ينبغي أن تعلم أن علاج النفس بمحو الرذائل عنها وبكسب الفضائل، مثاله علاج الأبدان بمحو العلل عنها، وبكسب الصحة لها. وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال، وإنما تعتري العلة المغيرة للاعتدال بعوارض الأغذية وغيرها، فكذا كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. والمقصود أنه بالتعليم والاعتياد يكتسب الرذائل. وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً، وإنما يكمل بالنشوء والتربية بالغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصة، وإنما تكتمل بالتزكية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم. وكما أن البدن، إن كان صحيحاً فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة، فإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه، فكذا النفس منك إن كانت زاكية، طاهرة، مهذبة الأخلاق، فينبغي أن تسعى لحفظ صحتها وجلب مزيد قوة وصفاء إليها. وكما أن العلة المغيرة للاعتدال، الموجبة للمرض، لا تعالج إلا بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة وبالعكس، فكذا الرذيلة الموجبة لنقصان النفس، علاجها بضدها، كما سبق من علاج الجهل بالتعلم، والبخل بالتسخي تكلفاً، والكبر بالتواضع تكلفاً، والشره بالكف عن المشتهى تكلفاً. وكما أن كل مبرد لا يكفي لعلة أوجبتها الحرارة، إلا إذا كان على حد مخصوص، ويختلف ذلك بالشدة والضعف، والدوام وعدمه، وبالكثرة والقلة، ولا بد له من عيار يغرف به مقدار النافع منه، فإن لم يحفظ عياره زاد الفساد، فكذلك النقيض، الذي يعالج به الأخلاق لا بد له من عيار. وكما أن عيار الدواء مأخوذ من عيار العلة، حتى أن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، وإن كانت الحرارة، فما درجتها، أهي ضعيفة أو قوية، فإذا عرف التفت معه إلى أحوال البدن، وأحوال الزمان والصناعة التي المريض بصددها وعالج بحسبها، فكذلك الشيخ المتبوع، الذي يطلب نفوس المريدين والمسترشدين، ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص، ما لم يعرف أخلاقهم. فإذا عرف ما هو الغالب على المريد من الخلق السيء، وعرف مقداره، ولاحظ حاله وسنه، وما يحتمله من المعالجة، عيّن له الطريق. ولذلك ترى الشيخ يشير على بعض المريدين أن يخرج إلى السوق للكدية وذلك أن توسم فيه نوع رياسة وتكبر، فيعالجه بما يراه ذلاً، وهو نقيض خلقه، حتى ينكسر به تكبره، ويشير على بعضهم بتعهد بيت الماء، واعداد نبل الاستنجاء، وذلك إذا رأى نفسه مائلة إلى الرعونة في النظافة المجاوزة حد الاعتدال. وقد يشير عليه بالصوم، ويأمره بالوصال، إلا بمقدار يخرج به عن موجب النهي، وذلك إذا رآه شاباً قوي الشهوة، مولعاً بشهوة البطن والفرج، إلى غير ذلك من طرق التهذيب.
وعن بعضهم: أنه كان يعالج قوة الغضب، ويتكلف صفة الحلم، فكان يعطي السفهاء الأجرة، ليجبهوه بالشتم في المحافل، فيتعود احتماله، فصار بحيث يضرب به المثل في الحلم. وكان آخر يدرج نفسه في الشجاعة، فيركب البحر في الشتاء، وآخر كان يهيئ المآكل الطيبة ويطعمها غيره بحضرته، وهو يقتصر على خبز الشعير لكسر الشره، وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بقيام طول ليلة على رجل واحدة لا ينتقل عنها. وآخر عالج حب المال بأن باع كل ماله ورمى بثمنه في البحر. فهذا طريق جملي في تهذيب الأخلاق، والكلام في تفصيله يطول، والغرض أن تنظر، أيها المتشوق إلى تزكية نفسك في أخلاقك. فإن كانت مهذبة فاحفظها، وإن كانت مائلة فقومها بالرد إلى حد الاعتدال، على ما سيأتي تفصيله، فإن المقصود من جلب الاعتدال سلب الطرفين، إذ الغرض تطهير النفس عن الصفات التي تلحقها بعوارض البدن، حتى لا تلتفت إليها بعد المفارقة، عاشقة ومتأسفة على قوتها، وممنوعة بالاشتغال والتألم بها عن السعادات اللائقة بجوهرها. ومهما أردنا أن لا يكون الماء حاراً ولا بارداً، طلبنا فيه الاعتدال وكان الفاتر لا حاراً ولا بارداً، فكذلك هذه الصفات. فإن قلت: فبماذا اعلم أن الحاصل لي هو الخلق الجميل، وهو الوسط المعتدل بين طرفي الافراط والتفريط؟ فطريقك أن تنظر في الأفعال، التي يوجبها ذلك الخلق الذي فيه مجاهدتك، فإذا التذذت بفعله، فاعلم أن الخلق الموجب له راسخ في نفسك، فإن كان ذلك الفعل قبيحاً فاعلم أن الخلق قبيح، مثل أن تلتذ بامساك المال وجمعه. فموجبه خلق البخل، فعوّد نفسك نقيضه، والأخلاق الحسنة والسيئة قد فصّلها الشرع ويجمعها ما صنف في آداب النبي عليه السلام، وهي مشهورة وسنشير إلى جملها.
ونعني بالاعتدال أنك لو كنت تلتذ بالاسراف في تفريق المال، فتعلم أن هذا أيضاً مذموم وهو الذي يعبّر عنه بالتبذير. والمحمود المعتدل هو السخاء الواقع بين التحرق والتبذير، وهو أن يتيسر عليك بذل ما يقتضي الشرع والعقل إمساكه، عن طوع ورغبة، وكذا في سائر الصفات، والواحد منها كاف في المثال، وإذا عرفت أن معيار الأعمال مأخوذ من مقدار الصفات والأخلاق، لم يخف عليك أن الطريق في هذا تختلف باختلاف الأشخاص، وتختلف في حق شخص واحد باختلاف الأحوال. فمن رزق البصيرة، تتبع العلة وعالجها بطريقها. ولما كان أكثر الناس يعجزون عنه، وعسر على الشرع تفصيل يفي بجميع الأشخاص، في جميع الأعصار، اقتصر الشرع في التفصيل على القوانين المشتركة، التي تعم جدواها من الطاعات وترك المعاصي المحذورة، ثم رغب عن المباحاة التي تقصد للتلذذ بأمور جميلة كقوله: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"، وأمثاله. ثم عرف أهل البصيرة منه غاية المطلوب وطريقه، وغاية المحذور وطريقه، ووقفوا به على التفصيل، وأرشدوا إليه من وفّق لاتباعهم، فكانوا نواباً عن الأنبياء في تفصيل ما أجملوه وشرح ما مهدوه. ولذلك قال عليه السلام: "العلماء ورثة الأنبياء".