القسم الثاني: في محك الحد

قد ذكرنا أن أحد قسمي الإِدراك هو المعرفة، أعني العلم بالمفردات، وان ذلك لا ينال إلا بالحد فلنورد فيه "فنين": أحدهما ما يجري مجرى القوانين والأصول والآخر ما يجري مجرى الامتحانات للقوانين.

ما يجري مجرى القوانين والأصول

القانون الأول: إن الحد يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال بل عن بعضه، والسؤال طلب وله لا محالة مطلب وصيغة والصيغ والمطالب كثيرة ولكن أمهات المطالب أربع: المطلب الأول: مطلب هل، إذ يطلب بهذه الصيغة أمران إما أصل الوجود، كقول القائل هل الله موجود، أو يطلب الموجود بحال وصفة، كقوله هل الله خالق البشر وهل الله حي. المطلب الثاني: مطلب ما، ويُطلق على ثلاثة أوجه: الأول أن يطلب به شرح اللفظ كما يقول من لا بدري العُقار ما العُقار، فيقال له الخمر إذا كان يعرف الخمر. الثاني أن يطلب لفظاً مميّزاً يتميز به المسؤول عنه عن غيره بكلام جامع مانع كيف ما كان الكلام سواء كان عبارة عن لوازمه أو ذاتياته، كقول القائل ما الخمر أي ما حد الخمر، فيقال هو المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة و يحفظ في الدن، والمقصود أن لا يتعرض لذاتياته، ولكن تجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج عنه خمر ولا يدخل فيه ما ليس بخمر. الثالث أن يقال ما الخمر فيقال هو شراب مسكر معتصر من العنب، فيكون ذلك كاشفاً عن كُنه حقيقته الذاتية، ويتبعه أيضاً أنه تمييز جامع مانع ولكن ليس المقصود التمييز بل تصور كُنه الشيء وحقيقته، ثم التميز يتبعه لا محالة. واسم الحد في العادة قد يُطلق على هذه الأجوبة الثلاثة على سبيل الاشتراك. فلنخترع لكل واحد اسماً ولنسئم الأول حداً لفظياً، إذ السائل ليس يطلب إلا شرح اللفظ، ولنسمَّ الثاني حداً رسمياً وهو طلب مترسم بالعلم غير متشوف إلى درك حقيقة الشيء، ولنسمَّ الثالث جداً حقيقياً إذ مدرك الطالب فيه درك حقيقة الشيء. وهذا الثالث شرطه أن يكون مشتملاً على جميع ذاتيات الشيء. فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقال جسم فقد جاء بوصف كاف لو كان ذلك كافياً في الجمع والمنع، ولكنه ناقص بل حقه أن يضيف إليه المتحرك بالإرادة. فإن كُنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع الأمرين. فأما المترسم الطالب للتمييز فيكفيه قولك حساس وإن لم تقل جسم أيضاً.

وأما الطلب الثالث: فمطلب لِمَ، وهو سؤال عن العلة وجوابه بالبرهان وقد سبق.

وأما الرابع: فهو مطلب أي وهو الذي يطلب تمييز ما عرف جملته عمّا اختلط به، كما إذا قيلَ ما الشجر فقلت إنه جسم، فينبغي أن يقال أي جسم هو فنقول هو نام. وأما مطلب كيف وأين ومتى وسائر صيغ السؤال فداخل في مطلب بل المطلوب به صفة الموجود.

القانون الثاني: إن الحاد ينبغي أن يكون بصيراً بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعَرَضية كما ذكرناه في الفن الأول من الكتاب، أعني به طالب الحد الحقيقي. إما الأول اللفظي فيتعلق بساذج اللغة، وأما الرسمي فمؤنته قليلة والأمر فيه سهل، فإن طالبه قانع بالجمع والقنع بأي لفظ كان، لص إنما الغويص العزيز الحد الذي سميناه حقيقياً، وليس ذلك إلا ذكر كمال المعاني التي بها قِوام ماهية الشيء، أعني بالماهية ما يطلب القائل بقوله ما هو. وان هذه صيغة طالب لحقيقة الشيء فلا يؤخذ في جواب الماهية إلا الذاتي، والذاتي ينقسم إلى عام يسمى جنساً وإلى أخص ويُسقى فصلاً، و إلى خاص ويُسمى نوعاً. فإن كان الذاتي العام لا أعتم منه يُسمّى جنس الأجناس وان كان الذاتي الخاص لا أخص منه يُسمى نوع الأنواع. وهذا اصطلاح المنطقيين ولنصالحهم على هذا الاصطلاح فلا ضَيرَ فيه. فإنه كالمستعمل أيضاً في علومنا، ومثاله إذا قلنا الجسم ينقسم إلى نام وغير نام، والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان، والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الإنسان وإلى غير عاقل كالبهائم. فالجسم جنس الأجناس، إذ لا أعم فوقه والإنسان نوع الأنواع، إذ لا أخص تحته، والنامي نوع بالإضافة إلى، الجسم لأنه أخص منه وجنس بالإِضافة إلى الحيوان لأنه أعم منه. وكذا الحيوان بين النامي الأعم وبين الإنسان الأخص. فإن قيل كيف لا يكون شيء أخص من الإنسان وقولنا شيخ وصبي وطويل وقصير وكاتب وحجام أخص منه. قلنا لم نعنِ في هذا الاصطلاح بالجنس الأعم فقط بل عنينا به الأعم الذي هو ذاتي الشيء، أي هو داخل في جواب ما هو بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن وخرج عن كونه مفهوماً للعقل، وعلى هذا الاصطلاح فالموجود لا يدخل في الماهية، إذ بطلانه عن الذهن لا يوجب زوال الماهية بيانه إذا قال القائل ما حد المثلث فقلنا سلك تحيط به ثلاثة أضلاع، أو قال ما حد المسبع فقلنا شكل تحيط به سبعة اضلاع، فهمَ السائل حد المسبع ولو لم يعلم إن المسبع موجود أم لا في الحال. فبطلان العلم بوجوده لا يبطل من ذهنه فهم حقيقة المسبع، ولو بطل من ذهنه الشكل لم يبق المسبع مفهوماً عنده، فقد أدركت التفرقة بين نسبة الوجود إليه وبين نسبة الشكل إليه، إذ زوال أحدهما عن الذهن مبطل حقيقته وزوال الآخر غير مبطل، فهذا هو المراد بهذا الاصطلاح. وأما الجوهر فعلى ما نعتقده داخل في الماهية ؟ فأنا نفهم منه المتحيز وهو حقيقة ذاتية، فيكون الجنس الأعم عندنا هو الجوهر وينقسم إلى جسم وغير جسم وهو الجوهر الفرد. وأما المنطقيون فيعبّرون بالجوهر عن الموجود لا في موضع. وإذا لم يكن الوجود ذاتياً فبأن يضاف إليه لا في موضع لا يصير ذاتياً لأنه سلب محض فيصح اصطلاحهم بحسب تفاهمهم واعتقادهم لا بحسب اعتقادنا وتفاهمنا. وأما ما هو أخص من الإنسان من كونه طويلاً وقصيراً وكاتباً ومحترقاً وأبيض وأسود فهو لا يدخل في الماهية، إذ لا يتغير بتغييره الجواب عن طلب الماهية. فإن قيل لنا ما هذا قلنا إنسان وكان صغيراً فكبر وطال وأحمر وأصفر، فسئل مرة أخرى أنه ما هو؟ كان الجواب ذلك بعينه. ولو أشير إلى ما ينفصل من الإحليل عند الوقاع وميل ما هو قلنا نطفة، فإذا صار جنيناً ثم مولوداً فقيل ما هو؟ تغيّر الجواب ولم يحسن أن يقال نطفة بل يقال إنسان. وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو قلنا إنه ماء كما في حالة البرودة، ولو استحال بخاراً بالنار تغير الجواب. فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل. فإذاً، قد عرفت بهذا معنى الجنس والنوع والفصل. القانون الثالث: إن ما وقع السؤال عن ماهيته وأردت أن تحدّه حدَّا حقيقًا فعليك فيه وظائف لا يكون الحد حقيقياً إلا بها، فإن تركتها سقيناه رسمياً أو لفظتًا وخرج عن كونه معرباً عن حقيقة الشيء ومصوراً كُنه معناه في نفس السائل الأول أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول. فإذا قيل لك مشيراً إلى ما ينبت من الأرض ما هو فلا بد وأن تقول جسم، ولكن لو اقتصرت عليه بطل عليك بالحجر فتحتاج إلى الزيادة فتقول نام فتحترز عن ما لا ينمو، فهذا الاحتراز يُسمّى فصلاً، إذ فصلت به المحدود عن غيره، ثم شرطك أن تذكر جميع ذاتياته و إن كان ألفاً ولا تبالي بالتطويل. ولكن ينبغي أن تقدّم الأعم على الأخص، فلا تقول نام جسم بل بالعكس. وهذا لو تركته تشوش النظم ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ والإنكار عليك في ذلك أقل ممّا في الأول. وهو إن تقتصر على الجسم. والثالث انك إذا وجدت الجنس القريب فإيّاك أن تذكر البعيد معه فيكون مكرراً كما تقول مائع شراب، أو تقتصر على البعيد فيكون مبعداً كما إذا قيل ما الخمر فلا تقل جسم مسكر مأخوذ من العنب. و إذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذالي و مطرد ومنعكس ولكنه مخيّل قاصر عن تصور كُنه حقيقة الخمر. بل لو قلت مائع مسكر كان أقرب من الجسم، وهو أيضاً ضعيف. بل ينبغي أن تقول شراب مسكر، فإنه الأقرب الأخص ولا تجد بعده جنساً أخص منه. فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل، إذ الشراب يتناول سائر الأشربة، واجتهد أن تفصّل بالذاتيات إلا إذا عسر عليك، وهو كذلك في أكثر الحدود، فاعدل بعد ذكر الجنس إلى ذكر اللوازم واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة؟ فإن الخفي لا يعرف به كما إذا قيل ما الأسد قلت سبع أبخر يتمتز بالبخر عن الكلب، فان البخر من خواصه ولكنه من الخواص الخفية، ولو قلت شجاع عريض الأعالي لكانت هذه اللوازم والأعراض اقرب إلى الفهم لأنها أجلى وأكثر ما يرى في الكتب من الحدود رسمية، إذ الحقيقة عزيزة ورعاية الترتيب حتى لا يبتدي بالأخص قبل الأعم عسمير، وطلب الجنس الأقرب عسير. فإنك ربما تقول في الأسد إنه حيوان شجاع ولا يحضرك لفظ السبع، فتجتمع أنواع من العسر، وأحسن الرسميات ما وضع فيها الجنس الاقرب، وأتتم بالخواص المشهورة المعروفة. الرابع أن تحترز عن الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة، واجتهد في الإيجاز ما قدرت وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك، فان أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو اشد مناسبة للغرض واذكر مرادك به للسائل. فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة ولو طول مطوّل أو استعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة، فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في ذمه إن كان قد كشف الحقيقة بذكر جميع الذاتيات، فانه المقصود وهذه المزايا تحسينات وترتيبات كالأبازير من المقصود. و إنما المتجادلون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار لميل طباعهم القاصرة عن المقصود للأصل والتوابع، حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث أن الثقة مردًدة بين العلم والأمانة، وهذا المعترض مُهوَّس، فإن الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعيق فيه جهة الفهم، ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا فلا ينبغي أن ينكر هذا لأن العين قد يراد بها الذهب والشمس، فإنه مع قرينة الحاسة ذهب الإِجمال وحصل التفهم الذي هو طلب السؤال. واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المترسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها. القانون الرابع: في طريق اقتناص الحد: اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان لأنا إذا قلنا حد الخمر أنها شراب مسكر فقيل لنا لم كان محالاً أن تطلب صحته بالبرهان، لأن قولنا حد الخمر أنها شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر وحكمها أنها شراب مسكر. وهذه القضية إن كانت معلومة بغير وسط فلا حاجة إلى البرهان وان لم تعلم وافترقنا إلى وسط وهو البرهان كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه وصحة الحكم للوسط كل واحدة قضية واحدة، فبماذا نعرف صحتها ؟ فإن احتيج إلى وسط آخر تداعى إلى غير نهاية وان وقف في موضع بغير وسط فبماذا نعرف في ذلك الموضع صحته فلنتخذ ذلك طريقاً في إدراك الأمر. مثاله لو قلنا حد العلم إنه معرفة فقيل لِمَ، فقلنا لأن كل علم فهو اعتقاد مثلاً وكل اعتقاد فهو معرفة فيقال ولِمَ قلتم كل علم فهو اعتقاد ولِمَ قلتم إن كل اعتقاد فهو معرفة فيصير السؤال سؤالين. وهكذا يتداعى، بل الطريق أن النزاع إن كان فيه من خصم فيقال صحته عرفت باطراده وانعكاسه فهو الذي يسلّم الخصم به بالضرورة. وأما كونه معرباً عن تمام الحقيقة فربما يعاند فيه ولا يعترف به، فان منع اطراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه، وقابلنا أحد الحدين بالآخر وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان من زيادة أو نقصان وجرّدنا النظر إلى ذلك الوصف وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة، مثاله إذا قلنا المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان مضموناً، فيقول الخصم نسلّم أن المغصوب مضمون ولكن لا نسلم أن الولد مغصوب، فنقول الدليل على أنه منصوب أن حد الغصب قد وجد فيه، فإن حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير وقد وجد، وربما يمنع كون اليد عادية وكونه إثباتاً بل يقول هو ثبوت، ولكن ليس ذلك من غرضنا بل ربما قال أسلّم أن هذا موجود في الولد ولكن لا أسلمّ أن هذا حد العصب، فهذا لا يمكن إقامة البرهان عليه إلا أنا نقول هو مطرد منعكس فما الحد عندك، فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت فيقول بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة، فنقول قد زدت وصفاً وهو الإِزالة. فلننظر هل يمكننا أن نقدر اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف، فان قدرنا عليه كان يقول الزيادة محذوفة، وذلك بأن يقول الغاصب من الغاصب يضمنه المالك، وقد أثبت اليد العادية وما أزال المحقة بل المزال لا يزال، وكان الأول قد أزال اليد المحقة فهذا طريق قطع النزاع، وأما الناظر مع نفسه فإذا تحرّر له الشيء. وتلخص له اللفظ الدال على ما تحرّر في ذهنه علم أنه واجد للحد. القانون الخامس: في حصر مداخل الخلل في الحدود: وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من جهة أمر مشترك بينهما. إما الخلل في الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في حد العشق أنه إفراط المحبة، وينبغي أن يقال المحبة المفرطة، فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة. ومن ذلك إن يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولك حد الكرسي أنه خشب يجلس عليه، والسيف أنه حديد يقطع به بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة صناعية من حديد يقطع به، بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة من حديد مستطيلة مع تقوس ويقطع بها كذا، فالآلة جنس والحديد محل للصورة لا جنس وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان وألان ليس بموجود، كقولك الرماد خشب محترق والولد نطفة مستحيلة، فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد. ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس كما يقدر حد العشرة أنها خمسة وخمسة، ومن ذلك أن يوضع القوة موضع الملكة كما يقال حد العفيف هو الذي يقوى على اجتناب الشهوات واللذات وهو فاسد، بل هو الذي يترك، وإلا فالفاسق أيضاً يقوى على الترك والاجتناب ولا ترك. ومن ذلك أن توضع اللوازم التي ليست ذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض، ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس كقولك الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشره .

وأما من جهة الفصل فبأن يأخذ اللوازم والعرضيات في الاحتراز بدلاً عن الذاتيات وأن لا يورد جميع الفصول.

وأما القوانين المشتركة فمن ذلك أن تحد الشيء بما هو مساو له في الخفاء أو فرع له، كقولك العلم ما يعلم به أو العلم ما تكون الذات به عالمة. ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد فنقول حد العلم ما ليس بظن، ولا شك ولا جهل، وهكذا حتى تحصر الأضداد وحد الزوج ما ليس بفرد فيدور الأمر ولا يحصل به بيان، ومن ذا أن يوجد المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الإضافة، كقول القائل حد الأب من له ابن، ثم لا يعجز أن يقول وحد الابن ما له أب بل ينبغي أن يقول الأب حيوان يولد من نطفته حيوان هو من نوعه فهو أب من حيث هو كذلك، ولا يحيله على الابن، فإنهما في الجهل والمعرفة يتساويان. ومن ذلك أن يؤخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يحدّ المعلول إلا بان تدخل العلة في حدّه، كمن يقول حدّ الشمس أنه كوكب يطلع نهاراً فيقال وما حدّ النهار فيلزم أن يقول النهار هو زمان طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح ولذلك نظائر يكثر إحصاؤها وسنزيدها شرحاً في الامتحانات. القانون السادس: أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حدّه إلا بطريق شرح اللفظ أو بطريق الرسم. وأما الحد فلا، ومعنى الفرد مثل الموجود. فإذا قيل لك ما حدّ الوجود فغايتك إن تقول هو الشيء أو الثابت، فتكون قد أبدلت اسماً باسم مرادف له ربما يتساويان في التفهيم وربما يكون أحدهما أخفى في وضع اللسان. كما تقول ما العُقار فيقول هو الخمر وما القَسْورة فيقول هو الأسد. وهذا أيضاً إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر عند السائل من المذكور في السؤال، ثم لا يكون إلا شرحاً للفظ، وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الأسد فلا يتلخص ذلك في عقله إلا بأن يقول سبع من صفته كيت وكيت. فأما تكرّر الألفاظ المترادفة فلا يغنيه، ولو قلت حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور وقيّدته بقيد احترزت به عن المعدوم كنت ذكرت شيئاً من لوازمه وتوابعه. فكان حدّك رسمياً غير معرب عن الذات، فلا يكون حقيقياً. فإذاً الموجود لا حدّ له فإنه مبتدأ كل شرح فكيف يشرح في نفسه. و إنما قلنا المعنى الفرد ليس له حد حقيقي لأن معنى قول القائل ما حدّ الشيء كقولك ما حدّ هذه الدار والدار جهات معدودة إليها ينتهي الحد، فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المتحدة المتعددة التي هي، أعني الدار محصورة متسورة بها، فإذا قيل ما حدّ السواد فكان يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد. فإن السواد سواد ولون وموجود وعرض ومرني ومعلوم وموصوف ومذكور وواحد وكغير ومشرق وبراق وكدر وغير ذلك مما يوصف به من الأصناف، وهذه الصفات بعضها عارض يزول وبعضها لازم لا يزول، ولكن ليست ذاتية ككونه معلوماً وواحداً وكثيراً، وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ككونه لوناً. فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد لنجمع له تلك المعاني المتعدّدة بتلخيص، بان نبدأ بالأعم ونختم بالأخص ولا نتعرض للعوارض، وربما طلب أن لا يتعرض أيضاً للوازم بل للذاتيات فقط. فإذا لم يكن المعنى مركباً من ذاتيات متعددة كالوجود كيف يتصور تحديده وكان السؤال عنه كقول القائل ما حدّ الكرة ولنقدّر العالم كله على شكل كرة، فلو سئل عن حدّه كما سئل عن حدود الدار كان محالا، إذ ليس له حدود وإنما حدّه منقطعه ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس بسطوح مختلفة ولا هي منتهية إلى مختلف، حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا، فهذا المثال المحسوس ربما يفهم منه مقصدي من هذا الكلام ولا يفهم من قولي إن السواد مركب من معنى اللونية والسوادية لم إن اللونية جنس والسوادية نوع إن في السواد ذات متباينة متفاصلة فلا نقول السواد لون وسواد، بل هو لون ذلك اللون بعينه هو سواد، بل معناه يتركب ويتعدد عند العقل حتى يعقل اللونية مطلقاً ولا تخطر له الزرقة مثلاً ثم يعقل الزرقة فيكون العقل قد عقل أمراً زائداً لا يمكن أن تجحد تفاصيله في الذهن، ولا يمكنه أن يعتقد تفاصيله في الوجود ولا يظنن إن منكر الحال يقدر على حد شيء البتة، لأنه إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه، وإذا زاد شيئاً للاحتراز فيقال الزيادة عين الأول أو غيره، فان كان عينه فهو تكرر فاطرحه وان كان غيره فقد اعترفت بآمرين. وإذا قال في حد الجوهر إنه موجود قلنا بطل بالعرض. وإذا قال متحيّز قلنا قولك متحيّز مفهومه غير مفهوم الموجود أو عينه، فإن كان عينه فكأنك قلت موجود موجود فإن المترادفة كالمتكررة فهو لم إذاً باطل بالعَرَض. وإن تولك موجود لا يدفع النقض، وقولك متحيّز فهو عينه بالمعنى لا باللفظ. لأن كل لفظ لا يدفع نقضاً، فتكراره لا يدفع ومرادفه لا يدفع، فمهما انتقض قولك أسد بشيء لم يندفع النقض بقولك ليث كما لا يندفع بقولك أسد. فقد عرفت أن المفرد لا يمكن أن يكون له حدّ حقيقي إلا لفظي، كقولك في حدّ الموجود إنه الشيء ؛ أو رسمي كقولك في حدّ الموجود إنه المنقسم إلى الفاعل والمفعول أو الخالق والمخلوق أو القادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني أو ما يشبه من لوازم الموجود وتوابعه. فكل ذلك ليس نبأ عن ذات الوجود بل عن تابع لازم لا يفارق البتة. واعلم أن المركب إذا حدّدته بذكر آحاد الذاتيات توجّه السؤال عن حد الآحاد. فإنك إذا قيل لك ما حدّ الشجر فقلت نبات قائم على ساق فقيل لك ما حدّ النبات  فتقول جسم نام، فيقال وما حدّ الجسم فتقول جواهر مؤتلفة، فيقال وما حدّ الجوهر وهكذا. فإن كان مؤلف فيه مفردان وكل مفرد فله حقيقة وحقيقته أيضاً تأتلف من مفردين فلا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا يحتاج إلى طلبه بصيغة الحد.

كما إن العلوم التصديقية تطالب بالبرهان عليها وكل برهان من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضاً برهان من مقدمتين وهكذا يتسلسل إلى أن ينتهي إلى أوليات، وكما أن في العلوم أوليات فكذا في المعارف. فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة. فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل، فإن طلب الحقيقة فهو معاند وكان كمن يطلب البرهان على إن الاثنين أكثر من الواحد، فهذا ما أردنا إيراده من القوانين بالامتحانات ولنشتغل بحدود ذكرت في فن الكلام والفقه لتحصل بها الدرية بكيفية استعمال القوانين.ل جسم نام، فيقال وما حدّ الجسم فتقول جواهر مؤتلفة، فيقال وما حدّ الجوهر وهكذا. فإن كان مؤلف فيه مفردان وكل مفرد فله حقيقة وحقيقته أيضاً تأتلف من مفردين فلا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا يحتاج إلى طلبه بصيغة الحد. كما إن العلوم التصديقية تطالب بالبرهان عليها وكل برهان من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضاً برهان من مقدمتين وهكذا يتسلسل إلى أن ينتهي إلى أوليات، وكما أن في العلوم أوليات فكذا في المعارف. فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة. فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل، فإن طلب الحقيقة فهو معاند وكان كمن يطلب البرهان على إن الاثنين أكثر من الواحد، فهذا ما أردنا إيراده من القوانين بالامتحانات ولنشتغل بحدود ذكرت في فن الكلام والفقه لتحصل بها الدرية بكيفية استعمال القوانين.

الفن الثاني من محك الحد

في الامتحانان

الامتحان الأول: اختلف الناس في حدّ الحد فمن قائل يقول حدّ الشيء هو حقيقته ونفسه وذاته، ومن قائل يقول حدّ الشيء هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يجمع ويمنع، ومن قائل ثالث يقدر هذه مسألة خلافية فينصر أحد الحدين على الآخر وانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شيء واحد، وهذان قد تباينا وتباعدا وما تواردا و إنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الإسم المشترك الذي ذكرناه . فان من يحدّ المختار بأنه القادر على ترك الشيء وفعله ليس مخالفاً لمن يحدّه بأنه الذي خلى ورأيه، كما أن من حدَّ العين بأنه العضو المدرِك للألوان بالرؤية لم يحالف من يحدُ العين بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود، بل حدَ هذا أمراً متبايناً بحقيقة الأمر الآخر، وإنما اشتركا في اسم العين والمختار فافهم هذا فإنه قانون كثير النفع. فان قلت فما الصحيح عندك في حدّ الحد فاعلم أن من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرّر المعاني أولاً في عقله بلا لفظ ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى. فلنقرّر المعاني فنقول الشيء له في الوجود أربع مراتب: الأولى حقيقة في نفسه، الثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن، وهو الذي يعتر عنه بالعلم. الثالثة تأليف مثاله بحروف تدل عليه وهي العبارة الدالة على المثال لذي في النفس. والرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ، وهي الكتابة، والكتابة تَبعُ اللفظ، إذ تدل عليه، واللفظ تَبِعُ العلم، إذ يدلى عليه، والعلم تَبِعُ المعلوم، إذ يطابقه ويوافقه. وهذه الأربعة متوافقة متطابقة متوازنة إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والآخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالأعصار والأمم لأنها موضوعة بالاختيار. ولكن الأوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها موضوعة قصد بها مطابقة الحقيقة. ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع، وإنما استعير لهذه المعاني للمشاركة في معنى المنع، فانظر أين تجده في هذه الأربعة. فإن ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشيء مخصوصة به، إذ حقيقة كل شيء خاصيته التي له وليست لغيره .

فإذاً الحقيقة جامعة مانعة. فان نظرت إلى مثال الحقيقة في الدهن وهو العلم وجدته أيضاً كذلك، لأنه مطابق للحقيقة المانعة. والمطابقة توجب المشاركة في المنع. وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضاً حاصرة، فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق. وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة، فهي أيضاً مطابقة، وقد وجد المنع في الكل إلا إن العادة لم تجرِ بإطلاق اسم الحد على الكتابة التي هي الرابعة ولا على العلم الذي هو الثانية، بل هو مشترك بين حقيقتين. فلا بد وأن يكون له حدان مختلفان كلفظ العين، والمختار ونظائرهما. فإذا عند الإطلاق على نفس الشيء يكون حدّ الحداثة حقيقة الشيء وذاته وعند الإطلاق الثاني يكون حدّ الحد إنه اللفظ الجامع المانع إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضاً اصطلاحهم مختلف كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي. فحدّ الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ كقوله الموجود هو الشيء والحركة هي النقلة والعلم هو المعرفة هو تبديل اللفظ لما هو واقع عند السائل على شرط يجمع ويمنع. وأما حدّ الحد عند من يقنع بالرسميات أنه اللفظ الشارحِ للفظ بتعديد صفاته الذاتية واللازمة على وجه يميزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس. وأما حدّه عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي أنه القول الدال على تمام ماهية الشيء. ولا يحتاج في هذا أن يذكر الطرد والعكس لأن ذلك يتبع الماهية بالضرورة ولا يتعرض للازم والعرضي، فإنه لا يدل على الماهية إلا الذاتيات. فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية. وهذه أربعة أمور مختلفة كما دلّ لفظ العين على أمور مختلفة فيعلم صياغة الحد. فإذا ذكر لك اسم وطُلِبَ حدّه فانظر، فإن كان مشتركاً فاطلب عنده المعاني التي فيها الاشتراك، فإن كانت ثلاثة فاطلب ثلاثة حدود، لأن الحقائق اذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود. فإذا قيل ما الإنسان فلا تطمع في حد واحد، فإن الإنسان مشترك بين أمور، إذ يطلق على إنسان العين وله  حد وعلى الإِنسان المعروف وله حد آخر وعلى الإِنسان المصنوع على الحائط المنقوش وله حد آخر وعلى الإِنسان الميت وله حد آخر. فإن الذكر المقطوع واليد المقطوعة تسقى يداً وذكراً لا بالمعنى الذي كان يُسمّى به، إذ كان يُسمّى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع، وبعد القطع يُسمّى به من حيث أن شكله له اسم و لو صنع شكله من خشب أو حجر أعطي اسمه، وكذلك يقال ما حدّ العقل فلا تطمع في أن يحدّ بحد واحد وهو هوس لأنه مشترك يطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإِنسان لدرك العلوم الضرورية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يُسمّى عاقلاً، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدوء، فيقال فلان عاقل أي فيه هدوء، وقد يطلق على من جمع إلى العلم العمل حتى أن الفرس وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلاً ويقال للحجاج إنه عاقل بل داهية، ولا يقال للكافر وإن كان فاضلاً في جملة من علوم الطب والهندسة إنه عاقل، بل إما داهية و أما فاضل داما كبير. فهكذا تختلف الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تتعدّد الحدود في حد العقل فباعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية بجواز الحائزات واستحالة المستحيلات. وبالاعتبار الثاني إنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات، وهكذا بقية الاعتبارات. وعلى الإِنسان المعروف وله حد آخر وعلى الإِنسان المصنوع على الحائط المنقوش وله حد آخر وعلى الإِنسان الميت وله حد آخر. فإن الذكر المقطوع واليد المقطوعة تسقى يداً وذكراً لا بالمعنى الذي كان يُسمّى به، إذ كان يُسمّى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع، وبعد القطع يُسمّى به من حيث أن شكله له اسم ولو صنع شكله من خشب أو حجر أعطي اسمه، وكذلك يقال ما حدّ العقل فلا تطمع في أن يحدّ بحد واحد وهو هوس لأنه مشترك يطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإِنسان لدرك العلوم الضرورية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يُسمّى عاقلاً، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدوء، فيقال فلان عاقل أي فيه هدوء، وقد يطلق على من جمع إلى العلم العمل حتى أن الفرس وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلاً ويقال للحجاج إنه عاقل بل داهية، ولا يقال للكافر وإن كان فاضلاً في جملة من علوم الطب والهندسة إنه عاقل، بل إما داهية و أما فاضل داما كبير. فهكذا تختلف الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تتعدّد الحدود في حد العقل فباعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية بجواز الحائزات واستحالة المستحيلات. وبالاعتبار الثاني إنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات، وهكذا بقية الاعتبارات.

فإن قلت فأرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الخلاف. في الحد افترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء. فاعلم أن الخلاف في الحد يتصور في موضعين: أحدهما أن يكون اللفظ بكتاب الله أو سنّة رسوله أو قول إمام من الأئمة، ويكون ذلك اللفظ مشتركاً فيقع النزاع في مراده به، فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل والتباين بعد التوارد، فالخلاف تباين بعد التوارد. ولذا فلا نزاع بين من يقول السماء قديم وبين من يقول المغصوب مضمون، إذ لا توارد، ولو كان لفظ الحد من كتاب الله تعالى أو كتاب إمام يجوّز التنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صنعة التفسير لا من صناعة النظر بالعقل. الثاني أن يقع الخلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حدّه أمراً بائناً ولا يحدّ حده على المذهبين فيختلف. كما يقول المعتزلي حدّ العلم اعتقاد الشيء، ونحن نخالفه في ذكر الشيء، فان المعدوم عندنا ليس بشيء، فالخلاف في مسالة أخرى تتعدّى إلى الحد، ولذلك يقول القائل حدّ العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا، ويخالف من يقول في حدّه انه غريزة يتهيأ بها إدراك المعقولات من حيث أنه ينكر وجود غيره، بل يقول ليس في الإِنسان إلا جسم وفيه حياة وعلوم ضرورية إما غريزية أو مكتسبة وعلوم نظرية، فلا يتميز بها القلب عن العقب والإنسان عن الذباب. فإن الله قادر على خلق العلوم النظرية في العقب وفي الذباب فيثير الخلاف في غير الحد خلافاً في الحد. فهذا وإن أوردناه في معرض الامتحان فقد أفدناك به ما يجري على التحقيق مجرى القوانين. الامتحان الثاني: اختلف في حد العلم فقيل هو المعرفة وهذا حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود، فإنه تكرير لفظ بذكر ما يرادفه. كما يقال حد الحركة النقلة ولا يخرج عن كونه لفظياً بأن يقال معرفة المعلوم على ما هو به لأنه في حكم التطويل والتكرير، إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو كذلك، فهو كقول القائل حدّ الموجود الشيء الذي له ثبوت ووجود، فان هذا التطويل لا يخرجه عن كونه لفظياً ولست أمنع من أن تسمى مسمى هذا حداً. فلفظ الحد لفظ في اللغة المنع وهو مباح فيستعيره من يريده لما فيه نوع من المنع. فلو سمّى قلنسوة حداً من حيث أنه يمنع البرد لم يمنع من هذا أن كان الحد عنده عبارة عن لفظ مانع، فإن كان عنده عبارة عن قول شارح لماهية الشيء مصور كُنه حقيقته في ذهن السائل فقد ظلم بإطلاق هذا الاسم على قوله العلم هو المعرفة. ولميل أيضاً إنه الذي يعلم به وإنه الذي تكون الذات به عالمة، وهذا الحد أبعد من الأول فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والدلالة على الماهية. ولكن قد يتوهم في الأولً شرح اللفظ بأن يكون أحد اللفظيين عند السائل أشهر من الآخر، فشرح الأخفى بالأشهر. إما العالم ويعلم فهو مشتق من نفس العلم ومن أشكل عليه المصدر كيف يتضح لديه المشتق منه والمشتق أخفى من المشتق منه، وهو كقول القائل في حد الفضة إنه الذي تصاغ منه الأواني الفضية. وقيل إنه الوصف الذي يتأتّى للمتصف به إتقان العلم وإحكامه. وهذا ذكر لأزم من لوازم العلم فيكون رسمياً وهذا أبعدهما قبلة من حيث أنه أخص من العلم، فإنه يتناول بعض العلوم ولكن أقرب بوجه اًخر مما تبله وهو أنه ذكر لازم قريب من الذات بعيد شرحاً وبياناً بخلاف قوله ما يعلم به وما تكون الذات به عالمة. فإن قلت فما طريق تحديد العلم عندك فاعلم أن العلم اسم مشترك قد يطلق على الإبصار والإحساس، وله حد بحسبه، وبطلق على التخيل، وله حد آخر بحسبه ويطلق على الظن، وله حد اخر بحسبه ويطلق على علم الله على وجه آخر أعلى وأشرف. ولست أعني أنه أشرف لمجرد العموم فقط بل بالذات والحقيقة. ويطلق على إدراك العقل وحدُه على الخصوص كما ينقدح في الحال أنه سكون الذهن جزماً عن بصيرة إلى الأمر بانه كذا أو ليس كذا والأمر كذلك. ولا يبعد أن يحتاج هذا الجدال إلى مزيد تحرير وتنقيح ليس يتّسع القلب ألان لتضييع الوقت به فعليك بإتمامه، وغرضي ذكر الطريق للحد. تقول يعترضون على هذا الحد بأنك استعملت لفظ السكون وهو مشترك ولفظ الذهن وهو غريب ولفظ البصيرة، وكأنه يشير إلى الاتصال ولا يلتفت إلى المشغوفين بالعبارات المصدوفين بغير الحق عن الحقائق. فاعلم أن السكون إذا قرن بالذهن زال منه الإِجمال، وأن الذهن ذكرته لأني أظنه مفهوماً عندك ولا أمنع من إبداله في حق من لا يعرفه، فقصد الحد الحقيقي تصور كُنه الماهية في نفس المستفيد الطالب باي لفط كان، فإن قلت فهل يتصور أن يكون للشيء الواحد حدان قلت: إما الحد اللفظي فيتصور أن يكون له ألف، وذلك يختلف بكثرة الأسامي في بعض اللغات وقلتها في البعض ويختلف باختلاف الأمم. وأما الحد الرسمي أيضاً فيجوز أن يتعدّد لأن لوازم الأشياء ليست محصورة. وأما الحد الحقيقي فلا يتصور إلا واحداً لأن الذاتيات محصورة، فإن لم يذكرها لم يكن حقيقياً وإن ذكر بعضها فالحد ناقص وان ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو، فإذاً لا يتعدّد هذا الحد. الامتحان الثالث: قيل في حد العرض ما لا يبقى أو ما يستحيل بقاؤه أو لا يقوم بنفسه، وهذا مختل لأنه ذكر لازم ليس يتعرض للذات، ثم هو لازم سلبي والإثبات أقرب إلى التفهيم. وقيل إنه الذي يعرض في الجوهر، وقولك يعرض كأنه مأخوذ منه العرض وفيه إدخال الجوهر في حدّه وهو أيضاً مما يطلب حدّه، فيمكن إحالته على العرض بأن يقال الذي يقوم به العرض. فليس هذا الفن مرضياً بل نقول طالب هذا الحد كأنه يطلب أن يتفهم ما نريده في اصطلاحنا بهذا الاسم، وإلا فالعَرَض ما ثبتت حقيقته في النفس ثبوتاً أولياً لا يحتاج إلى طلبه بصناعة الحد، إذ بتنا أن من المعارف ما يستغنى في تفهمها عن الحد وإلا يتسلسل الأمر إلى غير نهاية. فنقول له اعلم إن العقل أدرك الوجود ثم أدرك انقسامه إلى ما يستدعى محلاً يقوم به وإلى ما لا يستدعيه، ثم أدرك انقسام القائم بالعين إلى ما يطرأ بعد أن لم يكن وإلى ما لا يكون طارئاً كصفات الله تعالى. فالعَرَض عبارة عن الذي يطرأ بعد أن لم يكن ويستدعي في تحديده في الوقت أنه حادث يستدعي وجوده محلاً يقوم به. والمعتزلة إذ نفوا صفات الباري كان اصطلاحهم لا يستدعي التقييد بالحادث بل يمكن أن يعبّروا به عن كل موجود يقوم بغيره.

الامتحان الرابع: قيل في حد الحادث إنه الذي ليس بقديم.فهو هوس، كقول القائل القديم الذي هو ليس بحادث فهو حد الضد بالضد، ويدور الأمر فيه. وقيل إنه الذي تتعلق به القدرة القديمة وهو ذكر لازم غامض لم يدرك إلا بالأدلة. وأما الحادث فمفهوم جلي بغير نظر واستدلال، ومن الضلال البعيد بيان الجليّ بالغامض. ولعَمْري من يطلق اسم الحد على كل لفظ جامع مانع فهذا عنده لا محالة حد. وكذا قوله الحادث ما ليس بقديم. ولكنّا نقول العقل أدرك الوجود ثم أدرك انقسامه إلى ما له أول بمعنى أنه لم يكن موجوداً ثم وجدوا لي ما لا أول له، فالقديم عبارة عن أحد القسمين والحادث الآخر. فنقول الحادث هو الموجود بعد العدم أو الكائن بعد أن لم يكن أو الموجود أو المسبوق بعدم أو الموجود عن عدم. وهذه ليست حدوداً بل الكل حد واحد والعبارات متكرّرة دون المعنى. لا كقول القائل إنه متعلق القدرة الحادثة لأنه حد آخر مفهومه الأول غير مفهوم هذه الحدود يلزم ذلك المفهوم، إذ يلزم متعلق القدرة أن يكون حادثاً وفرق بين المتلازمين وبين الشيء الواحد الذي عنه عبارتان. وقول القائل الموجود عن عدمٍ ليس بصحيح لأنه يقال السرير من الخشب، بمعنى أنه جعل الخشب سريرا والعدم لا يجعل وجوداً. فهذا أمر الاعتراضات النادرة. فإنا لا ننكر بأن لفظ عن مشترك، ولكن بينا أن المشترك إذا فهم بالقرينة التحق بالنص وهو معلوم هاهنا، ولست أمنع من الاجتهاد في الاحتراز عن المشترك فذلك أحسن، وإنما أمنع من استعظام هذا الصنيع الذي لا يعظم عند المحصل. فلا هذا مذموم كل ذلك الذم بعد حصول الفهم، ولا ذلك محمود كل ذلك الحمد؛ لاسيما إذا لم يفد الشرج. بل الأمر أهون، فما الظنون بل قول القائل موجود عن عدم أحمتُ إلي من قوله هو متعلق القدرة. الامتحان الخامس: اختلف في حد المتضادين وليس من غرضي غير الحدود، ولكن العرض أن أفيدك طريق التحديد بعد أن. عينت في التماسك ذلك، فليكن نظرك في الحدود كما أقوله، وهو أن المتضادين دالان على شيئين لا محالة وكل شيئين فينقسمان إلى ما لهما محل و إلى ما لا محل لهما، وكل ما لهما محل فينقسمان إلى ما يجتمعان كالسواد والحركة و إلى ما لا يجتمعان. فينقسم إلى ما يختلف بالحد والحقيقة كالسواد والبياض وإلى ما لا يختلف. والذي لا يختلف أيضاً ينقسم إلى ما لا يجوز أن يكون لواحد عارض أو لازم ليس للآخر بل يسد أحدهما مسد الآخر في كل حال، كالبياضين والسوادين، وبالجملة كالمثلين. والى ما يتحد في الحدود والحقيقة ولا تختلف طباعهما، ولكن لا يسد أحدهما مسد الآخر، كالكونين في مكانين وليس كالكونين في مكان واحد، إذ لا يجتمع في الجوهر في حالة واحدة لا كونان في مكان واحد ولا كون في مكانين. والذي بينهما اختلاف ينقسم إلى ما بينهما غاية الخلاف الذي لا يمكن أن يكون وراءه خلاف كالسواد والبياض والحركة الصاعدة والحركة الهابطة والى ما ليس في الغاية، كمخالفة الماء الحار الفاتر، فإنه أقل من مخالفته للبارد والشديد البرودة، وكمخالفة الحركة يميناً الصاعدة، فإنها أقل من مخالفتها للحركة يساراً، أعني المقابل. فإذا تمهدت في عقلك هذه الأقسام فانظر إلى لفظ المتضادين وأنه كيف وضع الاصطلاح فيه. وأقل الدرجات في المتضادين هما المعنيان اللذان يتعاقبان على محل واحد لا يجتمعان سواء كانا مختلفين أو متماثلين. وقد اصطلح فريق. على إطلاق الاسم على هذا، فيوضع هذا الاسم. سقوا المثلين متضادين، وفريق أخر شرطوا زيادة لإطلاق هذا الاسم وهو أن لا يسد أحدهما مسد الآخر فلم يطلقوه على الكونين في حيّز واحد وأطلقوه على الكونين في حيزين. وفريق ثالث شرطوا زيادة أمر وهو أن يكون بينهما اختلاف في الحد والحقيقة، أي لا يدخل أحدهما في حد الآخر، فإنا إذا حدّينا الكون بأنه اختصاص بالحيّز دخل فيه جميع اكوان، فليس بين الاحياز اختلاف بالطبع ولا بين الأكوان بل هي متشابهة. فهؤلاء لم يسقوا الأكوان متضادة لكن المختلفات كالحرارة والبرودة. وفريق رابع شرطوا زيادة، وهو أن يكون بينهما غاية الخلاف الممكن في ذلك النوع من التضاد، بحيث لا يكون وراءه خلاف، وهؤلاء هم الفلاسفة، وهذا اصطلاحهم، فزعموا أن البياض لا يضاد العودي بل السواد والحار لا يضاد الفاتر بل البارد، فهذا هو الشرح. ونرى جماعة من العميان يتعاورون في هذه الحدود ظانين أن فيها نزاعاً ولا يدركون أن النظر نظران أحدهما في الحقائق المجردة دون الألفاظ وهؤلاء الانقسامات التي ذكرناها أولاً وليس في العقلاء من ينكر شيئاً منها، والثاني في إطلاق الألفاظ والاصطلاحات، وذلك يتعلق بالشبيه. فإن الألفاظ طافحة مباحة لم يثبت من جهة الشرع وقفها على معنى معيّن حتى يمنع من استعمالها على وجه آخر. ولعمري لو قيل إن واضع اللغة وضعه لشيء في الأصل فهو وقف عليه بالحقيقة ولغيره استعارته هذا لا أمنع منه، ولكن الخوض فيه لا يليق بالمحصل الناظر في المعقولات بل بالأدباء الناظرين في اللغات. وقد ترى الواحد يغتاظ ويقول كيف يستجيز العاقل أن يقول الكونان لا يتضادان ومعلوم أنهما لا يجتمعان وإنما ذلك لما في نفسه من القياس الخطأ الذي لا يشعر به، ونظم ذلك القياس أن قولنا يتضادان وقولنا يجتمعان واحد فكيف يقال يجتمعان ولا يجتمعان، إذ يظهر أن كل ما لا يجتمعان فواجب تسميتهما متضادين، ومعلوم أن الكونيين لا يجتمعان فوجب تسميتهما متضادين، ومن يدري أن وجوب تسمية ما لا يجتمعان متضادين غير ثابت بل التسمية إلى أهل الاصطلاح.

الامتحان السادس: قيل في حد الحياة إنها المعنى الذي يستحق من قام به أن يشتق له منه اسم الحي، وهذا من طوايف الحدود فإنه تعريف المعنى بلفظ يطلق على المعنى، ومن قنع بمعل هذا في فهم الحياة فقد رضي من العلوم بقشورها. وقيل ما أوجب كون الحي حياً أو ما كان المحل به حياً. وقد عرفت ما في هذا الجنس. وقيل ما يصح بوجودها العلم أو ما تصح بوجودها القدرة أو الإرادة، وهذا تعريف للشيء بذكر بعض توابعه. فإن قلت فما اختيارك فيه فاعلم أن ذكر ذلك لا يحتمله هذا الكتاب فإن هاهنا نظر في الألفاظ وهي ثلاثة: الحياة والروح والنفس، ونظر في المعاني والحقائق. فإن في الناس من يقول ليس في الإِنسان إلا حياة وهو عرض قائم بجسمه، واسم النفس والروح يرجع إليه. ومنهم من يقول إنه لا بد سوى هذا العرض من شيء هو الروح وهو جسم، لطيف في داخل القلب والدماغ يجري إلى سائر البدن في العروق الضوارب، وأما النفس فليس لها مسمى ثالث. ومنهم من قال هاهنا أمر ثالث وهو موجود قائم بنفسه غير متحيز، والروح الذي هو الجسم اللطيف ومنبعه القلب مدير لسائر أعضاء البدن بواسطته، وانظر كيف اختلف الطريق بهم وكيف يشاهد الاختلاف، فإني أنبهك على أوائله وإن لم يحتمل الكتاب الخوض في غوائله، فاعلم أن الناظر لمّا نظر إلى النطفة وهي جماد لا يحس ولا يتحرك ثم استحال في أطوار الخلق حتى صار يحس ويتحرك عه لم انه حدث فيه ما لم يكن من الإحساس والحركة الإرادية، فظنَ أنه ليس في هذا الوجود إلا الجسم كان جماداً فخلق الله فيه الإِحساس وقدرة الحركة فلم تتحدد إذاً إلا القدرة والحس، وعند ذلك يُسمّى حياً، ويتجدد له هذا الاسم. فكانت الحياة عبارة عن الإحساس والقدرة فقط. ولما نظر إلى اللغات فرأى هذا الجنين وهذا الإنسان في حال السكتة يسمّى حياً ويصدق عليه الاسم وخمّن في نفسه بالوهم الظاهر قبل التحقيق بالبرهان إن هذا الإِنسان في سكتته ليس معه إحساس البتة ولا قدرة، وطلب له مسمى فظنّ أنه ليس هاهنا إلا إمكان خلق الإِحساس فيه وخلق القدرة، فهو من حيث أنه مستعد لقبوله سمي حياً والحياة عبارة عن استعداد فقط، ولكن كان قد استقر في اعتقاده أن الله يقدر أن يخلق الحياة في كل جسم، ولا يوصف الله تعالى بالقدرة على خلق الحس والحركة في الجماد، فسنح له أن لا بد من صفة يفارق بها صاحب السكتة الجماد حتى تصور خلق الحس و القدرة فيه بسببه دون الجماد، فقال الحياة عبارة عن تلك الصفة وأثبت له صفة هي الحياة. فمنهم من قنع بهذا النظر وقدر مع نفسه أنه لا موجود إلا الجسم وصفة يتهيأ المحل بها لقبول الحس والقدرة، ومنهم من جاوز هذا الخبر به بصناعة الطب والاكتفاء به إلى أمور شرعية من صناعة الطب، فدلّ على أن الأخلاط الأربعة بها.بخار لطيف في غاية اللطف. فإن في القلب حرارة غريزية تنضح ذلك البخار وتلطفه وتسرحه قوة في القلب في تجاويف العروق الضوارب إلى سائر البدن، وأن القوة الحساسة تنتهي إلى العين والأذن وسائر الحواس الخمسة في هذا البخار اللطيف السائر بلطفه في سيال الأعصاب، فكان هذا البخار حمّالاً لهذه القوى يجري في سلك العروق ويمد الأجسام اللطيفة التي فيها قوى الإِحساس. وقالوا لو وقعت سدة في بعض المجاري في هذا البخار إما في عصب أو عرق لبطلت الحياة والإحساس من الذي حالت السدة بينه وبين القلب حتى انقطع عنه إمداده فعبّروا عن هذا الهواء اللطيف بالروح، وزعموا أنه سبب بقاء الحياة في أحاد الأعضاء. فثبت عندهم جسم لطيف عبّروا عنه بالروح وحكموا بأنه سبب العَرَض الذي يسقى حياة. وأما التفاتهم إلى الشرع، من حيث قال رسول الله ( أرواح الشهداء في حواصل طيور معلقة تحت العرش. ولقوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون). فزعموا أنه لم يكن إلا حياة هي عرض وقد انعدم بالموت وجسد الميت بين أيدينا، فما الذي في حواصل طيور خضر وكيف وصف الشهداء بأنهم أحياء والبدن ميت نشاهده والحياة عرض وقد انعدم. وكذلك التفتوا إلى قوله (في دعائه عند النوم "إن أمسكتها فاغفر لها وإن أرسلتها فاعصمها بما تعصم به عبادك الصالحين" فقالوا: ما الذي يمسك ويرسل والبدن حاضر والحياة عَرَض لا يمكن إرسالها. والتفتوا أيضاً إلى قوله تعَالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) فلمَ لم يذكر لهم أنه عرض كالقدرة والحياة إن لم يكن هاهنا إلا جسم وعرض. وثار عند هذا فريق ثالث وتغلغلوا زيادة تغلغل، وقالوا هذا صحيح ولكن هذه الروح في بدنه، وهناك موجود آخر يعبّر عنه بالنفس من صفته أنه قائم بنفسه لا متحيز نسبته إلى البدن نسبة الله تعالى إلى العالم، لا هو داخل في العالم ولا هو خارج عنه. والتفتوا إلى أن الروح جسم منقسم وأجزاؤه متشابهة. فلو كان هو المدبر المدرك من الإِنسان لكان لكل شخص أرواح كثيرة، واحتمل أن يكون في بعض أجزائها علم بالشيء وفي بعضها جهل بالشيء، فيكون عالماً بالشيء جاهلاً به. فلابد من شيء هو نافذ لا ينقسم، وكل جسم منقسم. وزعموا أن الجسم الذي لا يتجزأ محال ثم التفتوا مع ذلك إلى أن هذه الروح كيف ترسل أو تمسك في حالة النوم، ولو خرجت الروح من البدن في النوم لكان ميتاً لا حياً. ولمّا كانت التخيلات والأحلام ومعرفة الغيب بطريق الرؤية صحيحة زعموا أنه ليس يخرج من النائم جسم ينفصل عنه، فإنه لو عاد إليه لدخل في منفذ. فإن الأجسام لا تتداخل ولو شدّ فم النائم وأنفه أولاً ثم نبّه لتنبه ولاحظوا فيه أموراً آخر لا يمكن احصاؤها وقالوا لو لم يكن إلا الجسم والروح لذكره الشارع. فإن الجسم اللطيف مفهوم و إنما الذي لا يفهم موجود لا خارج البدن ولا داخله والأولون أحالوا هذا، فالنافية إثبات موجود حادث لا داخل البدن ولا خارجه وهو محال. فهذا ترتيب نظرهم. فإن قلت فما الصحيح من ذلك فاعلم أن المسؤول فيه ليس يخلو إما أن يكون غير عالم، فلا يمكن البيان، وإما أن يكون عالماً فلا يحل له الخوض فيه. فإن الروح سر الله تعالى كما أن القِدم سر الله ولم يرخّص رسول الله (بالخوض في شرحه. وكان من أوصافه في التوراية أنه لا يجيب عن كذا وكذا، أي لا يشرح عن أسرارها، ومن جملته الروح. ولا يظن أن الله تعالى لم يطلعه عليها، فإنه عرف أموراً أعظم منها. والجاهل بالروح جاهل بنفسه فكيف يظن أنه عرف الله وملائكته وأحاط بعلم الأولين والآخرين، وما عرف نفسه، ولكنه كان عبداً فأمر بأمر فاتبع الأمر، فعلى كل مؤمن به ومصدّق له أن يتبعه ويسكت عما سكت عنه عرفه أو لم يعرفه. ولا يبعد أن يكون في أمته من الأولياء والعلماء من كشف له سر هذا الأمر وليس في الشرع برهان على استحالة ذلك، فإن قلت فما الصحيح من العبارات في حد الحياة التي هي عرض. قلنا: إما عند من لا يثبت إلا العرض فاقرب لفظ في تفهيمها أنها الصفة التي بها يتهيأ المحل لقبول الحس والحركة. وأما على مذهب من يثبت النفس والروح فقد يثبتون الحياة أيضاً عرضاً فيوافقون في الحد، وقد يقولون ليس للحياة معنى سوى كون البدن ذا روح ونفس، فإنه يستعد لقبول القدرة والعلم من حيث أنه ذو روح ونفس فقط لا من حيث صفة أخرى، وكونه كذلك لا يزيد على ثبوت النسبة بينه وبين الروح والنفس. كما أن كون الإِنسان متنعلاً لا يزيد على كونه ذا فعل ووجود رجل، وانطباق النعل على الرجل. وكما أن كون العالم عالماً عند من ينكر المعلول والعلة وهو الحق ليس إلا وجود علم في ذات فهذا قدر ما يمكن أن يذكر من أمر الحياة علامة على الحد كمن يبتغي جملاً مسوقاً على علامة باقية من أثر خفه.اح كثيرة، واحتمل أن يكون في بعض أجزائها علم بالشيء وفي بعضها جهل بالشيء، فيكون عالماً بالشيء جاهلاً به. فلابد من شيء هو نافذ لا ينقسم، وكل جسم منقسم. وزعموا أن الجسم الذي لا يتجزأ محال ثم التفتوا مع ذلك إلى أن هذه الروح كيف ترسل أو تمسك في حالة النوم، ولو خرجت الروح من البدن في النوم لكان ميتاً لا حياً. ولمّا كانت التخيلات والأحلام ومعرفة الغيب بطريق الرؤية صحيحة زعموا أنه ليس يخرج من النائم جسم ينفصل عنه، فإنه لو عاد إليه لدخل في منفذ. فإن الأجسام لا تتداخل ولو شدّ فم النائم وأنفه أولاً ثم نبّه لتنبه ولاحظوا فيه أموراً آخر لا يمكن احصاؤها وقالوا لو لم يكن إلا الجسم والروح لذكره الشارع. فإن الجسم اللطيف مفهوم و إنما الذي لا يفهم موجود لا خارج البدن ولا داخله والأولون أحالوا هذا، فالنافية إثبات موجود حادث لا داخل البدن ولا خارجه وهو محال. فهذا ترتيب نظرهم. فإن قلت فما الصحيح من ذلك فاعلم أن المسؤول فيه ليس يخلو إما أن يكون غير عالم، فلا يمكن البيان، وإما أن يكون عالماً فلا يحل له الخوض فيه. فإن الروح سر الله تعالى كما أن القِدم سر الله ولم يرخّص رسول الله (بالخوض في شرحه. وكان من أوصافه في التوراية أنه لا يجيب عن كذا وكذا، أي لا يشرح عن أسرارها، ومن جملته الروح. ولا يظن أن الله تعالى لم يطلعه عليها، فإنه عرف أموراً أعظم منها. والجاهل بالروح جاهل بنفسه فكيف يظن أنه عرف الله وملائكته وأحاط بعلم الأولين والآخرين، وما عرف نفسه، ولكنه كان عبداً فأمر بأمر فاتبع الأمر، فعلى كل مؤمن به ومصدّق له أن يتبعه  ويسكت عما سكت عنه عرفه أو لم يعرفه. ولا يبعد أن يكون في أمته من الأولياء والعلماء من كشف له سر هذا الأمر وليس في الشرع برهان على استحالة ذلك، فإن قلت فما الصحيح من العبارات في حد الحياة التي هي عرض. قلنا: إما عند من لا يثبت إلا العرض فاقرب لفظ في تفهيمها أنها الصفة التي بها يتهيأ المحل لقبول الحس والحركة. وأما على مذهب من يثبت النفس والروح فقد يثبتون الحياة أيضاً عرضاً فيوافقون في الحد، وقد يقولون ليس للحياة معنى سوى كون البدن ذا روح ونفس، فإنه يستعد لقبول القدرة والعلم من حيث أنه ذو روح ونفس فقط لا من حيث صفة أخرى، وكونه كذلك لا يزيد على ثبوت النسبة بينه وبين الروح والنفس. كما أن كون الإِنسان متنعلاً لا يزيد على كونه ذا فعل ووجود رجل، وانطباق النعل على الرجل. وكما أن كون العالم عالماً عند من ينكر المعلول والعلة وهو الحق ليس إلا وجود علم في ذات فهذا قدر ما يمكن أن يذكر من أمر الحياة علامة على الحد كمن يبتغي جملاً مسوقاً على علامة باقية من أثر خفه. الامتحان السابع: قد استدعيت كلاماً في حد الحركة والخائضون فيه ضبطهم كثير، فقيل انه الذي لمحله به اسم المتحرك، وقيل إنه الذي تكون الذات به متحركة، وقيل إنه الخروج عن المكان وقد فهمت ما في هذا النمط من فائدة أو غائلة، فإن أردت الحقيقة فعليك بالمنهج الذي ذلّلته لك فلم أكرّره بالامتحان مرة بعدِ أخرى إلا لتألف هذا المسلك البعيد وهو أن تحصل الألفاظ المشهورة وتضعها في جانب من ذهنك، وهاهنا ثلاثة: الكون والحركة والسكون، وتنظر في المعاني المعقولة التي تدل هذه العبارات عليها من غير التفات إلى الألفاظ، فتقول هذا المنظور فيه من فن الأعراض، ونحن نعلم أن العرض ينقسم إلى ما يعبّر عنه بأنه اختصاص جوهر بحيزه وإلى ما لا يعبّر عنه به. واختصاص الجوهر بحيزه ينقسم بالضرورة إلى ما يكون في حالة واحدة والى ما يكون فن أكثر. والذي يكون أكثر ينقسم إلى ما يزيد على حالتين وإلى ما لا يزيد. والذي يكون في حالتين ينقسم إلى ما يكون في حيز واحد وإلى ما يكون في حيزين، وكذا ما يكون في ثلاثة أحوال فصاعداً ينقسم إلى ما يكون في حيز واحد وإلى ما يكون في ثلاثة أحياز. فقد حصل هاهنا للعقل خمسة أقسام كون في حالة وكون في حالتين في حيز واحد وكون في حالتين في حيزين وكون في ثلاثة أحوال في حيّز واحد و كون في ثلاثة أحوال في ثلاثة احياز. وكانت الألفاظ ثلاثة والأقسام خمسة فاختلف الناس في إطلاق تلك الألفاظ على هذه الأقسام. فقال فريق وهو الأقرب إلى الحق، واعني بالحق هاهنا تقريب التعريف والاصطلاح، وإلا فليس في هذا النظم رسم معنوي و إنما هو بحث عن اللفظ الفاشي يعبر بالسكون عن الاختصاص بحيز في حالتين متواصلتين فصاعداً، وبالحركة عن الاختصاص بحيزين في حالتين متواصلتين فصاعداً، وهؤلاء لم يسقوا الجوهر في أول حدوثه لا ساكناً ولا متحركاً فثار عليهم من يأخذ الأمور من بُعد. فقال هذا يؤدي إلى أن يكون جوهر غير ساكن ولا متحرك وهذا محال، والمؤدي إلى المحال محال فسلم الكلام المشهور بين المتكلمين أن الحركة والسكون يتقابلان لا ينفك الجوهر عنهما . ولم يعرف أن الذين قالوا ذلك أرادوا به الذي يبقى مدة يدركه الحس، فالثاني لا يخلو عن حركة وسكون فإنهم فهموا من السكون أشياء، فكيف سموا الاختصاص في الحاة الأولى سكوناً، فإن كان يسمى به باعتبار أنه ليس بمتحرك فليكن متحركاً باعتبار أنه ليس بساكن، أي ليس بلا لبث، وهذا خوض في فصول بلا طائل بعد معرفة المعنى، وثار من بعد خيال آخر وهو أن الحركة إن كانت عبارة عن الكون في المكانين فلا تكون الحركة قط موجودة في حال من الأحوال. لأن الكون في مكانين يكون في آنين، فإن نظرت إلى ألان الأول فالكون الثاني غير موجود وإن نظرت إلى الثاني فلا يكون إلا بعد عدم الأول. وهذا كما إن تبذل السواد والبياض لا يكون موجوداً، أعني نفس التبدّل لأنه ما دام السواد موجوداً فلا تبدّل. وإذا وجد البياض بعد عدم السواد فلا تبدّل. فيكون التبدّل عبارة أُطلقت على أمر معقول يستدعي ثبوته زيادة على إن واحد. فقالوا الحركة لا وجود لها بالفعل في آن البتة وإنما وجودها في زمان ممتد، والزمان لا يوجد منه جزء ما لم يفنَ الذي قبله، فلا يصادف وجوداً إلا في الوهم إما في الخارج فلا. وهؤلاء هم الفلاسفة. وقال أهل الحق لسنا نطلق اسم الحركة عليه من حيث انه كونان في مكانين بل من حيث انه كون في مكان لم يكن قبله و بعده فيه، فألزموا أن الجرم الذي وجد في حالة واحدة لم يكن قبله ولا بعده فيه فزادوا مع وجود الجوهر للاحتراز. وهذا الإطلاق يستدعي صدقه ثلاثة أحوال، فمن يكتفي بحالتين وتكون الحركة عنده عبارة عن كون الجوهر في حيّز لم يكن قبله فيه مع وجوده ، وأعني به الفصل القريب. فهو مسمى حركة من حيث أنه شغل بحيز حصل به مع فراغ الآخر. وأما السكون فهو كون في مكان كان قبله فيه. ومن أراد أن يغيّر هذه العبارات فلا حجر عليه بعد أن يقرّر في عقله الأقسام الخمسة الأول، فإنه بعد ذلك سُنة اللغوي الناظر في الألفاظ لا المتكلم الباحث عن المعاني. ولنختم الامتحانات بذكر حد واحد من حدود الفقهاء والأصوليين. الامتحان الثامن: اختلفوا في حد الواجب فقيل الواجب ما تعلّق به الإيجاب، وقيل ما لا بد من فعله، وقيل ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وقيل ما يجب بتركه العقاب، وقيل ما لا يجوز الإقدام على تركه، وقيل ما يصير المكتف بتركه عاصياً، وقيل ما يلام تاركه شرعاً. ولو تتبّعت هذه الحدود طال الأمر ففيما قدّمته ما يعرفك وجه الخلل في المختل منها، لكن أهديك إلى الحق الواضح بتمهيد سبيل السلوك، وهو أن تستنهج ما نهجته لك فتعلم أن الألفاظ في هذا الفن خمسة الواجب والمحظور والمندوب والمكروه والمباح. فدع الألفاظ جانباً وجز بالنظر إلى المعنى أولاً، وأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك، إذ يطلقه المتكلم في مقابلة الممتنع، ويقول وجود الله واجب، واللغوي على السقوط يقول وجبت جنوبها ويقول وجبت الشمس، فله بكل اعتبار حد آخر. والمطلب ألان مراد الفقهاء، وهذه الألفاظ لا نشك أنها لا تطلق على الجواهر بل على الأعراض، ومن الأعراض على الأفعال فقط، ومن الأفعال على أفعال المكلفين لا أفعال البهائم. فإذاً نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدوراً أو حادثاً أو معلوماً أو مكتسباً أو مخترعاً، وله بحسب كل نسبة انقسامات، إذ عوارض الأفعال ولوازمها كثيرة فلا ننظر فيها، ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطاب الشرع يعلم أن الأفعال تنقسم إلى ما لا يتعلق بها خطاب الشرع كأفعال البهائم والمجانين والى ما يتعلق به، والذي يتعلق به ينقسم إلى ما تعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الإِقدام عليه والإحجام عنه، ويسمّى مباحاً، وإلى ما رجّح فعله على تركه، وإلى ما رجّح تركه على فعله. والذي رجح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويُسمى مندوباً و إلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه في الدار الآخرة ويسمّى واجباً. وربما اصطلح فريق على تخصيص الواجب بما علم ترجيحه على هذا الوجه قطعاً كالصلوات الخمس المكتوبة دون ما هو مخير فيه، وخصصوا ذاك باسم الفرض ولا حرج في هذا الاصطلاح، فإننا لا ننكر انقسام المرجّح بالعقاب إلى المعلوم والمظنون والاصطلاح مباح فلا مشاحة فيه. وأما المرجح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسقى مكروهاً، وقد تكرّر ما أشعر عليه بعقاب في الدنيا، كما قال عليه السلام إما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإِمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار. وقوله من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومنّ إلا نفسه.

وإلى ما أشعر بعقاب في الآخرة على فعله وهو المسمّى محذوراً أو حراماً أو معصية، فإن قلت ما معنى قولك أشعر، فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة. فالإشعار يعم جميع المدارك، فان قلت ما معنى قولك عليه عقاب فمعناه أن إجرائه سبب للعقاب في الآخرة، فان قلت ما المراد بكونه سببآ فالمراد ما يفهم من.قولنا اسل سبب الشبع وحز الرقبة سبب الموت والضرب سبب الألم، فان قلت فلو كان سبباً لكان لا يرجى العفو بل كان يجب أن يعاقب لا محالة. فأقول ليس كذلك إذ لا يفهم من قولنا الضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء أن ذلك واجب في كل شخص معيّن مشار إليه، بل يجوز أن يفرض في المحل أمور تدفع المسبب، ولا يدل ذلك على بطلان السببية، فربّ دواء لا ينفع وربّ ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بأمر هام، كمن يجرح في حال قتال وهو لا يحس في الحال به، وكما أن العلة قد تستحكم فتدفع أثر الدواء فكذلك قد يكون في سريرة الشخص وباطنه أخلاق رضية وخصال محمودة عند الله مرضية يوجب ذلك العفو عن جريمته ولا يوجب خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب.