بيان مفارقة طريق الصوفية

في جانب العلم طريق غيرهم:

اعلم أن جانب العمل متفق عليه، وأنه مقصود لمحو الصفات الردية، وتطهير النفس من الأخلاق السيئة. ولكن جانب العلم مختلف فيه، وتباين فيه طرق الصوفية طرق النظار، من أهل العلم. فإن الصوفية لم يحرّضوا على تحصيل العلوم ودراستها، وتحصيل ما صنّفه المصنفون في البحث عن حقائق الأمور، بل قالوا: الطريق تقديم المجاهدة بمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها، والإقبال بكل الهمة على الله تعالى. ومهما حصل ذلك فاضت عليه الرحمة، وانكشف له سر الملكوت، وظهرت له الحقائق. وليس عليه إلا الاستعداد بالتصفية المجرّدة، وإحضار النية، مع الإرادة الصادقة والتعطش التام، والترصد بالانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة. إذ الأولياء والأنبياء انكشفت لهم الأمور، وسعدت نفوسهم بنيل كمالها الممكن لها، لا بالتعلم بل بالزهد في الدنيا والإعراض والتبرّي عن علائقها، والاقبال بكل الهمة على الله تعالى.

فمن كان لله كان الله له، حتى أن في الوقت الذي صدقت فيه رغبتي لسلوك هذا الطريق، شاورت متبوعاً مقدماً من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن، فمنعني وقال: السيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية، بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال ووطن وعلم وولاية، بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجودها وعدمها، ثم تخلو بنفسك في زاوية تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب مجموع الهمّ، مقبلاً بذكرك على الله تعالى. وذلك في أول الأمر، بأن تواظب باللسان على ذكر الله تعالى، فلا تزال تقول: الله الله، مع حضور القلب وإدراكه، إلى أن تنتهي إلى حالة لو تركت تحريك اللسان، لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك، لكثرة اعتياده. ثم تصير مواظباً عليه إلى أن يمحى أثر اللسان، فتصادف نفسك وقلبك مواظبين على هذا الذكر، من غير حركة اللسان. ثم تواظب إلى أن لا يبقى في قلبك إلا معنى اللفظ، ولا يخطر ببالك حروف اللفظ، وهيئات الكلمة، بل يبقى المعنى المجرد حاضراً في قلبك على اللزوم والدوام. ولك اختيار إلى هذا الحد فقط، ولا اختيار بعده لك، إلا في استدامة لدفع الوساوس الصارفة. ثم ينقطع اختيارك، فلا يبقى لك إلا الانتظار لما يظهر من فتوح، ظهر مثله للأولياء، وهو بعض ما يظهر للأنبياء، قد يكون أمراً كالبرق الخاطف لا يثبت ثم يعود، وقد يتأخر. فإن عاد فقد يتظاهر أمثاله على التلاحق، وقد لا يقتصر على فن واحد، ومنازل أولياء الله فيه لا تحصى، لتفاوت خلقهم وأخلاقهم. فهذا منهج الصوفية، وقد ردّوا الأمر إلى تطهير محض من جانبك، وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار فقط. وأما النظّار فلم ينكروا وجود هذا الطريق، وافضاءه إلى المقصد، وهو أكبر أحوال الأولياء والأنبياء، ولكن استوعروا هذا الطريق، واستبعدوا فضاءه إلى المقصود، وزعموا أن محو العلائق إلى ذلك الحد بالاجتهاد كالممتنع، وإن حصل في حالة، فثباته أبعد منه، وأدنى إلى ذلك الحد بالاجتهاد كالممتنع، وإن حصل في حالة، فثباته أبعد منه، وأدنى وسواس وخاطر يشوّش. وفي أثناء هذه المجاهدة قد يفسد المزاج، ويختلط العقل ويمرض البدن، ويفضي إلى الماليخوليا.

فإذا لم تكن النفس قد ارتاضت بالعلوم الحقيقة البرهانية، اكتسبت بالخاطر خيالات تظنها حقائق تنزل عليها. فكم من صوفيّ بقي في خيال واحد عشر سنين، إلى أن تخلص عنه. ولو كان قد أتقن العلوم أولاً، لتخلص منه على البديهة. فالاشتغال بتحصيل العلوم بمعرفة معيار العلم، وتحصيل براهين العلوم المفصلة أولى، فإنه يسوق إلى المقصود سياقة موثوقاً بها، كما يوثق بالاجتهاد، في أن يحصل فقه النفس. وقد كان، عليه السلام، فقيه النفس من غير اجتهاد، لكن لو أراد مريد أن ينال رتبته بمجرد الرياضة، فقد توقع بعيداً، فيجب تحصيل نفس العلوم الحقيقة في النفس، بطريق البحث والنظر على غاية الإمكان، وذلك بتحصيل ما حصّله الأولون أولاً. ثم لا بأس بعد ذلك بالانتظار لما لم ينكشف للعلماء الباحثين عن الأمور الآلهية، فما لم ينكشف للخلق أكثر مما انكشف. وهذا تباين الفريقين. وقد خطر لي مثال لا يبعد أن يكون منبهاً للافهام الضعيفة، المفتقرة إلى الأمثلة المحسوسة، في درك الحقائق العقلية، ومعرفاً لوجه الفرق بين الفريقين. فقد حكي أن أهل الصين والروم تباهوا بحسن صناعة النقش والتصوير، بين يدي بعض الملوك، فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة ينقش أهل الصين منها جانباً، وأهل الروم جانباً، ويرخي بينهم حجاب، بحيث لا يطلع كل فريق على صاحبه، فإذا فرغوا رفع الحجاب، ونظر إلى الجانبن، وعرف رجحان من رجح من الفريقين، ففعل ذلك، فجمع أهل الروم من الأصباغ الغريبة ما لا ينحصر، ودخل أهل الصين وراء الحجاب من غير صبغ، وهم يجلون جانبهم ويصقلونه، والناس يتعجبون من توانيهم في طلب الصبغ. فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أننا أيضاً قد فرغنا. فقيل لهم: كيف فرغتم ولم يكن معكم صبغ، ولا اشتغلتم بنقش؟ فقالوا: ما عليكم ارفعوا الحجاب، وعلينا تصحيح دعوانا. فرفعوا الحجاب، وإذا بجانبهم وقد تلألأ فيه جميع الأصباغ الرومية الغريبة، إذ قد صار كالمرآة لكثرة التصفية والجلاء، فازداد حسن جانبهم بمزيد الصفاء، وظهر فيه ما سعى من تحصيله غيرهم. فقدّر كأن النفس محل نقش العلوم الآلهية، ولك في تحصيله طريقان: أحدهما تحصيل عين النقش، كطريق أهل الروم والثاني الاستعداد لقبول النقش من خارج. والخارج ههنا اللوح المحفوظ، ونفوس الملائكة، فإنها منقوشة بالعلوم الحقيقية نقشاً بالفعل على الدوام، كما أن دماغك منقوش بالقرآن كله، إن كنت حافظاً له، وكذلك جملة علومك، لا نقشاً يحسّ ويبصر، ولكن نوعاً من الانتقاش عقلياً، ينكره من اقتصرت به خساسة نفسه على المحسوسات ولم يترقّ عنها.

بيان الأولى من الطريقين

فإن قلت: فقد مهّدت للسعادة طريقين متباينين، فأيهما أولى عندك؟ فاعلم أن الحكم في مثل هذه الأمور بحسب الاجتهاد الذي يقتضيه حال المجتهد، ومقامه الذي هو فيه. والحق الذي يلوح لي، والعلم عند الله فيه، إن الحكم بالنفي أو الإثبات في هذا على الإطلاق خطأ، بل يختلف بالإضافة إلى الأشخاص والأحوال. فكل من رغب في السلوك، فقد كبر شأنه، فالأولى به أن يقتنع بطريق الصوفية، وهو المواظبة على العبادة، وقطع العلائق. فإن البحث عن العلوم الكسبية لتحصل ملكة كتابته في النفس شديد، ولا يتيسّر إلا في عنفوان العمر، والتعلم في الصغر كالنقش على الحجر. ومن العناء رياضة الهرم. وقيل لأحد الأكابر: من أراد أن يتعلم شيخاً، ما يفعل؟ فقال: إغسل مسخاً فعساه يبيض. وقد خرج من هذا أن الأولى بأكثر الخلق الاشتغال بالعمل والاقتصاد من العلم على القدر الذي يعرف به العمل. فإن الأكثر لا ينتبهون لهذا الأمر في عنفوان الشباب، وإن تنبه في عنفوان شبابه، نظر إلى طبعه وذكائه. فإن علم أنه لا يستعدّ لفهم الحقائق العقلية الدقيقة، وجب عليه أن يشتغل بالعمل أيضاً، فلا فائدة في اشتغاله بالعلوم النظرية، وهم الأكثرون من الأقل، الذي تتبعناه. فإن ذكياً قابلاً للعلوم، فإن لم يكن في بلده أو في العصر مستقلّ بالعلوم النظرية، مترق عن رتبة تقليد من سبقه، فالأولى به العمل. فإن هذه لا يمكن تحصيلها إلا بمعلم، فليس في القوة البشرية، في شخص واحد، الوصول إليها إلا قليل بطول الزمن. ولذلك لو لم يكن علم الطب مثلاً صار متقناً بالخواطر المتعاونة، في الأزمنة المتطاولة، لافتقر أذكى الناس إلى عمر طويل، في معرفة علاج علة واحدة، فضلاً عن الجميع. والغالب في البلاد الخلّو عن مثل هذا العالم المستقل.

فإذن لم يبق إلا قليل من قليل وهو ذكيّ تنبه في عنفوان عمره لهذا الأمر، وهو مستعد لفهم العلوم، وصادف عالماً مستقلاً بالعلوم تحقيقاً لا إسماً، وحسبة لا رسماً، كما ترى أكثر العلماء، فهم إما مقلّدون في أعيان المذاهب، أو في أعيان المذاهب وأدلة تلك المذاهب جميعاً، على الوجه الذي تلقوه من أرباب المذاهب. ومن قلد أعمى، فلا خير في متابعة العميان وأتباعهم أو شاب نشأ في طلب العلم وهو زكي في نفسه، وتنبه له بعد الارتياض بأنواع العلوم، ولكن بهذا النوع من العلم الذي تنبه له، فمثل هذا الشخص مستعد للطريقين جميعاً. فالأولى به أن يقدّم طريق التعلم، فيحصّل من العلوم البرهانية ما للقوة البشرية إدراكه بالجهد والتعلم، فقد كفى المؤنة فيه تعب من قبله، فإذا حصّل ذلك على قدر إمكانه، حتى لم يبق علم من جنس هذه العلوم، إلا وقد حصّله، فلا بأس بعده أن يؤثر الاعتزال عن هذا الخلق، والإعراض عن الدنيا، والتجرد لله وأن ينتظر، فعساه ينفتح له بذلك الطريق ما التبس على سالكي هذا الطريق. هذا ما أراه، والعلم عند الله.

وقد يخرج منه أن الصواب لأكثر الاشتغال بالعمل، ومن العمل العلم العملي أعني ما يعرف به كيفيته. فإن العلم العملي ليس بأشرف من العمل، بل هو دونه، فإن مراد له دون العلم الذي يراد منه المعلوم، كالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والعلم بالنفس وصفاتها. والعلم بملكوت السموات والأرض وغيره. فهذه العلوم نظرية، وليست بعملية وإن كان قد ينتفع بها في العمل، على سبيل العرض، لا على سبيل القصد، ولكون الصواب في العمل لأكثر الخلق استقصاء النبي صلى الله عليه وسلم، تفصيلاً وتأصيلاً، حتى علّم الخلق الاستنجاء وكيفيته، ولما آل الأمر إلى العلوم النظرية أجمل ولم يفصّل، ولم يذكر من صفات الله إلا أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. نعم بعد إجمال العلم، ذكر من تعظيمه وتشريفه وتقديمه على العمل ما لا يكاد يحصى كقوله: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة" وكقوله: "فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر" إلى غير ذلك مما ورد فيه. ثم ذلك العلم المقدم على العمل لا يخلو أما أن يكون هو العلم بكيفية العمل وهو الفقه وعلم العبادات وأما أن يكون علماً سواه. وباطل أن يكون الأول هو المراد لوجهين: أحدهما أنه فضل العالم على العابد، والعابد هو الذي له العلم بالعبادة وإلا فهو عابد فاسق. والثاني: أن العلم بالعمل لا يكون أشرف من العمل لأن العلم العملي لا يراد لنفسه، وإنما يراد للعمل. وما يراد لغيره يستحيل أن يكون أشرف منه.