بيان مجامع الفضائل التي بتحصيلها تنال السعادة

إذا عرف أن السعادة تنال بتزكية النفس وتكميلها، وأن تكميلها باكتساب الفضائل كلها، فلا بد من أن يعرف الفضائل جملة وتفصيلاً. فأما الفضائل بجملتها، فتنحصر في معنيين: أحدهما جودة الذهن والتمييز والآخر حسن الخلق. أما جودة الذهن فليميّز بين طريق السعادة والشقاوة، فيعمل به، وليعتقد الحق في الأشياء على ما هي عليه، عن براهين قاطعة مفيدة لليقين، لا عن تقليدات ضعيفة، ولا عن تخييلات مقنعة واهية. وأما حسن الخلق، فبأن يزيل جميع العادات السيئة، التي عرّف الشرع تفاصيلها، ويجعلها بحيث يبغضها، فيجتنبها كما يجتنب المستقذرات. وأن يتعود العادات الحسنة ويشتاق إليها فيؤثرها، ويتنعّم بها كما قال عليه السلام: "جعلت قرة عيني في الصلاة". ومهما كانت العبادات، وترك المحظورات مع استثقال وكراهة، فذلك لنقصان، ولا ينال كمال السعادة به. نعم المواظبة عليه بالمجاهدة غاية الخير، ولكن لا بالإضافة إلى فعله عن طوع ورغبة، وإنما قيل: الحق مرة بالإضافة إلى من لم يتهذب، فبقي فيه صوارف عن الحق. ولذلك قال تعالى: (وإنّها لَكَبِيرَةٌ إلاّ عَلَى الخَاشِعِين). ولذلك قال عليه السلام: "إن استطعت أن تعمل في الرضا لله، فأعمل، وإلا ففي الصبر على ما تكره خيرٌ كثير". ثم لا يكفي في نيل السعادة استلذاذ الطاعة، واستكراه المعصية في زمان دون زمان، بل ينبغي أن يكون ذلك على الدوام في جملة العمر. وكلما كان العمر أطول كانت الفضيلة أرسخ وأكمل. ولذلك لما سئل عليه السلام عن السعادة، قال: "طول العمر في طاعة الله". ولذلك كره الأنبياء والأولياء الموت، فإن الدنيا مزرعة للآخرة. وكلما كانت العبادات أكثر بطول العمر، كان الثواب أكثر، والنفس أزكى وأطهر، وكمالها أتم، وابتهاج صاحبها بجمالها عند التجرد عن علائق البدن أشد وأوفر. وذلك إذا تنبه عن نومه الذي أغفله عن إدراك حال نفسه، من جمال يبتهج به، أو خزي وخيال يفتضح به، وذلك التنبه بإطراح الشواغل. فالناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. فهذه مجامع الفضائل، وغايتها أن تصدر منه الفضائل أبداً بغير فكر وروية وتعب، ويطلع على الحق بغير تعب طويل، حتى كأنه يصدر منه، وهو في غفلته كالصانع الحاذق في الخياطة والكتابة. وغاية الرذالة أن ترشح منه الرذائل بغير تكلف ولا فكر ولا روية.

واعلم أن هذه الفضائل المحصورة في فن نظري، وفي فن عملي، يحصل كل واحد منها على وجهين: أحدهما بتعلم بشريّ وتكلف اختياري، يحتاج فيه إلى زمان وتدرب وممارسة، وتقوي الفضيلة في شيئاً فشيئاً خفي التدريج، كتدريج الشخص في النمو، وإن كان في الناس من يكفيه أدنى ممارسة، وذلك بحسب الذكاء والبلادة. والثاني يحصل بجود إلهيّ، نحو أن يولد الإنسان، فيصير بغير معلم عالماً، كعيسى بن مريم ويحيى بن زكريا، وكذا سائر الأنبياء الذين حصل لهم من الاحاطة بحقائق الأمور، ما لم يحصل لطلاب العلم بالتعلم. وقيل: إن ذلك قد يحصل أيضاً لغير الأنبياء، وهم الذين يعبر عنهم بالأولياء. وهذا الآن رزق لا يمكن اكتسابه بالجهد، فمن حرم ذلك، فليجتهد أن يكون من الفريق الثاني، وليعلم نزول رتبته عن رتبة أولئك، "فليس التكحل في العينين كالكحل". ولا ينبغي أن تستبعد أن يكون بالطبع في مبدأ الفطرة من العلوم ما يحصل بالجهد والاكتساب، كما يكون ذلك في الأخلاق. فرب صبي صادق اللهجة سخيّ جريء، وربما تخلق بخلافه، وذلك يحصل بالتأديب والتربية.

فإذا الفضيلة تارة تحصل بالطبع وطوراً بالاعتياد، ومرة بالتعلم. فمن تضافرت في حقه الجهات الثلاث، حتى صار ذا فضيلة طبعاً واعتياداً وتعلماً فهو في غاية الفضيلة. ومن كان رذلاً من هذه الجهات الثلاث فهو في غاية الرذالة، وبينهما رتبة من اختلفت فيه هذه الجهات.