بيان علامة المنزل الأول من منازل السائرين إلى الله تعالى

اعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل، والمدعي فيه كثير. ونحن نعرفك علامتين تجعلهما أمام عينيك، وتعتبر بهما نفسك وغيرك. فالعلامة الأولى أن يكون جميع أفعاله الاختيارية موزونة بميزان الشرع، موقوفة على حد توقيفاته، إيراداً وإصداراً، وإقداماً وإحجاماً. إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل، إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة، كلها ولا يمكن ذلك إلا بعد تهذيب الأخلاق، كما وصفنا من قبل. ولا يتوصل إلى ذلك إلا إذا ترك جملة من المباحات، فكيف يتأتى لمن لم يهجر المحظورات؟ ولا يتوصل إلى ذلك إلا إذا ترك جملة من المباحات، فكيف يتأتى لمن لم يهجر المحظورات؟ ولا يتوصل إليه، ما لم يواظب على جملة من النوافل، فكيف يصل إليه من أهمل الفرائض؟ بل الشرع في تكليفه العالم، اقتصر على فرائض ومحظورات يشترك فيها عوام الناس، بحيث لا يؤدي الاشتغال بها إلى خراب العالم. والسالك في سبيل الله يعرض عن الدنيا إعراضاً، لو ساواه الناس كلهم، لخرب العالم، فكيف ينال بمجرد الفرائض والواجبات، اقتصاراً عليها دون النوافل؟ ولذلك قال تعالى: (لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً فبي يسمع وبي يبصر)، وعلى الجملة لا يدعو إلى إهمال الفرائض، واقتحام المحظورات، إلا كسل لازب، أو هوى غالب. وكيف يسلك سبيل الله من هو يعد في إسراء الكسل والهوى؟ فإذا قلت: فسالك سبيل الله من خاض في مجاهدة الكسل والهوى، فأما من فرغ من قهرها، فهو واصل لا سالك، فيقال: هذا عين الغرور وجهل بالطريق والمقصد جميعاً، بل لو محا جميع الصفات الردية عن نفسه، كان نسبته إلى المقصود نسبة من يقصد الحج، وله غرماء متشبثون بأذياله، فقضى ديونهم وقطع علائقهم. فإن الصفات البدنية المستولية على الناس، مثل الغرماء الآخذين بمخنقه، والسباع العادية الطالبة لأقواتها، فإذا محاها ودفعها، فقد دفع العلائق وبعده يستعد لابتداء السلوك. بل هو كمعتدة تطمع أن ينكحها الخليفة فإذا قضت عدتها المانعة من صحة النكاح، ظنت أن الأمور قد نمت. وهيهات، فلم يحصل منها إلا الاستعداد للقبول بدفع المانع، وبقي إقبال الخليفة وإنعامه بالرغبة، وذلك رزق إلهي. فما كل من تطهّر وصل إلى الجمعة، ولا كل من قضت عدتها وصلت إلى ما أرادت.

فإن قلت: فإن تنتهي رتبة السالك إلى حد ينحط عنه بعض وظائف العبادات، ولا يضره بعض المحظورات، كما نقل عن بعض المشايخ من التساهل في هذه الأمور؟ فاعلم أن هذا عين الغرور، وأن المحققين قالوا: لو رأيت إنساناً يمشي على الماء، وهو يتعاطى أمراً يخالف الشرع، فاعلم أنه شيطان، وهو الحق. وذلك أن الشريعة حنيفية سمحة، فمهما مسّت حاجة أو حصلت ضرورة، كان للشرع فيها رخصة. فمن جاوز محل الرخصة، فلا يكون عن ضرورة، بل عن هوى وشهوة. والإنسان ما دام في هذا العالم، لا يؤمن استيلاء الشهوة ودعودها إلى القهر، بعد الإنقهار. فينبغي أن يأخذ منها حذره، فلا يتصور أن يدعو إلى مخالفة الشرع إلا طلب رفاهية ودعة، أو نوع شهوة، أو نوع كسل. وكل ذلك يدل على التصمغ بالأخلاق الردية، المتقاضية لها. فمن زكى نفسه وغذاها بغذاء العلوم الحقيقية، قوي في المواظبة على العبادة بل صارت الصلاة قرة عينه، فصارت خلوة الليل أطيب الأشياء عنده لمناجاة ربه. فهذه العلامة لا بد منها في أول المنازل، وتبقى إلى آخرها، وإن لم يكن لمنازل السير إلى الله تعالى نهاية، وإنما الموت يقطع طريق السلوك، فيبقى كل إنسان بعد الموت على الرتبة التي حصّلها في مدة الحياة، إذ يموت المرء على ما عاش عليه. العلامة الثانية: أن يكون حاضر القلب مع الله، في كل حال حضوراً ضرورياً غير متكلف، بل حضوراً يعظم تلذذه، وأن يكون الحضور إنكسارأ وضراعة وخضوعاً، لما انكشف عنده من جلال الله وبهائه، ولا يفارق ذلك في أطواره وأحواله، وإن اشتغل بضروريات بدنه من تناول طعام، وقضاء حاجة، وغسل ثوب، وغيره. بل يكون مثاله في جميع الأحوال مثال عاشق، سهر في انتظار معشوقه مدة، وتعب فيه زماناً، ثم قدم عليه معشوقه فاستبشر به، فاستولى عليه قضاء حاجته فلزمه ضرورة مفارقته، وقصد بيت الماء، فيفارقه ببدنه مضطراً، والقلب حاضراً عنده حضوراً، لو خوطب في أثناء ما هو فيه لم يسمعه لشدة استغراق فكره بمعشوقه، ولا يكون ما هو فيه صارفاً عن قرّة عينه، وهو مكره فيه. فالسالك ينبغي أن يكون كذلك في أشغاله الدنيوية، بل لا يكون له شغل سوى ضروريات بدنه، وهو في ذلك مصروف القلب إلى الله عز وجل، مع غاية الإجلال والتواضع، وإذا لم يبعد أن تتحرك شهوة الجماع تحريكاً هذه صفته عند من استولى عليه الشهوة، ووقع في عينه جمال صورة آدمي، خلقت من نطفة قذرة مذرة، ويصير على القرب جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العَذرة، فكيف يتعذر ذلك في إدراك جلال الله وجماله الذي لا نهاية له؟ وعلى الجملة، فلا يتم سلوك هذا الطريق إلا بحرص شديد، وإرادة تامة، وطلب بليغ. ومبدأ الحرص والطلب إدراك جمال المطلوب، الموجب للشوق والعشق، ومبدأ درك جمال المطلوب النظر وتحديق بصر العين نحوه إعراضاً عن سائر المبصرات. فكذلك، بقدر ما يلوع لك من جلال الله عز وجل، ينبعث شوقك وحرصك، وبحسبه يكون سعيك وانبعاثك. ثم قد يزداد العشق بطول الصحبة إذا كان يلوح في أثنائها محاسن أخلاق كانت خفية من قبل، فيتضاعف العشق، فكذلك ما يلوح من بهاء الحضرة الآلهية وجلالها في أول الأمر، ربما كان ضعيفاً بضعف إدراك المريد المبتدئ، ولكن ينبعث منه طلب وشوق، فلا يزال يواظب على الفكر في ذلك الجمال بسببه، فيطلع على مزايا، فيتضاعف في كل وقت عشقه.

وكما يطلب العاشق القرب من معشوقه، فكذا المريد يطلب القرب من الله تعالى، لا أن ذلك بقرب بمكان أو بتماس سطوح الأجسام، أو بكمال جمال صورة بأن يصير مبصراً حاضراً في القوة الباصرة صورته. وهذا القرب قرب الكمال لا في المكان، والأمثلة لا تخيل من هذه المعاني إلا شيئاً بعيداً. ولكن تشبيه ذلك بعشق التلميذ استاذه، وطلبه القرب منه في كماله أصدق في التخيل، فإنه يتقرب إليه بحركته في التعلم، ولا يزال يقرب منه قليلاً قليلاً، وغايته رتبته، وقد يكون ذلك ممكناً، وقد يكون في بعض الأحوال متعذراً، ولكن الترقي من الرتبة التي هو بسببها في البعد ممكن، فيزداد قرباً بالنسبة، والبلوغ ههنا غير ممكن. ولكن السفر عن أسفل السافلين، بقصد جهة العلو ممكن. وقد يكون الممثل في عين التلميذ رتبة مقيدة، لا أنه يتلبس بعشق رتبة أستاذه، ولكن يشتاق إلى الترقي درجة درجة، فلا يتشوق إلى الأقصى دفعة، فإذا نال تلك الرتبة طمحت عينه إلى ما فوقها. فكذلك من ليس عالماً، ينبغي له التشبه بالعلماء، الذين هم ورثة الأنبياء. والعلماء يتشبهون بالأولياء، والأنبياء بالملائكة، حتى تمحى عنهم الصفات البشرية بالكلية، فينقلبون ملائكة في صورة الناس.

والملائكة أيضاً لهم مراتب، والأعلى مرتبة معشوق الأدنى ومطمح نظره، والملائكة المقربون هم الذين ليس بينهم وبين الأول الحق واسطة، ولهم الجمال الأطهر والبهاء الأتم، بالنسبة إلى من دونهم من الموجودات الكاملة البهية. ثم كل كمال بالنظر إلى جمال الحضرة الربوبية مستحقر، فهكذا ينبغي أن يعتقد التقرب إلى الله عز وجل، لا بأن تقدره في بيت في الجنة، فتقرب من باب البيت، فيكون قربك بالمكان، تعالى عنه رب الأرباب، ولا بأن تهدي إليه هدية بعبادتك، فيفرح بها ويهتز لها فيرضى عنك، كما يتقرب إلى الملوك، بطلب رضاهم وتحصيل أغراضهم، فيسمى ذلك تقرباً، تعالى الله وتقدس عن المعنى الذي يتصف الملوك به، من السخط والرضى، والابتهاج بالخدمة، والاهتزاز للخضوع، والانقياد والفرح بالمتابعة. واعتقاد جميع ذلك جهل. فإن قلت: فقد اعتقد أكثر العوام ذلك، فما أبعد عن التحصيل من يطلب العنبر من دكان الدبّاغ، وكيف تطمع في رتبة، وأنت تعرف الحق بالرجال، بل ،ت تعرف الحق بالحمر! فلا فرق بين العوام الذين لم يمارسوا العلوم، وبين حمر مستنفرة، فرت من قسورة. أما تراهم كيف اعتقدوا في الله تعالى أنه جالس على العرش تحت مظلة خضراء، إلى تمام ما اعتقدوه في المشتبهات. فأكثر الناس مشبّهة، ولكن التشبيه درجات. منهم من يشبه في الصورة، فيثبت اليد والعين والنزول والانتقال. ومنهم من يثبت السخط والرضى، والغضب والسرور، والله تعالى مقدس عن جميع ذلك. وإنما أطلقت هذه الألفاظ في الشرع على سبيل وبتأويل، يفهمها من يفهمها، وينكرها من ينكرها، ولو تساوى الناس في الفهم لبطل قوله عليه السلام: "رب حامل فقه إلى من أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"، ولنتجاوز هذا الكلام، فإنه سلسلة المجانين ويحل قيود الشيطان.

بيان معنى المذهب واختلاف الناس فيه

لعلك تقول كلامك في هذا الكتاب إنقسم إلى ما يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد، فما الحق من هذه المذاهب؟ فإن كان الكل حقاً فكيف يتصور هذا، وإن كان بعضه حقاً فما ذلك الحق؟ فيقال لك إذا عرفت حقيقة المذهب لا تنفعك قط، إذا الناس فيه فريقان: فريق يقول المذهب اسم مشترك لثلاث مراتب: إحداها ما يتعصب له في المباهاة والمناظرات، والأخرى ما يسار به في التعليمات والإرشادات، والثالث، ما يعتقده الإنسان في نفسه، مما انكشف له من النظريات. ولكل كامل ثلاثة مذاهب بهذا الاعتبار. فأما المذهب بالاعتبار الأول، فهو نمط الآباء والأجداد، ومذهب المعلم ومذهب أهل البلد، الذي فيه النشوء. وذلك يختلف بالبلاد والأقطار، ويختلف بالعلمين. فمن ولد في بلد المعتزلة أو الأشعرية أو الشفعوية أو الحنفية، انغرس في نفسه منذ صباه التعصب له والذبّ دونه والذم لما سواه. فيقال: هو أشعري المذهب أو معتزلي أو شفعوي أو حنفي، ومعناه أنه يتعصب، أي ينصر عصابة المتظاهرين بالموالاة، ويجري ذلك مجرى تناصر القبيلة بعضهم لبعض. ومبدأ هذا التعصب حرص جماعة على طلب الرياسة باستتباع العوام، ولا تنبعث دواعي العوام إلا بجامع يحمل على التظاهر. فجعلت المذاهب في تفصيل الأديان جامعاً، فانقسمت الناس فرقاً وتحركت غوائل الحسد والمنافسة، فاشتد تعصّبهم واستحكم به تناصرهم، وفي بعض البلاد لما اتحد المذهب وعجز طلاب الرئاسة عن الاستتباع، وضعوا أموراً وخيّلوا وجوب المخالفة فيها والتعصب لها، كالعلم الأسود والعلم الأحمر، فقال قوم الحق هو الأسود، وقال آخرون لا بل الأحمر، وانتظم مقصود الرؤساء في استتباع العوام بذلك القدر من المخالفة، وظن العوام أن ذلك مهم، وعرف الرؤساء الواضعون غرضهم في الوضع. المذهب الثاني ما ينطبق في الإرشاد والتعليم على من حاءه مستفيداً مسترشداً. وهذا لا يتعين على وجه واحد، بل يختلف بحسب المسترشد، فيناظر كل مسترشد بما يحتمله فهمه فإن وقع له مسترشد تركي أو هندي، أو رجل بليد جلف الطبع، وعلم أنه لو ذكر له أن الله تعالى ليس ذاته في مكان، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه، لم يلبث أن ينكر وجود الله تعالى، ويكذب به. فينبغي أن يقرر عنده أن الله تعالى على العرش، وأنه يرضيه عبادة خلقه، ويفرح بها فيثيبهم ويدخلهم الجنة عوضاً وجزاء. وإن احتمل أن يذكر له ما هو الحق المبين يكشف له. فالمذهب بهذا الاعتبار يتغير ويختلف، ويكون مع كل واحد على حسب ما يحتمله فهمه. المذهب الثالث ما يعتقده الرجل سراً بينه وبين الله عز وجل، لا يطلع عليه غير الله تعالى، ولا يذكره إلا مع من هو شريكه في الاطلاع على ما اطلع، أو بلغ رتبة يقبل الاطلاع عليه ويفهمه. وذلك أن يكون المسترشد ذكياً، ولم يكن قد رسخ في نفسه اعتقاد موروث نشأ عليه، وعلى التعصب له، ولم يكن قد انصبغ به قلبه انصباغاً، لا يمكن محوه منه. ويكون مثاله ككاغد: كتب عليه ما غاص فيه ولم يمكن إزالته إلا بحرق الكاغد وخرقه. فهذا رجل فسد مزاجه، ويئس من صلاحه، فإن كل ما يذكر له على خلاف ما سمعه لا يقنعه، بل يحرص على أن لا يقنع بما يذكر ويحتال في دفعه. ولو أصغى غاية الإصغاء، وانصرفت همته إلى الفهم، لكان يشكّ في فهمه، فكيف إذا كان غرضه أن يدفعه ولا يفهمه؟ فالسبيل مع مثل هذا أن يسكت عنه، ويترك على ما هو عليه، فليس هو بأول أعمى هلك بضلالته، فهذا طريق فريق من الناس. وأما الفريق الثاني، وهم الأكثرون، يقولون المذهب واحد، هو المعتقد، وهو الذي ينطق به تعليماً وإرشاداً مع كل آدمي، كيفما اختلفت حاله، وهو الذي يتعصّب له وهو إما مذهب الأشعري أو المعتزلي أو الكرامي، أو أي مذهب من المذاهب. والأولون يوافقون هؤلاء على أنهم لو سئلوا عن المذهب أنه واحد أو ثلاثة لم يجز أن يذكر أنه ثلاثة، بل يجب ان يقال أنه واحد. وهذا يبطل تعبك بالسؤال عن المذهب، إن كنت عاقلاً، فإن الناس متفقون على النطق بأن المذهب واحد، ثم يتفقون على التعصب لمذهب أبيهم أو معلمهم، أو أهل بلدهم، ولو ذكر ذاكر مذهبه، فما منفعتك فيه ومذهب غيره يخالفه، وليس مع واحد منهم معجزة، يترجح بها جانبه. فجانب الالتفات إلى المذاهب، وأطلب الحق بطريق النظر، لتكون صاحب مذهب، ولا تكن في صورة أعمى تقلّداً قائداً يرشدك إلى طريق وحواليك ألف مثل قائدك ينادون عليك، بأنه أهلكك وأظلك عن سواء السبيل. وستعلم في عاقبة أمرك ظلم قائدك، فلا خلاص إلا في الاستقلال. 

خُذْ مَا تَراهُ وَدَعْ شَيْئاً سمـعـتَ بـه

 

في طالعِ الشَمسِ مَا يُغنيكَ عَنْ زُحَل

ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعاً، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق. فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر، بقي في العمى والضلال. نعوذ بالله من ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.