بيان إمكانية تغير الخلق

لقد ظنّ بعض المائلين إلى البطالة أن الخُلق كالخَلق، فلا يقبل التغيير. والتفت إلى قوله عليه السلام: "فرغ الله من الخلق". وظن أن المطمع في تغيير الخلق، طمع في تغيير خلق الله عز وجل، وذهل عن قوله عليه السلام: "حسّنوا أخلاقكم". وإن ذلك لو لم يكن ممكناً، لما أمر به، ولو امتنع ذلك لبطلت الوصايا والمواعظ والترغيب والترهيب، فإن الأفعال نتائج الأخلاق، كما أن الهويّ إلى أسفل نتيجة الثقل الطبيعي، فلم يتوجه الملام إلى أحدهما دون الآخر. بل كيف ينكر تهذيب الإنسان مع استيلاء عقله، وتغيير خلق البهائم ممكن، إذ ينتقل الصيد من التوحش إلى التأنس، والكلب من الأكل إلى التأدب، والفرس من الجماح إلى السلاسة، وكل ذلك تغيير خلق؟ والقول الشافي فيه أن ما خلق الله سبحانه قسمان: قسم لا فعل لنا فيه، كالسماء والكواكب، بل أعضاء أبداننا وأجزائها، وما هو حاصل بالفعل، والقسم الثاني ما خلق وجعلت فيه قوة لقبول كمال بعده، إذا وجد شرط التربية. وتربيته قد تتعلق بالاختيار، فإن النواة ليست بتفاح، ولا نخل، ولكنها قابلة بالقوة لأن تصير نخلاً بالتربية، وغير قابلة لأن تصير تفاحاً، وإنما تصير نخلاً إذا تعلق بها اختيار الآدمي في تربيتها. فلذلك لو أردنا أن نقلع بالكلية الغضب والشهوة من أنفسنا، ونحن في هذا العالم عجزنا عنه، ولكن لو أردنا قهرهما، واسلاسهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه. وقد أمرنا بهذا، وصار ذلك شرط سعادتنا ونجاتنا. نعم الجبلات مختلفة، فبعضها سريعة القبول، وبعضها بطيئة القبول. ولاختلافهما سببان: أحدهما باعتبار التقدم في الوجود، فإن قوة الشهوة، وقوة الغضب، وقوة التفكر موجودة في الإنسان، وأصعبها تغييراً وأعصاها على الإنسان قوة الشهوة، فإنها أقدم القوى وجوداً وأشدها تشبثاً والتصاقاً، فإنها توجد معه في أول الأمر، حتى توجد في الحيوان الذي هو جنسه، ثم توجد قوة الحمية والغضب بعده. وأما قوة الفكر، فإنها توجد آخراً. والسبب أنه يتأكد الخلق بكثرة العمل بموجبه والطاعة له، وباعتقاد كونه حسناً مرضياً والناس فيه أربع مراتب: الأولى هو الإنسان الغفل، الذي لا يعرف الحق من الباطل، والجميل من القبيح، فيبقى خالياً عن الاعتقاد، وخالياً أيضاً عن تشمير شهواته، باتباع اللذات. فهذا أقبل الأقسام للعلاج، فلا يحتاج إلا إلى تعليم مرشد وإلى باعث في نفسه يحمله على الاتباع، فيحسن خلقه في أقرب وقت. والثانية أن يكون قد عرف قبح القبيح، ولكنه لم يتعوّد العمل الصالح بل زيّن له شر عمله، يتعاطاه انقياداً لشهواته، وإعراضاً عن صواب رأيه، فأمره أصعب من الأول، إذ تضاعفت علته. فعليه وظيفتان: إحداهما قلع ما رسخ فيه من كثرة التعود للفساد، والآخر صرف النفس إلى ضده. وعلى الجملة هو في محل قبول الرياضة، إن انتهض لها عن جدّ كامل والثالثة أن يعتقد الأخلاق القبيحة أنها الواجبة المستحسنة، وأنها حق وجميل، ثم تربى عليها. فهذا يكاد تمتنع معالجته، ولن يرجى صلاحه إلا على الندور، إذ تضاعفت عليه أسباب الضلال. الرابعة أن يكون، مع وقوع نشوئه على الاعتقاد الفاسد، وتربيته على العمل به، ويرى فضله في كثرة الشر، واستهلاك النفوس، ويتباهى به، ويظن أن ذلك يرفع من قدره. وهذا أصعب المراتب وفي مثله قيل: من التعذيب تهذيب الذئب، ليتأدب وغسل المسخ ليبيّض، فالأول من هؤلاء يقال له جاهل، والثاني جاهل وضال، والثالث جاهل وضال وفاسق، والرابع جاهل وضال وفاسق وشرير.