بيان الطريق في نفي الغم في الدنيا

مهما كان الإنسان آمناً في سربه، معافى في بدنه، وله قوت يومه، فحزنه وغمه بسبب أمر الدنيا أمارة نقصانه وحماقته، فإن غمه ليس يخلو إما أن يكون تأسفاً على ماضٍ، أو خوفاً من مستقبل، أو حزناً على سبب حاضر في الحال. فإن كان على فائت فالعاقل بصير بأن الجزع لا ما فات لا يلم شعثاً، ولا يرم انتكث. وما لا حيلة له، فالغم عليه خرق. ولذلك قال تعالى: (ِلَكْيلا تَأسُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ). وقال الشاعر: وهل جزع مجد عليّ فأجزعا.

وإن كان حاضر، فأما أن يكون حسداً لوصول نعمة إلى من يعرفه، أو يكون حزناً للفقر، وفقدان المال والجاه، وأسباب الدنيا. وسبب هذا الجهل بغوائل الدنيا وسمومها، ولو عرفها معرفتها لشكر الله تعالى على كونه من المخففين، دون المثقلين. ولو فكّر العاشق في منتهى حسن الذي يعشقه، لم يعشقه، إذ يعلم أن الدنيا حمالة المصائب، كدرة المشارب، تورث للبرية أنواع البلية، مع كل لقمة غصمة، فما أحد فيها، إلا وهو في كل حال غرض لأسهم ثلاثة، سهم نقمة وسهم رزية وسهم منية:  

تناضِلهُ الأوقاتِ مِنْ كلِّ جَانبٍ

 

فَتخطئهُ طَوراً وطَوراً تصيبهُ

 

 فمن كان معتبراً بما يتجدد كل يوم من ارتجاع النعم من أربابها، وحلول القوارع بأصحابها، وشدة اغتمامهم بفقدها، لم يتأسف على فواتها. ولذلك قيل لبعضهم: لم لا تغتم؟ قال: لأني لا أقتني ما يغمني فقده. ومهما أمعن الإنسان فكره في غفلة أرباب الدنيا عن الآخرة وكثرة مصائبهم فيها، تسلى عنها، وهان عليه تركها. وكان بعض الصوفية وظّف على نفسه كل يوم أن يحضر دار المرضى "أي البيمارستان" ليشاهدهم، ويشاهد عللهم ومنحهم، ويحضر حبس السلطان أيضاً، ويشاهد أرباب الجنايات ومجيئهم لإقامة العقوبات، وأيضاً يحضر المقابر، فيشاهد أرباب العزاء وسفهم على ما لا ينفع، مع اشتغال الموتى بما هم فيه، كان يعود إلى بيته بالشكر طول النهار على نعم الله عليه في تخليصه من كل البلايا. وحق للإنسان في الدنيا أن ينظر أبداً ما عاش إلى من هو دونه، ليشكر، وفي الدين إلى من هو فوقه، ليشمّر. والشيطان إذا استولى نكس هذا النظر وعكسه. فإذا قيل له: لمَ تتعاطى هذا الفعل القبيح؟ اعتذر بأن بلاناً يتعاطى ما هو أكبر منه، مع أنه ليس في المعصية، ولا في الكفر مناظرة. وإذا قيل له: لما لا تقنع بهذا الموجود؟ فيقول: فلان أغنى مني، فلم أصبر على ما ليس يصبر عنه؟ وهذا عين الضلال والجهل المحض. ومهما التقى الهم بهذا العائق، بطل غمّ الحسد. فمن أنعم الله عليه بنعمة، فإن كان يستحقها، لم يغتم به وإن كان لا يستحقها، فوبالها عليه أكثر من نفعها. فأما إن كان الغم في الأمر المستقبل، فإن كان على أمر ممتنع كونه أو واجب كونه، مثل الموت فعلاجه محال. وإن كان ممكناً كونه نظر، فإن كان لا يقبل الدفع، كالموت قبل الهرم، فالحزن له حماقة. وإن كان قابلاً للدفع، فلا معنى للغم، بل ينبغي أن يحتال الدفعبعقل غير مشوب بحزن. فإذا فعل ما قدر عليه، من تمهيد حيل الدفع، بقي ساكن القلب، منظراً لقضاء الله وقدره عالماً بأنه لا مرد لما قضاه، فيتلقاه بصبر، إن لم يندفع ويتحقق إن ما قدر فهو كائن. ويتذكر قوله تعالى: (ما أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الأرض وَلا في أَنْسِكُمْ إلا في كتابٍ مِنْ قَبْل أن نَبْرأهَا) الآية. وإنما حرض الناس على تهيئة أسباب الدنيا، منشأه الغرور وحسن الظن بانحسار الآفات وتقدم صفاء الأوقات، وهيهات، ثم هيهات! قال الإمام علي، رضي الله عنه: "ما قال الناس لقوم طوبى لكم، إلا وقد خبأهم الدهر ليوم سوء". وصدق الشاعر، فيما قال:  

إنّ الليالي لم تُحسنْ إلى أحَدٍ

 

إلاّ أسَاءَتْ إليهِ بَعْدَ إحْسَانِ

 

وما قصر أبو منصور الثعالبي في وصف الدنيا، حيث قال:  

تَسَلِّ الدّنيا وَلاَ تَـخـطـبـنّـهـا

 

ولا تخطبنّ قتاله من تـنـاكَـح

فليسَ يفي مرجوّهاً بمخـوفـهـا

 

ومكروهها لما تدبَّـرت راجـح

لقد قالَ فيها الواصِفونَ فأكثـروا

 

وَعندِي لَها وصفٌ لعمري صالح

سلاف قصاراه زعاف، ومركب

 

شهي، إذا استلذذته فهو جـامـح

وشخصٌ جميلُ يونقُ الناس حسنهُ،

 

ولكن له أسرار سـوء قـبـائح

 

فالعاقل، إذا أمعن النظر في هذه الأمور، خفّ على قلبه أكثر الغموم، إلا إذا كانت العلاقة قد استحكمت بينه وبين معشوق، من آدمي أو مال أو عقار، أو حرفة، أو رياسة أو ولاية، أو امر من الأمور، فلا خلاص له عن غمومها، إلا بعد قطع العلائق عنها. ولا يمكن ذلك إلا بكفّ النفس عنها تدريجياً، والاشتغال بغيرها، وإن كان ذلك الغير أيضاً مما يجانسها في وجوب التباعد عنه، ولكن لا بأس بغسل الدم بالدم، إذا كان الأول أشد لصوقاً والتزاقاً، وهذه من دقائق الرياضيات، فإن النزوع عما وقع الألف به دفعة واحدة عسر، بل ممتنع. ولذلك يرقى الصبي الذي يعلم الأدب بالترغيب في اللعب بالصولجان والطيور، ثم يكفّ عن اللعب بالترغيب في الثروة والمال، والتزيين بالثياب الجميلة وغيرها، ثم يرقيه من ذلك بالترغيب في المحمدة والثناء، ونيل الكرامة والرئاسة، ثم يرقيه بالترغيب في سعادة الآخرة، ويكون الرئاسة آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين. ولقد كانت هذه المعالجة بأمور محذورة في نفسها، ولكن مطلوبة بالإضافة إلى ما هو شرّ منها، وكأنها منازل وأطوار الآدمي يرتقي فيها واحداً، ولا يمكن الخلاص إلا بهذا التدريج، فليراع ذلك في كل صفة استولت على النفس، واشتدت علاقتها، وبقطع العلائق تمحّى الغموم.

بيان نفي الخوف من الموت

للإنسان حالتان، حالة قبل الموت، وحالة بعد الموت. أما قبل الموت، فينبغي أن يكون الإنسان فيها دائم الذكر للموت، كما قال عليه السلام: "أكثروا من ذكر هازم اللذات، فإنه ما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه عليه، ولا في سعة إلا ضيقها عليه". والناس فيها قسمان: غافل وهو الأحمق الحقيقي الذي لا يتفكر في الموت وما بعده إلا نظراً، في حال أولاده وتركاته عند موته، ولا ينظر ويتدبر في أحوال نفسه، ولكن لا يتذكر إلا إذا رأى جنازة فيقول بلسانه: (إنا لله وَإِنَّا إِليهِ راجِعُون)، ولا يرجع إلى الله عز وجل بأفعاله إلا بأقواله، فيكون كاذباً في أقواله تحقيقاً. وأما العاقل الكيس فلا يفارقه ذكر الموت، كالمسافر إلى مقصد الحاج مثلاً، فإنه لا يفارقه ذكر المقصد، وأشغال المنازل في الحط والترحال لا تنسيه مقصوده. وعلى الجملة، فذكر الموت يطرد فضول الأمل، ويكف غرب المنى، فتهون المصائب ويحول بين الإنسان وبين الطغيان. ومن ذكر الموت، تتولد القناعة بما رزق والمبادرة إلى التوبة، وترك المحاسدة والحرص على الدنيا والنشاط في العبادة، وينبغي أن يكون المتراخي عن عبادته، ألا يصبح يوماً إلا ويقدّر أنه سيموت تقديراً للموت العاجل، فإنه ممكن. ومهما قدّر الموت بعد سنين، لم يحرص على العبادة، ولم تفتر رغبته في الدنيا، بل لا ينبغي أن يهمل نفسه أكثر من يوم، فيصبح كل يوم على تقدير الاستعداد للرحلة نهاراً. فكل من ينتظر أن يدعوه ملك من الملوك كل ساعة، فينبغي أن يكون مستعداً للإجابة، فإن لم يكن فربما يأتيه الرسول، وهو غافل فيحرم عن السعادة. وما من وقت، إلا ويرى فيه الموت ممكناً، فإن قلت: الموت فجأة بعيد، قلت: فإذا وقع المرض، فالموت غير بعيد. وذلك يمكن في أقل من يوم، ولا يكون بعيداً. وأما الاغتمام لأجل الموت، فليس من العقل أيضاً، فإن ذلك الغم لا يخلو من أربعة أوجه: إما لشهوة بطنه وفرجه، وإما على ما يخلّفه من ماله، وإما على جهله بحاله بعد الموت وماله، وإما لخوفه على ما قدّمه من عصيانه. فإن كان ذلك لشهوة بطنه وفرجه، فهو كمشتهي داء ليقابله بداء مثله، فإن معنى لذة الطعام إزالة ألم الجوع، ولذلك إذا زال الجوع وامتلأت المعدة، كره عين ما اشتهاه، كمن يشتهي القعود في الشمس ليناله الحر، حتى يتلذذ بالرجوع إلى الظل، وكن يشتهي الحبس في حمام حار، ليدرك لذة ماء الثلج، إذا شربه، وهو عين الرقاعة والخرق. وإن كان ذلك على ما يخالفه من ماله، فهو بجهله بخساسة الدنيا وحقارتها، بالإضافة إلى الملك الكبير والنعيم المقيم الموعود للمتقين. وإن كان ذلك لجهله بعاقبة أمره بعد الموت، فعليه أن يطلب العلم الحقيقي، الذي يكشف له حال الإنسان بعد موته، كما قال حارثة للنبي صلى الله عليه وسلم: "كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتلا عنون فيها"، وهذا العلم إنما يحصل بالبحث عن حقيقة النفس وماهيتها، ووجه علاقتها بالبدن، ووجه خاصيتها التي خلقت لها، ووجه التذاذه بخاصيته وكماله، مع معرفة الرذائل المانعة له من كماله، وقد نبه الشرع عليه في مواضع كثيرة، وأمر بالتفكر في النفس، كما أمر بالتفكر في ملكوت السموات والأرض. وإن كان ذلك لما سبق من عصيانه، فلا ينفع الغم فيه، بل المداواة، وهو المبادرة إلى التوبة وإصلاح ما فرط من أمره، بل مثاله في الاغتمام وترك التدارك مثل من فتح عرق من عروقه، وقد خرج بعض دمه، وهو قادر على تعصيبه وحفظ حشاشه، فأهمله وجلس متأسفاً على خروج ما خرج من دمه. وذلك أيضاً من الحماقة فإن الفائت لا تدارك له، ولا ينفع فه التأسف، فليشتغل بالمستقبل. الحالة الثانية حال الإنسان عند الموت، والناس عنده ثلاثة أقسام: الأول ذو بصيرة، علم أن الموت يعتقه، والحياة تسترقه، وإن الإنسان، وإن طال في الدنيا مكثه، فهو كخطفه برق، لمعت في أكناف السماء، ثم عادت للاختفاء. فلا يثقل عليه الخروج من الدنيا، إلا بقدر ما يفوت من خدمة ربه، عز وجل، والازدياد من تقربه والاشفاق مما يقول أو يقال له. كما قال بعضهم، لما قيل له: لم تجزع؟ قال: لأني أسلك طريقاً لم أعهده، وأقدم على رب لم أره ولا أدري ما أقول وما يقال لي. ومثل هذا الشخص لا ينفر من الموت بل إذا عجز عن زيادة العبادة ربما اشتاق إليه. وقال بعضهم في مناجاته: إلهي إن سألتك الحياة في دار الممات فقد رغبت في البعد عنك وزهدت في القرب منك. فقد قال نبيك وصفيك صلى الله عليه وسلم: "من حب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله فقد كره الله لقاءه". والثاني رجل رديء البصيرة متلطخ السريرة منهمك في الدنيا منغمس في علائقها، رضي بالحياة الدنيا وطمئن بها ويئس من الدار الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور. فإذا خرج إلى دار الخلود أضر به كما تضر رياح الورد بالجعل. وإذا خرج من قاذورات الدنيا لم يوافقه عالم العلاء ومصباح الملأ الأعلى فكان كما قال الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذه أَعْمَى فَهُوَ في الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلّ سَبِيلاً)، فإن الدنيا سجن الأول وجنة الثاني. والأول كعبد دعاه مولاه فأجابه طوعاً فقدم عليه مسروراً يتوفره على الخدمة، والثاني كعبد آبق رد إلى مولاه مأسوراً وقيد إلى حضرته مقهوراً، فيبقى ناكس الرأس بين يدي مولاه مختزياً من جنايته، وشتان ما بين الحالين. والقسم الثالث رتبة بين الرتبتين: رجل عرف غوائل هذا العالم وكره صحبته ولكن أنس به وألفه، فسبيله سبيل من ألف بيتاً مظلماً قذراً ولم ير غيره. فهو يكره الخروج منه وإن كان قد كره دخوله. فإذا خرج رأى ما أعد الله للصالحين لم يتأسف على ما كره فواته بل قال: (الحَمْدُ للهِ الّذي أَذْهَبَ عَنّا الحُزْنَ إنّ رَبّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الّذي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسّنَا فِيهَا لُغُوبٌ). ولا يبعد أن يكره الإنسان مفارقة شيء ثم إذا فارقه لا يتأسف عليه، فالصبي وقت الولادة يبكي لما يناله من ألم الانتقال، ثم إذا عقل لم يتمن العود إليه. والموت ولادة ثانية يستفاد بها كما لم يكن قبل، بشرط أن لا يكون قد تقدم ذلك الكمال من الآفات والعوارض ما أبطل قبول المحل للكمال، كما أن الولادة سبب لكمال مغبوط لم يكن عند الاجتنان، بشرط أن لا يكون قد تمكن في رحم الأم من الأسباب والعلل والعوارض ما منع قبول الكمال، ولكون الموت سبب كمال قال بعضهم: ينبغي أن يكون دعاؤنا لعزرائيل عليه السلام وشكرنا له مثل دعاؤنا لجبرائيل وميكائيل وإسرافيل. فإن جبرائيل وميكائيل هما سببان لا علامنا بما فيه خلاصنا من الدنيا ونجاتنا في الآخرة، وذلك بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم، وملك الموت سبب إخراجنا إلى ذلك العالم فحقه عظيم وشكره لازم، وقد حكي عن طائفة من حكماء الأمم السابقة أنهم كانوا يعظمون رجلاً بالتقديس والتسبيح من حيث اعتقدوا أنه لا يعين على الحياة العرضية، بل هو سبب للهلاك الذي به الخلاص من هذه الدنيا الدنية.