اعلم أن المقصود من المجاهدة والرياضة بالأعمال الصالحة تكميل النفس وتزكيتها وتصفيتها لتهدي بأخلاقها. وبين النفس وبين هذه القوى نوع من العلاقة، تضيق العبارة عن تعريفه على وجه يتشكل في خزانة التخيل، لأن هذه العلاقة ليست محسوسة بل معقولة. وليس من غرضنا بيان تلك العلاقة، ولكن كل واحد من النفس والبدن متأثر بسبب صاحبه. فإن النفس إن كملت وكانت زاكية، حسنت أفعال البدن، وكانت جميلة، وكذا البدن، إن جملت آثاره، حدث منها في النفس هيئات حسنة وأخلاق مرضية. فإذن الطريقة إلى تزكية النفس اعتياد الأفعال الصادة من النفوس الزاكية الكاملة، حتى إذا صار ذلك معتاداً بالتكرر، مع تقارب الزمان، حدث منها هيئة للنفس راسخة تقتضي تلك الأفعال، وتتقاضاها بحيث يصير ذلك له بالعادة كالطبع، فيخف عليه ما كان يستثله من الخير. فمن أراد مثلاً أن يحصّل لنفسه خلق الجود، فطريقة أن يتكلف تعاطي فعل الجواد، وهو بذل المال، ولا يزال يواظب عليه حتى يتيسر عليه، فيصير بنفسه جواداً. وكذا من أراد أن يحصّل لنفسه خلق التواضع، وغلب عليه التكبّر، فطريقه في المجاهدة أن يواظب على أفعال المتواضعين مواظبة دائمة، على التكرر مع تقارب الأوقات. والعجب أن الأمر بين النفس والبدن دور، إذ بأفعال البدن تكلفاً، يحصل للنفس صفة. فإذا حصلت الصفة فاضت على البدن فاقتضت وقوع الفعل الذي تعوده طبعاً، بعد أن كان يتعاطاه تكلفاً. والأمر فيه كالأمر في سائر الصناعات. فإن من أراد أن يصير له الحذق في الكتابة صفة نفسية ثابتة فطريقه أن يتعاطى ما يتعاطاه الكاتب الحاذق، وهو حكاية الخط الحسن متكلفاً متشبهاً. ثم لا يزال يواظب على تعاطي الخط الحسن، حتى يصير له ذلك ملكة راسخة، ويصير الحذق فيه صفة نفسانية، فيصدر منه بالآخرة بالطبع ما كان يتكلفه ابتداء بالتصنع. فكأن الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسناً، ولكن الأول متكلف والآخر بالطبع، وذلك بواسطة تأثر النفس. وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس، فلا طريق له إلا ممارسة الفقه وحفظه وتكراره. وهو في الابتداء متكلف، حتى ينعطف منه على نفسه وصف الفقه، فيصير فقيه بمعنى أنه حصل للنفس هيئة مستعدة، نحو تخريج الفقه، فيتيسر له ذلك طبعاً مهما حاوله. وكذلك الأمر في جميع صفات النفس.
وكما أن طالب رتبة الفقه لا يحرم هذه الرتبة بتعطيل ليلة، ولا ينالها بزيادة ليلة، فكذلك طالب كمال النفس لا ينالها بعبادة يوم، ولا يحرمها بنقصان يوم. ولكن تعطّله في يوم واحد، يدعو إلى مثله. ثم يتداعى قليلاً قليلاً، حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل فيفوته فضيلة الفقه، فكذا صغائر المعاصي، بعضها يدعو إلى بعض. وكما أن تكرار ليلة لا يحس بأثره في تفقه النفس، فإنه يظهر شيئاً فشيئاً، مثل نمو البدن وارتفاع القامة، فكذلك الطاعة الواحدة، قد لا يحس أثرها في النفس وكمالها في الحال، ولكن ينبغي أن لا يستهان بها، فإن الجملة مؤثرة، وإنما جمعت من الآحاد، فلكل واحد تأثير. ثم ما من طاعة إلا ولها أثر ما وإن خفيى، وكذلك المعصية. وكم من فقيه مسوّف يستهين بتعطيل يوم وليلة، وهكذا على التوالي، فيفوته كمال العلم. فكذا من يستهين بصغار المعاصي ينتهي به الأمر إلى حرمان السعادة. وكم من فقيه موفق لا يستهين بتعطيل يوم وليلة، فهكذا على التوالي، فيحرز كمال النفس والعلم. فكذا من لا يبستهين بصغار المعاصي ينتهي به الأمرإلى درجات السعادة، إذ القليل يدعو إلى الكثير، ولذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: "الإيمان يبدو في القلب نكتة بيضاء كلما أزداد الإيمان إزداد ذلك البياض. فإذا استكمل العبد الإيمان ابيّض القلب كله. وإن النفاق يبدو في القلب نكتة سوداء، كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد. فإذا استكمل العبد النفاق، اسود القلب كله".