القسم الأول: القول في شروط القياس

اعلم أن القياس عبارة عن أقاويل مخصوصة أُلفت تأليفاً مخصوصاً ونُظمت نظماً مخصوصاً بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر ، والخلل يدخل عليه تارة من الأقاويل التي هي مقدمات القياس إذ تكون خالية عن شروطها وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية ، ومرة منهما جميعاً . ومثاله في المحسوس البيت المبني فإنه أمر مركّب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف، بأن تكون الحيطان معوجة والسقف منخفضاً إلى موضع قريب من الأرض ، فيكون فاسداً من حيث الصورة، وأن كانت الأحجار والجزوع وسائر الآلات صحيحة . وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ، ولكن يكون الاختلال من رخاوة في الجزوع وتشعث في اللبنات . فهذا حكم القياس والحد وكل أمر مركب ، فإن الخلل فيه إما أن يكون في هيئة تركيبه وترتيبه وأما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب ، كالثوب في القميص والخشب قي الكرسي واللبن في الحائط والجذوع في السقف . وكما أن من يريد بناء بيت بعيد من الخلل يفتقر إلى أن يعذ الآلات المفردة أولاً ، كالجذوع واللبن والطين ، ثم إذا أراد اللبن يفتقر إلى إعداد مفرداته وهو الماء والتراب والقالب الذي فيه يضرب فيبتدئ أولاً بالأجزاء .المفردة فيركبها ثم يركّب المركب ، وهكذا إلى آخر العمل، فكذلك طالب القياس ينبغي أن ينظر في نظم القياس وفي صورته وفي الأمر الذي يضع الترتيب والنظم فيه، وهي المقدمات. وأقل ما ينتظم منه قياس مقدمتان أعني علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب. واقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مُخبراً عنه والأخرى خبراَ أو وصفاً. فقد انقسم القياس إلى مقدمتين، وانقسمت كل مقدمة إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى، وكل مفرد فهو معنى ويُدل عليه لا محالة بلفظ. فيجب ضرورة أن ينظر في المعاني المفردة وأقسامها، وفي الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها. ثم إذا فهمنا اللفظ مفرداً والمعنى مفرداً ألفنا معنيين وجعلناهما مقدمة، وننظر في حكم المقدمة وشرطها ثم نجمع مقدمتين فنصوغ منهما قياساً، وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة. وكل من أراد أن يعرف القياس بغير هذا الطريق فقد طمع في محال، وكان كمن طمع في أن يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتبة الكلمات، أو يطمع أن يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتبة الحروف المفردة، وهكذا القول في كل مركب. فإن أجزاء المركب تتقدم على المركب بالضرورة حتى لا يوصف الله تعالى بالقدرة على خلق العالم المركب دون الآحاد، كما لا يوصف بالقدرة على تعليم كتبة الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات والحروف، فهذه الصورة ينبغي أن تشمل كلامنا.

القياس على ثلاثة فنون

الفن الأول: في السوابق

وهو النظر في الألفاظ ثم في المعاني ثم في تأليف مفردات المعاني إلى أن تصير علماً تصديقياً يصلح أن يجعل مقدمة.

الفن الثاني: النظر في كيفية تأليف المقدمات

لينصاغَ منها صحيح النظم وهو في المقاصد، فإن ما قبله استعداد له. ويشتمل هذا الفن على مدارك العلوم اليقينية الأولية التي منها التأليف ونسبتها إلى القياس نسبة الثوب إلى القميص.

الفن الثالث: في لواحق ينعطف عليها بالكشف

عند الفراغ منها تبتدي بالنظر في الحدود وشروطها

الفن الأول

في السوابق وفيه ثلاثة فصول:

فصل في الألفاظ

فصل في المعاني

فصل في تأليف المعاني

حتى تصير علماَ يتطرق إليه التصديق والتكذيب.

الفصل الأول:

في دلالة الألفاظ على المعاني

إعلم وفقك الله أن الكلام في هذا الفن يطول ولكن لا أتعرض لما أظنك مستقلاَ بإدراكه من نفسك، وأقتصر على التنبيه على تقسيمات تثور من إهمالها أغاليط كثيرة.

القسم الأول: إن دلالة اللفظ على المعنى ينحصر في ثلاثة أوجه: وهي المطابقة والتضمن والالتزام.فإن لفظة البيت تدل على معنى البيت بطريق المطابقة، وتدل على السقف وحده بطريق التضمن. فإن البيت يتضمن السقف لأن البيت عبارة عن السقف والجدران. وكما يدل لفظ الفرس على الجسم إذ لا فرس إلا وهو جسم، إذ وجدنا الجسمية في الفرسية مهما قلنا فرس. فلنصطلح على تسمية هذا الوجه تضمّناً وعلى تسمية الوجه الأول مطابقة. وأما طريق الالتزام: فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط، فإنه غير موضوع للحائط وضع لفظ لحائط حتى يكون مطابقاً له، ولا بتضمن. إذ ليس الحائط جزءاً من السقف كما كان السقف جزءاً من نفس البيت، وكما كان الحائط جزءاً من نفس البيت، لكنه كالرفيق اللازم الخارج من ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه، فدلالته على نمط أخر. فلنخترع له لفظاً آخر وهو الالتزام والاستتباع. و إياك أن تستعمل في نظر العقل من الألفاظ ما يدل بطريق الالتزام أو تمكن خصمك بل اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة أو التضمن. فإن الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر في حدٍ، إذ الحائط يلزم السقف والأس يلزم الحائط والأرض تلزم الأس ويتداعى هذا إلى غير نهاية.

القسم الثاني: إن اللفظ بالإضافة إلى خصوص المعنى وشموله ينقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة نسميه معيناً وإلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد نسقيه مطلقاً، مثال الأول قولك زيد وهذا الفرس وهذه الشجرة، فإنه لا يدل إلا على شخص معيّن، وكذلك قولك هذا السواد وهذه الحركة وحده إنه اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه. فإن قصد اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم اللفظ منه. وأما المطلق فهو الذي لا يمنع نفس مفهوم اللفظ من وقوع الاشتراك في معناه، كقولك السواد والحركة والإنسان، وبالجملة الإسم المفرد في لغة العرب إذا أُدخل عليه الألف واللام كان لاستغراق الجنس. وقد يسقى لفظاً عاماَ، ويقال الألف واللام للعموم، فإن قيل كيف يستقيم هذا ومن يقول الإله أو الشمس أو الأرض فقد أدخل الألف واللام، ولا يدل اللفظ إلا على وجود معيّن خاص لا شركة فيه.

فاعلم أن هذا الوهم غلط فان امتناع الشركة هاهنا ليس لنفس اللفظ بل الذي وضع اللغة لو جوّز في الآلهة عدداً لكان يرى هذا اللفظ عاما في الالهة، فحيث امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ بل لاستحالة وجود إلَه ثان، فلم يكن المانع نفس مفهوم اللفظ يل المانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة. فإن فرضنا عوالم وفي كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملاً للكل فتأمل هذا. فإن من له قدم في جملة الأمور النظرية ولا يفرّق بين قوله السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم شهوة في النظريات من حيث لا يدري.

القسم الثالث: إن الألفاظ المتعدّدة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل، فلنخترع لها أربعة ألفاظ: وفي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة.

أما المترادفة: فنعني بها الألفاظ المختلفة في الصيغة المتواردة على مسمى واحد كالخمر والعقار والليث والأسد والسهم والنشاب، وبالجملة كل إسمين عبّرت بهما عن معنى واحد فهما مترادفان.

وأما المتباينة: فنعني بها الأسامي المختلفة المعاني كالسواد والقدرة والأسد والمفتاح والسماء والشجر والأرض وسائر الأسامي، وهي الأكثر. وأما المتواطئة: فهي الأسامي التي تطلق على أشياء متغايرة بالعدد ولكنها متّفقة بالمعنى الذي وضع له، كاسم الرجل فإنه يطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد وكاسم الجسم فإنه يطلق على الإنسان والسماء والأرض لاشتراك هذه الأعيان في معنى الجسمية التي وضع بإزائها. فكل اسم مطلق ليس بمعين كما سبق فانه يُطلق على آحاد مسمّياته الكثيرة بطريق التواطئ. فاسم اللون للبياض والسواد بطريق التواطئ، فأنها متفقة في المعنى الذي سُقي به اللون لوناً وليس بطريق الاشتراك البتة. وأما المشتركة: فهي الأسامي التي تُطلق على، مسمّيات مختلفة لا تشترك بالحد والحقيقة، كاسم العين للعضو الباصر وللميزان وللموضع الذي ينفجر منه الماء، وهي العين الفوَّارة، وللذهب والشمس وكاسم المشتري لقابل عقد البيع والكوكب الذي هو في السماء المعدود عند المنجمين من السعود. ولقد ثار من التباس المشتركة بالمتواطئة غلطٌ كثير في العقليات، حتى ظن جماعة من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من الإسم، وأن ذلك كمشاركة الذهب للحدقة إلباصرة في اسم العين وكمشاركة قابل البيع للكوكب في اسم المشتري. وبالجملة الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم فلنزد له شرطاً. ونقول الإسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرنا وقد بدل على المتضادين ولا شركة بينهما البتة، كالجليل للحقير والخطير والناهل للعطشان والريان والجون للأسود والأبيض والقرء للطهر والحيض، وأيضاً المشترك قد يكون مشككاً قريب الشبه من المتواطئ ويعسر الفرق على الذهن وإن كان في غاية الصفاء، ولنسّم ذلك متشابهاً، وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء الذي يدرك بحاسة البصر من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدي في الغوامض ولا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للإنسان في كونه جسما، إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتة مع أنه ذاتي لهما ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان، فإنه بالاشتراك المحض، إذ يُراد به من النبات المعنى الذي به نماؤه ويُراد به من الحيوان المعنى الذي به يحسّ ويتحرك بالإِرادة وإطلاقه على الباري جلَّ وعلا إذا تأملت عرفت بأنه لوجه ثالث يخالف الأمرين جميعا. وأمثال هذه ينابيع الأغاليط وساشرحه زيادة شرح في اللواحق عند حصر مدارك الغلط في القياس.

 "مغلطة أخرى" قد تلتبس المتباينة بالمترادفة وذلك مهما أطلقت أسامي مختلفة على شيء ولكن باعتبارات مختلفة ربما ظن أنها مترادفة كالسيف والمهنّد والصارم، فإن المهنّد يدلّ على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند، يخالف إذاً مفهومه مفهوم السيف والصارم والصارمُ يدلّ على السيف مع صفة الحدة والقطع، لا كالليث والأسد فإن ثبت ان الليث يدل على صفة ليست في الأسد التحق بالمتباينة ولم يكن مع المترادفة، وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نفتكر إلى تبديل الأسامي على شيء واحد عند تبديل اعتباراته، كما إنا نسمّي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدّى به المتحدّي ولم يكن عليه برهان وكان في مقابلة القائل خصم فان لم يكن في مقابلته خصم سقيناه قضية لأنه قض على شيء بشيء، فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سقيناه نتيجة، فإن استعمله دليلاً في طلب آمر آخر ورتّبه في أجزاء قياس سقيناه مقدمة وهذا ونظائره مما يذكر كثير. مغلطة أخرى" المشترك في الأصل هو الاسم الذي يعبّر به عن مسميين لا يكون موضوعا لأحدهما ومستعارا منه للآخر أو منقولاً منه إلى الآخر بل لا يكون أحدهما بأن يجعل أصلا والأخر منقولاً إليه أو مستعاراً منه باولى من نقيضه كلفظ المشتري، إذ لا يمكن أن يقال استعير الكوكب من العاقد أو العاقد من الكوكب أو وضع لأحدهما أولاَ ثم حدث الثاني بعده.، وكذلك لفظ المفعول والفاعل فيما لا يختلف تصريفه كقولك اختار يختار اختياراً فهو مختار وذلك مختار، فالفاعل والمفعول لهما صيغة واحدة وليس اللفظ بأحدهما هو أولى من الآخر، وليس كذلك لفظ الأم ل (حوّاء) فإنها أم البشر، والأرض فإنها تسقى أم البشر ولكن الأول بالوضع والثاني بالاستعارة. ولا كذلك الألفاظ التي نقلت وغيّرت كلفظ المنافق والفاسق والكافر والملحد والصوم والصلاة وسائر الألفاظ الشرعية فإنها مشتركة لأمرين مختلفين، ولكن لبعضها أول ولبعضها ثان، أي منقول من البعض إلى البعض. فالأول منقول عنه والثاني منقول إليه. وقد حصل مقصود الاشتراك وإن كان على الترتيب، كما حصل في لفظ العاقد والكوكب وإن لم يكن على الترتيب، مثال الغلط في المشترك حتى تستدل به على غيره إن الحال ليس يحتمل استقصاء هذه المفاضة.

مأما سمعت الشافعي رضي الله عنه في مسألة لمُكره يقول يُلزمُ القَصاص لأنه مُكْرَه مختار. ويكاد الذهن ينبو عن التصديق بالضدين فإنه محال. فنرى الفقهاءَ يعثرون فيه ولا يهتدون إلى حله و إنما ذلك لأن لفظ المختار مشترك، إذ قد يحمل لفظ المختار مرادفاً للفظ القادر ومساوياً له إذا قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة، كالمحمول فنقول هذا عاجز محمول هذا مختار قادر ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل والترك، وهذا يصدق على المُكرَه. وقد يعبر بالمختار عمّن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته ولا تحرر دواعيه من خارج، وهذا يكذب على المُكرَه ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه، فإذا صدق أنه مختار وصدق أنه ليس بمختار ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت. ولهذا نظائر في النظريات لا تحص تاهت بسببها عقول الضعفاء فاستدل بهذا اليسير على الكثير. فإن الخال ليس يحتمل التطويل وأقنع بهذا القدر من النظر في دلالات الألفاظ و إن كان فيها مباحث سواه.

الفصل الثاني:

في النظر في المعاني المفردة

ولنقتصر فيه على ثلاث تقسيمات جلية: التقسيم الأول: إن المعاني التي يُدَلُ عليها بالألفاظ إذا نُسِبَ بعضها إلى بعض وُجِدَ إما مساوياَ لها وإما أعم منها و إما أخصّ منها، وهذا ممّا يحتاج إلى معرفته في القياس. فإذا نسبت الجسم إلى المتحيز وجدته مساويا لا يزيد ولا ينقص، إذ كل جسم متحيز وكل متحيّز جسم، هذا على رأي من يقول إن كل متحيز منقسم. وأما نحن فننسب التحيّز إلى الجوهر فنرى التحيز مساويا له. وأما إذا نسبنا الوجود إلى الجسم وجدناه أعم منه، فربّ موجود ليس بجسم. وأما إذا نسبنا الحركة إلى الجسم وجدناها أخص منه، مربّ جسم ليس بمتحرك بالفعل كالأرض عند عدم الزلزلة.

التقسيم الثاني: المعنى إذا نسب إلى المعنى وجدناه إما ذاتياً له ويُسقى صفة النفس وإما لازماً ويُسقى وصفاً لازماَ وإما عارضاً له لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود. ولا بدّ من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في القياس والحد جميعاً.

أما الذاتي: فإني أعني به كل شيء داخل في حقيقة الشيء وماهيته دخولاً لا يتصور فهم المعنى دون فهمه، وذلك كاللونية للسواد وكالجسمية في الفرس والشجر. فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصاً. فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولاً به قِوامها في الوجود والعقل على وجه لو قدّر عدمها لبطل وجود الشجر والفرس وما يجري هذا المجرى. ولا بدّ من إدراجه في حدّ الشيء فمن يحدّ النبات يلزمه أن يقول إنه جسم نامي لا محالة. وأما الالتزام: فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات عند طلوع الشمس. فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعتر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده، ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له، وأعني به أن فهم كُنه حقيقته غير موقوف على فهم ذلك، بل الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل الجسم الذي هو أعم منه، ولم يخطر بباله ذلك، وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا تتصور مفارقته لها، ولكن فهم الأرض غير موقوف على كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعدُ أنهما مخلوقتان. فإنا نعلم أولاً حقيقة الجسمية ثم نطلب بالدليل كونه مخلوقاً ولم يمكنا أن نعلم السماء والأرض ما لم نعلم الجسم.
وإما العارض فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل تتصور مفارقته إما سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب، وربما لا يزول في الوجود كزرقة العواد وسواد الزنجي، ولكن يمكن رفعه في الوهم. وأما كون الأرض مخلوقة وكون الجسم الكثيف ذا طل مانع نور الشمس فلازم لا تتصور مفارقته. ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة واستقصاؤه في هذه العجالة غير ممكن البتة. التقسيم الثالث: إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة. ولنصطلح على تسمية سبب الإدراك قوة فنقول في حدقتك معنى تتميز به الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر به، وإذا بطل ذلك من الأعمى بطل الإبصار، والحالة التي تدركها عند الإبصار شرطها وجود المبصر. فلو انعدم المبصر بقيت صورته في دماغه وتلك الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل وعدمه لا ينفي الحالة المسمّاة تخيلاً وينفي الحالة المسمّاة إبصاراً، ولما كنت تحس في التخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في هذا الدماغ غريزة وصفةَ بها تهيأ للتخيل وبها باين البطن والفخذ كما باينت العين الجبهة والعقب في الإبصار بمعنى اختص به لا محالة. والصبي في أول نشؤه تقوى به قوة الإبصار دون قوة التخيّل. ولذلك إذا أولع بشيء فغيبته عنه وشغلته بغيره اشتغل به، وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للخيال ولا يفسد الإبصار فيرى الشيء، ولكن كلما يغيب عن عينه فينساه، وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الإنسان، ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكّر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق وأنه مستلذ لديه فبادر إليه، ولو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته له ثانياً كرؤيته له أولا، حتى لا يبادر إليه ما لم يجده بالذوق مرة أخرى ثم فيك قوة ثالثة شريفة بها يباين الإنسان البهيمة تسمى عقلاً، ومحله إما دماغك أو قلبك وعند من يرى النفس جوهراً قائماً بذاته غير متحيّز محله النفس ولها أعني قوة العقل إدراك وتأثير بالتخيلات مباين لإِدراك التخيّل مباينة اشد من مباينة إدراك التخيّل لإدراك البصر، إذ لم يكن بين التخيل والإبصار فرق إلا أن وجود المبصر وحضوره كان شرطاً لبقاء الإبصار ولم يكن شرطاً لبقاء التخيل، وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبُعدٍ منك مخصوص، ويبقى في التخيل ذلك القدر وذلك البُعد وذلك الشكل والوضع، حتى كأنك تنظر إليه ولعمري فيك قوة رابعة تُسمى المفكّرة شأنها أنها تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر، ولكن إذا حضر في الخيال صورة الإنسان قدر أن يجعله بنصفين فيصور نصف إنسان، وربما ركب شخصاً نصفه من إنسان ونصفه من فرس، وربما صور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحدَّه وصورة الطيران وحدّه، وهذه القوة تجمع بينهما كما تفرق نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال، بل كل تصرفاتها بالتفريق والتأليف في الصورة الحاصلة في الخيال.

والمقصود أن مباينة إدراك العقل الأشياءَ لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيل للإبصار، إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العرية عن القرائن العربية التي ليست داخلة في ذاتها، أعني الذي ليست ذاتية لها كما سبق. فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص من الجسم ووضع مخصوص منك بقرب أو بُعد. ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل، فإن المثلث له شكل واحد صغيراً كان أو كبيراً، و إنما إدراك هذه المفردات المجردة ليس إلا بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلاً فيدرك ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجرّدة ويدرك الحيوانية والجسمية مجرّدة، وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره التفات إلى العاقل وغير العاقل، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين، وحيث يستمر في نطره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضره معنى السوادية والبياضية و غيرهما، وهذا من عجيب خواصهما وبديع أفعالهما، فإذا رأى فرساً واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت والبعيد منك في المكان والقريب، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة منزهاً عن كل قرينة ليست ذاتية له. فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتياً بل عارضاً أو لازماً في الوجود، إذ مختلفات القدر واللون تشترك في حقيقة الفرسية. وهذه المطلقات المجردة الشاملة لأمور متخيّلة هي التي يعبّر عنها المتكلمون بالوجوه أو الأحوال أو الأحكام، ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة، ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان. وتارة يعبّرون عنها بأنها غير موجودة في خارج بل في داخل يعني خارج الذهن وداخله. ويقول أرباب الأحوال أنها أمور ثابتة ثم  تارةرة يقولون أنها موجودة معلومة وأخرى يقولون لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، وقد دارت فيه رؤوسهم وتاهت عقولهم، والعجب انه أول منزل ينفصل به المعقول عن المحسوس. إذ من ها هنا يأخذ العقل ألإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك هذا التخيل البهيمي التخيل الإنساني ومن تحيّر في أول منزل من منازل تصرف العقل كيف يُرجى فلاحه في تصرفاته الغامضة، ومن التبس عليه قول القائل إن السواد والبياض يشتركان في أمر معقول هو اللونية والوجود ويختلفان في أمر ذاتي، وما فيه الاختلاف بالضرورة غير ما فيه الاشتراك. إذ ليس هذا اشتراكاً في مجرد الاسم كاشتراك العائد والكوكب في اسم المشتري، وان هذه الغيرية معلومة على القطع إلى أن يبحث عن حقيقتها أنها تباين في الوجود أو تباين في العقل، وهو من خواص العقل. فمن التبس عليه هذا كيف يتضح له أمر من الغوامض ولنتجاوز هذه المغاصّة فإن كشف غطائها يقرع أبواباً مغلقة على أكثر التضاد ولا يمكن التكفل ببيانه مع ما نحن بصدده من الاختصار.يقولون أنها موجودة معلومة وأخرى يقولون لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، وقد دارت فيه رؤوسهم وتاهت عقولهم، والعجب انه أول منزل ينفصل به المعقول عن المحسوس. إذ من ها هنا يأخذ العقل ألإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك هذا التخيل البهيمي التخيل الإنساني ومن تحيّر في أول منزل من منازل تصرف العقل كيف يُرجى فلاحه في تصرفاته الغامضة، ومن التبس عليه قول القائل إن السواد والبياض يشتركان في أمر معقول هو اللونية والوجود ويختلفان في أمر ذاتي، وما فيه الاختلاف بالضرورة غير ما فيه الاشتراك. إذ ليس هذا اشتراكاً في مجرد الاسم كاشتراك العائد والكوكب في اسم المشتري، وان هذه الغيرية معلومة على القطع إلى أن يبحث عن حقيقتها أنها تباين في الوجود أو تباين في العقل، وهو من خواص العقل. فمن التبس عليه هذا كيف يتضح له أمر من الغوامض ولنتجاوز هذه المغاصّة فإن كشف غطائها يقرع أبواباً مغلقة على أكثر التضاد ولا يمكن التكفل ببيانه مع ما نحن بصدده من الاختصار.

الفصل الثالث:

من فن السوابق في أحكام السوابق

المعاني المؤلّفة تأليفا يتطرق إليه التصديق والتكذيب

كقولنا مثلاً العالم حادث والبارئ تعالى قديم، فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردين ونسبة أحدهما إلى الآخر بالإثبات، فإن قلت العالم ليس بقديم والباري ليس بحادث كانت النسبة نسبة النفي. وقد التئم هذا القول من جزئين يُسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبراً، ويُسمي المتكلمون أحدهما موصوفاً والآخر صفة، ويُسمي الفقهاء أحدهما حكماً والآخر محكوماً عليه، ويُسمي المنطقيون أحدهما موضوعاً وهو المخبر عنه والآخر محمولاً وهو الخبر، ولنصطلح نحن على تسمية الفقهاء فنسمّيهما حكماً ومحكوماً عليه ولنسمِّ مجموع الحكم والمحكوم عليه قضية ولنسميهما إذا استعملناهما في سياق قياس مقدمةً، فإذا استفدناهما من قياس نتيجةً. وما دام غير مستنتج من القياس دعوى إن كان لنا خصم ومطلوباً إن لم يكن لنا خصم. فإن هذه الاصطلاحات إذا لم تتحرر اختبطت المخاطبات والتعليمات بل ربما اضطرب الفكر على الناظر المنفرد بنفسه. فإن فكر الناظر أيضاً لا ينتظم إلا بألفاظ وآمال يرتبها في نفسه. ولنذكر من أحكام القضايا وأقسامها ما يليق بهذا الإيجاز ويتضح الغرض بتفصيلات أربعة:

التفصيل الأول

إن القضية بعد انقسامها إلى النافية مثل قولنا العالم ليس بقديم وإلى المثبتة مثل قولنا العالم حادث تنقسم بالإضافة إلى المحكوم عليه إلى التعيين والخصوص والعموم والإِهمال والقضايا بهذا الاعتبار أربعة: الأولى: قضية في عين كقولنا زيد كاتب وهذا السواد المشار إليه باليد عرض.

الثانية: قضية مطلقة خاصة كقولك بعض الناس كاتب وبعض الأجسام ساكن.

الثالثة: قضية مطلقة عامة كقولك كل جسم متحيّز وكل سواد لون وكل حركة عرض. الرابعة: قضية مهملة كقولنا الإِنسان في خسر، وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عيناً مشاراً إليه أو لا يكون عيناً. فإن لم يكن عيناً فإما أن يحصر بسور بين مقداره بكلية فتكون مطلقة عامة أو بجزئية فتكون مطلقة خاصة أو لا يحصر بسور بل بمهمل. والسور هو قولك كل وبعض وما يقوم مقامهما، فإن سكت عنهما بقيت القضية مهملة، ومن طرق المغالطين المحتالين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة. فإن المهملات قد يعني بها الخصوص فيصدق طرف النقيض فيها إذ قد يقال ليس الإِنسان في خسر ويراد به الأنبياء والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد يقال الإِنسان في خسر ويراد به أكثر الخلق. فإياك وأن تسامح بهذا في النظريات فتغلط، ومثاله من الفقه إن طلبت استيضاحاً أن يقول الشافعي مثلاً معلوم أن المطعوم ربويّ والسفرجل مطعوم فليكن ربوياً. فإذا قيل فلِمَ قلت إن المطعوم ربوي فيقول الدليل عليه أن البُر والشعير والتمر والرز مطعومات وهي ربوية، فينبغي أن يقال له قولك العموم ربويَ أردت به كل المطعومات أو بعضها، فإن أردت به البعض لم تلزم النتيجه. إذ يمكن أن يكون السفرجل من البعض الذي ليس بربوي، ويكون هذا خللاً في نظر القياس مُخرجاً له عن كونه منتجاً كما سيأتي وجهه. وإن أردت به الكل فمن أين عرفت هذا وليس يظهر هذا بما ذكرته من البُر والشعير والتمر والرز ما لم تبتين أن كل المطعومات ربويّة، وهذا المثال وإن كان في هذا المقام واضحاً فإنه يتفق في أمثاله عند تراكم الأقيسة صور غامضة يجب الاحتراز عنها.

التفصيل الثاني

إن الحكم المنسوب إلى المحكوم عليه في القضية لا يخلو عن ثلاثة أقسام: وهي الإِمكانُ والوجودُ والاستحالةُ. مثال الحكم الذي نسبته نسبة الإمكان قولك الإِنسان كاتب الإِنسان ليس بكاتب، إذ الكتابة بالإضافة في حيّز الإِمكان. ومثال الواجب قولك السواد لون والسواد ليس بلون، إذ نسبة اللون إلى السواد نسبة الوجوب والضرورة. ومثال الممتنع قولك السواد علم والسواد ليس بعلم والإنسان حجر والإِنسان ليس بحجر. فإن قلت لا استحالة في قولك الإِنسان ليس بحجر بل هو واجب ولا وجوب في قولك السواد ليس بلون بل هو ممتنع فكيف جمعت بين النفي والإِثبات؟ فاعلم أني لم أقصد ذكر الامتناع والوجوب في جملة القضية المسلّمة على الحكم والمحكوم عليه ولكني أخذت الحكم مفرداً وبيّنت نسبته إلى المحكوم عليه. ثم القضية قِد تتضمن النفي والإثبات ويكون بعضه صادقاً وبعضه كاذباً وليس الغرض ذلك.

التفصيل الثالث في بيان نقيض الفضية

وهذا ممّا يحتاج إليه، إذ ربّ مطلوب لا يقوم على نفسه دليل ولكن يقوم الدليل على بطلان نقيضه فيتسلق من إبطاله إلى إثبات نقيضه، فلا بد من معرفته. وربما يظن أن نقيض القضية جلي لا يحتاج إلى البيان، ومع ذلك فإنه مثار لجملة من الأغاليط لا تحصى، فإن الأمور في أوائلها تلوح جلية ولكن إذا لم يهتم الناظر بتنقيحها وتحقيقها اعتاص عليه التفصيل بين القضيتين المتنافيتين. وأعني بالقضيتين المتنافيتين كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة، كقولنا العالم حادث العالم ليس بحادث، وهما قضيتان تصدق إحداهما وتكذب الأخرى، و إنما يلزم صدق إحداهما من كذب الأخرى بستة شروط.

الأول: أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحداً بالذات لا بمجرد اللفظ، فإن اتحد الاسم دون المعنى لم يتناقضا، كقولك النور مدركٌ بالبصر النور ليس بمدرك بالبصر، فهما صادقان إن أردت بأحدهما الضوء وبالآخر نور العقل، وكذلك لا يتناقض،قول الفقهاء المضطر مختار المضطر. ليس بمختار في مسئلة المُكْره، وقولهم المضطر آثم المضطر غير آثم إذ المضطر قد يعبّر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل فالاسم متحد والمعنى مختلف.

الثاني: أن يكون الحكم واحداً والإِثم متناقضاً كقولك العالم قديم العالم ليس بقديم، وأردت بأحد القديمين ما أراد الله تعالى بقوله (كالعرجون القديم ) وكذلك أيضاً لم يتنافى قول الخصمين المُكْره مختار والمُكْره ليس بمختار، إذ ذكرتا أن المختار عبارة عن معنيين مختلفين. الثالث: أن تتحد الإضافة قي الأمور الإضافية فإنك لو قلت زيد أب زيد ليس بأب لم يتناقض، إذ يكون أباً لبكر ولا يكون أباً لخالد، وكذلك تقول زيد أب، زيد ابن، فيكون أباً لشخص وابناً لآخر، والعشرة نصف والعشرة ليست بنصف أي هي نصف العشرين. وليست نصف الثلاثين. وفي النظريات الفقهية والعقلية أغاليط كثيرة هذا منشأها كقولك المرأة مولّى عليها المرأة ليس بمولّى عليها وهما صادقتان بالإضافة إلى النكاح والبيع و إلى العصبة والأجنبي.

الرابع: أن يتساويا في القوة والفعل فإنك تقول الماء في الكوز مروٍ بالقوة وليس بمروٍ بالفعل وهما صادقتان، والسيف بالغمد صارم وليس بصارم وهما صادقتان، والفاسق شاهد وليس بشاهد. ومن هذا خلط المختلفون في أن الله تعالى في الأزل خالق وأن الله تعالى في الأزل ليس بخالق.

الخامس: التساوي في الجزء والكل فإنك تقول الزنجي أسود الزنجي ليس بأسود أي أسود البشرة ليس بأسود الأسنان فيصدقان. وعن هذا الغلط تخيل من بعد عن التحصيل أن العالمية حال بجملة زيد إذا قلنا زيد عالم وزيد عبارة عن جملته، ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد لم نرد به أنه في كل البلد بل في بعضه، وان كانت بغداد عبارة عن كل البلد. ولكن أعني بالعادة والحس بيان أن زيداً في بغداد في مكان يساوي مساحة بدنه، وكذلك أعني وضوح الأمر إذ تقول إن زيداً عالم بحر لا يجري من قلبه أو دماغه.

السادس: التساوي في الزمان والمكان فإنك تقول العالم حادث العالم ليس بحادث وهما صادقان، ولكنه حادث عند أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده بل قبله معدوم وبعده باق، وتقول الصبي ينبت له أسنان الصبي لا ينبت له أسنان ونعني بأحدهما السنة الأولى وبالآخر بعده ولا ينبغي أن نطول بتحديد الشروط والأمثلة فلنجمل له ضبطاً وهو أن القضية المناقضة هي التي تسلب مثلاً ما تثبته الأولى بعينه أو تثبت ما سلبته الأولى ونفته، وفي ذلك الوقت والمكان والحال وتلك الإضافة بعينها، وبالقوة إن كان ذلك بالقوة وبالفعل إن كان ذلك بالفعل. وكذا في الجزء والكل. ويحصل ذلك بان لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبديل النفي بالإثبات فقط هذا إذا كانت القضية قضية في عين، فإن كانت عامة زادت شريطة أخرى وهي أن تكون إحداهما عامة والأخرى خاصة ليلزم التناقض وألا يتصور أن يجتمعا في الصدق أو الكذب ولا يكون التناقض ضرورياً، فإن القضيتين العامتين في نسبة الممكنات كاذبتان، كقولنا كل إنسان كاتب لا أحد من الناس كاتب والخاصتان صادقتان، كقولك بعض الناس كاتب بعض الناس ليس بكاتب، فتأمل هذه الشروط واستخرج من نفسك بقية الأمثلة.

التفصيل الرابع في بيان عكس القضية

وهذا أيضاً يحتاج إليه وربما لا يصادف الدليل على نفس المطلوب ويصادف على عكسه، فيمكن التوصل منه إلى المطلوب، وأعني بالعكس أن تجعل الحكم محكوماً عليه والمحكوم عليه حكماً ولا تتصرف فيه إلا هذا القدر وتبقى القضية صادقة، فعند ذلك تقول هذه قضية منعكسة، أي عكسها أيضا صادق. والقضايا بهذا الاعتبار أربع: الأولى: نافية عامة ولسنا نتكلم في قضية العين فإنها لا تستعمل في النظريات بل في الأعمال والصناعات والعادات. فالنافية العامة تنعكس مثل نفسها نافية عامة، فمهما صدق قولنا لا متحيّز واحد عرض صدق قولنا لا عرض واحد متحيز. وإذا صدق قولنا لا سواد واحد علم صدق قولنا لا علم واحد سواد، فإن ما يسلب عن الشيء فمسلوب عنه الشيء بالضرورة.

الثانية: النافية الخاصة ولا يصدق عكسها البتة، فإنك إذا قلت بعض اللون ليس بسواد لم يمكن إن تقول وبعض السواد ليس بلون و لا أمكنك أن تقول كل السواد ليس بلون.

الثالثة: المثبتة العامة ولا تنعكس مثل نفسها فانك مهما قلت بعض الألوان سواد صدق قولك بعض السواد لون، فإن كون كل سواد لون لا يخرج عن الصدق قولنا بعض السواد لون ولا يلتفت إلى فحوى الخطاب فليس ذلك من مقتض وضع اللفظ وهو خارج عن غرضنا هذا و إن كان صحيحاً في موضعه.

الرابعة: المثبتة الخاصة وهي تنعكس كنفسها فإنك مهما قلت بعض الجماد جسم صدق قولك بعض الجسم جماد. واقتصر من السوابق على هذا القدر فالزيادة غلبة لا تليق بحجم هذا الكتاب.

الفن الثاني

من محك القياس في المقاصد

وهو طرفان  أحدهما في نظم القياس والآخر في محك النظم وشرطه وهو المقدمات. واعلم أنى أعني بالقياس قضايا ألفت تأليفا يلزم من تسليمها بالضرورة قضية أخرى وهذا ليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها.

أما النمط الأول: فنظمه من ثلاثة أوجه: النظم الأول: أن تكون العلة حكماً في إحدى المقدمتين محكوماً عليه في الأخرى، ممل قولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف حادث فيلزم منه أن كل جسم حادث، وقولنا في الفقه كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فيلزم منه أن كل نبيذ حرام. وعادة الفقهاء في الصيغة أن يقولوا النبيذ مسكر فينبغي أن يكون حراماً قياساً على الخمر، ولا ينكشف الغطاء ولا تنقطع الطالبة إلا بالنظم الذي ذكرناه. ومثل هذه الأقيسة إذا لم يمكن ردها إلى هذا النظم لم تكن النتيجة لازمة ولم تنقطع المطالبة. فإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا القياس مقدمتين.

إحداهما: قولنا كل نبيذ مسكر والأخرى قولنا كل مسكر حرام وكل مقدمة تنقسم إلى جزئين بالضرورة مبتدأ وخبر وحكم ومحكوم عليه فيكون مجموع أجزائها أربعة أمور تتكرّر في المقدمتين فتعود إلى ثلاثة بالضرورة، لأنها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شيء وبطل الازدواج بينهما ولا تتولد النتيجة، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر ولم تتعرض.

في المقدمة الثانية: لا للنبيذ ولا للمسكر ولكن قلت والقتل حرام أو العالم حادث فلا ترتبط إحداهما بالأخرى. فبالضرورة لا بد من أن يكون أحد الأجزاء الأربعة متكررا في المقدمتين فيرجع إلى ثلاثة، فلنصطلح على تسمية المكرّر في المقدمتين علة وهو الذي يمكن أن يمرن بقولك لأنه في جواب المطالبة. فإنه إذا قيل لك لِمَ قلت إن النبيذ حرام فتقول لأنه مسكر ولا تقول لأنه حرام فما يقترن به لأن هو العلة، ولنسمِّ ما يجري مجرى النبيذ محكوماً عليه وما يجري مجرى الحرام حكماً، فإنا في النتيجة نقول فالنبيذ حرام فنحكم على النبيذ بأنه حرام ونشتق للمقدمتين اسمين مختلفين من الأجزاء والمعاني التي تشتمل عليها لتسهل علينا الإِشارة إليهما في التفهيم والمخاطبة، ولا يمكن اشتقاق اسمين مختلفين لهما من العلّة. فإن العلة داخلة فيهما جميعاً فنشتقه من الجزئين الآخرين، فالمقدمة التي فيها تعرض للمحكوم عليه نسقيها المقدمة الأولى والتي فيها الحكم نسقيها الثانية اشتقاقاً من ترتيب أجزاء النتيجة. فإنا نقول في النتيجة فالنبيذ حرام فيكون النبيذ أولاً والحرام ثانياً. والمقدمة التي فيها المحكوم عليه لا يتصور أن يكون فيها الحكم، وهي مقدمة، والتي فيها الحكم لا يتصور أن يكون فيها المحكوم عليه، وهي مقدمة بل هما خاصتان للمقدمتين. واعلم أن النتيجة إنما تلزم من هذا القياس إذا كانت المقدمتان مسلمتين يقيناً إن كان المطلوب عقلياً أو ظناً إن كان المطلوب فقهياً. فإن نازعك الخصم في قولك كل مسكر حرام فإثباته بالنقل وهو قوله "كل مسكر حرام" فإن لم تتمكن من تحقيق تلك المقدمة بحس ولا غيره ولا من إثبات الثاني بنقل أو غيره لم ينفعك القياس، ومهما سلّمنا لم يتصور النزاع في النتيجة البتة، بل كل عقل صدق المقدمتين فهو مضطر للتصديق بالنتيجة مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال. وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر فقد جعلت المسكر وصفاً فإذا قلت المسكر حرام فقد حكمت على الوصف، فبالضرورة يدخل فيه الموصوف، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر وكل مسكر حرام وبطل قولنا النبيذ حرام مع انه مسلم أنه مسكر بطل قولنا إن كل مسكر حرام، إذ ظهر لنا مسكر ليس بحرام. ومهما صدقت القضية العامة لم يمكن أن يخرج منها بعض المسقيات، وهذا النظم له شرطان حتى يكون منتجاً، شرط في المقدمة الأولى وهو أن تكون مثبتة، فإن كانت نافية لم ينتج لأنك إذا نفيت شيئاً عن شيء لم يكن الحكم على المنفي حكماً على المنفي عنه، فإنك إذا قلت لا خل واحد مسكر وكل مسكر حرام لم يلزم منه حكم في الخل، إذ وقعت المباينة بين الخل والمسكر فحكمك على المسكر بالنفي أو الإِثبات لا يتعدّى إلى الخل البتة. الشرط الثاني: أن تكون المقدمة الثانية عامة حتى يدخل بسبب عمومها المحكوم عليه فيه، فإنك لو قلت كل سفرجل مطعوم وبعض المطعوم ربوي لم يلزم منه كون السفرجل ربوياً، إذ ليس من ضرورة الحكم على بعض المطعوم أن يتناول السفرجل بل ربما كان الربوي بعضاً اًخر، نعم إذا قلت وكل مطعوم ربوي لزم حكم الربا في السفرجل، ولكن يحتاجِ إلى إثبات المقدمة بعموم قوله "لا تبيعوا الطعام بالطعام" أو بمدرك آخر، وسنذكر مدارك المقدمات في الطرف الثاني من هذا الفن، فإن قلت بماذا فارق هذا النظم النظمين بعده فاعلم أن العلة إما أن توضع بحيث تكون حكماً في المقدمتين أو محكوماً عليه في المقدمتين أو توضع بحيث تكون حكماً في إحدى المقدمتين محكوماً عليه في الأخرى وهذا الآخر هو النظم الأول، وهو الأوضح، فإن الثاني والثالث لا يتضح غاية الاتضاح بالبرهان المحقق إلا بالرد إليه فلذلك قدّمته وسقيته النظم الأول الأوضح.

النظم الثاني: من نظم القياس أن تكون العلة، أعني المعنى المتكرر في المقدمتين حكماً في المقدمتين، أعني أن يكون خبراً فيهما ولا يكون مبتدأ في أحدهما خبراً في الآخر، ولا مبتدأً فيهما جميعاً، مثاله قولنا إن الباري تعالى ليس بجسم لأن الباري ليس بمؤلف وكل جسم مؤلف فالباري ليس بجسم، فها هنا ثلاثة معان الباري والمؤلف والجسم والمتكرر في المقدمتين هو المؤلف فهو العلّة وتراه خبراً في المقدمتين غير مبتدأ به بخلاف المسكر في النظم الأول، إذ كان خبراً في إحداهما مبتدأً في الأخرى ووجه لزومه النتيجة يمكن تفهيمه مجملاً ومفصلاً ومحققاً. أما المجمل فهو أن كل شيئين ثبت لأحدهما ما انتفى عن الآخر ولا يكون بينهما التقاء واتصال لا يجوز أن يخبر بأحدهما عن الآخر، فالتأليف ثابت للجسم ومنفي عن الباري، فلا يكون بين معنى الجسم والباري التقاء، فلا يقال الباري جسم ولا يقال الجسم باري. وأما بالتحقيق والتفصيل فينبغي أن يرد إلى النظم الأول بعكس المقدمة النافية. ولنعدل إلى مثال اخر تصاوناً عن ترديد لفظ الباري. فإن قول القائل إنه ليس بجسم كأنه سوء أدب كما أن قوله هو جسم كفر، فإن من قال للملك أنه ليس بحجام ولا بحائك فقد أساء الأدب إذا وهم إمكان ما صرح بنفيه، إذ لا يتعرض إلا لنفي ما له إمكان في المادة والجسمية أشد استحالة في ذاته تعالى عن قول الزائغين من الحياكة والحجامة في الملك، فنقول مثلاً الأجسام ليست أزلية، إذ كل جسم مؤلف ولا أزلي واحد مؤلف فيلزم منه لا جسم واحد أزلي، إذ صار المؤلف ثابتاً للجسم مسلوباً عن الأزلي ولا يبقى بين الأزلي والجسم ارتباط الخبر والمخبر. وتفصيله بأن تنعكس المقدمة النافية فإنها نافية عامة، وقد قدّمنا أن النافية العامة تنعكس مثل نفسها فإذا صدق قولنا ولا أزلي واحد مؤلف صدق قولنا ولا مؤلف واحد أزلي وهو عكسه، فنضيف إليه قولنا وكل جسم مؤلف فيعود إلى النظم الاول، فيكون وجه دلالته ولزوم نتيجته ما سبق. وخاصية هذا النظم أنه لا ينتح إلا القضية النافية، أما الإِثبات فلا. وأما النظم الأول فهو أكمل لأنه ينتح القضايا الأربعة، أعني المثبتة العامة والمثبتة الخاصة والنافية العامة والنافية الخاصة. ولم نفرد تفصيل هذه الآحاد استثقال التطويل فإن قلت فلمَ لا ينتج هذا النظم الإِثبات فاعلم أن هذا لا ينتج إلا النفي، ومن شرطه ان تختلف المقدمتان أيضاً في النفي والإثبات، فإن كانتا مثبتتين لم ينتجا لأن حاصل هذا النظم يرجع إلى الحكم بشيء واحد على شيئين وليس من ضرورة كل شيئين يحكم عليهما بشيء واحد أن يخبر بأحدهما عن الآخر، فإنا نحكم على السواد والبياض جميعاً باللونية ولا يلزم أن يخبر عن السواد بأنه بياض ولا عن البياض بأنه سواد، ونظم القياس فيه أن يقال كل سواد لون وكل بياض لون فكل سواد بياض أو كل بياض سواد واللون هو المتكرّر وقد جعل خبراً في المقدمتين، ولم ينتح بين المعنيين لا اتصالاً ولا انفصالاً، نعم كل شيئين أخبر عن أحدهما بما يخبر عن الآخر بنفيه يجب أن يكون بينهما انفصال وهو النفي، وبرهانه عكس المقدمة النافية ليعود إلى النظم الأول. النظم الثالث: أن تكون العلة مبتدأ في المقدمتين جميعاً. فهذا إذا جمع شروطه كان منتجاً، ولكن نتيجة خاصة لا عامة، مثاله كل سواد عرض وكل سواد لون فيلزم منه أن بعض العرض لون، وكذلك إذا قلت كل بُر مطعوم وكل بُر ربوي فيلزم منه بالضرورة أن بعض المطعوم ربوي. وبيان وجه دلالته ولزوم النتيجة منه بالإجمال إن الربوي والمطعوم حكمنا بهما على شيء واحد وهو البُر فيلزم بالضرورة بينهما التقاء، وأقل درجات الالتقاء أن يوجب حكماً خاصاً وإن لم يكن عاماً فأمكن أن يقال بعض المطعوم ربوي حكماً خاصاً، دان لم يكن عاماً وبعض الربوي مطعوم، وان لم يمكن أن يف ل بمجرد هذا كل واحد مطعوم ربوي أو كل ربوي مطعوم. وأما تفصيل تفهيمه فهو بأن تعكس المقدمة التي ذكرناها أولاً وهو قولنا كل بُر مطعوم، وقد ذكرنا أن المثبتة العامة تنعكس مثبتة خاصة، فإن صدق قولنا كل بُر مطعوم صدق قولنا بعض المطعوم بُر فتبقى المقدمة الثانية، وهو أن كل بُر ربوي ويرجع إلى النظم الأول، إذ يصير المطعوم الذي هو المتكرر مبتدأ في إحدى المقدمتين خبراً في الأخرى، وشرط الإنتاج في هذا النظم أن تكون المقدمة الأولى التي فيها المحكوم عليه مثبتة ولا تكون نافية كما شرطنا ذلك في النظم الأول، فان كانت نافية لم تلزم النتيجة ولا يضر أن تكون خاصة، والذي يشترك. فيه كل نظم أمران أحدهما أنه لا بد أن يكون في جملة المقدمتين قضية عأمة فلا تلزم نتيجة من خاصتين البتة. والثاني أن يكون فيهما مثبتة فلا تلزم نتيجة من نافيتين قط، ولهذا شرح لكن لا أظنك تهتدي إلى ذلك بنفسك مهما ساعدك الجد في التأمل والمثابرة على الممارسة. فان عليك وظيفتين إحداهما تأمل هذه الأمور الدقيقة، والأخرى الأنس بهذه الألفاظ العربية. فأني اخترعت أكثرها من تلقاء نفسي لأن الاصطلاحات في هذا الفن ثلاثة اصطلاح المتكلمين والفقهاء والمنطقيين، ولا أؤثر أن أتبع واحداً منهم فيقصر فهمك عليه، ولا تفهم اصطلاح الفريقين الآخرين، ولكن استعملت من الألفاظ ما رأيته كالمتداول بين جميعهم واخترعت ألفاظا لم يشتركوا في استعمالها ؛ حتى إذا فهمت المعاني بهذه الألفاظ فما تصادفه في سائر الكتب يمكنك أن ترده إليها وتطلع على مرادهم منها.

النمط الثاني:  من القياس ألا يكون فيه علة وحكم ومحكوم عليه كما سبق بل تكون فيه مقدمتان والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر واحد من تينك القضيتين أو نقيضها. ولنسمَّ هذا النمط نمط التلازم، ومثاله قولنا إن كان العالم حادثاً فله مُحدِث ومعلوم أنه محدَث فتلزم منه نتيجة وهو أن له مُحدِثاً بالضرورة. فالمقدمة الأولى قولنا إن كان العالم حادثاً وهما قضيتان إن حذف قولنا إن،كان أحدهما قولنا العالم حادث ولنسقه المقدّم، والثاني قبرلنا فله مُحدِث ولنسقه اللازم أو التابع، والمقدمة الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سقيناها مقدماً وهو قولنا معلوم أن العالم حادث فتلزم منه نتيجة وهو أن العالم مُحدَث ؛ وهو عين اللازم. ومثاله في الفقه قولنا إن كان الوِتر يؤدّى على الراحلة بكل حال فهو نفلٌ، ومعلوم أنه يؤدّى على الراحلة بكل حال فثبت أنه نفل.،وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات ينتج منها اثنتان ولا ينتج اثنتان. أما المنتج فتسليم عين القضية التي سقيناها مقدماً فإنه ينتج عين اللازم، مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة فيلزم منه المصلي متطهر. ومثاله من الحس قولنا إن كان هذا سواداً فهو لون ومعلوم أنه سواد فهو إذاً لون. وأما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم فانه ينتج نقيض المقدّم، ومعاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي غير متطهر فينتج أن الصلاة ليست صحيحة، فانظر كيف أنتج تسليمِ نقيض اللازم نقيض المقدّم، ومثاله أيضاً فولنا إن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الإلزام ومعلوم إن هذا اللازم باطل فإنه ليس يلزم بصريح الإلزام فيلزم منه نقيض المقدّم، وهو إن البيع غير صحيح. ومثاله أيضاً قولنا إن كان الباري تعالى على العرش فهو مقدّر لأنه مساو للعرش أو أصغر أو أكبر، ومعلوم أن اللازم محال وهو كونه مقدّراً فيكون المقدّم محالاً. ووجه دلالة هذا أن المؤدي إلى المحال محال وقول الخصم أنه على العرش مؤدي إلى المحال فهو محال، وقوله إن بيع الغائب صحيح مؤدِ إلى المحال، وهو أن يلزم بصريح الإلزام على خلاف الإجماع والمؤد إلى المحال محال. فأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم. فإنا إذا قلنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر فيلزم أن الصلاة صحيحة، وهو غير صحيح، إذ ربما تكون الصلاة باطلة بعلة أخرى سوى الطهارة. وكذلك تسليم نقيض المقدّم لا ينتج لا عين اللازم ولا نقيضه. فانك لو قلت ومعلوم أن الصلاة ليست بصحيحة فلا يلزم من هذا أن المصلي متطهر ولا أنه غير متطهر. والفرق بين هذا النمط والنمط الأول أن الأول ترتيبه خبر عن شيء تمَّ حكم على الخبر بشيء فلزم منه نتيجة وهو الالتقاء بين المبتدأ الأول والخبر الأخير، وكل واحد من الأجزاء الثلاثة يصلح أن يجعل وصفاً وخبراً وحكماً للآخر في نظم هذا الكلام. وأما هذا فإنه إظهار تلازم بين قضيتين غير متداخلتين. فإن قولنا إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر بيان أن كون المصلي متطهراً لازم لكون الصلاة صحيحة، فلا يمكن أن يجعل كون المصلي متطهراً لا وصفاً للصلاة ولا وصفاً للصحة. والفرق من حيث الترتيب والنظم ظاهر. وأما وجه الدلالة فهو أنه مهما جعل شيء لازماً لشيء فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم، بل إما أخص وإما مساوياً. ومهما كان أخص فبثبوت الأخص يلزم بالضرورة ثبوت الأعم. إذ يلزم من ثبوت السواد وجوده ووجود اللون، وهو الذي عنيناه بتسليم عين المقدم. وانتفاء الأعم يوجب انتفاء الأخص، إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم. فأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص، فإن ثبوت اللون لا يدل على ثبوت السواد، فلذلك قلنا تسليم عين اللازم لا ينتج لا نفي اللازم ولا ثبوته، وأما انتفاء الأخص فلا يوجب انتفاء الأعم، فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته، وهو الذي عنيناه بقولنا إن تسليم نقيض المتدّم لا ينتج لا عين اللازم ولا نقيضه. وأما جعل الأخص لازماً للأعم فهو خطأ، كمن يقول إن كان هذا لوناً فهو سواد وإن كان اللازم مساوياً للمتقدم أنتج منه أربع تسليمات: كقولنا إن كان زنا المحصَن موجوداً فالرجم واجب ومعلوم أنه موجود فإذن  الرجم واجب، أو معلوم أنه غير موجود فإذاً الرجم غير واجب، أو معلوم أن الرجم واجب فإذاً زنا المحصن موجود، أو معلوم أن الرجم غير واجب فإذاً الزنا غير موجود. وكذلك كل معلول له علة وهو مساو لعلته ويلزم أحدهما الآخر فينتج فيه التسليمات الأربع، ومثاله من المحسوس إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فهو موجود لكنها غير طالعة فهو غير موجود، ولكن النهار موجود فالشمس طالعة، ولكن النهار غير موجود فالشمس غير طالعة.م واجب، أو معلوم أنه غير موجود فإذاً الرجم غير واجب، أو معلوم أن الرجم واجب فإذاً زنا المحصن موجود، أو معلوم أن الرجم غير واجب فإذاً الزنا غير موجود. وكذلك كل معلول له علة وهو مساو لعلته ويلزم أحدهما الآخر فينتج فيه التسليمات الأربع، ومثاله من المحسوس إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فهو موجود لكنها غير طالعة فهو غير موجود، ولكن النهار موجود فالشمس طالعة، ولكن النهار غير موجود فالشمس غير طالعة.

النمط الثالث نمط التعاند: وهو على ضد نمط التلازم والمتكلمون يسقونه السبر والتقسيم والمنطقيون يسمونه الشرطي المنفصل، ونحن سميناه التعاند، ومثاله العالم إما قديم وإما حادث فهذه مقدمة وهما قضيتان، يحذف إما الأولى قولنا العالم قديم أو الثانية قولنا العالم حادث، فتسليم إحدى القضيتين أو نقيضها يلزم منه لا محالة نتيجة وينتج فيه أربع تسليمات: فانا نقول ومعلوم أنه حادث فيلزم منه نقيض المقدمة الأخرى وهو أنه ليس بقديم. أو نقول ومعلوم أنه ليس بحادث فيلزم منه عين المقدمة الأخرى. أو نقول ومعلوم أنه قديم فيلزم منه نقيض الأخرى وهو أنه ليس بحادث. أو نقول ومعلوم أنه ليس بقديم فيلزم منه عين الأخرى. فبالجملة كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفي أحدهما إثبات الآخر، ولا يشترط إن تنحصر المقدمة في قسمين بل شرطه أن تُستَوفى أقسامه وإن كان ثلاثاً. فإنا نقول هذا الشيء إما مساو وإما أقل و إما أكثر فهذه ثلاثة ولكنها حاصرة، فاثبات واحد ينتج نفي الآخرين وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث و إبطال واحد ينتج انحصار الحق في الآخرين أحدهما لا بعينه، والذي لا ينتج فهو أن لا يكون محصوراً، كقولك زيد إما بالعراق و إما بالحجاز وهذا مما يوجب إثبات واحد نفي الآخر، فإنه إن ثبت أنه بالعراق انتفى عن الحجاز وغيره. وأما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر إذ ربما يكون في صقع ثالث ويكاد يكون كلام من يستدل على إثبات رؤية الباري بإحالة تصحيح الروية على الوجود غير محصور، إلا أن نتكلف لحصره وجهاً بان نقول تصحيح الرؤية لا يخلو إما أن يكون بكونه جوهراً فيبطل بالعرض أو كونه عرضاً فيبطل بالجوهر أو كونه سواداً أو لوناً فيبطل بالحركة. فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود فهو المصحح، إذ يمكن إن يكون قد بقي أمر آخر مشترك لم يعثر عليه الباحث سوى الموجود، ممل كونه بجهة من الرائي مثلاً. فإن أبطل هذا أيضاً فلعلّ ثمَّ معنى أخر، إلا أن نتكلف حصر المعاني ونتكلف نفي جميعها ونبين أن طلب مصحح لا بد منه فعند ذلك تحصل النتيجة، فهذه ضروب الأقيسة. فكل استدلال لا يمكن رده إلى هذه الضروب فهو غير منتج وسنزيده شرحاً في حق اللواحق.

الفن الثالث من المقاصد

في بيان المقدمات الجارية من القياس مجرى الثوب من القميص والخشب من السرير، فان ما ذكرناه جرى مجرى الخياطة من القميص وشكل السرير من الخشب، وكما لا يمكن أن يتخذ من كل جسم سيف وسرير وقميص، إذ لا يتأتى من الخشب قميص ولا من الثوب سيف ولا من السيف سرير فكذلك لا يمكن أن يتخذ من كل مقدمة وقضية قياس منتج ، بل القياس المنتج لا ينصاغ إلا من مقدمات يقينية إن كان المطلوب يقينيا أو ظنياً إن كان المطلوب فقهياً، فلنذكر معنى اليقين في نفسه لتفهم ذاته ولنذكر مدركه لتفهم الآلة التي بها نقتنص اليقين. وهذا وإن كان القول يطول فيه ولكنا نحرص على الإيجاز بقدر الإمكان. إما اليقين فلا تعرفه إلا بما أقوله وهو أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت فلها ثلاثة أحوال: احدها: أن تتيقن وتقطع به وينضاف إليه قطع ثان وهو أن يقطع بأن قطعه به صحيح ويتيقن بأن يقينه لا يمكن أن يكون فيه سهو ولا غلط ولا التباس، ولا يجوز الغلط لا في تيقنه بالقضية ولا في تيقنه الثاني بصحة يقينه، ويكون فيه آمناً مطمئناً قاطعاً بأنه لا يتصور أن يتغير فيه رأيه ولا أن يطلع على دليل غاب عنه فيغير اعتقاده، ولوِ حكى نقيض اعتقاده عن أفضل الناس فلا يتوقف في تجهيله وتكذيبه وخطأه، بل لو حكى له أن نبياً مع معجزة قد ادعى أن ما يتيقنه خطأ ودليل خطأه معجزته فلا يكون له تأثير بهذا السماع إلا أن يضحك منه، ومن المحكي عنه. فإن خطر بباله أنه يمكن أن يكون الله قد اطْلع نبيه على سر انكشف له نقيض اعتقاده، فليس اعتقاده يقيناً. ومثال هذا العلم قولنا إن الثلاثة أقل من الستة، وإن شخصاً واحداً لا يكون في مكانين، وإن شخصين لا يجتمعان في موضع ونظائر ذلك.

الحالة الثانية: أن يصدّق به تصديقاً جزماً لا يتمارى فيه ولا يشعر بنقيضه البتة ولو أشعر بنقيضه عسر عليه اذعان نفسه للإِصغاء إليه ولكنه لو ثبت وأصغى وحكى له نقيض معتقده عمّن هو أعلم الناس وأعدلهم عنده، وقد نقله مثلاً عن النبي أورث ذلك في يقينه توقفاً ما ولنسمِّ هذا الجنس اعتقاداً جزماً وهو أكثر اعتقاد عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم ومذاهبهم، بل أكثر اعتقاد المتكلمين في نصرة مذاهبهم بطريق الأدلة، فإنهم قبلوا المذاهب والأدلة جميعاً بحسن الظن والتصديق من أرباب مذاهبهم الذين حَسُنَ فيهم اعتقادهم بكثرة سماعهم الثناء عليهم وتقبيح مخالفتهم ونشؤهم على سماع ذلك منذ الصبا، فإن المستقل بالنظر الذي يستوي مثيله في أول نظره إلى الكفر والإِسلام وسائر المذاهب عزيز.

الحالة الثالثة: أن يكون له سكون نفس إلى شيء والتصديق به وهو يشعر بنقيضه أو لا يشعر ولكنه إن أشعر به لم ينفر طبعه عن قبوله، وهذا يُسمّى ظناً وله درجات في الميل إلى الزيادة والنقصان لا تحصى، فمن سمع من عدل شيئاً سكنت إليه نفسه، فإن انضاف إليه ثان زاد السكون وقوي الظن، فإن انضاف إليه ثالث زادت القوة، فإن انضافت إليه تجربة بصدقهم على الخصوص زادت القوة، فإن انضافت إليه قرينة حال كما إذا أخبروا عن أمر مخوف وهم على صورة مذعورين صفر الوجوه مضطربي الأحوال زاد الظن، وهكذا لا يزال يترقى قليلاً قليلاً في القوة إلى أن ينقلب الظن على التدريج يقيناً إذا انتهى الخبر إلى حد التواتر. والمحدثون يسقون أكثر هذه الأحوال علماً ويقيناً حتى يطلقون بأن الأخبار التي تشتمل عليها الصحاح يوجب العلم العمل بها على كافة الخلق إلا آحاد المحققين، فإنهم يسقون الحالة الثانية يقيناً ولا يميزون بين الحالة الثانية والأولى، والحق أن اليقين هو الأول والثاني مظان الغلط. فمهما ألفت القياس من مقدمات يقينية حقيقية في صورة تأليف الشروط التي قدمناها كانت النتيجة الحاصلة يقينية ضرورية بحسب ذوق المقدمات.

الفصل الثاني

في مدارك اليقين والاعتقاد

لعلك تقول قد استقصيت في شروط اليقين استقصاءً مؤنساً عن نيله والظفر به فمن أين يقتنص مثل هذا اليقين وما آلته ومدركه. فاعلم أن مدارك الظنون لست أذكرها فإنها واضحة للفقهاء والناس كافة، ولكن أذكر مدارك اليقين والاعتقادات التي يظن بها اليقين ومجامعها فيما حضرني الآن ينحصر في سبعة أقسام، ولنخترع لكل واحد منها اسماً مشتقاً من سببه: الأول أوليات: واعني بها العقليات المحضة التي اقتضى ذات العقل بمجرد حصولها من غير استعانة بحس التصديرَ بها مثل علم الإنسان بوجود ذاته، وبان الواحد لا يكون قديما حادثا، وأن النقيض إذا صدق أحدهما كذب الآخر، وان الإثنين أكثر من الواحد ونظائره. وبالجملة هذه القضايا تصادف مرتبة في العقل منذ وجوده حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالماً به، ولا يدري متى حصل ولا يقف حصوله على وجود أمر سوى العقل، إذ يرتسم فيه الوجود مفرداً والقديم مفرداً والحادث مفرداً والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتحسب بعضها إلى بعض، مثل أن تحضر أن القديم حادث ويكذب العقل به أو أن القديم ليس بحادث ويصدق العقل به، ولا نحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات والى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض فيتربص العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب. الثاني المشاهدات الباطنة: وذلك كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وفرحه وسروره وجميع احواله الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس. وهذه ليست مدركة بالحواس الخمس ومجرد العقل. لا يكفي في إدراكها بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل والأوليات لا تكون للبهائم والصبيِان. فإذا يحصل من هذا المدرك يقينيات كثيرة وقضايا قطعية مثل قطعه بأنه جائع ومسرور وخائف، ومن عرف نفسه وعرف السرور وعرف حلول السرور فيه ينظم من هذه المعارف قضية يحكم على نفسه بأنها مسرورة، فكانت القضية المنظومة منه عند العقل قضية حقيقة.

الثالث المحسومات الظاهرة: كقولك الملح ابيض والقمر مستدير والشمس مستديرة وهذا الفن واضح، ولكن يتطرق الغلط إلى الإبصار بعوارض فتغلط لأجلها مثل بُعدِ مفرط أو قرب مفرط أو ضعف في العين. وأسباب الغلط في الإبصار الذي على الاستقامة ثمانية، والإبصار الذي بالانعكاس كما في المرآة. والذي بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج تتضاعف فيه أسباب الغلط ومداخل الغلط في هذه الحالة على الخصوص لا يمكن استقصاؤُه في مجلدات. ولا يمكن أن يجعل علاوة على هذه الحالة وان أردت أنموذجاً من أغاليط البصر فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكناً والعقل يقضي بأنه ستحرك وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة والى الصبي والنبات في أول النمو وهي في النمو في كل لحطة تتزايد على التدريح ويراه واقفاً و أمثال ذلك مما يكثر.

الرابع التجريبات: ويعبّر عنها باطراد العادات وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة والحجر هاو إلى جهة الأرض والنار متحركة إلى جهة فوق وألخبز مشبع والماء مرو والخمر مسكر وجميع المعلومات بالتجربة عند من جرّبها، فإن معرفة الطبيب بان السقمونيا مسهل كمعرفتك بان الخبز مشبع، فإنه انفرد بالتجربة وكذلك الحكم بأن المغناطيس جاذب للحديد عند من عرفه. وهذا غير المحسوسات لأن مدرك الحس هو أن هذا الحجر هوى إلى الأرض. فأما الحكم بأن كل حجر هاو إلى الأرض فهو قضية عامة لا قضية في عين فليس للحس إلا قضية في عين، وكذلك إذا رأى مائعاً وقد شربه فسكر لم يحكم بأن جنس هذا المائع مسكر، فإن الحس لم يدرك إلا شرباً وسكراً عقيبه وذلك في شراب معين مثار إليه. والحكم الثاني هو حكم العقل بواسطة الحس وبتكرر الإِحساس مرة بعد أخرى إذا المرة الواحدة لا تحصل العلم فمن تألم له موضع فصبَّ عليه مائعاً فزال لم يحصل له علم بأنه مزيل بل هو كما لو قرأ عليه سورة الإِخلاص مرة فزال. إذ قد يخطر بباله إن زواله كان بالاتفاق، فإذا تكرر زواله مرات كثيرة حصل له العلم. وكذا لو جرب قراءة سورة الإِخلاص مثلاً على المرض الأول وكان يزول كل مرة أو في الأكثر يحصل له يقين بأنه مزيل كما حصل اليقين بأن الخبز مزيل للجوع والتراب غير مزيل له بل زائد فيه. وإذا تأملت هذا القن حق التأمل عرفت أن العقل نال هذه بعد الإِحساس والتكرر بواسطة قياس خفي ارتسم فيه، ولم يثبت شعوره بذلك القياس لأنه لم يلتفت إليه ولم يشكله بلفظه. وكان العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد في اكثر، ولو كان بالاتفاق لتخلف. فإن الإِنسان يأكل الخبز فيتألم رأسه ويزول جوعه فيقضي على الخبز بأنه مشبع وليس بمؤلم لفرق بينهما وهو أن الإِيلام يحمله على سبب آخر اتفق اقترانه بالخبز، إذ لو كان، بالخبز لكان دائماً مع الخبز أو في الأكثر كالشبع. وهذا الأمر يحرك أصلاً عظيماً في معنى تلازم الأسباب والمسببات والتعبير عنها باطراد العادات، وأن ذلك ما حقيقته. وقد ذكرنا في كتاب تهافت الفلاسفة ما ينبّه عن غوره. والمقصود أن القضايا التجريبية زائدة على الحسية ومن لم يمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من القضايا العينية فيتعذر عليه درك ما يلزم منها من النتائج، ولذلك نرى أقواماً يتفردون بعلم ويستبعده آخرون لجهلهم بمقدماته التي لا تحصل إلا بالتجربة، وهذا كما أن الأعمى والأصم يعوز جملة من العلوم النظرية التي تستنتج من مقدمات محسوسة ولا يفرق الأعمى قط باليقين البرهاني، أن شكل الشمس مثل شكل الأرض أو أكبر منها، فإنها تعرف بأدلة هندسية تبنى على مقدمات مستفادة من البصر وكثير من العلوم النفيسة لا يتنقص العقل مقدماتها إلا بشبكة البصر وسائر الحواس، ولذلك قرن الله السمع والبصر بالفؤاد في القرآن.

الخامس المعلومات بالتواتر: كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلاة الخمس، بل كعلمنا بأن مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي وغيره. فإن هذه أمور وراء المحسوس، اذ ليس للحس إلا أن يسمع صوتاً، المخبر بوجود مكة، فأما الحكم بصدقه فهو للعقل والته السمع ولا مجرد السمع بل تكرير السماع. ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد، ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو لتكرر التجربة، فإن كل مرة فيها شهادة أخرى تنضم إلى الآخر فلا يدري متى ينقلب الظن الحاصل منه يقيناً. فان ترقي الظن فيه وفي التواتر خفي التدريج لا تشعر به النفس البتة، كما أن نمو الشعر خفي التدريج لا يشعر بوقته ولكن بعد زمان يدرك التفاوت فكذا هذه العلوم، فهذه مدارك العلوم اليقينية الحقيقية الصالحة للبراهين التي تطيب منها النفس وما بعده ليس كذلك.

السادس الوهميات: وذلك ممل قضاء الوهم بان،كل موجود ينبغي أن يكون مشاراً إلى جهته، وأن موجوداً لا متصلاً بالعالم ولا منفصلاً ولا خارجاً ولا داخلاً محال. فإن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال، وهو عمل قوة في التجويف الآخر من الدماغ تسمّى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات التي ألِفها، فليس في طبعها إلا النبوة عنها وانكارها ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان، والأولى منهما ربما وقع كل الأنس بتكذيبها لكثرة ممارسَتك الأدلة العقلية الموجبة لإثبات موجود ليس في جهة، والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك الأدلة الموجبة له. وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلا والملا غير ممكن فإنك إن اثبت خلاء فما أراك تجعله قديماً. فإن الخلا ينعدم بالملا والقديم لا ينعدم، ولأنك تعرف أن لا قديم سوى الله وصفاته وإذا جعلته محدثاً لزمك أن يكون متناهياً فينقطع، و إذا جاوزت المنقطع كنت معترفاً بأنه ليس بعده لا خلا ولا ملا. وهذه القضايا الوهمية مع أنها كاذبة فهي في النفس لا تتميّز عن الأوليات القطعية، مثل قولك لا يكون شخص في مكانين، بل تشهد به أول الفطرة كما تشهد بالأوليات القطعية. وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعاً هو صادق بل الصادق ما تشهد به قوة العقل فقط ومداركه الخمسة المذكورة. وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل ثم بعد معرفته الدليل أيضاً لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها. فان قلت فبماذا أُميز بينها وبين الصادقة والفطرة قاطعة بالكل، ومتى يحصل لي الأمان منها فأقول إن هذه ورطة تاه فيها جماعة فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيداً لليقين فقال بعضهم طلب اليقين غير ممكن، وقالوا بتكافؤ الأدلة وادّعوا النفس، وليس يحصل لنا الأمان وقال لبعضهم لسنا نتيقن أيضاً تكافؤ الأدلة بل هذا أيضاً لا ندريه، وكشف الغطاء عن هذا صعب ويستدعي تطويلاً ولكن أفيدك ألان طريقين تثق بهما في كذب الوهم.

الأول جملي: وهو أنك لا تشك في وجود الوهم والقدرة والعلم والإرادة وهذه الصفات وليس هذا من النظريات، ولو عرضت الوهم على نفس الوهم لأنكره. فانه يطلب له سمكاً ومقداراً ولوناً فإذا لم يجده إياه، ولو كلفت الوهم إن يقابل ذات القدرة والعلم والإرادة لتصور لكل واحد قدراً ومكاناً مفرداً، ولو فرضت له اجتماع هذه الصفات في جزء واحد وجسم واحد لقدر بعضها منطبقاً على البعض كأنه ستر مرسل على وجهه، ولم يقدر على تقدير إدخال البعض في البعض الآخر باسره، فانه إنما يشاهد الأجسام ويراها متميزة في الوضع فيقضي على كل شيئين بانه متميز في الوضع عن الآخر. الطريق الثاني: وهو معيار في آحاد المسائل وهو أن تعلم إن جميع قضايا الوهم ليست كاذبة فأنها توافق العقل في استحالة وجود شخص في مكانين، بل لا تنازع في جميع العلوم الهندسية والحسابية وما يدرك بالحس، لانها تنازع فيما وراء المحسوسات لأنها تمثل غير المحسوس بالمحسوس، إذ لا تقبله إلا على نحو المحسوسات. فحيلة العقل في أن يعق بكذبه وبقضاياه مهما نظر في غير محسوس أن يأخذ مقدمات يقينية يساعد الوهم عليها وبنظمها بنظم المقياسين التي ذكرناها. فإن الوهم يساعد على أن اليقينيات إذا نظمت كذلك كانت النتيجة لازمة كما سبق من الأمثلة وكما في سائر الهندسيات فيتخذ ذلك ميزاناً وحاكماً بينه وبينه. فإذا رأى الوهم قد كاع عن قبول نتيجة دليل قد ساعد على مقدماته وساعد على صحة نظمه وساعد على أن مثل هذا النظم منتج يالضرورة وان تلك المقدمات صحيحة بالضرورة ثم أخذ يمتنع عن قبول النتيجة علم أن ذلك من نفور في طباعها عن إدراك هذا الشيء الخارج عن المحسوسات. فاكتفِ بهذا القدر فإن تمام الإيضاح لا يحصل إلا بالامتحان في أمثلة كثيرة، وذلك مما يطول فيه الكلام. السابع المشهورات: وهي أراء مجموعة أوجب التصديق بها، إما شهادة الكل واكثر أو شهادة الجماهير أو الأفضل، كقولك الكذب قبيح والإنعام حسن وشكر المنعم حسن وكفران النعمة قبيح وهذه قد تكون صادقة وتكون كاذبة، فلا يجوز أن يعول عليها في مقدمات القياس. فان هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية، فإن الفطرة الأولى لا يقضي بها بل ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبي، وذلك بتكرير ذلك على الصبي وتكليفه اعتقاده وتحسين ذلك عنده، وربما يضطر إليها في حب التسالم وطيب المعاشرة، وربما نشا من الحياء ورقة الطبع، فنرى أقواماً يصدقون بأن ذبح البهائم قبيِح ويمتنعون من أكل لحومها وما يجري هذا المجرى، فالنفرة من المجبولة على الجبن والرقة أطوع لقبولها، وربما حمل على التصديق بها الاستقراء الكثير، وربما كانت القضية صادقة ولكن بشرط دقيق لا يفطن الذهن لذلك الشرط ويستمر على تكرير التصديق فيترشح في نفسك كمن يقول مثلاً التواتر لا يورث العلم لأن قول الواحد لا يورث، وكذلك الثاني، فقد انضم ما لا يوجب إلى ما لا يوجب والمجموع لا يزيد على الآحاد، لأن قوله الواحد لا يوجب العلم، إذ يجوز عليه الغلط، وهذه قضية يظن أنها صادقة بالإِطلاق وليس كذلك، بل الصادق أن قول الواحد المنفرد بقوله يحتمل الغلط والجمع يخرجه عن الانفراد، وكل واحد لا يوجب قوله العلم بشرط أن لا يكون معه الآخرون، فإذا اجتمعوا بطل هذا الشرط. وهذه من المثارات العظيمة الغلط وللتصديق بالمشهورات أسباب كثيرة يطول إحصاوُها ولا ينبغي إن تتخذ مقدمات القياس اليقيني منها البتّة، واكثر أقيسة الجدليين من المتكلمين والفقهاء في مجادلاتهم وتصانيفهم مؤلفة من مقدمات مشهورة فيما بينهم، سلموها لمجرد الشهرة وذهلوا عن سببها. ولذلك نرى أقيستهم تنتج نتائح متناقضة فيتحيّرون فيها وتتخبط عقولهم في تنقيحها. فإن قلت فيما أدرك الفرق بين المشهور والصادق فاعرض قول القائل الصدق جميل والكذب قبيح على العقل الأولي الفطري الموجب للأوليات، وقد رانك لم تعاشر أحداً ولم تخالط أهل ملة ولم تأنس بمسموع ولم تؤدب باصطلاح ولم تهذب بتعليم أستاذ وأب ومرشد وكلّف نفسد أن تشكك فيه، فإنك تقدر عليه وتراه متأتياً، و إنما الذي يعسر عليك هذه التقريرات. فإن تقدير الجوع في حال الشبع عسير وكذا تقدير كل حالة أنت منفك عنها في الحال. ولكن إذا تحدّقت فيه أمكنك التشكّك، ولو كلفت نفسك الشك في أن الاثنين أكثر من الواحد لم يكن الشك متأتيا بل لا يتأَتى الشك في أن العالم ينتهي إلى خلا وهو كاذب وهمي، ولكن فطرة الوهم تقتضيه والآخر تقتضيه فطرة العقل. فأما كون الكذب قبيحاً فلا تقضي به لا فطرة الوهم ولا فطرة العقل بل ما آلفه الإنسان من العادات والأخلاق والاصطلاحات، وهذه أيضاً مغاصة مظلمة يجب التحرز عنها. وقلَّ من لا يتغير بهذه المقدمات ولا تلتبس عليه باليقينيات، لا سيما في تضاعيف الأقيسة مهما كثرت المراتب والمقدمات. وهذا القدر كاف في المقدمات التي هي جاملة للنظم والترتيب والتأليف. والمستفاد من غلط الوهم لا يصلح البتة والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية ولا تصلح لغيرها ولنختم هذا في المقاصد.

الفن الثالث من القياس

في اللواحق وفيه فصول

الفصل الأول

في بيان كل ما تنطق به الألسنة

في العادات والمحاورات والفقهيات والعقليات

ممّا يذكر في معرض الدليل والتعليل ويمكن أن يقرن به لأن، ويذكر في جواب لِمَ، فذلك بالضرورة يرجع إلى ضروب النظم التي ذكرناها. ولا بد منها البتة، وان ما ترى تأليفه وإطلاقه على غير ذلك النظم فله أربعة أسباب: وذلك إما قصور علم الناظر بتمام نظم القياس، وإما إهماله بعض المقدمات لكونها واضحة، وإما إهماله كل لكونها مشتملة على موضع التلبيس فيحذر من أن يصرّح به فيطّلع على تلبيسه، وإما تركيب الضروب التي ذكرناها وجمع جملة من احادها في سياق كلام واحد. فإنا لم نذكر إلا المفردات من النظم، فان تلك المفردات إذا تداخلت حصل منها تأليفات كثيرة أعرضنا عن تفصيلها للإيجاز. ولنورد لكل واحد منها مثالاً: الأول فيما ترك إحدى مقدمتيه لوضوحه وهو أكثر الأدلة العقلية والفقهية، إذ يحترز عن التطويل، وكذا في المحاورات كما يقول القائل هذا يجب عليه الرجم وهذا قد زنا وهو محصّن فإذاً يجب عليه الرجم. ولكن تَركَ مقدمة الحكم وذكر مقدمة المحكوم عليه لأنه يراه مشهوراً، وكذلك يقال العالم. لوجوده سبب فيقال لِمَ فنقول لأنه حادث فإذاً له سبب. وكما يقال نكاح الشغار فاسد فيقال لِمَ فنقول لأنه منهيّ عنه. وتمامه أن نقول كل منهي عنه فهو فاسد ونِكاح الشغار منهي عنه فهو إذاً فاسد ولكن تُرِكَ ذلك للشهرة والتلبيس أيضاً حتى لا يقول الخضم أسلم أنه منهي عنه ولكن لا أسلم أن كل منهي عنه فاسد فيترك المقدمة الممنوعة. وأما مثال ما يترك لأجل التلبيس فأن تقول فلان خائن في حقك فيقال لِمَ فيقول لأنه يناجي عدوك، وتمامه أن يقول كل من يناجي العدو فهو خائن وهذا يناجي العدو فهو خائن، ولكن ترك مقدمة الحكم فانه لو صرح به ربما يذكر أنه ربما يناجي العدو لجدعه أو يستميله أو ينصحه، ولا يسلم أن كل من يناجي العدو فهو خائن فيترك ذلك حتى لا يتذكر محل الكذب، وربما يترك مقدمة المحكوم عليه فيقول لا تخالط فلاناً فيقال لِمَ فيقول لأن الحُسّاد لا تُؤمن مخالطتهم. وتمامه أن نقول الحساد لا يخالطون وهذا حاسد فينبغي أن لا يخالط، فتركت مقدمة المحكوم عليه وهو قولك هذا حاسد وكل من يقصد التلبيس في المجادلات فطريقه إهمال إحدى المقدمتين إيهاماً بأنه واضح وربما يكون الكذب فيه أو استغفالاً للخصم واستجهلا له، فإنه ربما يتنبّه للحاجة إلى المقدمة الثانية. وهذا كله أمثلة النظم الأول، وقد يقع في غيره أيضاً. كمن يقول مثلاً كل شجاع ظالم فيقال لِمَ فيقول لأن الحجاج كان شجاعاً وظالماً، فهذا تمامه إن يقول الحجاج شجاع والحجاج ظالم. فكل شجاع ظالم وهو غير منتج لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث، وقد ثبت إن النظم الثالث لا ينتج إلا قضية خاصة، له إنما كان من النظم الثالث لأن العلة هي الحجاج، فانه متكرر في المقدمتين ولا يلزم منه إلا أن بعض الشجعان ظلمة، إما الكل فغير لازم. وكذلك يقول العامي. المتفقهة سيئة الآداب والمتصوفة كلهم فسقة، فيقال لِمَ فيقول لأني رأيت متصوفة الرباط الفلاني ومتفقهة المدرسة الفلانية يفعلون كيت وكيت وهو خطأ لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث وهو محال، وبالجملة مهما كانت العلة أخص من الحكم والمحكوم عليه في النتيجة لم يلزم إلا نتيجة جزئية، وهو معنى النظم الثالث، ومهما كانت العلة أعم من المحكوم عليه وأخص من الحكم أو مساويا للحكم كان من النظم الأول وأمكن أن تستنتج منه القضايا الأربعة، ومهما كانت العلة أعم من الحكم والمحكوم عليه جميعا كان من النظم الثاني ولم ينتج منه إلا النفي، إما الإثبات فلا. ومثاله من العادات أن تقول هذه المرأة حبلى فيقال لِمَ فتقول لأنها عظيمة البطن فهذا دليل فاسد وقد حذف إحدى مقدمتيه. وتمامه أن يقول هذه المرأة عظيمة البطن وكل عظيمة البطن فهي حبلى فهذه المرأة إذاً حبلى، والعلة عظيمة البطن وقد جعل خبراً في المقدمتين، وهو أعم من المحكوم عليه فإنه المرأة المعينة وعظيمة البطن، إذ قد يعظم بطن غيرها، واعم أيضاً من الحكم فإن الحكم هو الحبل وعظم البطن أعم منه إذ قد يكون بالاستسقاء والسمن والانتفاخ. والغلط من هذا الوجه في الفقهيات والكلاميات أكثر من أن يحصى. وأما مثال المختلطات المركبة من كل نمط فكقولك الباري تعالى إن كان على العرش فهو إما معل أو أكبر أو أصغر أو مساو، وكل مساو أو أكبر أو أصغر مقدّر وكل مقدر إما أن يكون  جسماً أو لا يكون جسماً، كل وباطل أن لا يكون جسماً فثبت أنه جسم فيلزم أن يكون الباري تعالى. جسماً ومحال أن يكون جسماً فمحال أن يكون على العرش. وهكذا تجري أكثر المقاييس في التصانيف والمحاورات وبه تتيسر التلبيسات، إذ يمكن أن يهمل في وسط هذه الكثرة مقدمة فيها غلط، فمن لا يقدر على تحليل هذا التركيب وردّه إلى ما سبق ربما غلط من حيث لا يدري وصدق بقياس لا يجب التصديق به. وقد اشتمل هذا على النمط الأول وعلى النمط الثاني وهو التلازم وعلى النمط الثالث وهو التقسيم والتعاند، لم إذا أتقنت المفردات أمكنك رد المختلطات إليها فلست أطول بتعليم وجه التحليل فقد لاح لك بهذه الأمثلة أنه لا يتصور أن ينطق أحد في معرض دليل بكلمة إلا ورجع إلى ما ذكرناه.اً أو لا يكون جسماً، كل وباطل أن لا يكون جسماً فثبت أنه جسم فيلزم أن يكون الباري تعالى. جسماً ومحال أن يكون جسماً فمحال أن يكون على العرش. وهكذا تجري أكثر المقاييس في التصانيف والمحاورات وبه تتيسر التلبيسات، إذ يمكن أن يهمل في وسط هذه الكثرة مقدمة فيها غلط، فمن لا يقدر على تحليل هذا التركيب وردّه إلى ما سبق ربما غلط من حيث لا يدري وصدق بقياس لا يجب التصديق به. وقد اشتمل هذا على النمط الأول وعلى النمط الثاني وهو التلازم وعلى النمط الثالث وهو التقسيم والتعاند، لم إذا أتقنت المفردات أمكنك رد المختلطات إليها فلست أطول بتعليم وجه التحليل فقد لاح لك بهذه الأمثلة أنه لا يتصور أن ينطق أحد في معرض دليل بكلمة إلا ورجع إلى ما ذكرناه.

الفصل الثاني

في بيان إن ما يُسمى استقراء

وتمثيلا يرجع بالضرورة إلى ما ذكرناه

إما الاستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر يشتمل تلك الجزئيات، كقولنا في الفقه الوِتر ليس بفرض لأنه يؤدى على الراحلة، فيقال ولِمَ قُلتم إن الفرض لا يؤدّى على الراحلة؟ فنقول عرفنا ذلك بالاستقراء، فإنا رأينا القضاء والأداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدى على الراحلة، فعلمنا أن كل فرض لا يؤدى على الراحلة. ووجه دلالة هذا لا تتم إلا بالرد إلى النظم الأول وهو أن نقول كل فرض إما قضاء أو أداء أو نذر، وكل قضاء وأداء ونذر فلا يؤدّى على الراحلة فإذاً كل فرض لا يؤدّى على الراحلة، وهذا مخيل يصلح للظنيات دون القطعيات. والكذب تحت قوله إما أداء فإن حكمه بان كل أداء لا يؤدّى على الراحلة لا يسلّمه الخصم. فإن الوِتر أيضاً أداء كالعصر والصبح، و إنما سلّم الخصم الصلاة الخمس، إما السادس فما سلمه. فنقول وهل استقريت حكم الوِتر في تصفّحك وكيف وجدته؟ فان قلت وجدته لا يؤدّى على الراحلة فالخصم لا يسلّم وإن لم تتصفّحه فلم يتبين لك إلا بعض الأداء، فخرجت المقدمة الثانية عن أن تكون عامة وصارت خاصة، وكان الواجب أن تقول بعض الفرض لا يؤدّى على الراحلة، وذلك لا ينتج فإثا بيّنا أن المقدمة الثانية في النظم الأول ينبغي أن تكون عامة، فإن كانت خاصة لم تنتج. وهذا غلط من قال إن صانع العلم تعالى عن قوله جسم، إذ يقال له لِمَ فيقول لأن كل فاعل جسم، فيقال له فبما عرفت هذا فيقول بالاستقراء، إذ تصفحت الفاعلين من خياط وبنّاء واسكاف وحجام وحداد وغيرهم فوجدتهم أجساماً، فيقال وهل تصفحت صانع العالم، فإن قلت نعم فوجدته جسما فهو محل النزاع، فكيف أدخلته بالمقدمة؟ وإن قلت لا فقد ظهر لك بعض الفاعلين لا كلّهم، فظهر بذلك أن الاستقراء إذا لم يكن تاماً مستوعباً لم يقدران استوعب دخلت فيه النتيجة المطلوبة، ولا يصح ذلك إلا في الظنيات لأنه مهما وجد الأكثر على نمط واحد غلب على الظن أن الآخر كذلك.

الفصل الثالث

من وجه لزوم النتيجة من المقدمات

وهو الذي يعبّر عنه بوجه الدليل، ويلتبس الأمر فيه على الضعفاء ولا يتحققون أن وجه الدليل عين المدلول أو غير. فيقول كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات وعرضته على العقل لم يخلُ العقل فيه من أمرين إما أن يصدّق به أو يمتنع عن تصديقه، فان صدّق به فهو الأولى المعلوم بغير واسطة، و يقال انه معلوم بغير دليل وبغير علة وبغير حيلة وبغير نظر وتأمل. وهذه العبارات تؤدي معنى واحداً في هذا المقام، و إن امتنع عن المبادرة إلى التصديق ولا يطمع بعد ذلك في تصديقه إلا بواسطة، وتلك الواسطة هي التي تنسب الحكم إلى المحكوم عليه فيجعل خبراً عنه فيصدق به وينسب إلى الحكم فبجعل الحكم خبراً عنه فيصدق به فيلزمه من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه، وبيانه أنا إذا قلنا للعقل هل النبيذ حرام؟ قال لا أدري ولم يصدق به، فعلمنا أنه ليس في الذهن طرف هذه القضية وهو الحرام والنبيذ، فلا بد وأن يطلب واسطة، ربما يصدق العقل بوجوده في النبيذ ويصدق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب. فيقول وهل النبيذ مسكر فيقول نعم، إذا كان قد حصل له ذلك بالتجربة، فيقول وهل المسكر حرام فيقول نعم إذا حصل له ذلك بالسماع، فيقول وهل المدرك بالسمع "يعمل بحكمه" قلنا نعم. فإن صدّقت بهاتين القضيتين لزمك التصديق بالثالث وهو أن النبيذ حرام بالضرورة، فيلزمه ذلك ويذعن للتصديق به. فإن قلت هذه القضية ليست خارجة عن القضيتين وليست زائدة عليهما، فاعلم أن ما توهمته حق من وجه وغلط من وجه. إما وجه الغلط فهو أن هذه القضية ثالثة بدليل أنك تقول النبيذ حرام وتقول النبيذ مسكر وتقول المسكر حرام، فليس قولك النبيذ حرام تكرار في المقدمتين بعدهما بل هذه ثلاث مقدمات متباينة اللفظ والمعنى، فعرفت أن النتيجة اللازمة غير المقدمات الملزم بها، وأن الملزمة اثنتان والنتيجة ثالثة سواهما. وأما وجه كونه حقاً فهو أن قولك المسكر حرام شامل لعموم النبيذ الذي هو أحد المسكرات، فقولك النبيذ حرام منطوِ فيه ولكن بالقوة لا بالفعل، إذ قد يحضر العام في الذهن ولا يحضر الخاص، فمن قال الجسم متحيّز لا يخطر بباله ذكر القطب فضلاً عن أن يخطر بباله مع ذلك حكمه بأنه متحيّز، فإذاً النتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة ومعلومة بالفعل، والموجودة بالقوة القريبة ربما يُظن أنها موجودة بالفعل توهماً، فاعلم أن هذه النتَيجة لا تخرج من القوة إلى الفعل بمجرد العلم بمقدمتين ما لم تحضر المقدمتين في الذهن ويخطر بباله وجه وجود النتيجة في المقدمة بالقوة، وإذا تأملت ذلك صارت النتيجة بالفعل، إذ لا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيتوهم أنها حامل ولو قيل له هل تعلم أن البغلة عاقر فيقول نعم، فإن قيل له فهل تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم، فيقال كيف توهمت أنها حامل فيتعجب هو من توهم نفسه مع علمه بالمقدمتين، أي علمه أن كل بغلة عاقر وهذه بغلة فهي إذاً عاقر والعاقر هي التي لا تحمل، فإذا هي لا تحمل. وانتفاخ البطن له أسباب سوى الحمل فإذاً انتفاخها من سبب اًخر، ولما كان السبب الخاص القريب لحصول النتيجة في الذهن التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء، فلم يعرفوا أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره. والحق أن المدلول هو المطلوب المنتج وأنه عين التفطن لوجوده في المقدمة بالقوة، لكن هذا التفطن هو سبب حصوله على سبيل التولد عند المعتزلة وعلى سبيل استعداد الذهن بحضور هذه المقدمات مع هذا التفطن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة الذي هو العقل الفعال عند الفلاسفة، وعلى سبيل تضمن المقدمات للنتيجة بطريق اللزوم الذي لا بد منه عند أكثر أصحابنا المحالف للتولد الذي ذكره المعتزلة، وعلى سبيل حصوله بقدرة الله تعالى عقيب حصول المقدمتين في الذهن، والتفطن لوجه تضمنه له بطريق إجراء الله العادة على وجه يتصور خرقها بأن لا يخلق عقيب تمام النظر عند بعض أصحابنا، ثم ذلك من غير نسبة له إلى القدرة الحادثة عند بعضهم بل بحيث لا تتعلق بها قدرة العبد، و إنما قدرته على استحضار المقدمتين ومطالعة وجه تضمن المقدمة للنتيجة على معنى وجودها فيها بالقوة فقط. فأما صيرورة النتيجة بالفعل فلا تتعلق به القدرة، وعند بعضهم تتعلق به القدرة  الحادثة فيكون العلم النظري كسب العبد، وإيضاح الرأي الحق من جملة ذلك لا يليق بما هو النظر الفاسد ما هو، وترى الكتب مشحونة بتطويلات في معنى هذه الألفاظ من غير شفاء. و إنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط لا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور بل بالكلام المفيد الموضح، وان خالف المعتاد.ة فيكون العلم النظري كسب العبد، وإيضاح الرأي الحق من جملة ذلك لا يليق بما هو النظر الفاسد ما هو، وترى الكتب مشحونة بتطويلات في معنى هذه الألفاظ من غير شفاء. وإنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط لا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور بل بالكلام المفيد الموضح، وان خالف المعتاد.

مغالطة من منكري النظر: وهو أن يقول ما تطلبه بالنظر هو معلوم لك أم لا، فإن علمته فكيف تطلبه وأنت واحد وان جهلته فإذاً وجدته، فبمَ تعرف أنه مطلوبك، وكيف يطلب العبد الآبق من لا يعرفه فإنه لو وجده لم يعرف أنه مطلوبه، وحتها أن تقول أخطأت في نظم دليلك، فإن تقسيمك ليس بحاصر، إذ قلت تعرفه أو لا تعرفه بل هاهنا قسم ثالث وهو إني أعرفه من وجه وأجهله من وجه، وأعني ألان بالمعرفة غير العلم. فإني أفهم مفردات أجزاء المطلوب بطريق المعرفة والتصور وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة لا بالفعل، ولو كنت أعلمه بالفعل لما طلبته ولو لم أعلمه بالقوة لما طمعت في أن أعلمه، إذ ما ليس في قوة عليه يستحيل حصوله كالعلم باجتماع الضدين، ولولا أني أدركه بالمعرفة والتصور لأجزائه المفردة لما كنت أعلم بالظفر بمطلوبي إذا وجدته، وهو كالعبد الآبق فإني أعرف ذاته بالتصور، و إنما أنا طالب مكانه وأنه في البيت الفلاني أم لا، وكونه في البيت أعلمه بالمعرفة والتصور أي لفهم البيت مفرداً وأفهم الكون مفرداً وأعلمه بالقوة، أي في قوة أن أصدّق بكونه في البيت ولكن لست مصدّقاً بالفعل، وإنما أطلب حصوله بالفعل من جهة حاسة البصر، وإذا رأيته في البيت بالمشي إليه صدّقت بكونه في البيت بالفعل، فلولا معرفتي البيت والكون والعبد بطريق التصور للمفردات لما عرفت وجه المطلوب عند رؤية العبد، ولولا أنه في قوة التصديق لما صار بالفعل، فكذلك أطلب أن العالم حادث فأفهم العالم مفرداً بالمعرفة والتصور واعلم الحادث بالمعرفة وفي قوة التصديق بأن العالم حادث فإذا صار بالفعل علمت أنه مطلوبي ولو كان بالفعل لما طلبته.

مغالطة أخرى: قال بعض منكري العلم، أتعلم كل اثنين زوج فقيل نعم، فقال فما في يدي زوج أم لا، فإن قلت نعم فبمَ أعرفه والكف مجموع، وإن قلت لا فقد ناقضت قولك، إذ قلت عرفت إن كل اثنين زوج وما في يدي اثنان فكيف لم تعلم أنه زوج، فاجيب عن هذا بأنا عنينا بما ذكرنا أن كل اثنين عرفنا أنهما اثنان فهما زوج، وما في يدك لم أعرف أنه اثنان، ولو عرفت أنه اثنان لقلت أنه زوج. وهذا الجواب مع وضوحه خطأ فإنا إذا قلنا كل اثنين زوج إن أردنا به أن كل الاثنين زوج سواء عرفنا أن ما في يده اثنان أو لم نعرف كان خطأ بل كل ما هو اثنان في نفسه وفي علم الله تعالى فهو بالضرورة زوج، لكن الجواب الحق أن ما بيدك زوج إن كان اثنين، وقولي لا اعرف أنه اثنان لا يناقض قولي كل اثنين زوج بل نقيض قولي كل اثنين زوج قولي كل اثنين فليس بزوج أو بعض ما هو اثنان ليس بزوج.

هاتان المغالطتان وإن كانتا من الجليات فإنما أوردتهما ليقع الأنس بتحرير الكلام في حل الإشكالات، فإن الأغاليط في النظريات كلها ثارت من إهمال الجليات والتسامح فيها، ولو أخذت الجليات وحررت ثم تطرق منها إلى ما بعدها تدريجياً حتى لا يخفى قليلاً قليلاً فيتضح الشيء بما قبله على القرب لطاحت المغالطات، ولكن عادة النظار الهجوم على غمرة الأشكال وطلب الأمر الخفي البعيد عن الأوائل الجليّة بعد أن تخللت بينه وبيني الأوائل درجات كثيرة فلا تمتد شهادة الجلي ولا يقوى الذهن على الترقي في المراقي الكثيرة دفعة فتزلُ الأقدام وتعتاص المطالب وتنحطُ العقول، ولذلك ضل أكثر النظار وأضلوا إلا عصابة الحق الذين هداهم الله تعالى بنوره وأرشدهم إلى طريقه.

الفصل الرابع

في انقسام القياس

إلى قياس دلالة وقياس علة

إما قياس الدلالة فهو أن يكون الأمر المكرّر في المقدمتين معلولاً ومسبّباً، فإن العلة والمعلول يتلازمان وإن شئت قلت السبب والمسبب وان شئت قلت الموجب والموجب. فان استدللت بالعلة على المعلول فقياسك قياس علة و إن استدللت بالمعلول على العلة فهو قياس دلالة، وكذلك إن استدللت بأحد المعلولين على الآخر مثال قياس العلة من المحسوس بأن تستدل على المطر بالغيم وعلى شبع زيد باكله، فتقول كل من أكل كثيراً فهو بالحال شبعان وزيد قد أكل كثيراً فهو إذاً شبعان. ونعني بالعلة هاهنا السبب الاعتباري، إذ العرض التمثيل، ولا تطلب الحقائق من الأمثلة، المسوقة لتفهيمات مقاصد بعيدة عن الأمثلة، وإن استدللت بالشبع على الأكل كان قياسك قياس دلالة فانك إذا عرفت إن زيداً شبعان حكمت عليه بأنه أكل، فكان نظم قياسك أن كل شبعان فقد ممل من قبل وزيد شبعان فإذاً قد ممل، وكذا ترى امرأة ذات لبن فتقول كل امرأة ذات لبن فهي قد ولدت وهذه ذات لبن فهي إذاً ولدت. ومثاله من الكلام أن تقول كل فعل محكم ففاعله عالم والعالم محكم ففاعله عالم والأحكام مسبب العلم لا سببه فهو دلالة، ولذلك يجوز أن يتأخر الدليل عن المدلول حتى يستدلون بالتيمّم على حكم الوضوء، ولا تتأخر العلة عن المعلول. ومثال قياس العلة في الفقه الاستدلال بالسكر على التحريم كما مضى، وممال الاستدلال بإحدى النتيجتين على الأخرى في الفقه قولنا في الزنا إنه لا يوجب حرمة المصاهرة لأنه وطىء لا يوجب المحرمية وما لا يوجب المحرمية لا يوجب الحرمة وهذا لا يوجب المحرمية فإذاً لا يوجب الحرمة، والمشترك في المقدمتين المقرون بقولنا لأن المحرمية وهي ليست علة الحرمة ولا الحرمة علة لها، بل هما. نتيجتا علة واحدة. وحصول إحدى النتيجتين يدل على الأخرى بواسطة العلة، فإنها تلازم علتها والنتيجة الثانية أيضاً تلازم علتها وملازم الملازم ملازم لا محالة. فإن ظهر أن المحرمية علة الحرمة لم يكن هذا صالحاً لأن يكون مثالاً لغرضنا. وأما مثاله في العادات فجميع الأدلة في علم الفراسة، فإنه يستدل بالخلقة والمزاج على الخلق لا لأن أحدهما علة الآخر ولكن كلاهما بحكم جريان العادة نتيجة علة واحدة، حتى يقال في علم الفراسة الإنسان إذا انضم عظم أعالي يديه وصدره ووجهه إلى عظم عرضه واتساعه كان شجاعاً قياساً على الأسد، والشجاعة واتساع الصدر ليس أحدهما علة للآخر ولكن عرف باستقراء الحيوانات تلازمهما فعلم إن علتهما واحدة وأن أحدهما يدل على الآخر عند شروط آخر مضمومة إليه كما يستقص في ذلك العلم. وقد كان الشافعي رضي الله عنه ماهراً فيه وصادق الحدس في التفرس، وهذا العلم يتداعى إلى عجائب عظيمة حتى إن الناظر في كتف الشاة يستدل بما فيها من الخطوط الحمر على جريان سفك الدماء في السنة وما فيها من النقط على كثرة الأمطار والنبات ويصيب فيها ويعلم قطعاً أن حمرة خطوط كتف الشاة لا تكون علة تقاتل السلاطين ولا النقط فيها علة كثرة النبات والأمطار ولا معلولاً لها، ولكن لا يبعد من عجائب صنع الله تعالى إذ يكون في الأسباب السماوية سبب واحد يتفق في تلك السنة فيكون علة بحكم إجراءِ العادة لحياة في أعضاء الحيوانات وتشكلاتها وفي أسباب كثرة الغيوم وفي أسباب تواحش القلوب التي هي أسباب التقاتل التي هي أسباب سفك الدماء، و إنما يستنكر هذه العلوم الجهال الذين لا خبرة لهم بعجائب صنع الله تعالى واتساع قدرته.

الفصل الخامس

في حصر مدارك الغلط في القياس

اعلم أن الشيطان مسلط على كل ناظر ومشغوف بتلبيس الحق وتغطيته ومصرٌّ على الوفاء بقوله (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) والتحذّر منه شديد ولا يتيسر إلا لمن هو في محل استثنائه حيث قال (إلا عبادك منهم المخلصين) جعلنا الله واياك منهم فعليك أن تأخذ في نظرك من الشيطان ووسواسه حذرك. فإن قلت كيف لي به مع ما أنا عليه من الضعف وقع ما هو عليه من التسلط والتمكن حتى أنه ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فاعلم أن العقل حزب من أحزاب الله تعالى ذكره وجند من جنوده ما أنعم به عليك إلا لتستعين به على أعدائه ووجه الاستعانة أن تتفقّد بنور العقل وسراجه الزاهر مداخل الشيطان في النظر، وتعلم أن حصن النظر والدليل ما لم ينثلم ركن من أركانه لم يجد الشيطان مدخلاً فإنه لا يدخل إلا من الملم، فإذا أبصرت الملم بنور العقل وسددتها وأحكمت معاقلها انصرف الشيطان خائباً خاسراً واهتديت إلى الحق ونلت بمعرفة الحق درجة القرب من رب العالمين. وجميع الثلم التي هي مداخل الغلط ترجع في القياس إلى سبع جمل لم إن كان لكل واحد تفصيل طويل ونحن نومي إلى الجمل، وذلك، أنك بالضرورة تعلم إن المقدمات القياسية إذا كانت صادقة يقينية وكالت مفردات معارفها وهي الأجزاء الأول محصّلة في العقل بحقائق معانيها دون ألفاظها وكانت المقدمات التي هي الأجزاء الثواني أيضاً متمايزة مفصلة وكانت غير النتيجة وكانت اعرف من النتيجة وكان تأليفها داخلاً في نمط من جملة ما ذكرناه وكان بعد وقوعه في نمط واحد جامعاً للشروط التي شرطناها في ذلك النمط، كان الحكم الذي يلزم منه حقاً وصدقاً لا محالة، فإن لم يكن حقاً فهو لخللِ وقع في هذه الأمور، فلنفصّلها.

المدخل الأول: أن لا تكون المقدمات صادقة بل تكون مقبولة بحسن الظن أو وهمية أو مأخوذة من الحس في مظان غلطه، وذلك عند بعدِ مفرط أو قرب مفرط أو اختلال شرط من الشروط الثمانية التي فيها، وأكثر أغاليط النظار من التصديق بالمألوفات والمسموعات في الصبي من الأب والأستاذ وأهل البلد والمشهورين بالفضل، وقد انتهى هذا الداء بطائفة إلى أن صدّقوا. بان الحروف التي ينطقون بها في الحال قديمة ولو سؤلوا عن السنتهم لقالوا هي حادثة، ولو قيل له كيف كان كلامك أكان قبل لسانك أو بعده لقال بعده، فإذا قيل فما هو بعد لسانك كيف يكون قديماً وكيف يكون قديم متأخراً عن حادث لم ينفع هذا معهم. واعلم إن من الأذهان ما فطر فطرة تسارع إلى قبول كل مسموع ثم ينصبغ به انصباغاً لا يمكن البتة انجلاؤه عنه ويكون مثاله كالكاغد الرخو الذي يغوص الحبر في عمقه، فإن أردت محوه لزمك إفساد الكاغد وخرقه، وما دام الكاغد موجوداً كان السواد فيه موجوداً. فهؤلاء أيضاً ما دامت أدمغتهم موجودة كانت هذه الضلالات فيها موجودة لا يقدر البشر على إزالتها. وأما الذين كذبوا بوجود موجود لا يشار إلى جهته ولا يكون داخل العالم ولا خارجه فهم اظهر عذراً وأقرب امراً من هؤلاء ولكنهم أيضا عادلون عن الحق بالإذعان لمقتضى الوهم والعجز عن التمييز بين حكمه وحكم العقل. ومهما قصد رسوخ مثل هذا الاعتقاد في النفوس أعني قدم الحروف ينبغي أن يكرّر ذلك على السمع في الصبا ويختم الوجه عند ذكر منكره ويستعاذ بالله تعالى ويطلق اللسان في ذمه ويقال إن ذلك فولى بعض الكفرة، أعني الذين يفعل بهم في النار كيت وكيت ويخترع على ذلك حكايات، مثل أن يقال إن فلاناً كان ممن يعتقده فأصبح وقد مسخه الله كلباً وان فلاناً يسمع من قبره صياح الكلاب لقوله بكذا وكذا فلا يزال يترسخ في نفس الصبي ذلك على التدريج من حيث لا يشعر كما يرسّخ النقش في الحجر ويتعذر على كل العلماء دواه بعد الكبر مثل العلة المستحكمة التي تجاوز معالجتها قدرة الطبيب، ولا فرق بين مرض القلوب ومرض الأبدان نعوذ بالله منهما. وأما أنت وإن لم ينته تقليدك إلى هذا الحد فأحذر أن تكون من جملة من يعتقد شيئاً خفياً استحسنته وصدّقت به من غير دليل واستبشعت خلافه فأبيت التصديق بضده لكونه شنيعاً قبيحاً. واعلم أن الحق غير الحسن و الشنيع غير الباطل، إذ رب شنيع حق ورب محمود باطل. فإن إنكار كون الله على العرش وكون الحروف قديمة شنيع عند أهله وتجويز ذبح الحيوانات شنيع عند طائفة كما أن أيلام البريء من غير غرض شنيع عند الجماهير، فاحترز من هذه المغاصة تسلم من إحدى مكايد الشيطان واعرض ما صدّقت به على نفسك. فإن كان امتناع التشكك فيه مثل امتناع التشكك في إن الاثنين أكثر من الواحد فاعلم أنه وجه حق. المدخل الثاني: أن يكون الخلل في الصورة وهو أن لا يكون وضعه داخلاً في نمط من الجملة المذكورة، وذلك بأن تكون النتيجة مطلوبة من مقدمة واحدة بالحقيقة، وأعني بها ما ليست من مقدمتين أصلاً أو تكون من مقدمتين بالقوة ولكن ليس فيهما واسطة مكرّرة يقع بها الازدواج والاشتراك. وعدم الاشتراك إن كان في اللفظ والمعنى يسهل دركه، إذ يعلم أنه لا تحصل نتيجة إن قلنا السماء فوقنا والشمس أصغر فإنهما مقدمتان لا يتداخلان. وإذا كان الاشتراك باللفظ لا بالمعنى فلا يكون ذلك إلا بسبب استعمال لفظ مشترك كلفظ المختار وسائر أقسامه التي ذكرناها وان أهملنا بعضها وننبّه الآن على أمور خفية مما أهملناه ليستدل بها على ذلك وهي أربعة: الأول: أن يكون الاشتراك في أداة من الأدوات أو ما يستعمل رابطة في نظم الكلام، كقوله كل ما يعلمه الله فهو كما يعلمه والله يعلم الجوهر فهو إذاً كالجوهر، ووجه الغلط أن هو مشترك الدلالة بجن أن يرجع إلى كل ما تبتين أنه يرجع إلى العالم وبين أن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا وإن كان هاهنا واضحاً فإنه تخفى أمثاله في مواضع.

الثاني: بأن تكون المقدمة بحيث تصدق مجتمعة فيظن أنها تصدق مفترقة بسبب حروف النسق بأن يصدق أن يقال الخمسة زوج وفرد، أي فيه اثنان وثلاثة فيظن أنه يصدق أن يقال هو زوج أيضاً، لأن الواو قد تطلق ويراد بها جميع الاجزاء، كما يقال الإنسان حيوان وجسم وقد تطلق ويراد بها بعض الأجزاء، كالمثال السابق. وكما يقال العالم جواهر وأعراض أي بعضه جواهر وبعضه أعراض.

الثالث: ما يصدق مفترقاً، فيظن أنه يصدق مجتمعاً، كما يصح أن يقال زيد بصير أي في الخياطة وزيد جاهل أي في الطب، فقد صدق كل واحد مفرداً، ولو قلت زيد بصير جاهل كان متناقضاً.

الرابع: ألفاظ تواطىء المتواطئة من وجه وهو الذي تتناوله الأشياء المتعددة التي تختلف ني الحقائق وتتفق في عوارض لازمة إما قريبة أو بعيدة، كقولك أن فعل العبد مقدور عليه للعبد ولله تعالى أي للعبد كسباً ولله اختراعاً، فكل واحد يشترك في أنه يسقى مقدوراً عليه أعي مقدوراً للعبد ومقدوراً لهّ سبحانه وتعالى، ولكن تعلق قدرة الله تعالى مخالفة لتعلّق قدرة العبد وقدرة الله تعالى مخالفة لقدرة العبد، فإن شبّهت هذا بالمشترك المحض فقد أخطأت، إذ لا شركة بين المسميين كالمشترى ولفظ العين إلا في اللفظ، إذ عبرنا بالشترك عن المختلفات في الحد والحقيقة المتساوية في التلقيب فقط، وها هنا لا بد من اعتقاد مشاركة ما. وإن شبّهت بالمتواطئة فقد ظلمت، فإن المتواطئة هي المتساوية في الحد، فإن السماء والإِنسان والشجر مشترك في الجسمية اشتراكاً واحداً من غير تفاوت البتة إلا في أمر مختلف خارج الجسمية وحدها. وأما هاهنا فوجه تعلق القدرة بالمقدور مختلف فقد عرفت أن الاسم الواحد يعتر به عن شيئين إما بالتواطؤ وإما بالاشتراك، و إما هذا القسم الثالث فبينهما فلنخترع له اسم المردد ليكون بإزاء الأقسام الثلاثة المعقولة ألفاظ ثلاثة معقولة. فهذا وأمثاله إذا وقعت الغفلة عنه خرج القياس عن النمط الذي ذكرناه فلم يكن منتجاً، إذ بطل به ازدواج المقدمتين حيث جعل الحد المشترك ما هو مشترك باللفظ لا بالحقيقة.

المدخل الثالث: أن لا يكون نظمه جامعاً للشروط التي ذكرنا بعد وقوع الاشتراك بين المقدمتين بأن ألّف من مقدمتين نافيتين أو جزئيتين، أو كان من النظم الأول ومقدمة المحكوم عليه نافية أو مقدمة الحكم غير عامة، أو كان من النظم الثاني وقد طلب منه نتيجة مثبتة، أو من النظم الثالث وقد طلب منه نتيجة عامة. وقد ذكرنا أمثلة هذا. المدخل الرابع: أن لا تكون مفردات المعارف، أعني الأجزاء الأول متمايزة منفصلة بالحقيقة بل ملتفة مختلطة متضمنة لأمور متعددة، كان تقول مثلاً في مسالة ضمان المنافع بالإتلاف أنها تضمن لأن كل من أتلف مالاً ضمنه وغاصب الدار قد أتلف مالاً فيضمنه، فقوله الغاصب أتلف مالاً ذكر فيه مفردين المال والإِتلاف وطوى تحتهما أموراً كثيرة تلبيساً، إذ لا تصدق هذه المقدمة ما لم يبيّن أن المنافع أولاً موجودة وقد أنكر وجودها بعض الناس ولا يتلف إلا موجود، وثانياً أن يبين أنها باقية إذ الإِتلاف يستدعي البقاء وإلا تما يفني بنفسه كيف يتلف. وثالثاً أنها أموال واًن كل ما يتلف يضمن، فإن من فوت منافع بضائع الأمة كمن غصب بضاعة تاجر وحبسها سنة فمد فوت الربح ولا يضمن. ورابعاً أن يبيّن أنه مال فإن ذلك لا يسلم وذلك بأن يذكر حد المال. وخامساً أن يبين أن كل مال مضمون، فإن الحبة الواحدة مال ولا تضمن. وسادساً أن يبين أن ضمانه ممكن فما لا يمكن ضمانه لا يمكن الحكم به والضمان مثل والمنافع أعراض فلا يمكن مقابلتها بها، ولقوله قد أتلف مالاً مفردان تضمّنا هذه الأمور الكثيرة فلا يدري لعل التلبيس تطرق إلى واحد من هذه المراتب، .ومثاله من الكلام من يثبت حدوث الأعراض مثلاً، فإنا نقول كلما رأيناه الآن في محل ورأينا من قبله ضده فهو حادث، وبياض الشعر مثلاً رأيناه الآن ونرى قبله ضده فهو أيضاً حأدث، فهذا غير كاف ما لم يبين أولاً أن ما يدرك بحاسة البصر فهو كما يدرك، وذلك بان يعرف جميع شروط صحة الإِبصار بالبحث عن الأسباب واستقراء المشاهدات. وثانياً أن يبين إن العرض لم يكن كامناً مستوراً فظهر للبصر الآن فظهوره هو الحادث دون نفسه. وثالثاً أن يبيّن أنه لم يكن في موضع آخر ولا كان قد انتقل فرأى الآن لأنه انتقل الآن فيبطل انتقال العرض وكمونه حتى يتم النظر.

المدخل الخامس: أن لا تكون النتيجة غير المقدمة بل عينها ولكن استعمل فيها للتلبيس لفظين مترادفين، كقولك كل بشر إنسان كأنك قلت كل إنسان إنسان، فانهما مترادفان فيصير قولك كل إنسان مكلف وهو مقدمة عين قولك فكل بشر مكلف وهو النتيجة، ومثاله في الفقه أن يقول الحنفي في تبييت النية في زمان رمضان أنه صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع، ونظمه أن كل ما هو صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت وهذا صوم عين فلا يفتقر إليه. وقوله صوم عين في الأصل مقدمة طُويت فيها بعض أجزاء النتيجة. وبيانه أن يقال ماذا أردت بقولك صوم التطوع صوم عين، فانه لا يسلم فيقول الذليل عليه أن من أصبح غير ناوٍ بالليل صلح يومه للتطوع ولم يصلح لغيره وما يصلح للشيء لا لغيره فهو عين في حقه فكان هذا صوم عين فيقال: إما قولك لا يصلح لغيره فلا يوجب التعيين فإن الليل لا يصلح للصوم ولا يقال إنه عين ولكن نضيف إليه أنه يصلح للتطوع وليس له معنى إلا أنه لا يفتقر إلى التبييت، أي تصح نيته من النهار، وهذا عين الحكم وقد احتجت إلى طلب علته وينبغي أن لا تكون العلة عين الحكم لأن الحكم نتيجة والعلة منتجة والمنتج ينبغي أن يكون غير النتيجة. وقولك تصح نيته من النهار جزء من تفسير قولك أنه صوم عين فصار الحكم جزء من نفس العلة.

المدخل السادس: أن تكون المقدمات وهي الأجزاء الثواني متمايزة مفصلة وينطوي تحت هذا أمران: الأول أن لا تكون أجزاء المحكوم به والمحكوم متمايزة بأن يوجد هناك شيء من الموضوع يتوهم أنه من المحمول أو بالعكس، كقولك الجسم بما هو جسم إما أن يكون متحركاً أو ساكناً، فقولك بما هو جسم لا يدري أهو من المحكوم عليه أو من المحكوم. والثاني أن تكون أجزاء المحكوم عليه والمحكوم متمايزة لا يشتبه منها شيء، إلا أنها غير متمايزة في الاتساق، وذلك كما مثلنا به آنفاً من قولنا كل ما علمه اللآله فهو كما علمه والإله يعلم الجوهر فهو إذاً جوهر. وقد قدّمنا لك كيف دخل الخلل في اتساقه. المدخل السابع: أن لا تكون المقدمات أعرف من النتيجة بان تكون مساوية لها بالمعرفة كالنسب الإضافية إذا اخذ بعضها دليلاً على بعض، وذلك كأن تقول زيد أب لعمرو لأن عمراً ابنه. فإن كون عمرو ابناً لزيد وهو المقدّمة مساو في المعرفة لكون زيد أباً له وهو النتيجة. أو أخفى منها سواء كانت مبيّنة في النتيجة أو لا. إما. الثاني فكما يقال في الاستدلال على ثبوت واجب الوجود من حدوث العالم وعدم صحة استناد التأثير إلى الحوادث، وغير ذلك مما ثبوت واجب الوجود أظهر منه. وأما الأول فكان تقول كل جسم متحيّز وكل متحيز يقبل التحول فالجسم يقبل التحوّل. فإذا قيل لك ولما قلت أن كل متحيز يقيل التحول قلت لأن الأجسام تقبل التحوّل وهي متحيزة فحكمت بأن كل متحيّز يقبل التحول، فقد جعلت النتيجة دليلاً على الكبرى وقد كانت النتيجة مدلولاً عليها. وهذا هو البيان الدوري و حاصله يرجع إلى بيان الشيء بنفسه وهو محال.

فهذه مجامع مداخل الغلط من غير تطويل بالتفصيل وإن كان لا يدرك كُنهه إلا بالتفصيل، ولكن الإيجاز أليق بالحال. فان قلت فهذا مع الإيجاز اشعر بمثارات عظيمة للغلط فكيف الأمان منها مع تراكمها، فاعلم أن الحق عزيز والطريق إليه وعر وأكثر الأبصار مظلمة، والعوائق الصارفة كثيرة والمشوشات للنظر متظاهرة، ولهذا ترى الخلق يتلاطمون تلاطم العميان، وقد انقسموا إلى فرقتين فرقة سابقة بأذهانها إلى المعتقدات على سرعة فيعتقدها يقيناً ويظن كل شبهة ودليل برهاناً ويحسب كل سوداء ثمرة، فهؤلاء يعتقدون أنهم يعلمون الحقائق كلها و إنما العميان خصومهم. وطائفة تنبّهوا لذوق اليقين وعلموا أن ما في الناس فيه في اكثر عمى ثم قصرت قوتهم من سلوك سبيل الحق ومعرفة شروط القياس إما لبلادة في الفهم وإما لفقد أستاذ مرشد بصير بالحقائق غير منخدع بلامع السراب يطلع على جميع شروط البرهان. فهؤلاء يعتقدون أن الناس كلهمَ عميان يتلاطمون وأنه لا يمكن أن يكون في القوة البشرية الاطلاع على الحق وسلوك طريقه، فلا ذاك الأول حق ولا هذا الثاني صدق. و إنما الحق أن الأشياء لها حقيقة وإلى دركها طريق وفي قِوام البشر سلوك ذلك الطريق لو صادف مرشداً بصيراً، ولكن الطريق طويل والمهالك فيها كثيرة والمرشد عزيز فلأجلها صار الطريق عند اكثر مهجوراً، إذ صار مجهولاً. وهكذا يكون مثل هذا الأمر، فإنه مهما عظم المطلوب قلّ المساعد ومهما كثرت المخاوف راع الجبان الخائف، وكيف لا وأكثر العلوم المطلوبة في أسرار صفات الله تعالى و أفعاله تنبني على أدلة تحقيقها يستدعي تأليف مقدمات لعلها تزيد على ألف وألفين، فأين من يقوى ذهنه للاحتواء على جميعها أو حفظ الترتيب فيها، فعليك أيها الأخ بالجد والتشمير. فإن ما أوردته يهديك إلى أوائل الطريق إن شاء الله تعالى.

الفصل السادس من القياس

في حصر مدارك الأقيسة الفقهية

والتنبيه على جمل يزيد الانتفاع بها على مجلدات تحفظ من الأصول الرسمية

فنقول الحكم الشرعي تارة يكون مُدّرَكُه أصل العلم وتارة يكون مُدّرَكُه ملحق بأصل العلم. فالمعلوم بأصل العلم كالعلم بوجوب الكفارة على من أفطر بالجماع في نهار رمضان، وبكون الأصل فيه إما قول أو فعل أو إشارة أو تقدير من صاحب الشرع صلوات الله عليه، وليس ذلك تفصيله من غرضنا، و إما الملحق بالأصل فله أقسام وتشترك في أمر واحد وهو أن من ضرورته حذف بعض أوصاف الأصل عن درجة الاعتبار حتى يتّسع الحكم، فإن اتساع الحكم بحذف الأوصاف وأن نقصان الوصف يزيد في الموصوف، أي في عمومه، فإن غير البُر لا يلحق بالبُر ما لم يسقط اعتبار كونه بُراً في حكم الربوي، والحمص لا تلتحق به المكيلات ما لم تحذف اعتبار كونه مطعوماً، والثوب على مذهب أبن الماجشون لا يعتبر به ما لم يسقط اعتبار كونه مقدّراً، وهكذا كل من زاد إلحاقه زاد حذفه. فإذا عرفت. هذا فاعلم أن للإلحاق طريقين: أحدهما ألا يتعرض الملحق إلا لحذف الوصف الفارق بين الملحق والملحق به، فإما العلة الجامعة فلا يتعرض لها البتة، ومع ذلك فيصخ إلحاقه. وهذا له ثلاث درجات أعلاها أن يكون الحكم في الملحق أولى كما إذا قلت جامَعَ الأعرابي أهله فلزمته الكفارة، فمن يزني أولى بان تلزمه، لأن الفارق بين جماع الأهل والأجنبي كونه حلالاً وهذا أولى بالإسقاط والحذف من وجوب الكفارة في الاعتبار . والدرجة الثانية أن يكون بطريق المساواة كما قال النبي" مَن اعتق شركاَ من عبدِ قوم عليه الباقي" فقلنا الأمة كذلك من غير أن نبيّن هاهنا علة سراية العتق ، كما لم نبين في المثال السابق علة وجوب الكفارة . ولكن نعلم أنه لا فارق إلا الأنوثة واْن الأنوثة لا مدخل لها في التأثير فيما يرجع إلى حكم الرق وهو ظاهر ، بل ذلك كما لو حكم عليه السلام بالعتق في غلام كبير، لكنّا نقضي في الصغير ولو قضى في عربي لقضينا في الهندي وعلمنا أنه مساوٍ له . وإذا سجد رسول الله لسهوه في الصبح نعلم أن الظهر وسائر الأوقات في معناه ، إذ اختلاف الوقت نعلم قطعاَ أنه لا يؤثر في جبر النقصان . ولقد زلَ من قال إن إلحاق الأمة بالعبد للقرب ، فإن القرب من الجانبين على وتيرة واحدة . ولو ورد نص في أن الأمة تجبر على النكاح وهو ثابت بالِإجماع لكنّا نقول العبد في معناه. ولكن مأخذ هذا العلم ما تكرّر على أفهامنا من أحكام الشرع وعادته في قضية الرق والعتق أنه يسلك بالذكر والأنثى فبه مسلكاَ واحداً كما يسلك بالأبيض والأسود مسلكاً واحداَ . ولو لم نعرف هذا من عادته بطول ممارسة أحكام العتق والرق لكان لا يتضح ذلك البتة ولم يظهر أنه يسلك بالذكر مسلك الأنثى في عقد النكاح، فلذلك لم يكن العبد في معنى الأمة في الإجبار ." الرتبة الثانية" أن يكون انحذاف الوصف الفارق مظنوناً لا مقطوعاً به كما تقول إن سراية العتق إلى نصف معين من العبد عند إضافته إلى نصف آخر أو إلى عضو معين كسرايته عند الِإضافة إلى الجزء الثائي، فإنه لا يفارقه إلا في كون المضاف معيّناً وشائعاً . ويكاد يغلب على الظن أن هذا الوصف وهو كون المضاف إليه شائعاَ غير مؤثّر في الحكم ، ولكن ليس هذا معلوماً كحذف وصف الأنوثة، إذ فرق الشرع في إضافة التصرفات إلى المحال بين الشائع والمعين في البيع والهبة والرهن وغيرها ، وهذا يعارض أن الشائع في العتق والطلاق على الخصوص كالمعيّن في إباء الشرع الاقتصار فيه على البعض واعتبار هذا الوصف كي غير العتق والطلاق ، كاعتبارنا الأنوثة في غير الرق والعتقَ من الشهادات والنكاح والقضاء وغيره ، فيصير الأمر مظنوناً بحسب هذه التخمينات ، وعلى المجتهد أن يتبع فيه ظنه ويقرب منه حذف وصف الجماع حتى تبقى الكفارة منوطة بالإفطار كما قاله مالك . إذ كونه جماعاً يضاهي كونه خبزاَ ولحماً ، ولو أوجب الشرع بأكل الخبز لكنا نقول اللحم والفاكهة والماء في معنى الخبز ، إذ اختلاف آلات الإِفطار لا ينبغي أن يكون لها مدخل في الكفارة وحذف موجب الإزهاق ، حتى يكون الرمح والنشاب والسكين في معنى السيف ، مهما ورد النص بوجوب القصاص في السيف . ولكن يعارضه أن هذه الكفارة شرعت لأن تكون للزجر فيختص بمحل الحاجة والجماع مما يشتد الشبق إليه ويعسر الصبر عنه ولا ينزجر ملابسه عنه إلا بوازع شرعي، ولكن يعارضه أن الخز أيضاَ يشتهي في الصوم ودرجات الشهوة لا تمكن مراعاتها ، إذ يلحق جماع العجوز الشوهاء بالصبية المشتهاة مع التفاوت ، فيجاب عنه بأن ضبط مقادير الشهوات يختلف بالأشخاص والأحوال فلا يمكن ضبطه ، وقد ضبط الشرع جنس الجماع بتخصيصه بالحد وفساد الحج ، فكان ذلك سوراَ فاصلاَ . فهذا مما يتجاذب الظنون ويتنازع به المجتهدين ، فكل ذلك من المسالك المرضية وان لم يذكر الجامع أصلا ولكني أقول هذا وان لم يتعرض للجامع ، وإنما تعرض لحذف الفارق فقط . فلا يتجرأ الذهن على الحكم لحذف الفارق ولا بد من وصف في الأصل يكون المعنى الجامع المعتبر واستنشاق شمه من فرعه . ولكن على الإجمال لا على التجريد والتفصيلْ فلولا أنا عرفنا أن الكفارة وجبت بالجماع لما فيه من هتك الحرمة على الجملة لما تجاسرنا على إلحاق الزنا به، إذ الافتراق في وصف الحل والحرمة مؤثّر في أكثر أحكام الشرع ، ولكن في التغليظ لا في التخفيف. فلولا أن فهمنا أن الكفارة وجبت بطريق التغليط. لا بطريق الإنعام وشكر النعمة لما ألحقنا الزنا به ، ألا ترى أن الشارع لما علق تحريم أَمر الموطوءة وابنتها بوطئ المرأة في النكاح لم يلحق به الزنا ، مع أن تحريم النكاح نوع حجر يمكن أن يجعل عقوبة ، ولكن لما كان الوطىء في النكاح سنّة ولم تكن العقوبة بها لائقة وصلح هذا الحجر لأن يكون نعمة، وهو أن يسلك بابنتها وأمها مسلك امرأة نفسه وابنته لتتداخل العشائر وتسهل المخالطة وتنقطع داعية الشهوة حملناه عليه ولم نلحق الزنا به. فبهذا يتحقق أن الذهن لو لم يتطلع على المعاني المعتبرة جملة لما تجرّأ على الحذف، ولكن المتعرّض للجمع في العلة يحتاج إلى تلخيص العلة، وهذا له أن يحكم قبل أن يلخص العلة ويكون عدم التلخيص في العلة من وجهين: أحدهما أن يعلم أصل العلة ولا يعلم خصوص صفاته، كما إنا نحكم أن السهوة في غير الصلاة التي سهي فيها رسول الله في معناها، وإن لم نعرف بعد أن علة السجود جبر النقصان من حيث أنه نقصان أو من حيث أنه سهو فإنه إن كان للنقصان فلو ترك شيئاً من الأبعاض عمداً ينبغي أن يسجد، وإن كان من حيث أنه سهو لم يسجد في العمد وقبل أن يتلخص لنا خصوص هذه الصفات نعلم أن العصر في معنى الظهر.اع العجوز الشوهاء بالصبية المشتهاة مع التفاوت ، فيجاب عنه بأن ضبط مقادير الشهوات يختلف بالأشخاص والأحوال فلا يمكن ضبطه ، وقد ضبط الشرع جنس الجماع بتخصيصه بالحد وفساد الحج ، فكان ذلك سوراَ فاصلاَ . فهذا مما يتجاذب الظنون ويتنازع به المجتهدين ، فكل ذلك من المسالك المرضية وان لم يذكر الجامع أصلا ولكني أقول هذا وان لم يتعرض للجامع ، وإنما تعرض لحذف الفارق فقط . فلا يتجرأ الذهن على الحكم لحذف الفارق ولا بد من وصف في الأصل يكون المعنى الجامع المعتبر واستنشاق شمه من فرعه . ولكن على الإجمال لا على التجريد والتفصيلْ فلولا أنا عرفنا أن الكفارة وجبت بالجماع لما فيه من هتك الحرمة على الجملة لما تجاسرنا على إلحاق الزنا به ، إذ الافتراق في وصف الحل والحرمة مؤثّر في أكثر أحكام الشرع ، ولكن في التغليظ لا في التخفيف . فلولا أن فهمنا أن الكفارة وجبت بطريق التغليط. لا بطريق الإنعام وشكر النعمة لما ألحقنا الزنا به ، ألا ترى أن الشارع لما علق تحريم أَمر الموطوءة وابنتها بوطئ المرأة في النكاح لم يلحق به الزنا ، مع أن تحريم النكاح نوع حجر يمكن أن يجعل عقوبة ، ولكن لما كان الوطىء في النكاح سنّة ولم تكن العقوبة بها لائقة وصلح هذا الحجر لأن يكون نعمة ، وهو أن يسلك بابنتها وأمها مسلك امرأة نفسه وابنته لتتداخل العشائر وتسهل المخالطة وتنقطع داعية الشهوة حملناه عليه ولم نلحق الزنا به. فبهذا يتحقق أن الذهن لو لم يتطلع على المعاني المعتبرة جملة لما تجرّأ على الحذف، ولكن المتعرّض للجمع في العلة يحتاج إلى تلخيص العلة، وهذا له أن يحكم قبل أن يلخص العلة ويكون عدم التلخيص في العلة من وجهين: أحدهما أن يعلم أصل العلة ولا يعلم خصوص صفاته، كما إنا نحكم أن السهوة في غير الصلاة التي سهي فيها رسول الله في معناها، وإن لم نعرف بعد أن علة السجود جبر النقصان من حيث أنه نقصان أو من حيث أنه سهو فإنه إن كان للنقصان فلو ترك شيئاً من الأبعاض عمداً ينبغي أن يسجد، وإن كان من حيث أنه سهو لم يسجد في العمد وقبل أن يتلخص لنا خصوص هذه الصفات نعلم أن العصر في معنى الظهر. وأما الوجه الثاني فهو أن لا يتعيّن لا أصل العلة ولا وصفها ولكن نعلمها مبهمة من جملة من المعاني، كما أن في الربوي ربما نبين أن الزبيب في معنى التمر قبل أن يتّضح أن العلة هي الكيل أو الطعم أو المالية أو القوت، إذ نعلم أنه كيف كان فالزبيب مشارك له فيه ولا يفارقه إلا في كونه زبيباً. وهذا لا ينبغي أن يؤثر قطعاً، والدليل على أنه لا بد من استشعار حيال المعنى عن بعد وإجمال، حتى يمكن الإِلحاق بأنه نص صاحب الشرع صلوات الله عليه وعلى آله على أن الثوب إذا أصابه بول الصبي كفى الرش عليه، فلولا أنه ذكر إن الصبية بخلافه لكنّا ننازع إلى أنها في معناه، ولكن لما ذكر الصبية وإنها بخلافه حسم علينا باب توهم المعنى. إما ترانا كيف نحكم بمنع المرأة من البول في الماء الراكد أخذا من قوله لا يبولن احدكم في الماء الراكد، والخطاب مع الرجال وإن خطر لك أن النساء يدخلن تحت هذا الخطاب، فقدّر أنه لو قال لرجل لا تبل في الماء الراكد. لكنا نقول ذلك للمرأة لعلمنا بان الشرع بين فضلات بدن الرجال والنساء في النجاسات فما رأينا للأنوثة مدخلاً في النجاسات، وعرف ذلك من الشرع وكان جراءتنا على الشرع للإلحاق لهذا ولتوهمنا أن البول مستقذر وأن الماء معد للتنظيف فلا ينبغي أن يختلط به. فهذه أقسام الطريق الأول وهو أن لا يتعرض الملحق إلا للحذف. إما الطريق الثاني فأن يتعرض للمعنى المعتبر بعينه وعند ذلك لا نحتاج إلى التعرض للفوارق وهذه ثلاثة أقسام: الأول أن يكون المعنى مناسباً كوصف الإِسكار في التحريم والآخر أن يكون مؤثراً كقول أبي حنيفة رضي الله عنه أن بيع المبيع قبل القبض باطل لما فيه من الضرر، وذلك لا يجري في العقار، وزعم أن التعليل بالضرر أولى لأن ذلك ظهر أثره في موضع آخر بالنص وهو بيع الطير في الهواء. وهذا قد قدّرنا وجهه في مسألة بيع العقار قبل القبض في كتاب المبادي والغايات. وأما أقسام المناسب والمؤثر والفرق بينهما فقد ذكرناه في كتاب شفاء العليل في بيان التشبيه والمخيل. القسم الثالث أن لا يكون الجامع مناسباً ولا ممّا ظهر تأثيره بالنص في موضع آخر، ولكنه توهم الاشتمال على معنى مناسب لم يطلع على عينه، كقولنا الوضوء طهارة حكمية فتفتقر إلى النية كالتيمّم. فإنا لا نحصر الفوارق ولا نتعرض لحذفها بل تعرضنا لمعنى جامع، والفوارق كثيرة وليس الجامع مناسباً ولا مؤثراً ولا يغرنك ما توهم من التخيلات في معرض الإخالة من لا يدري ذوق الإخالة، وقدّر أن تلك التخييلات لم تكن، فبدونها تحصل غلبة الظن وهذا أخفى أنواع القياس وأدقها، فربما يخص باسم الشبه، لران كان كل قياس لا ينفك عن شبه من الفرع والأصل ووجه جواز الجكم لمثل هذا يطول تحقيقه فاطلبه إن رغبت فيه في مسئلة الربوي من كتاب المبادي والغايات ومن شفاء الغليل. وهذا القدر كاف في الأقيسة الفقهية ففيه على ايجازه من الفوائد ما لا يعرف قدره إلا من طال في المقاييس الفقهَية تعبه.