بيان ما يحمد ويذم من أفعال شهوة البطن والفرج والغضب

أما شهوة البطن فداعية إلى الغذاء، والمطعم ضربان: ضروري وغير ضروري. أما الضروري، فهو الذي لا يستغني عنه في قوام البدن، كالطعام الذي يتغذى به، والماء الذي يرتوي به، وهو ينقسم إلى محمود ومكروه، ومذموم ومحظور. أما المحمود، فأن يقتصر على تناول ما لا يمكنه الاشتغال والتقوى على العلم والعمل إلا به، ولو اقتصر عنه لتحللت قواه واختل بدنه، فهذا المقدار، إذا تناوله من حيث يجب كما يجب، فهو معذور، بل مشكور ومأجور، إذ البدن مركب النفس، لتقطع به منازلها إلى الله تعالى. وكما أن الجهاد عبادة، فإمداد فرس المجاهدة بما يقويه على السير بالمجاهد أيضاً عبادة، ولذلك قال عليه السلام: "عند أكل الصالحين تنزل الرحمة"، وذلك إذا تناوله تناول من اضطر إلى شيء، يود لو استغنى عنه. وإدخال الطعام البطن وإخراجه قريب. ولذلك قيل: من كان همّه ما يدخل في بطنه، كانت قيمته ما يخرج منه. وليعلم الآكل أنه في تناول فضلات الأشجار والنبات كالخنزير في تناول عذرة الإنسان وفضلته، وكالجعل في تناول فضلة الحيوان. ولو كان للأشجار ألسنة، لناطقت متناول فضلاتها بالتشبيه بهذا المتناول لفضلة الحيوان.

وأما المكروه، فهو الإسراف والإمعان من الحلال والزيادة على قدرة البلغة. قال عليه السلام: "ما من وعاء أبغض إلى الله تعالى من بطن مليء من حلال"، وهو أيضاً مضر من جهة الطب، فإنه أصل كل داء. قال عليه السلام: "البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء، وعوّدوا كل جسد ما اعتاد". فقال محققو الطب: لم يدع عليه السلام شيئاً من الطب إلا وأدرجه تحت هذه الكلمات الثلاث. ولا ينبغي أن يستهين طالب السعادة بهذه الزيادة، وإن سميناها مكروهاً لا محظوراً، فإنه مكروه سريع السياقة إلى المحظورات، بل إلى أكثر المحظورات. فإن مثار الشرور قوة الشهوات، ومقوي الشهوات هي الأغذية. فامتلاء البطن مقوي للشهوب، وتقوي الشهوة داعية للهوى، والهوى أعظم جند الشيطان، الذي إذا تسلط سباه عن ربه وصرفه عن بابه. وإمداد جنود الأعداء بالمقويات يكاد ينزل منزلة عين العداوة. فلهذا يكاد تكون الكراهية فيه حضراً. ولذلك قيل لبعضهم: "ما بالك مع كبرك لا تتعهد بدنك وقد أنهك". فقال: "لأنه سريع المرح فاحش الأشر فأخاف أن يجمع بي فيورّطني. ولئن أحمله على الشدائد أحب إليّ من أن يحملني على الفواحش". فإن قلت: فما المقدار المحمود؟ فعلم أنه نبه عليه السلام على التقدير بخبرين، أحدهما قوله: "حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس"، فأما اللقيمات فهي دون العشرة ويقرب منه قوله عليه السلام: "المؤمن يأكل في معي واحد، والمنافق يأكل في سبعة أمعاء"، والأحب الأكل في سبع البطن، فإن غلب النهم ففي الثلث. وأظن أن الحد ثلث في حق الأكثر، وإن كان ذلك قد يختلف باختلاف الأشخاص. وعلى الجملة فلا بد أن يكون دون الشبع، حتى يخف البدن للعبادة والتهجد باليل، وتضعف القوى عن الانبعاث إلى الشهوات.

وأما المحظور فهو التناول مما حرم الله عز وجل من مال الغير أو المحرمات. وأفحشها شرب المسكر، فإنه أعظم آلات الشيطان في إزالة العقل، الذي هو من حزب الله، وأوليائه، وآثار الشهوة والقوى السبعية التي هي من أحزاب الشيطان وأوليائه. وهذا حكم المطاعم على الإجمال. ولا يطمعن أحد في سلوك طريق السعادة، قبل أن يراعي أمر المطعم في مقداره ووجه حله، فإن المعدة منبع القوى، فكأنه الباب والمفتاح إلى الخير والشر جميعاً. ولذا عظم في الشرع أمر الصوم لأنه على الخصوص يتوجه إلى قهر أعداء الله تعالى كما روي: "إن الصوم لي وأنا الذي أجزي به"، إلى غير ذلك مما ورد فيه.

وأما شهوة الفرج، فأفعالها تنقسم إلى محمود ومكروه ومحظور. أما المحمود فهو المقدار الذي لا بد منه لحفظ النوع، فإن النكاح ضروري لبقاء نوع الإنسان باتصال نسله، كما أن الغذاء ضروري لبقاء شخصه إلى حين أجله. والشهوة خلقت باعثة على إبقاء النسل، بطريق الوطء، كما خلق الجوع باعثاً على إبقاء الشخص بالأكل، ولذلك قال: "تناكحوا، تناسلوا تكثروا، فإني مباه بكم الأمم". فمن كان قصده في النكاح أمرين: أحدهما النسل لكثرة المباهاة، وأن يلحقه بعده ولد صالح يدعو له، والثاني أن يدفع عن نفسه فضلة المني، التي إذا اجتمعت كانت كالمرة، والدم إذا اجتمع عظمت نكايته في البدن بإثارة المرض، وفي الدين بالدعوة إلى الفجور، فالنكاح على هذا الوجه محمود وسنة وداخل تحت قوله: "من احب فطرتي فليستسن بسنتي". ومن نكح فقد حصّن نصف دينه. ولا بأس بغرض ثالث، وهو أن يكون في بيته من يدبر أمر منزله، ليتفرغ هو للعلم والعبادة، فيصير النكاح على هذا الوجه من جملة العبادات، فإن الأعمال بالنيات. وإمارة هذا أن لا يطلب من المرأة إلا الجمال للتحصن، وحسن الخلق في تدبير المنزل، والديانة للصيانة والنسب الديني فقط. فإنه إمارة الديانة وحسن الخلق، فإن العرق نزاع، ولذلك قال عليه السلام: "عليك بذات الدين، تربت يداك، وإياكم وخضراك الدمن". وقال: "تخيروا لنطفكم". وليطلب صحة البدن وأن لا يكون عقيماً لأجل الولد فإنه المقصود. ولذلك كره العزل، وإتيان المرأة من ورائها، فإنه إهمال للحراثة، ونساؤكم حرث لكم. ولا بأس بطلب الأبكار، لتستحكم الألفة، وقد ندب الشرع إليها.

وأما المكروه فأن يقصد التمتع بقضاء الشهوة فقط، ثم يمعن فيه ويواظب عليه، وربما يتناول ما يزيد في شهوته، وذلك مضر شرعاً، ولا كراهية فيه في نفسه، فإنه مباح، ولكنه انصراف عن الله إلى اتباع الهوى وتشبّه بالثيران والحمر. وإثارة لشهوة بالمطعومات القوية والأسباب الباعثة تضاهي إثارة سراسباع ضارية، وبهائم عادية، ثم الانتهاض بعدها للخلاص منها. وأما المحظور، فعلى وجهين: أحدهما أن يقضي الشهوة في محل الحرث، ولكن بغير عقد شرعي، ولا على الوجه المأمور، وهو الزنا. وقد قرن ذلك بالشرك حيث قال: (الزاني لا يَنْكَحُ إلا زَانِيَة أو مُشْرِكة). والثاني تعاطيه في غير محل الحرث، وهو أفحش من الزنا لأن الزاني لم يضيع الماء، بل وضعه في محل الحرث على غير الوجه المأمور. وهذا قد ضيّع، وكان ممن قال الله تعالى: (وَيُهْلِكُ الحَرْثَ والنَّسَلَ). ولذلك سميت اللواطة الإسراف، فقال تعالى: (إنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُم قَوْمٌ مُسْرِفُون). فهذه مراتب الناس في شهوة الفرج.

وقد ينتهي بعض الضلال إلى العشق، وهو عين الحماقة وغاية الجهل بما وضع الجماع له، ومجاوزة لحدّ البهائم في تملك النفس، وضبطها لها، لأن المتعشق لم يقنع بإرادة شهوة الجماع، وهي أقبح الشهوات وأجدرها بأن يستحي منها، حتى اعتقد أن لا تنقضي إلا في محل واحد، والبهيمة تقضي الشهوة أنى اتفق فتكتفي به. وهذا لا يكتفي إلا من معشوقته، حتى ازداد به ذلاً إلى ذل وعبودية إلى عبودية. واستسخر العقل لخدمة الشهوة، وقد خلق ليكون آمراً مطاعاً لا يكون خادماً للشهوة، محتاناً لأجلها، وهو مرض نفس فارغة لا همة لها. وإنما يجب الاحتراز من أوائلها، وهو معاودة النظر والفكر، وإلا فبعد الاستحكام يعسر دفعها. وكذلك عشق الجاه والمال والعقار والأولاد، حتى حب اللعب بالطيور والنرد والشطرنج، فإن هذه الأمور تستولي على طائفة ينقضي عليهم الدين والدنيا، ولا يصبرون عنها. ومثال ردّ الشهوة في أول انبعاثها صرف عنان الدابة عن توجهها إلى باب دار تدخله، فما أهون منعها وصرف عنانها. ومثال علاجها بعد استحكامها أن تترك الدابة، حتى تدخل وتجاوز الباب، ثم تأخذ بذنبها جاراً لها إلى وراء، وما أعظم التفاوت بين الأمرين! فليكن الاحتياط في بدايات الأمور، فأما أواخرها فلا تقبل الإصلاح في الأكثر، إلا بجهد شديد يوازي نزع الروح.

وأما أفعال الغضب فتنقسم إلى محمود ومكروه ومحظور. أما المحمود ففي موضعين: أحدهما المسمى غيرة، وهو أن يقصد حريم الرجل ويتعرض لمحارمه. فالغضب له ولدفعه محمود، وقلة التأثر به خنوثة وركاكة، ولذلك قال عليه السلام: "إن سعداً لغيور، وإن الله أغير منه"، وقد وضع الله الغيرة في الرجال، لحفظ الأنساب. فإن النفوس لو تسامحت بالتزاحم على النساء لاختلطت الأنساب. ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها. والثاني الغضب عند مشاهدة المنكرات والفواحش، غيرة على الدين، وطلباً للانتقام، ولذلك مدحوا بكونهم أشداء على الكفار رحماء بينهم. ولذلك قال عليه السلام: "خير أمتي أحداؤها"، فالمراد به الحدة لحمية الدين. ولذلك قال تعالى: (وَلاَ تَأْخْذُكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دينِ اللهِ). ومع هذه فالسلطان إذا غضب عند جناية جانٍ، فينبغي أن يحبسه ولا يبادر إلى عقوبته حتى يجدد النظر فيه، فإن الغضب غول العقل، فربما يحمله على مجاوزة حد الواجب في الانتقام. وأما المكروه فغضبه عند فوات حظوظه المباحة نيلها، كغضبه على خادمه وعبده عند كسر آنيته، أو توانيه في خدمته، بحكم تغافل يمكن الاحتزاز عنه. فهذا لا ينتهي إلى حد المذموم، ولكن العفو والتجاوز أولى وأحب. ولذلك قيل لواحد حكيم: لا تصفح عن عبدك وهو يقصر في خدمتك، فيفسد باحتمالك. فقال: "لأن يفسد عبدي في صلاح نفسي خير من أن تفسد نفسي في صلاح عبدي". فإن احتمال ذلك إصلاح للنفس والانتقام إصلاح للعبد. وأما المذموم فهو الاستشاطة عن الفخر والتكبر والمباهاة والمنافسة والحقد والحسد، وعن أمور واهية تتعلق بالحظوظ البدنية، من غير أن يكون في الانتقام مصلحة في المستقبل ديناً ودنيا، وهو الغالب على أكثر الخلق، وهو انقياد للخلق الذي يضاد الحلم والتحلم. فإن الحلم عبارة عن إمساك النفس عن هيجان الغضب، والتحلم عن إمساكها عن قضاء الوطر منه، إذا هاج، والكمال في الحلم، ولكن التحلم صبر على المكروه، وفيه أيضاً خير كثير. فهذه مراتب أفعال الغضب. والناس في الغضب يختلفون، فبعضهم كالحلفاء، سريع التوقد، سريع الخمود، وبعضهم كالقطا بطيء الخمود، وبعضهم بطيء التوقد سريع الخمود، وهو الأحمد، ما لم ينته إلى فتور الحمية والغيرة. وأسباب الغضب أما من جهة المزاج، فالحرارة واليبوسة، يدل عليهما تعريف الغضب، فإن الغضب معناه غليان دم القلب، فإن كان على من فوقك في القدرة على الانتقام، تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى القلب، وكان حزناً، ولأجله يصفر الوجه. وإن كان على من دونك تولد منه ثوران دم القلب، لا انقباضه، فيكون منه الغضب الحقيقي وطلب الانتقام. وإن كان على نظيرك في القدرة على الانتقام، تولد منه تردد الدم بين انقباض وانبساط، ويختلف به لون الوجه فيحمر ويصفر ويضطرب. وبالجملة قوة الغضب محلها القلب، ومعناه حركة الدم وغليانه. وأما ما وراء المزاج، فالاعتياد، فإن من يعاشر جماعة يباهون بالغضب والطباع السبعية انطبع ذلك فيه. وإن من خالط أهل الهدوء والوقار أثرت العادة أيضاً فيه. وأما سببه المخرج له من القوة إلى الفعل في الحال، فهو العجب والافتخار والمراء واللجاج والمزاح والتيه والاستهزاء والضيم وطلب ما فيه التنافس والتحاسد وشهوة الانتقام، وكل ذلك مذموم. وحق من اعتراه الغضب أن يتفكر فيما قاله بعض الحكماء لبعض السلاطين وقد سأله حيلة في دفع الغضب، فقال: "ينبغي أن تذكر أنه يجب أن تطيع لا أن تطاع فقط، وأن تَخدم لا أن تُخدم فقط، وأن تَحتمل لا أن تُحتَمل فقط، وأن تعلم أن الله يراك دائماً، فإذا فعلت ذلك لم تغضب".

واعلم أن الغضب له فروع كما سبق، ومن جملتها الشجاعة والتهور والمنافسة والغبطة والحسد على ما سبق، ولكن نزيدها شرحاً. أما الشجاعة فخلق بين التهور والجبن، فإن اعتبر إضافتها إلى النفس فهي صرامة القلب في الأهوال وربط الجأش عند المخاوف، وإن اعتبر بالفعل فالإقدام على موضع الفرصة وتولدها من الغضب وحسن الأمل وبها يصابر الإنسان الشدائد، بل بها يصبر عن المعاصي، فإن الغضب إذا سلّط على الشهوة زجرها. ولما كان الدين شطره رغبة في الخير، وشطره تركاً للشر قال عليه السلام: "الصبر نصف الإيمان"، ولما كان بعض الشرور في شهوة الفرج والبطن، وبعضها في غيرهما قال: "الصوم نصف الصبر". والصبر صبران، صبر جسمي وهو تحمل المشاق بالمدن، أما فعلاً كتعاطي الأعمال الشاقة، وأما انفعالاً كاحتمال الضرب الشديد والمرض العظيم. والمحمود التام هو الضرب الثاني وهو الصبر النفسي. فإن عن تناول المشتهيات، سمي عفة، وإن كان على احتمال مكروه، اختلفت أسماؤه بحسب اختلاف المكروه، فإن كان في مصيبة، اقتصر على اسم الصبر، ويضاده الجزع والهلع، وإن كان في احتمال غني سمي ضبط النفس ويضاده البطر، وإن كان في حرب سمي شجاعة، ويضاده الجبن، وإن كان في كظم الغيظ والغضب، سمي حلماً، ويضاده التذمر، وإن كان في نائبة مضجرة سمي سعة الصدر، ويضاده الضجر والتبرّم وضيق الصدر، وإن كان في إخفاء كلام سمي كتم السر، وإن كان على فضول العيش سمي زهد وقناعة، ويضاده الحرص والشره، ولذلك قال تعالى: (والصَّابِرِينَ في البَأْسَاءِ) أي المصيبة والضراء، أي الفقر وحين البأس، أي المحاربة، (أولَئِكَ الذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئكَ هُم المُتَّقون) وأما الغبطة والمنافسة والحسد التي هي من جملة الفروع أيضاً، فالغبطة محمودة والحسد مذموم. قال عليه السلام: "المؤمن يغبط والمنافق يحسد". والمنافسة محمودة قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ). والغبطة تمني الإنسان أن ينال كل ما ناله أمثاله، من غير أن يغتنم لنيل غيره. فإذا انضم إليه الجد والتشمير في الوصول إلى مثله أو خير منه، فهو منافسة. والحسد هو تمني زوال النعمة عن مستحقيها، وربما كان مع سعي في إزالتها. والخبيث الحسود من يكون ساعياً في الإزالة من غير أن يطلبها لنفسه. والحسد غاية البخل، إذ البخيل يبخل بمال نفسه، والحسود يبخل بمال الله على غيره. وقيل: الحسد والحرص هما ركنا الذنوب ولهما ضرب المثل بآدم وإبليس، إذ حسد إبليس آدم فصار لعيناً، وحرص آدم على ما نهي عنه فأُخرج من الجنة. فهما شجران يثمران الهموم والغموم والخسران، فمن قطع عروقها نجا، وبالجملة فالحسد عين الحماقة، لأن من لا يغنم بخير يصل إلى أهل المغرب، مع أنه لا يناله بوجه، فلم يغتم بخير يصل إلأى عشيرته وشركائه وجيرانه وأهل بلده، وربما بوجه، فلم يغتم بخير يصل إلى عشيرته وشركائه وجيرانه وأهل بلده، وربما ينال منه حظاً. وقوله عليه السلام: "لا حسد إلا في اثنين: رجل أتاه الله مالاً فجعله في حق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها"، إنما أراد به الغبطة، فإن الحسد قد يطلق لإرادتها.

فهذا هو القول في ضبط أفعال هذه الصفات. فإن قلت: فمن ضبط أفعال هذه القوى حتى حدث في نفسه، من أفعاله أخلاق راسخة يتيسر بها هذه الأفعال، فهل يكون عفيفاً؟ فاعلم أن العفة لا تتم بهذا القدر ما لم ينضم إليه عفة اليد واللسان والسمع والبصر، وحدّها في اللسان الكف عن السخرية والغيبة والنميمة والكذب والهمز والتنابذ بالألقاب، وفي السمع ترك الإصغاء إلى قبائح اللسان من الغيبة وغيرها، وإلى استماع الأصوات المحرمة وكذلك في جميع الجوارح والقوى. وعماد عفة الجوارح كلها ألا يطلقها في شيء مما يختص بها، إلا فيما يسوّغه العقل والشرع، وعلى الحد الذي يسوّغه ثم لا تتم بذلك، ما لم يكن قصده في الإقدام والإحجام تحري الفضيلة وطلب التقرب إلى الله عز وجل ونيل مرضاته. فأما إن كان قصده بعفته انتظاراً لما هو أكثر، أو لأنه لا يوافق مزاجه أو لخمود شهوته، أو لاستشعار خوف في عاقبته، كسقوط حشمته أو لأنه ممنوع من تناوله، فكل ذلك ليس بعفة، وإنما كل ذلك تجارة وترك حظ لحظ يماثله. وكل ذلك غير كاف في تحصيل العفة، فليعلم ذلك، ولنخض بعد ذلك في تعريف التعلم والتعليم وتهذيب القوة العقلية.