بيان البواعث على تحري الخيرات والصوارف عنها

أما الخيرات الدنيوية، فالبواعث عليها ثلاثة أنواع: الترغيب والترهيب بما يجري ويخشى في الحال والمال، والثاني رجاء المحمدة وخوف المذمة ممن يعتد بحمده وذمه، والثالث طلب الفضيلة وكمال النفس، لأنه كمال وفضيلة، لا لغاية أخرى وراءها، فالأول مقتضى الشهوة، وهي رتبة العوام، والثاني من مقتضى الحياء ومبادئ العقل القاصر، وهو من أفعال السلاطين، وأكابر الدنيا، ودهاتهم المعدودين من جملة العقلاء، بالإضافة إلى العوام. والثالث مقتضى كمال العقل، وهو فعل الأولياء والحكماء ومحققي العقلاء. ولتفاوت هذه الرتب قيل: خير ما أعطي الإنسان عقل يردعه، فإن لم يكن فحياء يمنعه، فإن لم يكن فخوف يزعجه، فإن لم يكن فمال يستره، فإن لم يكن فصاعقة تحرقه، فيستريح منه العباد والبلاد. وهذا التفاوت يعهد لكل شخص من صباه إلى كبره، إذ هو في ابتداء صباه لا يمكن زجره وحثه بالحمد والذم بل بمطعوم حاضر، أو ضرب ناجز يحس به. فإذا صار مميّزاً مقارباً للبلوغ، أمكن زجره وحثه بالمحمدة والمذمة. فطريق زجره مذمة المزجور عنه. وتقبيح حال متعاطيه، وطريق ترغيبه في تعلم الأدب وغيره لكثرة الثناء على آتيه، وكثرة الذم لمجتنبيه، فيؤثر ذلك تأثيراً ظاهراً. وأكثر الخلق لا يجاوزون هاتين المرتبتين إلى الرتبة الثالثة، فيكون إقدامهم وإحجامهم صادراً عن هذه البواعث والصوارف. وأما الرتبة الثالثة، فيعزو وجودها، والخيرات الآخروية أيضاً هذا شأنها. وبهذا الطريق تتفاوت الناس فيها، إذ لا فرق بين الآخروية والدنيوية، إلا بتأخر وتقدم، وإلا فالخبر مطلوب كل عاقل عاجلاً وآجلاً.

والبواعث على الطلب لا تعدو هذه الأقسام، فكأن من أطاع الله وترك معصيته فرتبه ثلاث: الأولى من يرغب في ثوابه الموصوف له في الجنة، أو يخاف من عقابه الموعود له في النار. وهذه الرتبة للعامة، وهم الأكثرون. والثانية رجاء حمد الله ومخافة ذمه، أعني حمداً وذماً في الحال من جهة الشرع. وهذه منزلة الصالحين، وهي أقل من الأولى بكثير. والثالثة وهي العزيز الفذ رتبة من لا يبتغي إلا التقرب إلى الله تعالى وطلب مرضاته، وابتغاء وجهه والالتحاق بزمرة المقربين إليه، زلفى من ملائكته، وهو درجة الصديقين والنبيين، ولذلك قال تعالى: (وَاصْبر نَفْسَكَ مَعَ الّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشْيِ يُريدُونَ وَجْهَه)، وقيل لرابعة العدوية "ألا تسألين الله الجنة؟ فقالت: الجار ثم الدار" وقال بعضهم: من عبد الله لعوض، فهو لئيم. ولما كان العقل الضعيف لا يقف على كنه هذا المعنى، وأكثر العقول ضعيفة، خلق الله الجنة والنار، ووعد الخلق بهما زجراً وحثاً، وأطنب في وصفهما ولم يتعرض لهذه المعاني إلا بالمرامز، مثل قوله تعالى: (يريدون وجهه)، (وأعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).

وأما الصوارف فقصور أو تقصير. أما القصور، فالمرض المانع والشغل الضروري في طلب قوت النفس والعيال وما يجري مجراه. وهذا معذور غير مذموم، إلا أنه عن ذروة الكمال محروم، ولا دواء له إلا الفزع إلى الله تعالى، لإماطة هذه الصوارف بجودة. وأما التقصير، فقسمان: أهل وشهوة غالبة. أما الجهل، فهو أن لا يعرف الخيرات الآخروية وشرفها وحقارة متاع الدنيا، بالإضافة إليها، وهو على رتبتين: إحداهما أن يكون عن غفلة وعدم مصادفة مرشد منبه، وهذا علاجه سهل، ولأجله وجب أن يكون في كل قطر جماعة من العلماء والوعاظ، ينبهون الخلق عن غفلتهم ويرغّبون عن الدنيا في الآخرة، لا على الوجه الذي ألفه أكثر وعاظ الزمن، فهذا ما يجرأ الخلق على المعاصي، أو يحقر الدين عندهم. والثاني أن يكون لاعتقادهم أن السعادة هي اللذات الدنيوية والرياسة الحاضرة، وان أمر الآخرة لا أصل له، أو لأن الإيمان وحده كاف، وهو مبذول لكل مؤمن كيف كان عمله، أو يظن الاتكال على عفو الله ينجيه، وأن الله كريم رحيم، لا نقصان له من معصية العصاة، فلا بد أن يرحمهم. وهذه أنواع من الحماقات فترت خلائق كثيرة عن الطاعات، وجرّأتهم على المعاصي. فأما من ظن أن الآخرة لا أصل لها، فهو الكفر المحض، والضلال الصرف. ومهما كان هذا الاعتقاد مصمماً، بعدت الإنسانية عن صاحبه والتحق بالهلكي على كل حال، وأما من ظن أن مجرد الإيمان يكفيه، فهو جهل بحقيقة الإيمان وغفلة عن قوله: "من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة"، وأن معنى الإخلاص أن يكون معتقده وفعله موافقاً لقوله، حتى لا يكون منافقاً، وأقل درجاته أن لا يتخذ إلهه هواه، فمن اتبع هواه فهو عبده، وصار إلهه هواه. وذلك يبطل قوله لا إله إلا الله وينافي في إخلاصه. ومن ظن أن سعادة الآخرة تنال بمجرد قوله لا إله إلا الله، دون تحقيقه بالمعاملة، كان كمن ظن أن الطبخ يحلو بقوله طرحت السكر فيه دون أن يطرحه، أو الولد يخلق بقوله وطأت الجارية، دون أن يطأها، والزرع ينبت بقوله بذرت البذر، دون أن يبذره. وكما أن هذه المقاصد في الدنيا، لا تنال إلا بأسبابها، فكذلك أمر الآخرة، فإن أمر الآخرة والدنيا واحد، وإنما خص باسم الآخرة لتأخره، والخروج لقضاء العالم آخرة، بالإضافة إلى الكون في بطن الأم، والبلوغ إلى عالم التمييز آخرة بالإضافة إلى ما قبله، والبلوغ إلى رتبة العقلاء آخرة بالإضافة إلى ما قبلها. وإنما هذه تردد في أطوار الخلقة. والموت طور آخر من الأطوار، ونوع آخر في الترقي، وضرب آخر من الولادة، والانتقال من عالم إلى عالم، كما قال عليه السلام: "القبر أمّا حفرة من حُفَر النار أو روضة من رياض الجنة"، أي ليس في الموت إلا تبديل منزل. وكما أن من جلس متكلاً على رحمة الله ونعمته متعطشاً جائعاً، لم يسلك الطريق في شرب الماء وتناول الخبز هلك، ومن اتكل عليه في طلب المال ولم يتجر لم يحصل له المال وكان شقياً، فكذا من أراد الآخرة وسعا لها سعيها، وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم مشكوراً، ولذلك نبه الله تعالى عليه فقال: (وَأنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى)، ومهما عرف أن البهاء الأكمل لله وإن السعادة القصوى في القرب منه وأن القرب منه ليس بالمكان وإنما هو باكتساب الكمال على حسب الإمكان، وأن كمال النفس بالعلم والعمل والاطلاع على حقائق الأمور مع حسن الأخلاق، فمن لم يكمل كيف يقرب من الله تعالى، ومن أراد أن تقرب رتبته عند الملك بنوع من العلم لو تعطل في بيته متكلاً على كرم الملك ملازماً صفة النقصان غير مجتهد طول الليل في طاب العلم معولاً على فضل الله في أن يبيت ليله ويصبح أفضل أهل زمانه، فإن فضل الله عز وجل أوسع له وقدرته متسعة لأضعافه، قيل له: هذا فعل مشحون بالباطل والحماقة مزين الظاهر بكلام يظن أنه محمود.فكذا من ظن أن الآخرة تنال بالبطالة والعطالة فهذه حاله.