بيان ارتباط  قوى النفس بعضها ببعض

اعلم أن هذه القوى متفاوتة الرتب، فإن بعضها أريدت لنفسها، وبعضها أريدت لغيرها، وبعضها خادمة، وبعضها مخدومة. والرئيس المطلق منها هي التي تراد لنفسها، ويراد غيرها لها، وليس ذلك إلا الرتبة الأخيرة، وفيها تفاوت رتب الأولياء والأنبياء. فإن الإنسان لم يخلق إلا لما هو من خاصيته، وما عدا القوى المخصومة بالنفس الإنسانية يشاركها فيها الحيوانات، فإن الإنسان خلق على رتبة بين البهيمية والملك، وفيه جملة من القوى والصفات. فهو من حيث يتغذى وينسل فنبات، ومن حيث يحس ويتحرك فحيوان، ومن حيث صورته وقامته فكالصورة المنقوشة على حائط. وإنما خاصته التي لأجلها خلق قوة العقل، ودرك حقائق الأشياء. فمن استعمل جميع قواه على وجه التوصل بها إلى العلم والعمل، فقد تشبه بالملائكة، فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمى ملكاً وربانياً، كما قال: (إنْ هَذا إلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) ومن صرف همته إلى اتباع اللذات البدنية، يأكل كما يأكل الأنعام، فقد نزل إلى أفق البهائم، فيصير إما غمراً كثور، وإما شرهاً كخنزير، وإما صرعة ككلب، وأما حقوداً كجمل، أو متكبراً كنمر، أو ذا روغان كثعلب. أو يجمع ذلك كله كشيطان مريد.

وبالجملة من تصفح القوى التي ذكرناها، عرف أن مقتضيات العقل أرفعها وأعلاها، فينظر بعين التعجب كيف يخدم بعضها لبعض خدمة ضرورية عليها فطرت، ولا تستطيع مخالفة أمر الله تعالى فيها.

فإن العقل هو الرئيس المخدوم، ويخدمه وزيره وهو أقرب الأشياء إليه، وهو العقل العملي، الذي سميناه قوة عاملة بحسب مراسم العقل. لأن العقل العملي لأجل تدبير البدن، والبدن آلة النفس ومركبها، تقتنص به بواسطة الحواس مبادئ العلوم التي تستنبط منها حقائق الأمور.

ثم العقل العملي يخدمه الوهم، والوهم يخدمه قوتان: قوة بعده وقوة قبله. فالقوة التي بعده هي القوة الحافظة لما أدركه وأداه إليه، والقوة التي قبله هي جميع القوى الحيوانية على الترتيب الذي سنذكره، ومن جملتها المتخيلة، أعني المفكرة، ويخدمها قوتان مختلفتا المأخذ، فالقوة الرغبية الشوقية تخدمها بالانبعاث، لأن انبعاثها إلى الحركة، بالتخيل والفكر. والقوة الحافظة للصور التي في الحس المشترك تخدمها بقبول التركيب والتفصيل، فيما فيها من الصور. ثم هذان رئيسان لطائفتين، أما الحافظة للصور فيخدمها (الحس) المشترك، برفع االصور إليها حتى تحفظ. وأما القوة النزوعية فتخدمها الشهوة والغضب، والشهوة والغضب تخدمهما القوة الحركة للعضل، وعندها تنتهي القوى الحيوانية. والقوى الحيوانية بالجملة يخدمها النباتية، والنباتية ثلاث، المولدة والمربية والغاذية، ورأسها المولدة، وتخدمها المربية والغاذية تخدمها. ثم يخدم هذه قوى أربع، وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة، إذ لا بد في النبات من قوة جاذبة للغذاء إليه، ثم ماسكة، ثم هاضمة تهضم ما أمسكته الماسكة، ثم دافعة تدفع فضله، والدافعة هي الخادمة التي لا خادم لها، وكأنها كالكناس في نظام أمر البلد، ثم الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة تخدم القوى الهاضمة والجاذبة والماسكة والدافعة، وهذه آخر درجات القوى في الأجسام. وقد ضرب للقوى المذكورة مثال يقربها إلى إفهام العوام، فقيل القوة المفكرة مسكنها وسط الدماغ بمنزلة الملك، يسكن وسط المملكة. والخيالية مسكنها مقدم الدماغ، جارية مجرى صاحب بريدة، أو مجتمع الأخبار عنده. والحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ، جارية مجرى خادمه، والقوى الناطقة جارية مجرى ترجمانه، والعاملة جارية مجرى كاتبه، والحواس جارية مجرى الجواسيس وأصحاب الأخبار الصادقة اللهجة، فيما يرفعونه من الأخبار، فيلتقط كل واحد الخبر من الصق الذي وكل به، إذ البصر موكل بعالم الألوان والسمع بالأصوات، وهكذا الجميع. فيرفعون هذه الأخبار إلى صاحب البريد وصاحب البريد يسقط ما يراه حشواً، ويرفع الباقي صافياً إلى حضرة الملك، فيميزه ويعرف منافعه ومضاره، ويسلمه لخادمه إلى وقت الحاجة، فحينئذ يتقدم بإخراجه، وكما أن الأعمال التي يتولاّها الملك بنفسه أشرف مما يستعمل فيه غيره، فكذلك ما تتولاه النفس التي هي الملك بالحقيقة، بواسطة المفكرة، من الروية والاعتبار والقياس والفراسة واستنباط المجهول، أشرف مما تستعمل فيه الخدم. وهذا المثال قريب مما روي أن حبر الأمة قال: "دخلت على عائشة، فقالت: الإنسان عيناه مهاد، وأذناه قمع، ولسانه ترجمان، ويداه جناحان، ورجلاه بريدان، والقلب ملك. فإذا طاب طاب جنوده". فقالت: "هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول".

فهذه جمل من أحوال النفس تلوناها عليك على سبيل الاقتصار، وإنها بعض عجائب النفس. ولو نظرت في تشريح الأعضاء، وفحصت عن عدد العروق والأعصاب والعضل والعظام والشرايين والأوردة، ثم إلى الأعضاء الآلية التي أعدت للنفس، ولجذب الطعام ثم لهضمه ثم لدفعه، وإلى الآلات التي خلقت للتناسل، ورأيت العجائب في خدمة بعضها بعضاً بالضرورة، ثم بعد فراغك من تشريح الأجسام نظرت في تفصيل قوى تلك الأجسام، واستقصيته بمعرفة حقائق العلوم الطبيعية، لقضيت منها آخر العجب. فتعساً لمن كفر بالله وغفل عن قوله: (وَفي الأرض آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ، وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرون)، بل في كل شيء دليل على أنه واحد. ومن لم يؤمن بالله على الجملة، فليس من العقلاء، وهو أخسّ من أن يخاطب بمثل هذه الكلمات. وإنما كلامنا مع من صدّق بالجملة، فندعوه إلى البحث عن صنع الله، ليزداد بسببه يقينه وإيمانه، ويتفاقم به تعظيمه وإجلاله. فكل ما لا يدرك بالحواس، وإنما يدرك بالعقل بواسطة آثاره، فسبيل استقصاء معرفته استقصاء النظر في آثاره. بل نضرب مثالاً يقرب من فهم الخلق كافة، فما من فقيه إلا وقد اعتقد في المذكورين من العلماء مثل أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، رتبة تتقاضاه التعظيم. وهذا يشترك فيه الخلق، ولكن ليس من يتصفح تصنيف مصنف، فيرى فيه من عجائب صنعه وبدائع حذقه، يبقى اعتقاده في التعظيم على ما كان عليه قبل معرفته، بل لا يزال يطلع على صفة غريبة له في كلامه وتصنيفه أو شعره، وتزداد نفسه له تعظيماً وتوقيراً واعتقاداً. فمن عرف أن الله صانع العالم، كمن عرف أن زيداً متميز عن غيره، بكونه ناظم ديوان، ومصنف كتاب. وأين هذا من اعتقاد من تصفح الشعر، فرأى فيه غرائبه؟ فهذا يعتقد عظمته ورتبته اعتقاداً راسخاً عن تحقيق وبصيرة والآخر يعتقد اعتقاداً مجملاً ضعيفاً، غير مدرك بالبصيرة والتحقيق. وهذا فرق بين رتبة العوام وذوي البصائر في هذا الأمر الواحد.

والعالم بما فيه من العجائب تصنيف الله وتأليفه وإبداعه واختراعه، والنفس جزء من أجزاء العالم، وكل جزء من أجزاء العالم مشحون بالعجائب، فلا يزال الباحث عنها مستفيداً زيادة اعتقاد، وتأكيد إيمان، ولذلك حثّ الله على التفكر في الأنفس والآفاق وملكوت السموات والأرض. بيان نسبة العمل من العلم وإنتاجه السعادة التي اتفق عليها المحققون من الصوفية بأجمعهم، وساعدهم من النظار طوائف سواهم: إن تأثير العمل لإزالة ما لا ينبغي، والسعي في العلم، سعي في تحصيل ما ينبغي وإزالة ما لا ينبغي، شرط لتفريغ المحل لما ينبغي، والمشروط هو المقصود، وهو أشرف من الشرط. ومثاله من أراد استيلاد إمرأة بها علة، تمنع العلوق، فعليه وظيفتان: إحداهما إماطة العلة المفسدة للحمل، المانعة من العلوق، والأخرى إيداع النطفة بعد إزالة العلة المانعة. فالأولى شرط للثانية، والثانية هي الغاية المطلوبة. وإذا فرضت داراً بنيت لملك، رتبة تلك الدار نزول الملك فيها، وقد اغتصبها القردة والخنازير، فجمال تلك الدار وكمالها موقوف على أمرين: أحدهما إزعاج القردة النازلين فيها بغير حق والآخر نزول المستحق. وإذا فرضنا مرآة صدئة قد ستر الخبث صفاها، ومنع انطباع صورنا فيها، فكمال المرآة أن تستعدّ لقبول الصور، فتحكيها كما هي عليها، وعلى مكملها وظيفتان: إحداهما الجلاء والثقل، وهي إزالة الخبث الذي ينبغي أن لا يكون، والثانية أن يحاذي بها نحو المطلوب حكاية صورته. فكذلك نفس الآدمي مستعدة لأن تصير مرآة، يحاذي بها شطر الحق في كل شيء، فتنطبع به كأنها هو من وجه، وإن كانت غيره من وجه آخر، كما في الصورة والمرآة. وكمالها في مثل هذه الدرجة وهذه الخاصة التي فارقت بها ما تحتها من الحيوانات، إذ هذا الاستعداد مسلوب عن الحيوانات كلها، سوى الآدمي بالقوة والفعل جميعاً، كما انسلب عن التراب والخشب الاستعداد لحكاية الصور، وأن يكون مرآة لها، وهو موجود بالفعل أبداً للملائكة، لا يفارقها، كما أنه موجود للماء الصافي، فإنه يحكي الصورة بطبعه حكاية مخصوصة، وهو موجود للآدمي بالقوة لا بالفعل. فإن جاهد نفسه التحق بأفق الملائكة، وإن استمر على الأسباب الموجبة لتراكم الخبث على مرآة النفس، باتباع الشهوات، اسودّ قلبه وتراكمت ظلمته، وبطل بالكلية استعداده، والتحق بأفق البهائم، وحرم سعادته وكماله حرماناً أبدياً، لا تدارك له.

فإذن العمل معناه كسر الشهوات بصرف النفس عن صوبها، إلى الجنبة العالية الآلهية، ليمحي عن النفس الهيئات الخبيثة، والعلائق الردية التي ربطتها بالجنبة السافلة. حتى إذا محقت تلك العلائق، أو ضعفت حوذي بها نحو النظر في الحقائق الآلهية، ففاضت عليه من جهة الله تعالى تلك الأمور الشريفة، كما فاضت على الأولياء والأنبياء والصديقين. وذلك صيد ينفق على قدر الرزق، وبأحكام الأصل فيه يزيد الاسترزاق، كما يعرضن من زيادة الاسترزاق بالأسباب في اقتناص الصيد، بل في اقتناص الربح والتجارة، بل في اقتناص فقه النفس. فإن القليل بالاجتهاد قد يجاوز حد المجتهدين بمزيد ذكاء فطري، فكذا طهارة النفس عن هذه العلائق في أول الفطرة في غاية الاختلاف. ثم الجهد أيضاً يختلف وينشأ من ذلك تفاوت لا ينحصر، فكذا سعادة الآخرة. ففيضان هذه الرحمة من الله عز وجل على النفس غاية المطلوب، وهو عين السعادة التي للنفس بعد الموت، ولكنها مشروطة بإزالة العلائق ومحو الصفات الردية التي تأكدت للنفس باتباع الشهوات.

فإذن العمل يرجع إلى مجاهدة النفس بإزالة ما لا ينبغي. وإذا نسب إلى اتباع الشهوات ظهرت فضيلتها، وإذا نسب إلى تحصيل ما ينبغي كانت رتبتها منه مرتبة الشرط من المشروط، والخادم من المخدوم، وما أريد لغيره بالنسبة إلى ما أريد لنفسه، وعليه نبه النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: "الإيمان بضع وسبعون باباً، أدناها إماطة الأذى من الطريق. والمجاهدة بالعبادات أكثر أغراضها إماطة الأذى عن الطريق. ولقائل أن يقول المراد بالحديث التقاط الزجاج العظم والحجارة من الشوارع، وأن هذا هو السابق إلى فهم الأكثرين. ولقائل آخر: أن يقول إن الناس يتفاوتون في فهم معاني الألفاظ، على حسب تفاوت رتبهم، ولذلك قال عليه السلام: "نضر الله أمراً سمع مقالتي فوعاها، ثم أدّاها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". فلولا أن في ألفاظه ما يسبق إلى فهم غير الفقيه خلاف ما يسبق إلى فهم الفقيه، لما أكد الوصية بذلك. ثم ليت شعري إذا فهم غير الفقيه خلاف ما يسبق إلى فهم الفقيه، لما أكد الوصية بذلك. ثم ليت شعري إذا فهم غير الفقيه خلاف ما يسبق إلى فهم الفقيه أو الأفقه أو في جانب غيرهم؟ ولا شك أن هذا عزيز نادر، والغالب خلافه. فالسابق إلى فهم الجماهير يكاد الحق يجانبه، وينحاز إلى ما يفهمه الفقيه والأفقه، ولا سيما في لفظ لا يصرح بالتخصيص. فإن لفظ الأذى عام، ولفظ الطريق عام. ولو أريد الخاص لذكر الزجاج أو المدر ونبه على أمثاله. وذلك الظاهر أيضاً مندرج تحت العموم، فإنه بذلك العمل أيضاً مصلح نفسه، ومهذب خلقه، ومميط عن النفس رذيلة الغفلة والغشاوة، وقلة الشفقة، على ما سنذكره في تفصيل سوء الأخلاق وحسنها.

فقد عرفت أن سعادة النفس وكمالها أن تنتقش بحقائق الأمور الآلهية وتتحد بها حتى كأنها هي، وأن ذلك لا يكون إلا بتطهير النفس عن هيئات ردية تقتضيها الشهوة والغضب، وذلك بالمجاهدة والعمل. فالعمل للطهارة، والطهارة شرط ذلك الكمال. ولذلك قال عليه السلام: "بني الدين على النظافة".