بيان شرف العقل والعلم والتعليم

قد عرفت فيما سبق أن العلم والعمل هما وسيلتا السعادة، وأن العمل لا يتصور إلا بعلم بكيفية العمل، وأن العلم الذي ليس بعملي، كالعلم بالله وصفاته وملائكته، مقصود، فقد استفدت منه أن العلم أصل الأصول، فلا بد أن نرشدك الآن إلى طريق التعلم والتعليم. ولننبه أولاً على شرف هذه الأمور، وندل عليه، فنقول: أما التعليم، فهو أشرف الأعمال. والصناعات ثلاثة أقسام: أما أصول لأقوام للعالم دونها وهي أربعة: الزراعة والحياكة والبناية والسياسة، وأما مهيئة لكل واحدة منها وخادمة لها، كالحدادة للزراعة، والحلاجة والغزل للحياكة، وأما متممة لكل واحدة من ذلك ومزينة لها، كالطحانة والخبز للزراعة، والقصارة والخياطة للحياكة. وذلك بالإضافة إلى قوام العالم الأرضي، مثل أجزاء الشخص بالإضافة إليه، فإنها ثلاثة أضرب: أما أصول كالقلب والكبد والدماغ، وأما مرشحة لتلك الأصول وخادمة لها، كالمعدة والعروق والشرايين، وأما مكملة ومزينة لها، كالهدب والحاجب.

وأشرف أصول الصناعات السياسات، إذ لا قوام للعالم إلا بها، وهي أربعة أضرب: الأول سياسة الأنبياء وحكمهم على الخاصة والعامة، في ظاهرهم وباطنهم، والثاني الخلفاء والولاة والسلاطين، وحكمهم على الخاصة والعامة جميعاً، لكن على ظاهرهم لا على باطنهم، والثالث العلماء والحكماء، وحكمهم على باطن الخواص فقط، والرابع الوعاظ والفقهاء وحكمهم على باطن العامة فقط. فأشرف هذه السياسات الأربع بعد النبوة إفادة العلم وتهذيب نفوس الناس. وبرهان ذلك أن شرف الصناعة، إنما يكون باعتبار النسبة إلى القوة المبرزة المظهرة لها، كفضل معرفة الحكمة على معرفة اللغات، فإن الأولى متعلقة بالقوة العقلية التي هي أشرف القوى، والأخرى متعلقة بالقوة الحسية، وهي السمع. وأما بحسب عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة، وأما بحسب شرف الموضوع المعمول فيه، كفضل الصياغة على الدباغة. وليس يخفى أن العلوم العقلية تدرك بالعقل، الذي هو أشرف القوى، وبه يتوصل إلى جنة المأوى، وهو أبلغ نفع وأعمه، وموضوعه الذي يعمل فيه نفوس البشر، وهي أفضل موضوع، بل أشرف موجود في هذا العالم. فإفادة العلم من وجه صناعة، ومن وجه عبادة الله تعالى، ومن وجه خلافة الله هو أجل خلافة. فإن الله تعالى قد فتح على قلب العالم العلم، الذي هو أخص صفاته، فهو كالخازن لأنفس خزائنه. ثم هو مأذون له في الإنفاق على كل محتاج إليه، فأيّ رتبة أجلّ من كون العبد واسطة بين ربه وخلقه، في تقربهم إلى الله زلفى، وسياقتهم إلى جنة المأوى؟.

وأما شرف العلم والعقل فمدرك بضرورة العقل والشرع والحس. أما الشرع، فقد قال عليه السلام: "أول ما خلق الله العقل. فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر. ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك، بك آخذ وبك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب". وهذا العقل الذي يدرك به الإنسان الأشياء يجري من العقل الأول الذي خلق الله عز وجل مجرى النور من الشمس. فإن هذه العقول عقول بالإضافة إلى الأشخاص وذلك مطلق من غير إضافة. وأما دلالة العقل على شرف العقل، فهو أن ما لا ينال سعادة الدنيا والآخرة إلا به، فكيف لا يكون أشرف الأشياء؟ وبالعقل صار الإنسان خليفة الله وبه تقرب إليه وبه تم دينه. ولذلك قال عليه السلام: "لا دين لمن لا عقل له"، وقال: "لا يعجبكم إسلام امرئ حتى تعرفوا عقله". ولهذا قيل: "من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الشر عليه"، وناهيك به شرفاً أن قد شبّه الله سبحانه العقل بالنور فقال: (اللهُ نورُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ)، أي منورهما، وأكثر ما يطلق النور والظلمات في القرآن على العلم والجهل، مثل قوله تعالى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يَخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ)، وإنما كان ذلك بالعقل، ولذلك قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه: "إذا تقرب الناس لخالقهم بأبواب البر، فتقرب أنت بعقلك، تتنعم بالدرجات والزلفى عند الناس في الدنيا، وعند الله في الآخرة". وسنذكر وجه التقرب بالعقل. وأما الحس بمجرده، فكاف في إدراك شرف العقل والعلم، حتى أن أكبر الحيوانات شخصاً، أقواها بدناً، إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام، واستشعر الخوف منه، لإحساسه بأنه مستدل عليه بجبلته. وأقرب الناس إلى البهائم أجلاف العرب والترك، ورعاة البهائم منهم. ولو وقع فيما بينهم راع أو فر منهم عقلاً، وأكثر منهم دراية بصناعتهم، لو قرّوه طبعاَ. ولذلك ترى الأتراك بالطبع يبالغون في توقير شيوخهم، لأن التجربة ميْزتهم عنهم بمزيد علم، ولذلك قال عليه السلام مطلقاً: "الشيخ في قومه كالنبي في أمته". وإنما وقار النبي في أمته بعلمه وعقله، لا بقوة شخصه وجمال بدنه، وكثرة ماله وقوة شوكته. ولذلك قصد كثير من المعاندين قتل رسول الله عليه السلام، فلما وقع طرفهم عليه هابوه وتراءى لهم نور الله في وجهه، معرباً عن تميّزه ملقياً للرعب في صدور معانديه، وقد سمى الله عز وجل العلم روحاً، فقال: (وكذلك أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمرنا). وسماه حياة فقال تعالى: (أَوْ مَنْ كَانَ مَيِّتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ)، وقال عليه السلام: "ما خلق الله خلقاً أكرم من العقل". ولو جلبت الأخبار الواردة في الحث على طلب العلم، لطال المقال. وأيّ تشريف يزيد على قوله: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم إرضاء بما يصنع".

بيان وجوب التعلم لإظهار شرف العقل

اعلم أن شرف العقل، من حيث كونه مظنة العلم والحكمة وآلة له، ولكن نفس الإنسان معدن للعلم والحكمة، ومنبع لها، وهي مركوزة فيها بالقوة في أول الفطرة، لا بالفعل، كالنار في الحجر والماء في الأرض والنخل في النواة. ولا بد من سعي في إبرازه بالفعل، كما لا بد من سعي في حفر الآبار لخروج الماء. ولكن كما أن من الماء ما يجري من غير فعل بشري، ومنه ما هو كامن محتاج في استنباطه إلى حفر وتعب، ومنه ما يحتاج فيه إلى تعب قليل، كذلك العلم في النفوس البشرية، ممننه ما يخرج إلى الفعل من القوة بغر تعلم بشري، كحال الأنبياء عليهم السلام، فإن علومهم تظهر من جهة الملأ الأعلى، من غير واسطة بشريّ، ومنه ما يطول الجهد فيه كأحوال العامة من الناس، لا سيما ذوو البلادة، الذين كبر سنهم في الغفلة والجهل، ولم يتعلموا زمن الصبا، ومنه ما يكفي فيه السعي القليل، كحال الأذكياء من الصبيان.

ولكون العلوم مركوزة في النفوس، قال الله تعالى: (وَإِذَا أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بَلَى). فالمراد بإقرار نفوسهم المعنى الذي أشرنا إليه، من كونها موجودة بالقوة دون إقرار الألسنة، فإنها لم تحصل من كلّهم عند الظهور، بل من بعضهم، وكذلك قوله تعالى: (وَلَئَنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُن الله)، معناه لئن اعتبرت أحوالهم شهدت نفوسهم وبواطنهم بذلك، "فطرة الله التي فطر الناس عليها". فكل آدمي فطر على الإيمان وما جاء الأنبياء إلا بالوحيد. ولذلك قال: "قولوا لا إله إلا الله". فإنه لن يصادف إلا من هو مصدق بالإله، وإنما غلط في عينه أو صفته. ثم لما كان الإيمان بالله مركوزاً في النفوس بالفطرة، انقسم الناس إلى من أعرض فنسي، وهم الكفار، وإلى من أجال خاطره، فتذكر وكان كمن جمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها. ولذلك قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرون)، (وَلْيذَكّرّ أوْلوا الألبابِ)، (وَاذْكُروا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقُهُ الذي وَاثَقَكُمْ بِه)، (وَلَقَدْ يَسّرنا القُرآنَ لِلذِّكر فَهَلْ مِنْ مُذَّكِر). والتذكير هو أكثر ما يعبر به، وتسمية هذا النمط تذكراً ليس ببعيد. وكأن التذكير ضربان: أحدهما أن يتذكر صورة كانت مكتسبة في قلبه بالعقل، ثم غابت عنه، والآخر أن يكون تذكره لصورة مضمّنة بالفطرة في الإنسان. ولذلك قال المحققون: التعلم ليس يجلب للإنسان شيئاً من خارج بل يكشف الغطاء عما حصل في النفوس بالفطرة، كحال مظهر الماء من الأرض، ومظهر الصور في المرآة بالجلاء. وهذه حقائق ظاهرة للناظرين بعين العقل، ثقيلة على من جمد به قصوره على أول رتبة صبيان المكتب، في اعتلاق طبعهم بسوابق الخيالات، من ظواهر الألفاظ، من غير تحقيق لها.

بيان أنواع العقل

 إعلم أن العقل ينقسم إلى غريزي وإلى مكتسب. فالغريزي هو القوة المستعدة لقبول العلم، ووجوده في الطفل، كوجود النخل في النواة. والمكتسب المستفاد هو الذي يحصل من العلوم، إما من حيث لا يدري، كفيضان العلوم الضرورية عليه، بعد التمييز من غير تعلم، وإما من حيث يعلم مدركه، وهو التعلم. ولانقسام العقل إلى قسمين قال الإمام علي رضي الله تعالى عنه:  

رَأيتُ العقلَ عقلـين

 

فمطبوعٌ ومسمـوع

ولا ينفعُ مسـمـوعٌ

 

إذا لم يك مطبـوع

كما لا تنفعُ الشمـسُ

 

وَضَوءَ العَينِ ممنوع

والأول هو المراد بقوله: "ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل"، والثاني هو المراد بقوله عليه السلام لعلي: "إذا تقرب الناس بأبواب البر، فتقرب أنت بعقلك". والأول يجري مجرى البصر للجسم، والثاني يجري مجرى نور الشمس، ولا منفعة في النور عند عمي البصر، ولا يجدي البصر عند عدم النور. فكذلك بصر الباطن، وهو العقل، وهو أشرف من البصر الظاهر إذ النفس كالفارس، والبدن كالفرس، وعمي الفأس أضّر من عمى الفرس. ولمشابهة بصره الباطن الظاهر قال تعالى: (مَا كَذَبَ الفُؤادُ مَا رَأَى)، وقال: (وَكَذَلِكَ نُري إبراهيمَ مَلَكوتَ السَّمَواتِ والأَرْض). وسمي ضده عمى، قال تعالى: (فَإِنّها لا تَعْمَى الأبصار وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي في الصّدُور). وقال: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذه أَعْمَى فَهُوَ في الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبيلاً). وبالجملة من لم يكن بصيرة عقله نافذة، فلا تعلق به من الدين إلا قشوره، بل خيالاته وأمثلته، دون لبابه وحقيقته. فلا تدرك العلوم الشرعية، إلا بالعلوم العقلية، فإن العقلية كالأدوية للصحة، والشرعية كالغذاء، والنقل جاء من العقل، وليس لك أن تعكس. والنفس المريضة المحرومة من الدواء تتضرر بالأغذية ولا تنتفع. ولذلك قال تعالى: (في قُلُوبِهِم مَرَضٌ)، لما كانوا لا ينتفعون بالقرآن. والمقلد الأعمى، إذا تأمل أمور مواد الشرع يتراءى له أمور متناقضة، وهي كذلك بالإضافة إلى ما فهمه. ثم قد تجبن نفسه عن التأمل فيه لضعف عقله وخور طبعه، فيتكلف الغفلة عنه خيفة أن ينكسر تقليده، وقد يتأمله فيدرك تناقضه، فيتحير ويبطل يقينه. ولو نظر بعين البصيرة، لبطل التناقض ورأى كل شيء في موضعه. ومثاله مثال الأعمى الذي دخل داراً فعثر بالكوز والطشت وأثاث الدار، فقال: لمَ وضعتم هذا على الطريق، لم لا تردونها إلى محلها. فقيل له: إن كلاً في موضعه، ولكن الخلل في البصر. فهذا بيان نسبة العلم المستفاد من العقل.

واعلم أن المكتسب من العلوم بواسطة العقل ينقسم إلى المعارف الدنيوية والآخروية، وطريقاهما متنافيان. فمن صرف عنايته إلى أحدهما، اقتصرت بصيرته في الآخر على الأكثر. ولذلك ضرب الإمام علي رضي الله عنه ثلاثة أمثلة. فقال: "إن مثل الدنيا والآخرة ككفتي ميزان، وكالمشرق والمغرب، وكالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى". ولذلك نرى الأكياس في أمور الدنيا جهالاً في أمور الآخرة، وبالعكس. ولذلك قال عليه السلام: "الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت". وقال لمن نسب بعض الصالحين إلى البله: "أكثر أهل الجنة البله"، يعني في أمور الدنيا. ولذلك قال الحسن البصري: "أدركنا أقواماً لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو رأوكم لقالوا شياطين". ومهما سمعت أمراً غريباً من أمور الدين، فلا يبعدنّك عن قبوله أنه لو كان حقيقياً لأدركه الأكياس من أرباب الدنيا ودقائق الصناعات الهندسية وغيرها، إذ من المحال أن يظفر سالك طريق المشرق بما يوجد في المغرب، فكذلك أمر الدنيا والآخر. ولذلك قال تعالى: (إن الَّذِينَ لاَ يَرْجَوْنَ لِقَاءَنَا وَرَضَوا بالحياةِ الدُّنْيا واَطْمَأَنّوا بها) الآيتين. وقوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهراً مِنَ الحَياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخرَةِ هُمْ غَافِلُون). ولا يكاد يجمع بينهما إلا من رشحه الله لتدبير الخلق في معاشهم ومعادَهم وهم الأنبياء المؤيدون بروح القدس، المستمدون من قوة تتسع لجميع الأمور، ولا تضيع. فأما النفوس الضيقة، إذا شغلت بأمر انصرفت عن غيره، ولن نقدر على الاستكمال منهما جميعاً.