بيان تزكية النفس وقواها وأخلاقها

على سبيل المثال والإجمال:

فإن قلت: قد اتضح لي أن الاشتغال بالعلم والعمل واجب، ولكن العلوم كثيرة، وكذلك الأعمال فهي مختلفة بالنوع ثم المقدار، وليس يكفي العلم بأن العلة يلائمها المبردات، ما لم يعلم نوع المبرد وقدره ووقت استعماله، في الموالاة أو التفريق، إلى غير ذلك مما يتطرق إلى تفاصيل اضطرارية، فلا بد من بيان النوع وبيان الكمية ثم الكيفية في الاشتغال به. فأعلم أن الناس فيما سألته فريقان: قانع بالتقليد، وهو مستغن عن البحث، ولكن ينهج السبيل الذي رسمه له مقلده، وفريق آخر لا يقلدون تقليد المريض للطبيب، بل يتشوقون إلى أن ينالوا رتبة الأطباء. والخطب في هذا عظيم، والمدى طويل، وشروط هذا الأمر لا تظهر في الإعصار، إلا لواحد فرد شاذ. ولكنا ننبئك بما يرقيك عن حضيض التقليد، ويهديك إلى سواء الطريق. فإن ساعدك التوفيق، وانبعث من نفسك داعية الاستتمام، توصلت إليه بالمجاهدة ولا يمكنك معرفة ما تطلبه، إلا بأن تعرف أولاً نفسك وقواها وخواصها، فكيف يشتغل بمخالطة زيد من لا يعرف زيداً؟ والمجاهدة معالجة للنفس بتزكيتها، لتفضي إلى الفلاح، كما قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا)، ومن لم يعرف الثوب لا يتصور منه إزالة وسخه. ولما كان ملاك الأمر معرفة النفس، عظم الله أمره ونسبه إلى نفسه تخصيصاً وإكراماً، فقال تعالى: (إنِّي خَالقٌ بَشَراً منْ طين، فَاذَا سَوّيْتَهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحي) فنبه على أن الإنسان مخلوق من جسم مدرك بالبصر ونفس مدركة بالعقل والبصيرة لا بالحواس، وأضاف جسده إلى الطين وروحه إلى نفسه. وأراد بالروح ما نعنيه بالنفس، منبهاً لأرباب البصائر أن النفس الإنسانية من الأمور الآلهية، وإنها أجل وأرفع من الأجسام الخسيسة الأرضية ولذلك قال تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوح قُل الرّوحُ مِنْ أَمْر رَبي)، وقيل: "كان في كتب الله المنزلة إعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك".

وقال عليه السلام: "أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه". وقال تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالّذينَ نَسُوا الله فأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)، تنبيهاً على تلازم الأمرين، وأن نسيان أحدهما مع نسيان الآخر. ولذلك قال تعالى: (سَنُريَهم آياتِتنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِم)، وقال تعالى: (وَفي أَنْفُسِكُم أَفَلاَ تُبْصِرُونَ). وما أراد به ظاهر الجسد، فإن ذلك يبصره البهائم، فضلاً عن الناس. وعلى الجملة، من جهل نفسه فهو بغيره أجهل، ومن رحمه الله على عباده أن جمع في شخص الإنسان على صغر حجمه من العجائب ما يكاد بوصفه يوازي عجائب كل العالم، حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم، ليتوصل الإنسان بالتفكر فيها إلى العلم بالله عز وجل. فإن قلت: فصف لي من أمر النفس جملة مشوقة إلى التفصيل، إن لم تقدر على استقصاء القول فيه، حذراً من التطويل، فأعلم أن للنفس الحيوانية بالجملة قوتين: إحداهما محركة والأخرى مدركة. والمحركة قسمان: باعثة ومباشرة للحركة. فالمباشرة للحركة هي القوة التي تنبث في الأعصاب والعضلات، ومن شأنها أن تشنج العضلات، فتجذب الأوتار والرباطات المتصلة بالأعصاب إلى نحو جهة المبدأ، أو ترخيها فتصير الأعصاب والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ. وهذه خادمة للمحركة الباعثة. والمراد بالباعثة القوة النزوعية الشوقية، التي تبعث على الحركة مهما حصل في الخيال صورة شيء مطلوب أو مهروب عنه، فتحمل القوة المباشرة للحركة على التحريك. ولهذه الباعثة شعبتان: شعبة تسمى شهوانية، وهي تبعث على تحريك يقرب من الأشياء التي يعتقدها صاحبها ضرورية أو نافعة، طلباً للذة، والأخرى تسمى غضبية، وهي قوة تبعث على تحريك يدفع به الشيء الذي يعتقد فيه أنه ضار أو مفسد، طلباً للغاية. وأما المدركة فقسمان: ظاهرة وباطنة. أما الظاهرة، فهي الحواس الخمس، ولسنا نخوض في تحقيقها، وإن كان القول في معرفة حقائقها طويلاً جداً، ولكن غرضنا ذكر الجملة. وأما الباطنة فخمسة: الأولى الخيالية، وهي التي تبقى فيها صورة الأشياء المحسوسة بعد غيبتها، فإن صورة المرئي تبقى في الخيال بعد تغميض العين. فتلك القوة التي فيها انطبعت صورة المرئي تسمى خيالاً، وتسمى حسّاً مشتركاً، إذ يبقى فيه أثر مدركات الحواس الخمس كلها. الثانية الحافظة لذلك، فإن ما يمسك الشخص به صورة الشيء غير ما يقبله به، والشمع يمسك النقش بيبوسته، ويقلبه برطوبته والماء يقبله ولا يمسكه. وهذه القوى، أعني القابلة لمدركات الحواس الخمس والحافظة لها في التجويف الأول من مقدم الدماغ، فهو مسكنها، وبحلول آفة فيه تختل هذه القوة، وعرف ذلك بعلم الطلب. الثالثة القوة الوهمية، وهي قوة مترتبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ، تدرك معاني غير محسوسة من المحسوسات الجزئية، كالقوة الحاكمة في الشاة بأن الذئب مهروب عنه، وأن الولد معطوف عليه. الرابعة الحافظة لهذه المعاني التي ليست محسوسة، كما كانت الثانية حافظة للصور، فهي حافظة للمعاني، وتسمى ذاكرة، ومسكنها التجويف المؤخر من الدماغ. ولقد بقي الأوسط وهو مسكن القوة المفكرة وهي مرتبة بين خزانة الصور وخزانة المعاني، وشأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض، وتفصل عن بعض، بحسب الاختيار. والعادة جارية بذكر هذا في القوى المدركة، والأولى أن يذكر في جملة القوى المحركة، إذ ليس لها إدراك شيء، إلا بنوع حركة بتفصيل مركب وتركيب مفصل، مما هو حاصل في الخيال. ولا يقدر على وضع شيء مستجد ليس هو موجوداً في الخيال بحال، إلا بمجرد التفصيل والتركيب. وهذه القوى التي ذكرناها يشارك فيها الحيوانات الإنسان إلا المفكرة، فإن في الحيوانات شيئاً يقاربه يسمى المتخيلة، ولا تنتهي قوته إلى حد قوة المتفكرة في الإنسان. وأما النفس الإنسانية، من حيث هي إنسانية، فينقسم قواها إلى قوة عالمة وقوة عاملة. وقد تسمى كل واحدة منهما عقلاً، ولكن على سبيل الاسم المشترك، إذ العاملة سميت عقلاً لكونها خادمة للعالمة، مؤتمرة لها فيما ترسم. فأما العاملة، فهي قوة ومعنى للنفس، هو مبدأ حركة بدن الإنسان إلى الأفعال المعينة الجزئية، المختصة بالفكر والروية، على ما تقتضيه القوة العالمة النظرية التي سنذكرها. وينبغي أن يكون سائر قوى البدن مقموعة مغلوبة، دون هذه القوة العملية بحيث لا تنفعل هذه القوة عنها. وتلك القوى كلها تسكن وتتحرك، بحسب تأديب هذه القوة وإشارتها، فإن صارت مقهورة، حدثت فيها هيآت انقيادية للشهوات، تسمى تلك الهيآت أخلاقاً رديئة، وإن كانت متسلطة حصلت لها هيئة استيلائية، تسمى فضيلة وخلقاً حسناً. ولا يبعد أن يجعل الخلق اسماً لما يحصل في سائر الشهوات والقوى من الانقياد والتأدب، أو هذه القوة من الاستيلاء والتأديب. وبالجملة لا يبعد أن يكون الخلق واحداً، وله نسبتان، إذ هيئة الاستيلاء من هذه القوة يلازمها هيئة الانقياد من سائر القوى، وهو المراد بالخلق المحمود. وبالجملة فالنفس أعز من أن تدرك بالحواس الخمس بل تدرك بالعقل، أو يستدل عليها بآثارها وأفعالها. ولها نسبتان نسبة إلى الجنبة تلك الجنبة. فهذه القوة العملية هي القوة التي لها بالقياس إلى الجنبية التي دونها وهي البدن وتدبيره وسياسته.

وأما القوة العالمة النظرية التي سنذكرها فهي لها بالقياس إلى الجنبة التي فوقها لتفعل وتستفيد منها، أعني بالجنبة الملائكة الموكلة بالنفوس الإنسانية، لإفاضة العلوم عليها، فإن العلوم إنما تحصل فيها من الله تعالى بواسطة. قال الله تعال: (وَمَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيَاً أَو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَو يُرْسِلَ َسُولاً)، فكأن للنفس منا وجهين: وَجه إلى البدن، ويأبى أن يكون هذا الوجه مستولياً غير قابل البتة، ولا منفعل عن عوارض البدن وشهواته، ووجه إلى الجنبة الشريفة العالية، ويجب أن يكون هذا الوجه دائم القبول عما هنالك، مستمداً التأثير فإنها مهبط أسباب سعادته. وهذه القوة النظرية العالمة هي التي من شأنها أن تتلقى المعاني الكلية المجردة عن العوارض التي تجعلها محسوسة جزئية، فما ذكرنا معنى الكلي في كتاب "معيار العلم". ثم هذه القوة بالنسبة إلى العلوم التي تحصل فيها على ثلاث مراتب. أولاها كنسبة حال الطفل إلى الكتابة، فإن الطفل فيه قوة للكتابة، ولكن قوة بعيدة من الفعل، فكذا قوة العلم له. المرتبة الثانية أن يحصل فيها جملة من المعقولات الأولية الضرورية، كحال الصبي المميّز المراهق للبلوغ، ويكون نحو هذه القوة للصبي بالإضافة إلى الكتابة بعد أن عرف الدواة والقلم والحروف المفردة دون المركبة، فإنه لم يكن كذلك في المهد إذ ليس فيه على الكتابة إلا قوة مطلقة بعيدة من الفعل، المرتبة الثالثة أن تحصل المعقولات الكسبية كلها بالفعل وتكون كالمخزونة عنده، فإذا شاء رجع إليها ومهما رجع تمكن منها. وحاله في العلوم حال الكاتب الحاذق الصانع الغافل عن الكتابة، فإنه مستعد لها بالقوة القريبة استعداداً في غاية الكمال، وهذه نهاية الدرجة الإنسانية. ولكن في هذه الرتبة درجات لا تحصى، تختلف بكثرة المعلومات وبقلتها، وبشرف المعلومات وخستها، وبطريق تحصيلها وأنها تحصل بالإلهام الإلهي وبتعلم واكتساب، وإنه سريع الحصول أو بطيء الحصول. وفي هذا العلم تتباين منازل العلماء والحكماء الأولياء والأنبياء، وبحسب التفاوت فيه تتفاوت مناصبهم، ودرجات الرقي فيه غير محدودة ولا محصورة. وأقصى الرتب درجة النبي الذي ينكشف له كل الحقائق أو أكثرها من غير اكتساب وتكلف، بل بكشف إلهي في أسرع وقت. وهذه هي السعادة التي تحصل للإنسان، فتقربه إلى الله تعالى تقريباً، لا بالمكان والمسافة، ولكن بالمعنى والحقيقة. والأدب يقتضي قبض عنان البيان في هذا المقام، فقد انتهى الأمر بطائفة إلى أن ادعوا اتحاداً وراء القرب، فقال بعضهم: "سبحاني ما أعظم شأني"، وقال آخر: "أنا الحق"، وعبر آخر بالحلول، وعبر النصارى باتحاد اللاهوت والناسوت، حتى قالوا في عيسى صلوات الله عليه أنه نصف الله، تعالى الله عن قول الظالمين علواً كبيراً، وبالجملة فمنازل السائرين إلى الله تعالى لا تنحصر، وإنما يعرف كل سالك المنزل الذي قد بلغه في سلوكه، فيعرف ما خلفه من المنازل. فأما ما بين يديه فلا يحيط بحقيقته، إلا بطريق الجملة، والإيمان بالغيب، فلا يعرف حقيقة النبوة إلا النبي. وكما لا يعرف الجنين حال الطفل، ولا الطفل حال المميّز وما افتح له من العلوم الضرورية، ولا المميز حال العاقل وما اكتسبه من العلوم النظرية، فلا يعرف عاقل ما انفتح لأولياء الله وأنبيائه من مزايا لطفه ورحمته، (مَا يَفْتَحُ اللهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا). فهذه الرحمة مبذولة بحكم الجود الإلهي غير مضنون بها على أحد. ولكن لا بد من الاستعداد للقبول بتزكية النفس وتطهيرها عن الخبث والكدورة. وكما أن الصورة المتلونة ليس فيها منع من أن تنطبع في الحديد الخبيث، إلا الحجاب من جهة الحديد في صدأه وخبثه، وافتقادره إلى صيقل يجلوه ويزيل خبثه ويجليه، فهكذا ينبغي أن تعتقد أن الحجاب من جانبك لا من جانب الرحمة الإلهية. ولذلك قال عليه السلام: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها". ولذلك عبّر عن غاية الجود والبذل من ذلك الجانب، بأدل العبارات على الشوق والرغبة، فقال: "يُنزِّلُ الله كلّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: هل من داع فأستجيب له، هل من مسترحم فأرحمه". وقال: "طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشد شوقاً" وقال: "من تقرّب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومَنْ أتاني يمشي أتيته هرولة". وعليك أن تستقرئ من القرآن والأخبار ما يناظر ذلك فإنه خارج عن الحصر والإحصاء.