فالفعل الذي لها بمشاركة الآلة التخيل والإحساس والشهوة والغضب فلا جرم يفسد بفساد البدن ويفوت بفواته، وفعلها بذاتها دون مشاركة البدن إدراك المعقولات المجردة عن المواد ولا حاجة في كونه مدركاً للمعقولات إلى البدن بل الاشتغال بالبدن يعوقها عن المعقولات، ومهما كان لها فعل دون البدن ووجود دون البدن لم تفتقر في قوامها إلى البدن.

ولا بالضد

وباطل أن يقال إنها تنعدم بالضد إذ الجواهر لا ضد لها، ولذلك لا ينعدم في العالم إلا الأعراض والصور المتعاقبة على الأشياء إذ تنعدم صورة المائية بضدها وهو صورة الهوائية، والمادة التي هي المحل لا تنعدم قط وكل جوهر ليس في محل فلا يتصور عدمه بالضد إذ لا ضد لما ليس في محل فإن الأضداد هي المتعاقبة على محل واحد.

ولا بالقدرة

وباطل أن يقال: تفنى بالقدرة، إذ العدم ليس شيئاً حتى يتصور وقوعه بالقدرة وهذا عين ما ذكروه في مسألة أبدية العالم وقد قررناه وتكلمنا عليه.

اعتراضنا الأول راجع ما سبق

والاعتراض عليه من وجوه: الأول أنه بناء على أن النفس لا يموت بموت البدن لأنه ليس حالاً في جسم، وهو بناء على المسألة الأولى فقد لا نسلم ذلك:

اعتراضنا الثاني حدوث النفس لا يكون إلا بحدوث البدن

الثاني هو أنه لا يحل البدن عندهم فله علاقة بالبدن حتى لم يحدث إلا بحدوث البدن. هذا ما اختاره ابن سينا والمحققون وأنكروا على أفلاطن أن النفس قديمة ويعرض لها الاشتغال بالأبدان بمسلك برهاني محقق.

كما تحقق الأمر

وهو أن النفوس قبل الأبدان، إن كانت واحدة فكيف انقسمت وما لا عظم له ولا مقدار لا يعقل انقسامه. وإن زعم أنه لم ينقسم فهو محال إذ يعلم ضرورة أن نفس زيد غير نفس عمرو ولو كانت واحدة لكانت معلومات زيد معلومة لعمرو فإن العلم من صفات ذات النفس وصفات الذات تدخل مع الذات في كل إضافة، وإن كانت النفوس متكثرة فماذى تكثرت؟ ولم تتكثر بالمواد ولا بالأماكن ولا بالأزمنة ولا بالصفات إذ ليس فيها ما يوجب اختلاف الصفة بخلاف النفوس بعد موت البدن فإنها تتكثر باختلاف الصفات عند من يرى بقاءها لأنها استفادت من الأبدان هيئات مختلفة لا تتماثل نفسان منها، فإن هيئاتها تحصل من الأخلاق والأخلاق قط لا تتماثل نفسان منها، فإن هيئاتها تحصل من الأخلاق والأخلاق قط لا تتماثل كما أن الخلق الظاهر قط لا يتماثل، ولو تماثلت لاشتبه علينا زيد بعمرو.

والنفس تتعلق بالبدن المخصوص ببعض الوسائط

ومهما ثبت بحكم هذا البرهان حدوثه عند حدوث النطفة في الرحم واستعداد مزاجها لقبول النفس المدبرة ثم قبلت النفس لا لأنها نفس فقط، إذ قد تستعد في رحم واحد نطفتان لتوأمين في حالة واحدة للقبول فيتعلق بهما نفسان يحدثان من المبدأ الأول بواسطة أو بغير واسطة ولا يكون نفس هذا مدبراً لجسم ذاك ولا نفس ذاك مدبراً لجسم هذا فليس الإختصاص إلا لعلاقة خاصة بين النفس المخصوص وبين ذلك البدن المخصوص، وإلا فلا يكون بدن أحد التوأمين بقبول هذه النفس أولى من الآخر، وإلا فقد حدثت نفسان معاً واستعدت نطفتان لقبول التدبير معاً.

فإذا بطل البدن انعدمت النفس

فما المخصص؟ فإن كان ذلك المخصص هو الانطباع فيه فيبطل ببطلان البدن، وإن كان ثم وجه آخر به العلاقة بين هذه النفس على الخصوص وبين هذا البدن على الخصوص حتى كانت تلك العلاقة شرطاً في حدوثه فأي بعد في أن تكون شرطاً في بقاءه؟ فإذا انقطعت العلاقة انعدمت النفس ثم لا يعود وجودها إلا بإعادة الله سبحانه وتعالى على سبيل البعث والنشور كما ورد به الشرع في المعاد.

قد يقال ليست هذه العلاقة، إلا بطريق الشوق

فإن قيل: أما العلاقة بين النفس والبدن فليس إلا بطريق نزاع طبيعي وشوق جبلي خلق فيها إلى هذا البدن خاصة يشغلها ذلك الشوق بها عن غيره من الأبدان ولا يخليها في لحظة فتبقى مقيدة بذلك الشوق الجبلي بالبدن المعين مصروفاً عن غيره. وذلك لا يوجب فساده بفساد البدن الذي هو مشتاق بالجبلة إلى تدبيره. نعم قد يبقى ذلك الشوق بعد مفارقة البدن إن استحكم في الحيوة اشتغالها بالبدن وإعراضها عن كسر الشهوات وطلب المعقولات فيتأذى بذلك الشوق مع فوات الآلة التي الشوق إلى مقتضاها.

وبمناسبة تخفى علينا

وأما تعين نفس زيد لشخص زيد في أول الحدوث فلسبب ومناسبة بين البدن والنفس لا محالة حتى يكون هذا البدن مثلاً أصلح لهذه النفس من الآخر لمزيد مناسبة بينهما فترجح اختصاصه، وليس في القوة البشرية إدراك خصوص تلك المناسبات، وعدم اطلاعنا على تفصيله لا يشككنا في أصل الحاجة إلى مخصص ولا يضرنا أيضاً في قولنا إن النفس لا تفنى بفناء البدن.

جوابنا قد تكون على وجه يحوج النفس في بقائها

قلنا: مهما غابت المناسبة عنا وهي المقتضية للاختصاص فلا يبعد أن تكون تلك المناسبة المجهولة على وجه يحوج النفس في بقائها إلى بقاء البدن حتى إذا فسد فسدت، فإن المجهول لا يمكن الحكم عليه بأنه يقتضي التلازم أم لا، فلعل تلك النسبة ضرورية في وجود النفس فإن انعدمت انعدمت، فلا ثقة بالدليل الذي ذكروه.

اعتراضنا الثالث تنعدم بقدرة الله

الاعتراض الثالث هو أنه لا يبعد أن يقال: تنعدم بقدرة الله تعالى، كما قررناه في مسألة سرمدية العالم.

اعتراضنا الرابع لعل هناك طرق غيرها

الاعتراض الرابع هو أن يقال: ذكرتم أن هذه الطرق الثلث في العدم تنحسم، فهو مسلم. فما الدليل على أن عدم الشيء لا يتصور إلا بطريق من هذه الطرق الثلث؟ فإن التقسيم إذا لم يكن دائراً بين النفي والإثبات فلا يبعد أن يزيد على الثلث والأربع، فلعل للعدم طريقاً رابعاً وخامساً سوى ما ذكرتموه، فحصر الطرق في هذه الثلث غير معلوم بالبرهان.

دليلهم الثاني كل جوهر يستحيل عليه العدم

دليل ثان وعليه تعويلهم أن قالوا: كل جوهر ليس في محل فيستحيل عليه العدم، بل البسائط لا تنعدم قط. وهذا الدليل يثبت فيه أولاً أن موت البدن لا يوجب انعدامه لما سبق.

ما ينعدم ففيه قوة الفساد وحامله يبقى

فبعد ذلك يقال: يستحيل أن ينعدم بسبب آخر بسبب آخر لأن كل ما ينعدم بسبب ما أي سبب كان ففيه قوة الفساد، أي إمكان العدم سابق على الانعدام، كما أن ما يطرى وجوده من الحوادث فيكون إمكان الوجود سابقاً على الوجود ويسمى إمكان الوجود قوة الوجود وإمكان العدم قوة الفساد. وكما أن إمكان الوجود وصف إضافي لا يقوم إلا بشيء حتى يكون إمكاناً بالإضافة إليه فكذلك إمكان العدم، ولذلك قيل إن كل حادث فيفتقر إلى مادة سابقة يكون فيها إمكان وجود الحادث وقوته، كما سبق في مسألة قدم العالم، فالمادة التي فيها قوة الوجود قابلة للوجود الطاري والقابل غير المقبول فيكون القابل موجوداً مع المقبول عند طريانه وهو غيره. فكذلك قابل العدم ينبغي أن يكون موجوداً عند طريان العدم حتى يعدم منه شيء كما وجد فيه شيء ويكون ما عدم غير ما بقي ويكون ما بقي هو الذي فيه قوة العدم وقبوله وإمكانه كما أن ما بقي عند طريان الوجود يكون غير ما طرى وقد كان ما فيه قوة قبول الطاري.

وهو كالمادة

فيلزم أن يكون الشيء الذي طرى عليه العدم مركباً من شيء انعدم ومن قابل للعدم بقي مع طريان العدم وقد كان هو حامل قوة العدم قبل طريان العدم ويكون حامل القوة كالمادة والمنعدم منها كالصورة.

لكن النفس غير مركبة

ولكن النفس بسيطة وهي صورة مجردة عن المادة لا تركيب فيها، فإن فرض فيها تركيب من صورة ومادة فنحن ننقل البيان إلى المادة التي هي السنخ والأصل الأول، إذ لا بد وأن ينتهي إلى أصل فنحيل العدم على ذلك الأصل وهو المسمى نفساً، كما نحيل العدم على مادة الأجسام فإنها أزلية أبدية، إنما تحدث عليها الصور وتنعدم منها الصور وفيها قوة طريان الصور عليها وقوة انعدام الصور منها فإنها قابلة للضدين على السواء وقد ظهر من هذا الوجود أن كل موجود أحدى الذات يستحيل عليه العدم.

إن قوة الوجود للشيء يكون لغير ذلك الشيء

ويمكن تفهيم هذا بصيغة أخرى وهو أن قوة الوجود للشيء يكون قبل وجود الشيء فيكون لغير ذلك الشيء ولا يكون نفس قوة الوجود. بيانه أن الصحيح البصر يقال أنه بصير بالقوة أي فيه قوة الإبصار، ومعناه أن الصفة التي لا بد منها في العين ليصح الإبصار موجودة، فإن تأخر الإبصار فلتأخر شرط آخر فيكون قوة الإبصار للسواد مثلاً موجوداً للعين قبل إبصار السواد بالفعل، فإن حصل إبصار السواد بالفعل لم يكن قوة إبصار ذلك السواد موجوداً عند وجود ذلك الإبصار إذ لا يمكن أن يقال: مهما حصل الإبصار فهو مع كونه موجوداً بالفعل موجود بالقوة، بل قوة الوجود لا يضام حقيقة الوجود الحاصل بالفعل أبداً.

لو انعدم الشيء البسيط

لاجتمع في الشيء الواحد قوة الوجود مع حصول الوجود

وإذا ثبتت هذه المقدمة فنقول: لو انعدم الشيء البسيط لكان إمكان العدم قبل العدم حاصلاً لذلك الشيء وهو المراد بالقوة، فيكون إمكان الوجود أيضاً حاصلاً فإن ما أمكن عدمه فليس واجب الوجود فهو ممكن الوجود، ولا نعني بقوة الوجود إلا إمكان الوجود فيؤدي إلى أن يجتمع في الشيء الواحد قوة وجود نفسه مع حصول وجوده بالفعل ويكون وجوده بالفعل هو عين قوة الوجود وقد بينا أن قوة الإبصار تكون في العين التي هي غير الإبصار ولا تكون في نفس الإبصار إذ يؤدي إلى أن يكون الشيء بالقوة والفعل وهما متناقضان، بل مهما كان الشيء بالقوة لم يكن بالفعل ومهما كان بالفعل لم يكن بالقوة، وفي إثبات قوة العدم للبسيط قبل العدم إثبات لقوة الوجود في حالة الوجود وهو محال.

راجع ما سبق في مسألة أزلية العالم

وهذا بعينه هو الذي قررناه لهم في مصيرهم إلى استحالة حدوث المادة والعناصر واستحالة عدمها في مسألة أزلية العالم وأبديته ومنشأ التلبيس وضعهم الإمكان وصفاً مستدعياً محلاً يقوم به. وقد تكمنا عليه بما فيه مقنع فلا نعيد فإن المسألة هي المسألة فلا فرق بين أن يكون المتكلم فيه جوهر مادة أو جوهر نفس.