بيان مراتب النفس في مجاهدة الهوى والفرق بين إشارة الهوى والعقل

إعلم أن للإنسان في مجاهدة الهوى ثلاثة أحوال: الأولى أن يغلبه الهوى، فيملكه ولا يستطيع له خلافاً، وهو حال أكثر الخلق، وهو الذي قال الله تعالى فيه: (أَرَأَيتَ مَنْ اتِّخَذَ إلههُ هَوَاه). إذ لا معنى للإله إلا المعبود، والمعبود هو المتبوع إشارته. فمن كان تردده في جميع أطواره خلف أغراضه البدنية وأوطاره، فقد اتخذ إلهه هواه الثانية أن يكون الحر بينهم سجالاً، تارة لها اليد وتارة عليها اليد. فهذا الرجل من المجاهدين. فإن اخترمته المنية في هذه الحالة، فهو من الشهداء، لأنه مشغول بامتثال قوله صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا أهواءكم، كما تجاهدون أعداءكم"، وهذه الرتبة العليا للخلق، سوى الأنبياء والأولياء. الثالثة أن يغلب هواه فيصير مستولياً عليه لا يقهره بحال من الأحوال. وهذا هو الملك الكبير، والنعيم الحاضر، والحرية التامة، والخلاص عن الرق. ولذلك قال عليه السلام: "ما من أحد إلا وله شيطان، ولي شيطان. وإن الله قد أعانني على شيطاني، حتى ملكته". وقال في حق عمر: "ما سلك عمر فجاً، إلا وسلك الشيطان فجاً غيره".

وهذا الآن مزلة قدم، فكم من إنسان يظن أنه نال هذه الرتبة، وهو في الحقيقة شيطان مريد، فإنه يتبع أغراضه، ولكن يتعلل لأغراضه أنها من الدين، وأن طلبه لها لأجل الدين، حتى رأيت جماعة اشتغلوا بالوعظ والتدريس، والقضاء والخطابة، وأنواع الرياسة، وهم فيه متبعون للهوى. ويزعمون أن باعثهم الدين ومحركهم طلب الثواب، ومنافستهم عليها من جهة الشرع، وهي نهاية الحمق والغرور. وإنما يعرف حقيقة ذلك بأمر، وهو أن الوعظ المقبول، إن كان يعظ الله، لا لطلب القبول وقصده دعوة الخلق إلى الله، فعلامته أنه لو جلس على مكانه واعظ أحسن منه سيرة، وأغزر منه علماً، وأطيب منه لهجة، وتضاعف قبول الناس به بالنسبة إلى قبوله، فرح به وشكر الله على إسقاط هذا الفرض عنه بغيره، وبمن هو أقوم به منه. كمن تعين عليه جهاد كافر، وقتله لارتداده، فنزلت بالكافر صاعقة أحرقته، وكفا مؤنته، والجهاد معه، فرح به وشكر الله تعالى. وهذه الحالة لا يصادفها من نفسه إلا الأولياء، وتكون إحدى آثارها الاحتراز بأقصى الإمكان كل ساعة، وتصريحه بقوله: "اقتلوني فلست بخيركم"، كما نقل عن الصدّيق رضي الله عنه. فإن قلت فإذا كنا لا نأمن مثل التلبيس والخداع، بتزوير الشيطان والتدلي بحبل الغرور، كما حكي عن هؤلاء، فبم تميز بين إشارة العقل وإشارة الهوى؟ فاعلم أن هذا مطلب عويص، ولا خلاص منه إلا بالعلوم الحقيقية، ولا مغني فيه مثل ما اودعناه "معيار العلم"، إذ به ينكشف التلبيس عن الحق. ولكن القدر الذي ينبغي أن يفزع إليه عند التحير أن يعلم أن العقل في أكثر الأمر يشير بالأصلح للعواقب، وإن كان فيه كلفة ومشقة في الحال، والهوى يشير بالاستراحة وترك التكلف. فمهما عرض لك أمر، ولم تدر أيهما أصوب، فعليك بما تكرهه لا بما تهواه. فأكثر الخلق في الكراهة. قال عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات". وقال تعالى: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلُ اللهُ فيه خَيراً كثيراً). وقال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لَكُم). فكلما يشير عليك بالدعة والرفاهية، وحظر الكلف وإيثار الراحة في الحال، فاتهم فيه نفسك، فإن حبك الشيء يعمي ويصم. وبالجملة فما يشير إليه العقل بقوته أفزع إلى العبادة والاستخارة فيه حتى ينشرح الصدر ويعضده الاستشارة، إذا استشير فيه أهله. وأكثر ما يلبس به الهوى معاذير مزخرفة. والعقل يرشد بحجج حقيقية. والعاشق لشخص قبيح، أو المتناول لطعام بشع شغف به لعادته، لو روجع لزخرف فيه معاذير مموّهة، يشهد عليه العقل بأنه متصنع متكلف. وبالجملة إدراك هذه الحقيقة لا يكون إلا بنور إلهي، وتأييد سماويّ. فليكن الفزع إلى الله في مضانّ الحيرة. فقد قال بعض العلماء: إذا مال العقل إلى مؤلم في الحال، نافع في العاقبة، ومال الهوى نحو نقيضه الملذ في الحال، الوخيم في العقبى، وتنازعا وتحاكما إلى القوة المدبّرة المفكرة، سارع نور الله تعالى إلى نصرة العقل، وبادر وسواس الشيطان وأولياؤه إلى نصرة الهوى، وقام صف القتال بينهما. فإن كانت القوة المدبّرة من حزب الشيطان وأوليائه، ذهلت عن نور الحق، وعميت عن نفع الآجل، واغترت بلذة العاجل، وجنحت إليه، وقهر أولياء الله. وإن كانت من حزب الله وأوليائه، اهتدت بنوره، واستهانت بالعاجلة، وطلبت الآجلة. قال الله تعالى: (الله وَلِيُّ الّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إلَى النُّورِ، وَالّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلماتِ). وشبه الله العقل بشجرة طيبة، والهوى بشجرة خبيثة، فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ كَشَجَرَةٍ طَيِّبةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرعُهَا في السَّمَاءِ). فعند قيام الصفّ والتحام القتال بين هذين الجندين اللذين أحدهما من أعداء الله، والآخر من أوليائه، لا سبيل إلا الفزع إلى الله تعالى، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، كما قال تعالى: (وَأمّا يَنزَغَنَّكَ من الشَّيطَانِ نَزَغٌ، فَاسْتَعِذْ باللهِ إنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إنّ الّذِينَ أتّقُوا إِذَا مَسَّهُم طَائفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُبْصِرون).

فإن قلت فهل من فرق بين الهوى والشهوة؟ قلنا لا حجر في العبارات، ولكن نعني الهوى المذموم من جملة الشهوات، دون المحمود. والمحمود من فعل الله تعالى، وهي قوة جعلت في الإنسان لتنبعث بها النفس لنيل ما فيه صلاح بدنه، إما بإبقاء بدنه أو بإبقاء نوعه، وإصلاحها جميعاً. والمذموم من فعل النفس الأمارة بالسوء، وهو استحبابها لما فيه لذتها البدنية. وهذه الشهوة إذا غلبت سمّيت هوى، فإنها ستتبع الفكرة وتستخدمها لتستغرق وقتها في الامتثال لأمرها. والفكرة مترددة بين الشهوة والعقل، يخدمها العقل فوقها، والشهوة تحتها. فمتى مالت الفكرة نحو العقل ارتفعت وشرفت وولدت المحاسن، وإذا مالت إلى الشهوة تسفّلت إلى أسفل السافلين، وولدت القبائح.