أقول أن فتور الإيمان أيضاً مع أنه من الحماقة، فليس يقتضي الفتور في سلوك سبل السعادة، لولا الغفلة. فإن الناس في أمر الآخرة أربع فرق: فرقة اعتقدت الحشر والنشر والجنة والنار، كما نطقت به الشرائع، وأفصح عنه وصفه القرآن، وأثبتوا اللذات الحسية التي ترجع إلى المنكوح والمطعوم والمشموم والملموس والملبوس والمنظور إليه، واعترفوا بأنه يضاف إلى ذلك أنواع من السرور، وأصناف من اللذات التي لا يحيط بها وصف الواصفين، فهي "مما لا أعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". وأن ذلك يجري أبداً بلا انقطاع، وأنه لا ينال إلا بالعلم والعمل. وهؤلاء هم المسلمون كافة، بل المتبعون للأنبياء على الأكثر من اليهود والنصارى، وفرقة ثانية، وهم بعض الإلهيين الإسلاميين من الفلاسفة، اعترفوا بنوع من اللذة لا تخطر على قلب بشر كيفيتها، وسموها لذة عقلية. وأما الحسيات فأنكروا وجودها من خارج. ولكن أثبتوها على طريق التخيل في حالة النوم. ولكن النوم يتكدر بالتنبه، وذلك لا تكدر له بل هو على التأبيد. وزعموا أن ذلك يثبت لطائفة من المشغوفين بالمحسوسات، والذين التفات نفوسهم مقصور عليها، ولا يسمون إلى اللذات العقلية. وهذا لا يفضي إلى أمر يوجب فتوراً في الطلب، فإن الالتذاذ إنما يقع بما يحصل في نفس الإنسان من التأثر بالملموس والمنظور والمطعوم وغيره. والشيء الخارج سبب في حصول الأثر، وليست اللذة من الأثر الخارج بل من الأثر الحاصل عند حضور الخارج. فإذا أمكن حصول الأثر في النفس دون الشيء الخارج، كما في حالة النوم، فلا أرب في الشيء الخارج. وفرقة ثالثة ذهبوا إلى إنكار اللذة الحسية جملة، بطريق الحقيقة والخيال، وزعموا أن التخيل لا يحصل إلا بآلات جسمانية، والموت يقطع العلاقة بين النفس والبدن، الذي هو آلته في التخيل وسائر الاحساسات، ولا يعود قط إلى تدبير البدن بعد أن أطرحه، فلا يبقى له إلا آلام ولذات ليست حسية ولكنها أعظم من الحسية. فإن الإنسان في هذا العالم أيضاً ميله إلى اللذات العقلية، ونفرته عن الآلام العقلية أشد، ولذلك يكرهون في الطلب إراقة ماء الوجه، ويؤثرون الاحتزاز عن الافتضاح، والاستتار في قضاء شهوة الفرج، ومقاساة الآلام والمشقات. بل قد يؤثر الإنسان ترك الطعام يوماً أو يومين، ليتوصل به إلى لذة الغلبة في الشطرنج، مع حسيته، ولذة الغلبة عقلية. وقد يهجم على عدد كبير من المقاتلين ليقتل ويعتاض عنه ما يقدره في نفسه من لذة الحمد والوصف بالشجاعة.
وزعموا أن الحسيات، بالإضافة إلى اللذات الكائنة في الدار الآخرة في غاية القصور. وتكاد يكون نسبتها كنسبة إدراك رائحة المطعوم اللذيذ إلى ذوقه ونسبة النظر في وجه المعشوق إلى مضاجعته ومجامعته، بل أبعد منه نسبة. وزعموا أن ذلك لما بعد عن فهم الجماهير مثّلت لهم تلك اللذات بما عرفوها من الحسيات، كما أن الصبي يشتغل بالتعلم لينال به القضاء أو الوزارة، وهو لا يدرك في الصبي لذاتهما، فيوعد بأمور يلتذ بها كثيراً كصولجان يلعب به، أو عصفور يعبث به وأمثاله، وأين لذة اللعب بالعصفور من لذة الملك والوزارة؟ ولكن لما قصر فهمه عن درك الأعلى مثّل بالأخس، ورّغب فيه تلطفاً باستدراجه إلى ما فيه سعادته. وهذا أيضاً إذا صح، فلا يوجب فتوراً في الطلب، بل يوجب زيادة الجد. وإلى هذا ذهبت الصوفية والإلهيون من الفلاسفة من عند آخرهم، حتى أن مشايخ الصوفية صرّحوا ولم يتحاشوا، وقالوا: من يعبد الله لطلب الجنة أو للحذر من النار فهو لئيم. وإنما مطلب القاصدين إلى الله أمر أشرف من هذا. ومن رأى مشايخهم وبحث عن معتقداتهم وتصفح كتب المصنّفين منهم، فهم هذا الاعتقاد من مجاري أحوالهم على القطع. وفرقة رابعة وهم جماهير من الحمقى، لا يُعرفون بأسمائهم ولا يعدون في زمرة النظار، ذهبوا إلى أن الموت عدم محض، وإن الطاعة والمعصية لا عاقبة لهما، ويرجع الإنسان بعد موته إلى العدم، كما كان قبل وجوده. وهؤلاء لا يحل تسميتهم فرقة، فإن الفرقة عبارة عن جمع، وليس هذا مذهب جمع، ولا منسوباً إلى ناظر معروف، بل هو معتقد أحمق بطّال غلبت عليه شهوته، واستولى عليه شيطانه، فلم يقدر على قمع هواه، ولم تسمح له رعونته بأن يعترف بالعجز عن مقاومة الهوى، فيتعلل لنقصانه بأن ذلك واجب وأنه الحق. ثم أحبّ أن يساعده غيره، فدعا إلى البطالة وما جلبت عليه النفس من اتباع الهوى الذي هو أشد حامل للأحمق على المسارعة إلى التصديق به، لا سيما وقد يحتال بعض الفسقة بنسبة هذا المعتقد إلى معروف بدقائق العلوم، كأرسطو طاليس وافلاطون، أو إلى فرقة كالفلاسفة، ويستدرج السامع بأن معرفتك لا تزيد على معرفتهم، وقد بحثوا زماناً وما تحصلوا على طائل. ولا يشعر ذلك المسكين بتلبيسه، فيصدقه لموافقته طبعه، ولا يطالبه بالبرهان في نقل المذهب عمّن نقله. ولو أخبره بأثر يتعلق به خسران درهم، لكان لا يصدقه إلا ببرهان، ولو قال: إن أباك أقر لفلان بعشرة الدراهم التي خلفها لك، ومعه به سجّل فيه خط الشهود، لقال: ما الحجة فيه وأين الشاهد الحي الذي يشهد به؟ وأي خبر في السجّل المكتوب، وفي نقل الخطوط؟ ثم يصدّقه في نقل مذهب من سمّاه من غير شاهدين يشهدان على سماعه، ومن غير عرض خطّ ذلك المذكور، ومن غير عرض تصنيف من تصانيفه، ولو بخط غيره. ثم لو سمع ذلك المذكور بإذنه يصرّح بذلك، لكان ينبغي أن يتوقف في القبول زاعماً أنه لا برهان عليه، وأن كان أخذه تقليداً. فتقليد الأنبياء والأولياء والعلماء، بل تقليد الجماهير والدهماء من الخلق أولى من تقليد واحد ليس معصوماً من الخطأ. فأنت الآن أيها المسترشد، بعد أن عرفت هذه المعتقدات، لا يخلو حالك في اعتقاد الفرقة الضالة عن أربعة أقسام: إما أن تكون قاطعاً ببطلانه، أو ظاناً لبطلانه، أو ظاناً لصحته ظناً غالباً، ومجوزاً لبطلانه بطريق الإمكان البعيد، أو قاطعاً بصحته. وكيف ما كنت فعقلك يوجب عليك الاشتغال بالعلم والعمل، والإعراض عن ملاذ الدنيا، إن سلم عليك عقلك، وصحّت خبرتك. وذلك لا يخفى إن كنت قاطعاً ببطلانه. وإن كنت تظنّ بطلانه ظناً غالباً، تقاضاك عقلك التشمير في طلبه، كما يتقاضى العقل تجشم المصاعب في ركوب البحر، لطلب الربح، وفي تعلم العلم في أول الشباب، لطلب الرياسة عند من يطلبها، وفي نيل الوزارة أو باب من أبواب الكرامة بمقاساة مقدماتها. وعواقب تلك الأمور مظنونة، وليست مقطوعاً بها، بل إذا غلب على ظنّ الحريص على الدنيا أن الكيمياء له وجود، ويحتمل عنده عدمها، وعلم أن تعب شهر يوصله إليها، إن كان لها وجود، ثم يتنعم بها بقية عمره الذي يمكن أن يكون أقل من شهر، وأن يكون كثيراً، تقاضاه عقله أن يحتمل التعب في ذلك الشهر ويستحقره، وإن كان معلوماً وعاجلاً، بالإضافة إلى ما يظنه وإن كان آجلاً ولم يكن مقطوعاً به. وإن كنت تظن صحته ظناً غالباً، ولكن بقي من نفسك تجويز صدق الأنبياء والأولياء وجماهير العلماء، ولو على بعد، فعقلك أيضاً يتقاضاك سلوك طريق الأمن، واجتناب مثل هذا الخطر العائل. فإنك لو كنت في جوار ملك وأمكنك أن تتعاطى في واحد من محارمه مثلاً عملاً من الأعمال، تظن ظناً غالباً أن يقع منه موقع الرضا، فيعطيك عليه خلعة وديناراً، ويحتمل احتمالاً على خلاف الظن الغالب أنه يقع منه موقع السخط، فيتكّل بك ويفضحك، ويديم عقوبتك طول عمرك، أشار عليك عقلك بأن الصواب أن لا تقتحم هذا الخطر. فإنك إن فعلت وأصبت، فمزيته دينار لا يطول بقاؤه معك، وإن أخطأت فنكاله عظيم، يبقى معك طول عمرك، ليس تفي ثمرة صوابه بغائله خطئه. ولذلك إذا وجدت طعاماً وأخبرك جماعة بأنه مسموم، أو شخص واحد حاله دون حال نبي واحد، فضلاً عن أن يقدر على التأييد بالمعجزة، وغلب على ظنك كذبه، كما غلب على ظنك الآن كذب الأنبياء كلهم، ولكن جوّزت مع ذلك صدقه وعلمت أنه ليس في أكله إلا التلذذ بطعمه وحلاوته وقت الذوق، وإن كان مسموماً ففيه الهلاك، فعقلك أيضاً يشير عليك باجتناب الخطر، إن كنت من زمرة العقلاء. ولهذا قال علي رضي الله تعالى عنه لمن كان يشاغبه ويماريه في أمر الآخرة: "إن كان الأمر على ما زعمت تخلصنا جميعاً. وإن كان الأمر كما قلت، فقد هلكت ونجوت". ولا ينبغي أن تظن أن هذا تشكيك منه في اليوم الآخر ولكنه زجر على حدّ جهل المخاطب القاصر عن معرفة ذلك بطريق البرهان. وهو الذي جرّأنا على سلوك هذا المنهاج ليسهل تأمله على أهل البطالة والتقصير في الطاعة لله تعالى.
وقد تبيّن على القطع أن العظيم الهائل إن لم يكن معلوماً فبالاحتمال يتقدم على اليقين المستحقر، لأن كون الشيء مستحقراً أو عظيماً بالإضافة. فلتنظر إلى منتهى العمر وما يصفو من الدنيا للمترفهين، وتسير إلى ما أعتقده الفرق الثلاث من كمال السعادة الآخروية ودوامها، وتعرف بالبديهة استحقار ما ترك من الدنيا في عظيم ما يعتاض عنها بالإضافة إليها. وإن كنت في الحالة الرابعة، وهي اعتقاد صحة مذهب الفرقة الرابعة، فنخاطبك على حد جهلك وقصورك، بوجهين: أحدهما أنك لم تعتقد هذا المعتقد ببرهان حقيقي ضروري، لا يمكن الغلط فيه حتى يقال تنبهت لنوع من الدليل، غفل عنه الأنبياء والأولياء والحكماء وكافة العقلاء. فإن الغلط إذا تطرد لهؤلاء، مع كثرتهم وغزارة علومهم، وطول نظرهم، وكثرة معجزات أنبيائهم، فماذا تأمن الغلط في اعتقادك، وما الذي عصمك؟ وأقل درجاتك أن يجوز الغلط على نفسك. وإن احتمل عندك صدق الجماهير وغلطك، التحقت بالحالة الثالثة. وإن لم تتسع نفسك لهذا التجويز حتى زعمت أنك عرفت بطلان اعتقاد الجماهير واستحالة كون النفس جوهراً باقياً بعد الموت، أو معاداً بطريق البعث والنشور، كما عرفت أن الاثنين أكثر من الواحد، وأن السواد والبيان لا يجتمعان، فهذا الآن من سوء المزاج وركاكة العقل. ويبعد مثل هذا الأحمق عن قبول العلاج، ولمثل هذا قال الله تعالى فيهم (أُولَئِكَ كَالأَنْعَام بَلْ هُمْ أَضَلُّ). الوجه الثاني: أن هذه الفرقة وإن أنكروا السعادة الآخروية، فلم ينكروا السعادة الدنيوية. وأعلى السعادات الدنيوية العزة والكرامة، والمكانة والقدرة، والسلامة من الغموم والهموم، ودوام الراحة والسرور. وهذا أيضاً لا يفوز به الإنسان إلا بالعلم والعمل، بعزل الولاة وأبطالهم. ولا يخفي لذة العالم في علمه، وفيما ينكشف له في كل لحظة من مشكلات الأمور، لا سيما إذا كان في ملكوت السموات والأرض، والأمور الآلهية. وهذا لا يعرفه من لم يذق لذة انكشاف المشكلات. ثم أنها لذة لا نهاية لها، لأن العلوم لا نهاية لها، ولا مزاحمة فيها، لأن المعلومات تتسع للطلاب وإن كثروا، بل استئناس العالم يزيد بكثرة شركائه، إذا كان يقصد ذات العلم، لا حطام الدنيا ورئاستها، فإن الدنيا هي التي تضيق بالمزاحمة، بل يزداد سعة بكثرة الطلاب. ثم مع أنها أوفى اللذات عن عمن أنس بها، فهي أدومها، إذ المنعم بها عليه هو الله وملائكته، ولكن عند اكبابه على الطلب وتجرده له. ولذلك لا ترى جماعة من الرؤساء والولاة، إلا وهم في خوف العزل يتشوقون أن يكون عزهم كعز العلماء. وأما العمل فلسنا نعني به إلا رياضة الشهوات النفسانية، وضبط الغضب، وكسر هذه الصفات، لتصير مذعنة للعقل، غير مستولية عليه، ومستسخرة له في ترتيب الحيل الموصلة إلى قضاء الأوطار. فإن من قهر شهواته، فهو الحرّ على التحقيق، بل هو الملك. ولذلك قال بعض الزهاد لبعض الملوك: "ملكي أعظم من ملك"، فقال كيف: قال: "من أنت عبده عبدي"، وأراد به أنه عبد شهواته، وشهواته صارت مقهورة له. فعبد الشهوات، العاجز عن كسرها وقهرها، رقيق وأسير بالطبع، لا يزال في عناء دائم وتعب متواتر، إن قضى وطره يوماً عجز عنه أياماً. ثم لا يخلو في قضائها عن أخطار، وعلائق ومشاق، يضطر إلى تقلدها. فتقليل الشهوات تقليل لأسباب الغموم، ولا سبيل إلى إماطتها إلا بالرياضة والمجاهدة، وهو المراد بالعمل. فإذن العالم العامل أحسن الناس حالاً، عند من رأى السعادة مقصورة على الدنيا. فإن الدنيا ليست تصفو لأحد، وليس يفي جدواها بمشاقها. فالممعن في اتباع الشهوات، والمعرض عن النظر في المعقولات، شقيّ في الدنيا باتفاق، وشقيّ في الآخرة عن الفرق الثلاث، إلا عند شرذمة من الحمقى، لا يؤبه لهم، ولا يعبأ بهم، ولا يعدون في جملة العقلاء رأساً. فقد تبين أن الاستعداد للآخرة بالعلم والعمل ضروري في العقل، وإن المقصر فيه جاهل.
فإن قلت: فما بال أكثر الناس مقصرين فيه وهم مؤمنون بالآخرة؟ فاعلم أن سبب ذلك الغفلة عن التفكير في هذه الأمور التي ذكرناها فإن تلك الغفلة مطردة عليهم، مستغرقة لأوقاتهم، لا ينتهون عنها ما دامت الشهوات متوالية، وهي كذلك. وإنما المنبه عليها واعظ، زكي السيرة، وقد خلت البلاد عنه، وإن فرض على ندور لم يلتفت إليه، وإن التفت إليه ووقع الإحساس به في الحال، وحسن العزم على التجرد للطاعة في الاستقبال، هجمت عقب ذلك شهوة من الشهوات وأزالت أثر التنبيه، وأعادت حجاب الغفلة، وعاد العاقل لما نهى عنه. ولا يزال هكذا شأن كل واحد إلى الموت، وعند ذلك لا يبقى له إلا التحسر بعد الفوت، ولا يغني ذلك عنه شيئاً فنعوذ بالله من الغفلة، فإنها منشأ كل شقاوة.