ترجمة الأبواب وهي خمسة وعشرون مقالة

المقالة الأولى

في تنظيمات ملكية

ويستحب للملك سهر أول الليل إلى نصفه لقضاء المهمات والقصص المستورات. ونوم النهار عون على سهر الليل يذهب تعب السهر. والحمام من غير إطالة محبوب والتعهد بالأشربة الموافقة للأمزجة. وليحترز من تزوير العلائم ويمتحن ويستدرج فالخطوط تشتبه فأول داهية عثمان ابن عفان رضى الله عنه كانت من توقيع محمد بن أبي بكر رضى الله عنهما وهي مذكورة في سير الناس يتداول بها القصاص ولا يفضل السراري و النساء فقد يحصل من مراجيح الغيرة ما لا طاقة به فكم محمول على الغيرة ثمرتها أعظم من ثمرة الحسد ويجب على الملك أن يكون وحيداً لا أحد له من حيث السياسة ولا يركن إلى الأمن من خوف الذم فبرهان الشعر ظاهر من قوله:  

فلم تزل قلة الإنصاف قاطعة

 

بين الأنام ولو كانوا ذوي رحم

ويجب عليه التعهد لأصحاب أبيه ولو كان فقيراً ومراعاة أصحابه الذين خانوا معه قبل سلاسل التمليك.

فمن لطافة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كانت تتردد إليه امرأة يهودية فنهض لها قائماً فقالت له في ذلك عائشة رضي الله عنها أتقوم لامرأة يهودية قائماً قال هذه كانت تتردد إلينا في زمن خديجة رضى الله عنها وحسن العهد من الإيمان وبزيادة الشعر قادح. 

لا تلق في بئر شربت زلالها

 

قذرا فمنه يقال إنك غـادر

فصل

باب في ترتيب الخلافة والمملكة

اختلف العلماء في ترتيب الخلافة وتحصيلها لمن أمرها إليه. فمنهم من زعم أنها بالنص. ودليلهم قوله تعالى (قُل للمُخلِفين مَن الأعْراب سَتَدَعُون إلى قَوم أولِي بأسٍ شَديد) إلى قوله (أليما) وقد دعاهم أبو بكر رضى الله عنه إلى الطاعة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوه، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: (و إذ أسَر النَبي إلى بَعضْ أزواجِهِ حَديثاً). قال في الحديث: "إن أباك هو الخليفة من بعدي" وقالت امرأة إذا فقدناك فإلى من نرجع فأشار إلى أبي بكر رضى الله عنه ولأنه أم بالمسلمين على بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والإمامة عماد الدين: هذا جملة ما يتعلق به القائلون بالنصوص ثم تأولوا لو كان على أول الخلفاء لا نسحب عليه ذيل الفتى ولم يأتوا بفتوح ولا مناقب ولا بقدح في كونه رابعاً كما لا يقدح في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان آخراً. والذين عدلوا عن هذه الطريق زعموا أن هذا تعلق فاسد جاء على زعمكم وأهويتكم فقد وقع الميزان فيِ الخلافة والأحكام مثل داود وسليمان وزكريا ويحيى: قالوا لأزواجه لمن الخلافة فبهذا تعلقوا وهذا باطل. ولو كأن ميراثاً لكان العباس لكن أسفرت الحجة وجهها واجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم عيد يزحم باتفاق الجميع وهو يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فقال عمر بخ بخ يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي ومولى كل مولى فهذا تسليم ورضى وتحكيم ثم بعد هذا غلب الهوى تحب الرياسة وحمل عمود الخلافة وعقود النبوة وخفقان الهوى في قعقعة الرايات واشتباك ازدحام الخيول وفتح الأمصار وسقاهم كأس الهوى فعادوا إلى الخلاف الأول: فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلا. ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل وفاته ائتوا بدواة وبيضاء لأزيل لكم إشكال الأمر واذكر لكم من المستحق لها بعدي.

قال عمر رضي الله عنه دعوا الرجل فإنه ليهجر وقيل يهدر فإذا بطل تعلقكم بتأويل النصوص فعدتم إلى الإجماع: وهذا منصوص أيضا فإن العباس وأولاده وعلياً وزوجته وأولاده لم يحضروا حلقة البيعة وخالفكم أصحاب السقيفة في متابعة الخزرجى ودخل محمد بن أبي بكر على أبيه في مرض موته فقال يا بني ائت بعمك لأوصى له بالخلافة فقال يا أبت أكتب على حق أو باطل فقال على حق فقال توصى بها لأولادك إن كان حقاً. أولا فقد مكنتها بك لسواك ثم خرج إلى علي. فجرى قوله على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموتي لست خيركم أفقال هزلا أو جداً أو امتحاناً فإن كان هزلا فالخلفاء منزهون عن الهزل وإن قاله جداً فهذا نقض للخلافة وإن قاله امتحاناً. (وَ نَزَعنا ما في صَدورِهم مِن غل).

فإذا ثبت هذا فقد صارت إجماعاً منهم وشورى بينهم هذا الكلام في الصدر الأول أما في زمن على رضى الله عنه ومن نازعه فقد قطع المشرع صلى الله عليه وسلم طول كم الخلافة بقوله عليه الصلاة والسلام إذا بويع للخليفتين فاقتلوا الأخرى منهما والعجب كل العجب من حق واحد كيف ينقسم ضربين والخلافة ليست يحسم ينقسم ولا بعرض يتفرق ولا بجوهر يحد فكيف يوهب ويباع وفي حديث أبي حازم أول حكومة تجري في المعاد بين علي ومعاوية فيحكم الله لعلى بالحق والباقون تحت المشيئة وقول المشرع صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: "تقتلك الفئة الباغية" فلا ينبغي للإمام أن يكون باغياً. والإمامة لا تليق لشخصين كما لا تليق الربوبية لاثنين. إنما الذين بعدهم طائفة يزعم أن يزيد لم يكن راضياً بقتل الحسين. فسأضرب لك مثلاً في ملكين اقتتلا فملك أحدهما أفتراه يقتله العسكر على غير اختيار صاحبها إلا غلطا ومثل الحسين لا يحتمل حاله الغليظة لما جرى من القتال والعطش وحمل الرأس إجماعاً من جماهير المشعرين وقاتل الأمة المغنية حيث مدحت علياً في غنائها أفتراه قتلها بغضاً لعلي أم لها. وقول يزيد بن معاوية لعلي بن الحسين زين العابدين أنت ابن الذي قتله الله قال أنا ابن الذي قتله الناس ثم تلا قوله تعالى: (وَ من يَقتُل مُؤمناً مُتعَمداً) فتراك يا يزيد تجعل لربك جزاء جهنم وتخلد فيها وتغضبه عليه وتلعنه وتعد له عذاباً أليماً فإن قلت إن هذه البراهين معطلة لا يحكم بصحتها حاكم الشرع فنقول في حججكم مثل ما تقولون ثم إجماع الجماهير بشتم على ألف شهر على المنابر أمركم الكتاب أم السنة أم الرسول ثم الذين من بعدهم ممن غيرهم أخذوها نصا أم سنة أم إجماعا لكن قد أخذوها بسيف أبي مسلم الخراساني فانظروا إلى قطع أعمالكم بسيف المشرع حيث قال لكم الخلافة بعدى ثلاثون ثم يتولى ملك جبروت بقوله للعباس رضى الله عنه يا أبا الأربعين ملكا ولم يقل خليفة والملوك كثير واحد في زمانه فيا أيها الطالب للملك حصل الإله وحمل الإله والذل واصبر وأحذر واقرب وطول واحتمل وصالح حتى تقدر والله تعالى أعلم

المقالة الثانية

في ترتيب الملك في الملك

إذا أردت ترتيب ملك في الملك فاشتهر رجال الدول بعد تحصيلك المال ثم تابع وشايع وأدلك بعضاً على بعض للجذب فهو كما قال المتقدمون. 

إذا هبت رباحك فاغتنمها

 

فعقبى كل خافقة سكون

واجعل قواعد المملكة على الكبار على هيئة ترتيب الجسور والقناطر لتجوز عليها أن تناول أغراضك فإن وجدت مشاركا فداوه بأنواع المعالجة وآخر الدواء الكي ثم انظر إلى دستور عدد الجند وعدد القرباء ومعرفة الداخل والخارج والزيادة واستعرض الجيش في سنتك ثلاث مرات واجعل طلائعك أربعمائة نفر من أمنائك، وإذا أردت الغزو فأشع الخبر فإذا وجدت أو طفقت إلى مضاق ترتب جيشك صفوفا وراء صفوف وحمل مع أصحابك ليبذلوا السيف في الصف المنهزم من أصحابك وكن مشرفا عليهم من نشز ولو نصبت أعلامك زوراً من غير حمل وادخر لنفسك أجود الخيل والرجال.

وأعلم أن من خامرك في الأول هو يخامرك في الآخر ويؤفك معك. وبددها أن شئت في العسكر وابرك كميناً من أجود رجالك فإذا وجدت ألفئ في القتال فاستجر الأعداء إلى قريب الكمين وليكن بينكم علامة فإذا عزمت إلى قتال قومك فعجل ولا تطل في مكث مكان خوف الفشل والمفاسخة كما عمل ذو القرنين في عسكر دارا فأفشلهم وبذلهم وفسخهم وبرطلهم فتقدم وأعلم وكن بذالا لا متأخراً وأنظر في دساتير الرحيل فكثر إن شئت وقلل ولكن لك عين على معرفة القائلين والغم على من قاتل واعزل عن الجبان على الهوينا ثم احتسب على خزائنك وخزانك بمعرفة ما فيها وما ينقص، ويزداد وإن لم يكن لك بد من التزويج فاستند إلى أموال ورجال ودين وجمال وإن كان الشرع قد أمر بذات الدين. وأعلم أن الملك بغير جواسيس وأخذ أخباره كالجسد الذي لا روح فيه وحصل آلات الحصون مما يحتاج إليه في الضيق فإنك لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. ولا تتم لهيئة الرعية واختلاف الجند. وامنع الفقهاء عن الكلام في الفتن وأمر ثوابك أن ينظروا كما عند الخلق من الأطعمة في المحل ولا تمنع الناس من تحصيل الأطعمة فإنه لك والناس عند الحاجة وأنظر فيمن امتنع عن الزراعة إن كان لفقر فقوه لم إن كان لظلم فانصره كما قال ملك الهند أنا أفرح لكثرة دجاج البلد فأنه فرع الإمارة وأغتم لكثرة الخاطبين خوفاً من ظلم المقاطع وقد كان ذو القرنين يحوى دساتيره على أعداد الغرباء وتسلم عليه المرأة بقدر من اللبن فإذا رآه سمنا ضحك لجودة الربيع وكان يقول أنا أمسك الفلاح إذا أخذ مثله وأميل المقطع فأخذ معناه إنما المقطع بالخير فان لم يجده انتقل والملك بفلاحه إذ هو خزانة وبه يسطو ويجيد وينعم ويطلق وينظر في الخزائن والأمراء. وإذا قدر على تبديل الطعام. بغيره فليفعل فقد كان المأمون يستعرض السلاح والآلات مثل الخيم والمجانيق حتى قال لأمير دوابه رتب مخاليك كما ترتب معاليك.

المقالة الثالثة

في ترتيب الولاة

لا ترتب في الحصون إلا ولياً شفيقاً رفيقاً بالخلق ولا تكلفه ثقلا فتستنقضه من بلدك وأشبعه وجند الحصن وأنظر في مراكز خيره ومائه وحرسه وسوره وتذلل حراسك في البروج وطف بنفسك أيها الولي على أعلى سورك ولا تخالط جندك بالليل خوف المخامرة واسأل عن أعدائك ولا تحقر القليل فإن الذبابة تقتل. جملا وكم من عقرب أمات الأفعى لسعها كما قيل. 

و لا تحقرن أبداً صغيرا فربما

 

تموت الأفاعي من سموم العقارب

 وأحذر من مكر ذي الأجن فقد قيل:  

و إن الجرح ينغص بعد حين

 

إذا كان البناء على فـسـاد

ولا يكون الوالي شريب خمر وهكذا الأمير فلو حضر في مجالسهم فليحاكم بالجلاب ففي الخمر بلايا وآفات وزلازل عقل وحدوث بلايا وإظهار حقود إذ صاحب الملك مرموق بالحسد: قال النجاشي لجعفر بن أبي طالب رضى الله عنه كيف سيرة نبيكم في الأكل مع أصحابه فقال يأكل على الأرض فقال ذلك تواضع لجذب قلوب أصحابه فقال النجاشي لو كان ملكاً لأكل وحده على خوانه في مجمع معروف له وزبادي مخصوصة ثم الورق إن كان مقطعا فمعروف وإن كان ذهبا فشهر بشهر ولا بأس بالسلام عليه وهو موصول بهم والمعاهدة لرسل الملك وإقامة ناموسة عند الغرباء والمنشدين والقصاد، وكان سليمان يقسم أسبوعه بعضه للجند وبعضه للقضايا وبعضه للعبادة وتذكار الحكم والنساء. 

كما يقول يا أرباب المملكة عليكم بأهل العلم والصلاح فإنهم يرشدونكم إذا ضللتم ويعرفونكم إذا جهلتم ويستعطفونكم إذا غضبتم وينفقونكم إذا حرمتم وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:  

فلا تصحب أخا الجهل

 

وإياك وإياه

فكم من جاهـل أردى

 

حليمـا حـين آخـاه

يقاس المرء بالمرء إذا

 

ما المـرء مـاشـاه

و للشيء على الشيء

 

مقـاييس وأشـبـاه

و للقلب على القلـب

 

دليل حـين يلـقـاه

وليقل الملك المنادمة والمسامرة والقليل من الهزليات والمضحكات وليكن وزيره قابلا قائلا بالعلم والصلاح منزلا للناس في طبقاتهم فلا تنظروا في حسن البزة مع عموم الجهل فقد نقل إلينا أن بهلولا دخل إلى مجلس هارون فجلس في أدنى المجلس فقال له هارون أرفع رأسك إلى صدر المجلس فقال البهلول مجلسي يفنى فأين صدره ثم أنشد:

كن رجلا وأرض بصف النعال

 

لا يطلب الصدر بغير الكمـال

فإن تـصــدرت بـــلا آلة

 

جعلت ذاك الصدر صف النعال

ومن جملة قبول الملك أن يختار لنفسه طعاماً يخصه وقد كان المأمون يحب المأمونية ومهلب العراق يحب المهلبية وكان بنو أمية يكثرون من أكل الهرايس والزلابيا ولم يغسلوا اللحم بل يكسفون الجلد فيأخذون من تحت الجلد ما يختارون فيتداوون الأيدي بزفر اللحم. وقد روى أبو طالب المكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال شكوت إلى أخي جبريل حين ضعف الوقاع فأمرني بأكل الهرايس فوجدت لظهري بها خيراناً.

وقد كان ذو القرنين يحب الزر باح لتسكينها للخلط الصفراوي ووجد بخاراً حاراً تولد عن صفراء فانزعج له جبينه فمزج بالبطيخ ماء وعسلاً وخلاً فشربه فقال سكن جبيني فسمي بذلك الاسم وكان يخلط خشن الدقيق وناعمه فيتخذ له منه خبزاً فقال الحكيم من جوشك أراد الخبز الجريش للمعدة الضعيفة أو الحلقة البلغمية أجود وأعود والخبز السميد يورث الخفق وهذا مشاهد عياناً من عمل القفاع.

المقالة الرابعة

في ترتيب حاشية الدولة

يستحب للفراش أن يكون رشيقاً خفيف النفس ظاهر القوة طيب الريح عارفاً بترتيب الخبز والخضروات كامل العدة وهكذا تقول في الطباخ والشرابي ويكون دار شربه كامل المشارب من الماء البارد والأشربة والقفاع السك السكنجيني وشربه نافع بإذن الله تعالى على الريق وهو محمص للطعام مفتح للجوف. وأعلم أن آداب أهل التصوف في المآكل والمشارب هي آداب الملوك. وترك إبراهيم بن أدهم كبر الملك ومسك آداب الطعام والائتدام بالحوامض أولى والركابية والسعاة خفاف السرعة شباب. وهكذا جميع المقاتلين والشيوخ المعنية بالرأي ويحط العسكر في نشز من الصدر أولى للتحصين. واغتنام الأهوية. والخمول في الشتاء أجمل والتهيئة لما يختاره في الصيف ورحل السلطان لقلاقل السفر عند نزول الشمس في السرطان وسكونه عند نزولها آخر القوس إذ فصول السنة أربعة فمن نصف حزيران إلى نصف أيلول صيف ثم إلى نصف كانون الأول خريف ثم إلى نصف آذار شتاء ثم إلى نصف كانون الأول خريف ثم إلى نصف آذار شتاء ثم إلى نصف حزيران ربيع.

وهكذا أقسام منازل الشمس والخبر النبوي يؤيده إذا انتصفت الشهور تغيرت الدهور فإن ركب بعد صلاة العصر وإلا قعد لكشف المظالم أو لكتب القصص. وهو يسمعهم في عزلة: كان السابقون من الملوك إذا قعدوا للسلام يقعدون وراء شباك ويدخل من شاء إليهم خوف الاغتيال في المزاحمة ويفتش على غوامض ما يجري حتى يكون له صاحب خبر في البلد يرفع الغث والسمين ويستحب أن يطالع كتب الطب والتواريخ وشاهنامة العجم وقصص التابعين للعجم والديلم مثل ما جرى للشهرباز درستم زاد وكان النبي يومئذ سليمان عليه السلام فأوقع الوقائع بينهم حتى هلك بعضهم ببعض وليكن مع الملك جنود لحذر ما يجرى، وحفظه في الحمام فكثير هلكوا فيه. وحمام داره أجمل. وعليكم بكتم مرضه وموته حتى يستقر الملك فيمن شاء الله من عباده بعد البيعة والمتابعة وتقرير القواعد.

وكن أيها الملك مسارعاً في الثناء والثواب فإنه الذكر المخلد واكثر ما تنظر في كتب ابن أبي الدنيا وتواريخ الطبري ومذهب الشافعي أو ما تختار من المذاهب ولا تظهر البدعة ولو كانت فيك كالأسرة وسوبويه هلكوا بمتابعة الأهواء وللنعم أجنحة الأجر فقوها بالشكر. واجعل بينك وبين الله طريقاً إلى الصلاح فقد حكى أن ملكا قمع ملك الموت عنانه فقبضه على ما يريد. وأن ملكاً صالحاً أتاه ملك الموت فأسر إليه في أذنه فقال مرحباً بك فأنت أطيب القادمين وخير النازلين وأحب المنتظرين فأفعل ما أمرت به. فقال ملك الموت لا أقبضك إلا على ما تختار فتوضأ وسجد فقبضه في سجوده والله تعالى أعلم.

فصل

من لطائف الحكايات الملكية

أن محمود بن بويه لما ملك أرض العراق أعطى ألف دينار لفراش له وقال اذهب إلى مدينة أصفهان إلى. شارع السلطان، ففي صدر الدرب بيت فيه شيخ وعجوز ادخل إليهما فسلم عليهما وقل لهما ابنكما يقول لكما، كيف أنتما من وحشة فراقه فلما وصل إليهما فأخبرهما قال. خذ ما جئت به لك قال الغلام أنتما فقيران وبكما حاجة إليه فقال الشيخ غني غني النفس باق ثم تنفس وتمثل بهذه الأبيات. 

على ثياب لو يقاس جـمـيعـهـا

 

بفلس لكان الفلس منهن أكـثـرا

وفيهن نفس لو تقاس ببعضـهـا

 

لا نفوس الورى كانت أجل وأكبرا

وماضر نصل السيف أخلاق عهده

 

إذا كان عضباً حيث وجهته فـرى

ويستحب أن يكون مغنى الملك مغنياً ندي الصوت شجياً لا خارجاً ولحاناً، عالماً بالأصوات ثقيلها وخفيفها وهزجها ورملها وصوفيها، وأصواتها الثقال مثل قول أبي الشيص: 

أجد الملامة في هواك لذيذة

 

حباً بذكرك فليلنى الـلـوم

ومثل قول أبي نواس في الوزن:  

شرك النفوس وعصمة ما مثلها للمطئن وعقلة المستوفز

إن طال لم يهلك وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز وفي المستهل والعمل شعر عاشق بني عامر مجنون ليلى:  

فإن تك ناراً فهي في جنب ملتقى

 

من الريح يذروها ويصفقها صفقا

لأم عدى أوقـدتـهـا طـمـاعة

 

لأوبة سفر أن يكون لها وفـقـا

وحط بها رحلى قلـيلا فـإنـهـا

 

لأول أطلال عرفت به العشقـا

وليكن المغنى عالما بطريق الأغاني مطلعاً على كتب الموسيقى الموضوع  للرئيس على بن سينا وقد شرحنا في كتاب السبيل لأبناء السبيل وسأذكر، لك نكتة منه فأقول كما قيل إن. لدوران الفلك أصواتاً لو سمعها عاقل أو لبيب لما ثبت. ومنها أخذ موسى ترجيع النغمات من المربع والمسدس والمثمن، والنصارى عملوا ببعضه. فالألحان للروم والتجنيس للعراق. والزقالق للعجم والطبول للزنج أو الحبشة. والبوق لليهود وهو سبعون دستاً مثل. دستان الرحيل يقول في وزنه: اركب فأنت المظفر. اركب فالله أكبر. ودستان الحرب والنزول وغيره. وقال سقراط اشتباك نغمات الأصوات من هياكل العبادات تحل وتعقد في الأفلاك الدائرة: مثل همة إصابة العين والسحر والاستسقاء وسنذكرها في مواضعها، وكن مع الملك كما قال بعض الحكماء. 

إذا خدمت الملـك فـالـبـس

 

ممن التوفي اشد مـلـبـس

وادخل إذا ما دخلت أعـمـى

 

واخرج إذا ما خرجت أخرس

المقالة الخامسة

في آداب ملكية

يعقد الوزير في دسته وحاجبه على رأسه ولا يلاصقه أحد في المنعة وكتابة لديه والمجلس ملآن هيبة ووقارا والحوائج إلى الحاجب والرفع إلى الكتاب والاطلاع إلى الوزير ورفع الأمر إلى الملك فأول ما يبدأ بمصالح الحاشية بعد الملك والوزير حتى إلى التقليد وقيل لا يحضر الملك الجمعة إلا في مكان معزول في مقصورة له خاص، وأصحابه في دائرة المقصورة من خارج والباب مغلق وعنده من يكون إليه ويخرج هو وأصحابه في آخر الناس في باب له. وليكن له يومان ني الأسبوع للختم والزيارة ثم يقرأ له بعد الصبح فلا يعجلون حتى يفرغ الآخر ثم يقرأ التوبة فإذا فرغوا وعظ وأنشد المنشد ثم يقرءون: قل هو الله أحد والمعوذتين والفاتحة. وألم إلى المفلحون.

ثم يختم الإمام بتصديقه حقيقة ويدعو للملك والمسلمين وليكن للملك في الأسبوع خلوة عبادة وتذكار والنظر في الحساب والأموال والنظر في دساتير البلاد. والله أعلم.

المقالة السادسة

في ترتيب الخباز والطباخ والقصاب

لا يكن القصاب عدداً في الدين فإنه لا يتحرى من النجاسة وهكذا الخباز والطباخ ويتفقد المعاجن وآلات الطبخ والدقيق واللحم وليكن الطباخ عالماً بصناعته وعنده كتب الطبائخ لكشاجم والأشربة والأدهان والحلاوات والريح الطيب والألوان الغريبة وحسن المآكل وأطيبها وأنفعها وأقواها للعافية وهو لحم مرضوض مقلو مرشوش بالمياه الحامضة يحشى به العجين فيقلى. وأطيب الحلاوات ما كثر خبزه. وانفع الهرايس لمن به حرارة المزاج وهو اللون النوني من البزرة يقلى وقد هجرت الألوان الظريفة باستيلاء الترك واتخاذهم السنبرشح والعرائس والسالة والطظماج والسترك والبورك المعمول باللحم والحوائج الحادة المعمولة في العجين فإذا كنت ذا فنون في طلب الطبائخ فاتجه لكتبها وقد ذكرتا طرفاً منها في آخر كتاب السبيل.

وإذا أردت العقلية فعليك بكتاب المقاصد وكتاب النجاة للرئيس وإن شئت فيه الغاية القصوى فاطلع على الكتب الأصولية الدينية خاصة كتب شيخنا إمام الحرمين مثل المحيط والإرشاد ومن كتبنا النافعة في ذلك كتاب الاقتصاد في الاعتقاد. وكتاب قواعد العقائد من أول كتاب الإحياء والرسالة القدسية. وإذا أردت الطب فكثير. وأنفعها ما عمل به من الكتب واطلع على جميع العلوم الشرعية لتعلم الحق من الغي والهوى والله تعالى أعلم ثم نرجع إلى تحرير مقامات العمال:  لا تستخدم في العمالة إلا عارفاً بفنون الحساب والجبر والمقابلة والمساحة بحيث لو قيل له ما تقول في أرض ذات زوايا لا يقدر على حفظها بحائط ولا قصب: قال تذرع بالذراع والشبر ويمتحن في علم الحساب كما يمتحن الكتاب والرسالة والأجوبة وكتب الدساتير فإن ولعت برسالة ابن عباد والصابى فلا بأس بأخذ الزبد وليكن صاحب الإنشاء كثير الفضل والتوقف في الديوان في الزمان القصير وفي الزمان الطويل إلى النزول من الركوب ثم يحاسبهم على ما إليهمٍ ويستوعب من كل القرباء ويسأل عن المظالم ولا يكن ملوماً ولا ضجوراً ولا صخاباً ولا طياشاً ولا لقاباً وقالوا يجوز له لعب الشطرنج ولا يلعب بالزهر لأنه يخرق الحرمة بالقمار. فقد ذكر أن أزدشير لما أخرج النرد قيل له ما يستحق إلا قطع اليد قال سأقطعها بتركه كما قيل للحجاج بن يوسف وقد شكى إليه من أكل التراب ألق عليه من همتك وعزيمتك فلم يأكله بعدها أبدأً وأعلم أيها الملك أن علو الهمة مع الصبر حتى في الصوف واختلافه في الثمن كل ذلك بالهمة والخدمة ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه:  

بقدر الكد تكتسب المـعـالـي

 

و من طلب العلا سهر الليالي

تروم العـز ثـم تـنـام لـيلا

 

يخوض البحر من طلب اللآلي

لنقل الصخر من قلل الجـبـال

 

أحب إلى من منن الـرجـال

و قالوا للفتى في كسـب عـار

 

فقلت العار في ذل الـسـؤال

إذا عاش الفتى ستـين عـامـاً

 

فنصف العمر تمحقه الليالـي

و ربع العمر يمضى ليس يدري

 

أيقضى في يمين أو شـمـال

و ربع العمر أمراض وشـيب

 

و شغل بالتفـكـر والـعـيال

فحب المرء طول العمر قبـح

 

و قسمته على هذا الـمـثـال

المقالة السابعة

في صنيع الملك مع الجيش

أعلم أيها الملك إذا أردت معاندة الملك فاعتبر جيشك وخلصه من المواطأة والنفاق ثم زن مالك فإن قدرت على مشاركته فلا تبدده بالغي وقلل ذلك وافتح له أبواباً موجبة. وإن خفته ولا طاقة لك به فمل إلى مصالحته فالزمان يدور كالكواكب. وحبب من قدرت من أصحابه ولو برشوة. وفاسخهم وألق بينهم وكاتب بعضهم على بعض وإن خفت أحداً من دولتك فداهن وسلم وتواضع فربما تجد الأمل وإذا كشر الزمان فاصبر لعضه فلا بد أن يبتسم لك وإن عزمت على حصار مكان فأوقع الخلاف في الحصن: كتب سليمان إلى رستم أما بعد فإني لأخشى عليك من مخامرة الذين معك فربما يسلمونه لأعدائك ثم كتب إلى كبار أصحاب رستم خافوا على أنفسكم وهذا خطة إلى في اغتيالكم وقد زعم أنكم نافقتموه فإن سلم حصنه إلى شهرباز فلا تكون الدائرة إلا عليكم.

فلما قام القتال بينهما فروا جميعاً إلى شهرباز وكمن سليمان عليهما بعد الكسر وسهم بأصحابه فقتل رستم وقبض على شهرباز ومر السيف على الفئتين فأصابهم مثل نوبة بني إسرائيل مع بختنصر: أوقع الخلاف في الحصن، فتحمل النساء على فجأة المبارزة تسجن على ذلك أو أقطعه للذين لا خير لهم ولا تنهبهم فتنصف بنفسك من نفسك فتكون كالذي طابت له حلاوة العسل فعمد إلى خرا بكوارة النحل فتكون أشقى الثلاثة بروح المظلوم بالثواب والظالم بالانتهاب وتظفر أنت بمرارة الحساب ومتى يعم الخراب يا غراب. ثم تكتب إلى أهل الحصن ولو في نشابة من أراد خيره فلينزل إلينا في قدر ذلك الحصار فيكن في حزيران واحفظ البلد بالمقطعين من السياسة واللائذين بالدواب وليكن لك في كل قرية علامة وعاقب المخالف بأنواع ما تريد ما لم تجاوزا لنصفه ومد المشترى ثم انصب الأخواص وشرع الثياب وصواني فيها ذهب وفرق القتال في حنيات الحصن وامنع خروجهم ودخولهم خوف الاغتيال.

وقد كان صلى الله عليه وسلم في عام خيبر مكنهم من الخروج أطعمهم وخرج الأكثر منهم ثم منعهم من الدخول.

فإن اتفق له جهة أخرى ترك على الحصن مقطعين مع طائفة من خواصه فإن اتفق قتال نقب ورزق ومنجنيق فافعل ورهب وغزغز رمحك وتقعقع وليكن باطنك على أهل السواد سليما والله تعالى أعلم.

المقالة الثامنة

في استعدادات الملك للسفر

افتقد آلات سفرك قيل خروجك وناد في سفرك لعسكرك بالإعلام قبل الخروج بمدة واترك بعدك من يتفقد الناس وليكن عندك صناع فيما تحتاج إليه وليكن لسوق عسكرك أمناء تحفظه بالتغليظ في السياسة وليكن وزيرك عالماً بكتب أرباب السياسات مثل الممالك والمسالك وسياسات المعري التي أودعها الرئيس في آخر كتابه المسمى بالأدوية القلبية وكتاب قوانين الملك لابن مرة ويقتنى مثل كتب البيزرة لكشاجم، وكتب البيطرة لابن قتيبة والمنهل الروي فهذا يحتوي على أصناف البزاة وأدويتها ودائها وأصناف الخيول ستون صنفاً.

وكان الاسكندر ينظر الدابة فيعرف مرضها وهذا هو الطب الأصعب إذ لا يمكن فيه من المساءلة وكان يقف في شباك له أو خيمة مشرفة على الدواب وعلفها فقيل له أتباشر هذا الأمر بنفسك فقال نعم لأنها لنفسي وأمغص له فرس فسقاه ماء الأشنان مبرداً فهدأ.

ومن جملة الخواص تمشيتها على قبور أهل الذمة فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: تسمع من قبور أهل الذمة صعقات الانتقام وصراخهم من تحت فتفزع وتشفى وهذه الخواص كثيرة من الحيوان والنبات والجماد فقد ذكرنا أشياء منها في فصول هذا الكتاب.

وقد روى أبو هريرة رضى الله تعالى عنه قال لما فتح عمر بن الخطاب رضى الله عنه مدينة القدس وأمر فيها عبد الله بن مسعود نأتيته مهاجراً إليها فدخلت عليه فلم أر له حاجبا ولا بواباً فسألته عن ذلك فقال سيظهرها عثمان ثم تسمعون بمنزلها ثم رأيته ينقى شعير فرسه بيده فقلت له في ذلك فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من افتقد قضيم دابته بيده ونقاه بيده كان له بكل حبة عشر حسنات" أفتراني أعطى هذا الثواب لغيري افتقد نفسك وما ينجيك هو خير لك من كبرك الذي يطغيك.

ومثل هذا نقل عن أبي حازم قال دخلت على عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فأخذ المصباح ينطفئ فقلت أما أنبه غلامك فقال لا فقلت أقوم أنا فقال لا، ثم قام عمر وأصلحه ثم قعد وهو يقول قمت وأنا عمر وقعدت وأنا عمر قبحاً لوجوه المتكبرين ثم أنشد. 

إذا عظم الإنسان زاد تواضـعـا

 

و إن لؤم الإنسان زاد ترفـعـا

كذا الغصن أن تقو الثمار تنالـه

 

و أن يعر عن حمل الثمار تمنعا

المقالة التاسعة

في ذكر صفات منام الملك

في ذكر صفات منامك: أيها الملك إذا كنت في سفر فبرجا أو حرساً حاداً أو مشاعل وكن متيقظاً لنفسك وأشبع بالنهار وأسهر بالليل بالمنادمة والقصص والسير وتدبير الأشغال وإن كان في الحصن فشد حراسة الباب و السور وليكن البواب من جملة البراني ونم وحدك في مقصورة لطيفة. واهلك خارجها والمفتاح عندك فإذا استدعت نفسك بعض جواريك فلا تستدع الباردة الثقيلة فمعاشرة الوحش الخفيف خير من حسن الثقيل: قيل لجعفر الصادق رحمه الله تعالى لم تختار السود على البيض فقال مصيف ومشتى وأخونة شتى: قال عبد الملك بن مروان أطيب الجماع أفحشه، وقد شكا بعض الملوك من قلة الإنعاظ وكان يخاف الأدوية الحارة فاتخذوا له كتاب الباه بطريق الحكايات فعلت فلانة وفعل بفلانة كما قال ابن الحجاج: 

ما كرهن النساء للشيب إلا

 

أنه مؤذن بنوم الـذكـور

وأنظر البيت الذي في القصيدة اليتيمة:  

ولهاهن راب مجسـتـه

 

ضيق المسالك حره وقـد

وإذا طعنت طعنت في لبد

 

و إذا جذبت يكاد ينـشـد

واختلف جاريتان عند المأمون سوداء وبيضاء فقالت البيضاء الثلج يصلح للدواء. وبياض الشمس عجب. وخير الثياب البيض والبيض أحسن من الفحم.

فقالت السوداء: 

عنبر أشهب وعود قماري

 

يتعاطى عند العناق لذيذا

وفحم الشتاء خير من حمأة الصيف الباردة. وعيب الشيب شديد. والبياض في العين عمى. وليلة القدر خير من ألف شهر. 

وسواد الشباب يطلبه

 

الغانيات حقاً عجولا

وسواد ثياب بني العباس أهيب. وعندنا مجامر الشتاء بساتين المصيف ثم أنشدت. 

أحب لحبها السودان حتى

 

أحب لأجلها سود الكلاب

ولكثير عزة. وحكى لي من أثق به أن المنصور أغرى بقتل العلويين حتى نفر أكثرهم إلى اليمن فلما وصلت النوبة إلى المأمون وكان يتولى محبة أهل البيت فسأل عمن بقى من الأشراف الفاطميين فأخبروه عن قوم منهم بأرض اليمن فنفذ إليهمٍ ليستعطفهم فأجمعوا رأيهم على أن كل واحد منهم يبعث شخصا يشبه به من وكيله أو غلامه فان كان خيراً فما يضره وإن كانت الأخرى فلهم الأسوة بالسادات فلما وصلوا إلى المأمون أكرمهم وأعطاهم وتزوجوا وتوطنوا فإذا وجدت شريفا مفتخراً غير ذاك ولأزكى فهو منهم إذ هذا البيت المعظم لا انبساط للفحشاء على منازلهم وهو معنى قوله نحن أهل البيت لا نفجر ولا يفجر بنا. والله أعلم.

المقالة العاشرة

في حيل اليمين

أعقد على نفسك عقد الدور لابن سريج وقد كنت لا أقول به ثم رأيت الخمر المغلي بالثوم له منفعة لأرباب القولنج البارد وجماعة من أصحابنا يقولون به وكل مسألة خلاف إذا حكم الحاكم بصحتها زال خلافها ويشترط في نسخة اليمين معاني تؤول منهم إلى الفسخ بالتأويل واليمين على نية المستحلف واحترز في عقد الوكيل وأعمٍ الألفاظ: كلما وقع عليك طلاقي وطلاق وكيلي فأنت طالق ثلاثاً ولا تمنع أيها الملك قول الحكماء والفتوى بها إذا اخترتها فليكن باطناً وخطوط الشهود والحكام عندك وإن ادعى نفيه فسلم إليه ولا تسلم إلى العامي عنانه فهو جهول باليمين والعنان وأحذر اليمين بكل ما يتعلق بالله وبكلماته وصفاته واختلف العلماء فيما له حرمة غير هذا وأما اليمين الغموس فإنها تذر الديار بلاقع وذلك أن يحلف على ما يعلم كذبه.

واقعد أيها الملك قعود المتأدبين وكن قليل الكلام إذ لا يصلح الكلام الكثير للملك ولا للزاهد وقد يحصل إظهار الفوائد للعلماء بالكلام ولا تخطئ المفتين ولكن قابل بعضهم ببعض وقد سمعت ما قال عليه الصلاة والسلام: "استفت نفسك وأن أفتوك" فالحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فذر ما يريبك إلى مالا يريبك. وقال عليه الصلاة والسلام: "من جعل الحلال له قوتاً أجيبت دعوته وعلمت مروءته وحسنت سريرته وعلت كلمته وحصلت أمنيته وطابت هيئته وطهرت ذريته ذرفت دمعته وظهرت حكمته وقل غضبه ورق قلبه وخف ذنبه يا على رد درهم مظلمة أفضل عند الله من أربعة آلاف حجة مقبولة يا علي من غضب غضب الله عليه ومن ظلم ظلم ومن أكثر من الصدقة نصر في ذريته".

في الحرام هو أن معاد النفوس واحد ومرجعها إليه بعد القبض فإذا ظلمٍ بعضها سرى الظلم في كلها وهو معنى قوله تعالى: (مَن قَتلَ نَفساً بِغير نفس أو فَساد في الأرض فكأنَما قَتَلَ الناسَ جَميعاً ومن أحياها فَكأنَما أحيا الناسَ جَميعاً) فإذا أوصلت إلى النفوس براً وصدقة وخيراً وعدلاً وإشفاقاً سرى ذلك جميع النفوس بعد القبض فصار خيراً فإذا وصل بهم كان ذلك خيراً للجميع ألا ترى قول الرجل: لامرأته بعضك طالق كيف يسرى الطلاق في الكل إذ الطلاق. لا يتبعض وليكن لك أيها الملك أمام يؤم بك. وليكن عالماً ديناً: يعرف بذلك وليكن شيخاً أو أعمى وعلم مماليك خطاً ورموزاً فإن اتفق أن يكون المعلم خادماً أو شيخاً فأولى وللنساء امرأة دينة.

وأعلم أيها الملك أن أهل الزمان فاسدون لتشاغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء وهو أعظم المقت والسخط ومنه حصلت الإباحة لبعض الطوائف حتى بسطوا فيه وأقاموا لهم فيه شبها نقلية وعقلية أما النقلية فقوله تعالى: (هو الذي خَلَق لَكُم ما في الأرضِ جَمِيعاً).

قالوا هكذا كان الناس على المنهج القديم ليس تحليل ولا تحريم ولكن الأنبياء حللوا أشياء وحرموا أشياء وقال تعالى (و وَيل للمُشرِكينَ الذينَ لا يؤتونَ الزكاةَ) وقد تعلقوا بإباحة أبي بكر رضى الله عنه أموال بني حنيفة وزعموا أن الخطاب من الرسل إما أن يكون لموجود أو لمعدوم فالمعدوم لا يخاطب والموجود المخاطب في زمانهم فقد درج معهم فمن هذه الشبهة تمسك أرباب الإباحة مثل النصيرية وغيرهم وسنذكر تعلقاتهم في أماكنها وقد عرفتك أيها الطالب طريقك النفيسة مثل لبس النظيف والطيب وقلة الكلام بطريق الاختصار. وأدب أصحابك أن لا يشكو منهم قريب ولا بعيد مثل قول الحكماء ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك ولدك وزوجتك والمملوك. وإياك وقرب الملوك فان قربوك فتنوك وإن بعدوك أحزنوك وهذه وصايا الملوك فان هممت بتحصيله فربما أعانتك السعادة وإن أراد الله أمراً هيأ أسبابه وحرك القضاء بتحريكه وقد كان الله قادرا على تحصيل الرطب لمريم من غير هز كما قال في النظيم البديع:  

ألم تـر أن الـلـه قـال لـمـريم

 

و هزي إليك الجذع يساقط الرطب

و لو شاء أدنى الجذع من غير هزها

 

و لكنما الأشياء تجري لها سـبـب

فان وقع لك صناعة الحجرين الأحمر والأبيض فحصله ولكن ذاك عنك بعيد وبالهمة يفتح عليك بعض هذه الطريق أما سمعت في رموز أمير المؤمنين رضى الله عنه أن في الزنبق الرجراج مع الشب المصعد لمالا هنياً. فذو والهمم القصيرة يقصرونك عن نيل مقاصدك وإلا فمن طلب وجد. ومن جد وجد ولهذه مثل هو أن بعض المتصوفة سمعِ هذا الحديث فقال سأجرب نفسي في طلب المملكة وكان فيه آلة من علم وأدب وكان محلا قابلاً للملك فتقرب إلى الفراشين فخدم معهم ففشا أمره في السيرة الحميدة ثم مات مهنارهم فصار مكانه ثم عبث في الديوان حتى انتقل إلى مكان زمامهم فلما انتشر شكره وذاع خبره وذكره قبض الوزير ورتب مكانه فساس الرعية واظهر العدل واستراح الناس من ثقل ما كانوا فيه حتى مات الملك فتصور مكانه وتزوج ابنته فاجتهد في التدريج والتطويل وحصل. وقد شاهدت محمد بن صباح إذ تزهد تحت حصن الموت وكان أهل الحصون يشتهون أن يطلع إليهم فلم يفعل وهو يحصل المريدين ويعلم طريق الإرادة والتلمذة وشيئا من الجدل ثم جعل يمهذر بكلام على قدر عقولهم من جملته ما تقول في قائل لا إله إلا الله هل هو محق أو غير محق فان قلت محق فيلزمونك باليهود والنصارى وأن قلت غير محق قالوا فلم تتعلق بها ثم نجذب الناس وجعل يقول للمريدين أما ترون الناس قد تركوا الشريعة. فلما كبر الأمر خرج إليهم بطريق الأمر بالمعروف والنهى عن المكر فصبا إليه خلق كثير وخرج صاحب القلعة إلى الصيد والتلامذة أكثرهم أهل القلعة ففتحوا الحصن ودخله وقتل الملك في الصيد وفشا أمره ومذهبه حتى صنفت في الرد عليهم كتاباً وسميته قواصم الباطنية ومنتظرهم فلا بد في آخر الزمان أن يهجروا الشرائع ويبيحوا المحرمات فأنظر هذه الطريق التي شرعنا لك أيها الملك وجعلناها إشارة وسلما تنال بها مقاصدك.

وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر الخطيئة أن يجمع حديث عبس وذبيان ولا بأس بجمع هذه الكتب حتى تنور نيران النخوة فتمد باع همتك إلى أسنى طلبتك وأقصاها وأعلاها وقصص الأنبياء تكفيك إن غفلت وقد علمت صبر الأنبياء على نيل المقاصد مع الأعداء حتى فازوا بالنيل وقد سمعت حديث داود بن شعيا ولد سليمان عليهما الصلاة والسلام وكان صبياً فلما حاول وعضدته يد السعادة فقتل جالوت حتى تزوج ابنة طالوت وكان طالوت دباغاً وهكذا سير الملوك فانظر في كتاب الأسباب والمعارف لابن قتيبة ودع النظر في الصغر وانظر الشاعر كيف يقول. 

لا تأمنن إذا مـا كـنـت ذا أدب

 

مع الخمول بأن ترقى إلى الفلك

بينا نرى الذهب الإبريز مطرحاًفي الأرض إذ صار إكليلا على الملك وبطعم الحديد وذوقه يتأدب الكرم عند كسحه وإذا ترك عجمه سنة هلك ألا ترى إلى الحيوان البهم كيف بالضرب والأدب يتعلم الرقص والتطاير. ولما مات هارون استخلف الأمين وفر المأمون إلى مدينة أصفهان ومعه الحسن بن سهل وكان المأمون ذا فنون وعلوم وآداب فقعد المأمون في المسجد الجامع وقد فرشه باللبد زهداً والناس يهرعون إليه لتعلم العلوم وابن سهل يومئ إلى الطوائف ويقول لهم أليس هذا هو الخليفة حقاً فبايعوه ويقول لهم سنة هذه سنة الأولين الطاهرين فلم يزل يستدرج الناس حتى حوى عسكره ثمانين ألفا وكانت الأعاجم تسمع بطريق الأمين الفاسد ففروا وطلبوا المأمون حتى عقد الجيوش لطاهر ابن الحسين فدخل على الأمين فقتله واستولى المأمون فكم من هذه السير المنقولة وإنما نسمعك بعضها تقوية وإعانة لهمتك والولع بكتب الأولين مثل كليلة ودمنة والمغازي وحديث عبد الوهاب ولا يلزمك من سقمها وصحتها شيء. قال الشافعي رضى الله عنه مسقط الرأس مسقط الإنسان فكن وفي العهد والكلام وليكن لك محتسب يحتسب عليك وعلى من في دارك من المسلمين ثم ينظر في مشارع البلد ومصالحة والأسعار وإن كان قد نهى عن التسعير لكنه ليس به بأس فقد فسدت الناس وقلت الأمانات كما ذكر في كتب الملاحم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبة الإمام فيما يتجدد ويكون للسعادة مباد وتناه فقد نقل أن الله تعالى لما بعث نبيه موسى عليه الصلاة والسلام قيل لفرعون تلميذك موسى يخاطب علة العلل فأمر بإحضاره وقال يا بني تزعم أنك تخاطب علة العلل قال نعم قال بم نلت هذا قال بسهم السعادة فقال من أي جهاتك تسمع كلامه فقال من جهاتي الست فقال إن لكل نبي معجزة فما معجزتك فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فقال بعض الحسدة الحاضرين إن عصى سر نديب إذا نقلت إلى هذه البلاد تكون حيات فقال له موسى خذها إليك فان كان كما تقول فستكون.

وإلا فتبطل فبهت الرجل وبطل فقال فرعون اتبعوه فقد جاء بخرق العادات والسعادة الكلية هي من الفيض الأول ثم يفيض من طريق التحري إلى كل محل بما يقبله والفيض الأول من العلة الأولى يتلاشى بطريق الفيض الوهمي الذي عجزت العقول عن تحصيل كنهه والذي صدر عن علة العلل من الفيض الأول هو العقل الفعال الصادر بالكلية عنه والنفس الكلية هي التي تفيض النفوس عنها والذي يتجلى للخلق من العقل هو بقدر نزول الشعاع للشمس في النوافذ والنور ومثل تجلى العقل للأنبياء كمثل الشمس المنخرقة في الأرض الفلاة وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم شيئاً من نوره فمن أصابه شيء من ذلك النور اهتدى ومن لم يصبه فظلمات بعضها فوق بعض" وهو معنى قوله تعالى: (ألَم نَشرح لكَ صَدرَك) وقوله تعالى: (أفَمن شَرح الله صَدرَه للإِسلام فَهو على نُورٍ من رَبهَ) وهو النور الذي تجلى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وكان في بدئه ضعيف شاهد من نوره الكوكب فلما تجلى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وتقوى جناح همته بطريق المجاهدة وأنخرقت له الأنوار القدسية من رؤية حالة باطنة وسره شاهد الشمس والقمر فلما صفت العلة وخلصت الخلة شاهد بمقياس الحظ أصل العلة الأولى التي فيها مبدأ فيض السعادة فقال عند وجود سهم السعادة والحظ وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض. فلما وجد انخراق النور الإلهي لم يلتفت إلى مال ولا ولد فنهب يد الانتقاد ماله وولده فجعل ذلك غرامة بطريق التصوف لوجود حاله فقال في رفض ترك نقصه عند وحود حقه ورؤيته الكمال ها هو ذا جسدي للنيران وولدي للقربان ومالي للفيضان فكن أيها الملك على هذه الطريقة الوتيرة حتى ينكشف لك ستر الباطن عن منهج الحق فتقعد على كرسي طب أحوال العالمين فتجس بمقياس الفراسة طريق معرفة الظالم من المظلوم وأعلم أن الغنى والأموال هي مدخرة لتحصيل الملكة الدنيوية والأخروية فإذا صح لك هذا الطريق غلبت بسهم السعادة من عصاك ومنه يحصل لك تسخير الهمم العلوية. ولا يرد الخلق إلا الثواب والثناء وإلا فما هي إلا أزواج سائرة عن أجساد خالية.

وقد ورد في لطائف الحكايات أن الملائكة قال بعضهم لبعض اتخذ ربنا من نطفة رديئة خليلًا وقد أعطاه ملكا عظيما فأوحى الله تعالى للملائكة اعهدوا إلى أزهدكم ورئيسكم فوقع الاتفاق على جبريل وميكائيل فنزلا إلى إبراهيم في يوم جمع غنمه عند رابية للحلب وكان لإبراهيم أربعة آلاف راع وأربعة آلاف كلب في عنق كل كلب طوق من ذهب أحمر وأربعون ألف غنمه حلابة وما شاء الله من الخيل والجمال فوقف الملكان في طريق الجمع فقال أحدهما: اللذاذة صوت سبوح قدوس فجاوبه الآخر رب الملائكة والروح فقال اعبداها ولكما نصف مالي ثم قال اعبداها ولكما مالي وولدي وجسدي فنادت ملائكة السموات هذا هو الكرم فسمعوا مناديا من العرش يقول الخليل موافق لخليه فكن أيها الملك غير مبال بوجد المال وعدمه إذا سلمت لك نفس رياستك وقلة مملكتك، وسنذكر حكايات الكرم في مواضعها من كتاب السلسبيل وكتب أحياء علوم الدين.

فإذا أردت اقتفاء آثار السابقين فقد ذكر في كتاب فتوح سيف الدين الكوفي أن أهل الشام لما أثقلهم الحصار وقالوا لا نسلم إلا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه فلما علم عمر ذلك حصل فرساً وحماراً فقال له كبار أهل المدينة المملكة بناموسها فأجابهم بأن المملكة معطيها صاحب السماء فصفوا خواطركم وعلوا هممكم لتبصروا السعادة بمقاييس الأنوار من وراء الأفلاك ثم سار إلى الشام فاتفق له أن وقع به الحمار في غدير ماء متغير وحمأة فابتلت مرقعته وكانت نوبته فعرضوا عليه ركوب الفرس فأبى وقالوا قد أقبلت العساكر والرهابين لتسلم عليك فغير ما عليك فلم يلتفت حتى أقبل عليه جملة الشاميين بنواقيسهم وقبعاتهم فلما رأوه في تلك الحالة قالوا بأجمعهم أنت عمر ولك نسلم ولك نطيع وندين كما قال المسيح إذا وصلكم صاحب المرقعة المبلولة بالماء والتراب فسلموا إليه. فهذا خبر سر معارف رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف صفا ووفي فعرفه سر ما كان وما يكون. ومن تلك الأنوار اعتصر الناس ملاحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمر النبوة الذي هو أخوه وشريكه في نوره اعتصر كتيباً مثل الجعفر والجامعة وكتاب خطبة البيان وهي حاوية على أكثر ما يكون في الزمان.

وإن طلب أحد الهدنة فهادنه إن كأن مسلما وإن كأن كافرا وقدرت عليه فلا تهادن كيلا تفوت الفرصة ولتكن الهدنة إلى أمد معلوم واقلها أربعة أشهر. فان صفت همتك وكانت روحانية لها مجانسة. في الملكوت الأعلى وعلو همتك ظاهرة فخذ طريقاً صالحا من تثليث وتسديس من نجم ناظر إليك لا إلى سواد ويخر له فان تونست به صار لك وزيراً والأصل في الخور هو علو الهمة وتزكية النفس، وتقليل المأكل والانقطاع في الخلوة ودوام الذكر ينخرق لك من رؤية الغيب من علم الباطن أنوار المكاشفة فتصير الأملاك والأفلاك حديثاً يغلب لا هوتك على ناسوتك فتصير زيتا لمصباح مشكاة الأنوار الإلهية كما قيل شعر:  

ثقلت زجاجات أتتـنـافـر غـا

 

حتى إذا ملئت بصرف الـراح

خففت فكادت أن تطير بما حوت

 

و كذا الجسوم تخف بـالأرواح

وإذا حصل لك خمير السعادة من العلة الأولى التي هي مبدأ كل علة بطريق المجاهدة في تحصيلها أفرغت عليك أنوار المحبة فصار الخلق لك طائعين بلا يسيف بينهم ثم ببسط باع فيهم كما كتب بعض الملوك على درع له شعر:

على درع تلين المرهـفـات لـه

 

من الشجاعة لا من نـسـج داود

و إنني فيه أمر اللـه ضـيرنـي

 

ناراً من البأس في بحر من الجود

فإن انسد عليك باب المجاهدة وغلقت ورأيت باب الطلب مسدودا فلا ترض بالمناقصة بل تميل إلى الزهد فان الناس رجلان ناسك ومالك كما تمثل عمر رضى الله عنه ببيت الفرزدق استشهاداً به ثم أنشد شعر:  

إما ذُباباً فلا تعـبـأ بـمـنـقـصة

 

أو قمة الرأس وأحذر أن تقع وسطاً

ومثلها قال أمير المؤمنين على رضى الله عنه شعر:  

إذا ما لم تكن ملكا مطـاعـاً

 

كما ترضى فكن عبداً مطيعاً

فإن لم تملك الدنيا جمـيعـاً

 

كما تختار فاتركها جميعـاً

هما شيئان من نسك وملـك

 

ينيلان الفتى شرفاً رفـيعـاً

إذا ما المرء عاش بكل شيء

 

سوى هذين عاش به وضيعاً

وكتب معاوية إلى ابنه يزيد إن فاتك يا بني الملك فلا يفوتنك المحراب وبهذا الطريق نال الناس مطالبهم حتى رأينا الملوك متقاطرين على باب الزهاد ولهذا قال القشيري:  

إذا ما الفقير لباب الأمير

 

فبئس الأمير وبئس الفقير

وأما الأمير بباب الفقـير

 

فنعم الأمير ونعم الفقـير

وأعلم أنه إذا حصلت القلوب بمعرفة صمديتها وانكشف لها نور الجلال بالبراهين الباطنة وحصلت التخلية والتصفية كوشف بالعالم العلوي والأخروي وعلم سر معانيها فهو الذي كوشف بمعرفة الكيمياء الأكبر فتصير الملائكة له خداما فيشاهد أساور الجنة وأسرها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: "كيف أصبحت يا حارث" قال: أصبحت بالله مؤمنا حقاً، فقال عليه السلام: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك " فقال: أعرضت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها وكأني بأهل الجنة في الجنة يتزاورون وبأهل النار في النار يتعاون وكأني بعرش ربي بارزا، فقال: عليه السلام: "مؤمن نور الله قلبه الآن عرفت فالزم" واقسم عمرك وأيامك ودهرك أثلاثاً ثلثاً لنفسك وثلثاً لرعيتك وثلثاً لربك. وأعلم أن الناس بك لا تذون لطلب منافعهم وكل أحد يريدك لنفسه إلا الله فانه يريدك لك فكن معه ولازمه ولا تستهويك الأماني فالظل لا بد أن يزول ولو عمرت ما عاش آدم: أخبرني الأستاذ الجويني عن مشايخه.

قيل لمحمود بن بويه: كيف عمدت إلى طلب المملكة ولم تكن لها أهلا؟ فقال: سمعت امرأة تنقر دفاً وتقول بيتا لعمر بن سبطى شعر:  

من هاب خاب وجاسر بلغ المنا

 

و الدهر فيه غذوية وعـذاب

فحملني ذلك على طلبها فطلبتها ونلتها وقد تحالى المتني حيث قال شعر:  

فثـت واثـقـاً بـاللـه وثة حـازم

 

يرى للموت في الهيجا جنا النحل في الفم

وانظر إلى علو همة الحلاج وإن كان قد قال الحاسدون فيه ورجموه بالحلول وقد تلقى الموت غير خائف ونطق ظاهره بما أعمى جهلتهم حتى قيل لأبي العباس بن شريح: ما تقول في الحلاج؟ قال: ما أقول في رجل هو أفقه مني في الفقه وفي الحقيقة ما أفهم ما يقول فقيل له ما سمعت منه من جملة ما سمعت قال سمعت في بعض كلامه وهو يشير إلينا من حضر بطلت شهادته ومن غاب صحت.

وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسنات الأبرار سيئات المقربين" لأنهم واقعون مع صف التجلي فمالهم والندم على ما كان والخوف مما يكون صفت أحوالهم في راووق المجاهدة فامتنعوا بطريق الدلال لا عن الالتفات إلى غيره فطاروا بأجنحة علو مهم المجموعة في المجاهدة والتصفية والتزكية فخرقوا حجاب الناسوت حتى وصلوا إليه ضامت بهم العبودية فخرجوا عن حيز العالمين فمزجت الناسوتيه بصفات اللاهوتية ثم عادت النفوس الطاهرة إلى معادنها فهبت عليهم نسمات واجب الوجود فحلو في خيام الراحة بعد البعث (في مَقعَد صِدقٍ عِندَ مَليكْ مُقتَدِر) كما قال السكران من العشق شعر:  

إنما الحب فـنـاء كـلـه

 

رحم الله أمراءاً قـال بـه

إن من أضحى بقلى سالمـاً

 

لم يذر منه سوى قالـتـه

في ظلال الشوق قلبي راقد

 

من هجير الهجر قد قال به

فان لم تكن أيها الملك الطالب لا بهمة علوية ولا بيد باسطة سبعيه فأنت كما قيل شعر:  

إذا كنت لا ترجى لدفع مـلـمة

 

و لا لذوي الحاجات عندك مطمع

و لا أنت ذو جاه يعاش بجـاهـه

 

و لا أنت يوم الحشر ممن يشفع

فعيشك في الدنيا وموتـك واحـد

 

وعود خلال من حيالك أنـفـع

ومثله شعر:

كتب القتل والقتال علـينـا

 

و على الغانيات جر الذيول

وقد مر بك شعر آخر: 

إن لم يكن بد من الموت فمت

 

تحت ظلال الأسل الذوابـل

وكن آخذا بقلوب الناس بكتب وهدايا واستجلاب مودات الكبار والخدمة للأخيار وإكرام العلماء وإمدادات أحوال الناس وسد حللهم والصفح عن زلاتهم وأنظر كيف أدبك المصطفى عليه السلام حيث قال أمرت أن أعفو عمن ظلمني واصل من قطعي وأعطى من حرمني وأن أجعل سكوتي فكرة وكلامي عبرة. إن أردت الجواب فلا تعجل واستعرض كلام الرسل متفرقين غير مجتمعين وأعط الجواب على تؤدة وارض الرسل ينبسط ثناؤك فقد قيل إنه لما دخل حكيم العرب على كسرى أجزل له العطاء فلامه بعض الكبار فقال: الملك مملكة وجمع لؤم داءان ودواء فالغلبة للأكثر واتعظ بقول الله تعالى: (و تِلكَ الأيامُ نُداولُها بَينَ الناسِ).

فهكذا قد نقلت من سواك إليك وستنتقل منك إلى سواك وأنظر إلى الأمثال المضروبة في شعر أمير المؤمنين فرضي الله عنه شعر:

الناس في زمن الإقبال كالشـجـرة

 

و حوله الناس ما دامت لها ثـمـرة

حتى إذا ما عرت من حملها انصرفوا

 

عنها عقوقاً وقد كانوا بـهـا بـررة

و حاولوا قطعها من بعد ما شفـقـوا

 

دهراً عليها من الأرباح والـغـيرة

قلت مروءآت أهل الأرض كلـهـم

 

إلا الأقل فليس العشر من عـشـرة

و لا تحمدن امرءاً حتى تـجـربـه

 

فربما لم يوافـق خُـبـره خَـبـره

وأصطف لك من الناس من تركن إليه فقد أصطفى الله من الناس رسلاً ومن الملائكة والله أعلم حيث يجعل رسالته.

وإذا عزمت على دخول الحمام فالأفضل يوم الأربعاء ففي الأثر من دخل الأربعين أربعاً الحمام أمن من الفقر وأخل ليلة الخميس والجمعة لطلب حاجاتك من الله الكريم ففيها بلغ الأنبياء والعلماء وأرباب المقاصد والرياسة شعر:

و كان ما كان مما لست أذكره

 

فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

وفي يوم الجمعة ساعة من إدراكها بلغ حاجته فقد قيل هي في أول النهار وقيل وسطه وقيل آخره وهكذا نقل عن فاطمة صلوات الله عليها أنها كانت تترك جارية لها لتعرفها غروب الشمس من يوم الجمعة وأقرأ في سورة الأنغام وتكلم فيها أحد فإذا وصلت إلى قوله تعالى (الله أعلم حَيثُ يَجعَل رِسالَتِهِ) فأسأل لأن الله ما رد قسم من أقسم عليه من النبيين. وكل من الأنبياء كان له خاصية في يوم مثل السبت لموسى والأحد لعيسى والاثنين لإبراهيم وفي يوم الثلاثاء جاءت البشارات لنوح عليه السلام بالنصرة وفي يوم الأربعاء أنتصر زرادشت على أهل أرمينية وكان الخميس والجمعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال المنجمون في أيام الأسبوع ما قالوا وجعلوا لكل كوكب يوماً فالسبت عندهم لزحل والأحد للشمس والاثنين للقمر والثلاثاء للمريخ والأربعاء لعطارد والخميس للمشتري والجمعة للزهرة وقد ذكر الجمهور منهم إن طالع رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاه الزهرة وهم لم يطلعوا على الأسرار ونحن نكشف نبذا عن ذلك فنقول بأن موسى دعا إلى المغرب لتحكيم زحل في تلك الجهة وقبله عيسى إلى المشرق نحو الشمس وقبله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جهة الكعبة وهذا سر لم يطلع عليه أحد إلا من شاء الله وذلك إنه إذا قام مستقبل القبلة الحرام كان سهم زحل يميناً وسهم الشمس شمالاً والجدي في مقابلة وسط الكتفين والنسر الطائر وسعد بلغ في جهة العلوية فتم مع السعادة مأتم فأصيب بسهم السعادة ما لم يصبه أحد سواه فبلغت حجته وعلت كلمته ودامت دولته وسعدت أمته وعضدت شريعته فنصرها الترك من المشرق وأهل المغرب حتى بلغ أنهم آمنوا لا بالسيف بل بالكتب شعره أوائل الركبي مالي منهم خبرة وهكذا البيت الثاني وأسمع قصة عيسى عليه السلام مع جاليناس ملك الساحل وطبيبهم حين نفذ إلى عيسى أنا لا نطلب منك أحياء الموتى بل هذا الرجل المسلول أشفه لنا في هذا الشهر كانون وأنا أومن بك قال المسيح ائتوني ببطيخة فسقاه منها فقاء الرجل شيئاً أسود على هيئة الخبر المحروق فقام بقدرة الله تعالى سليماً لا مرض به ثم قال عيسى عليه السلام يهددني جالينوس ثم دخل هيكل العبادة فما انتصف الليل إلا وثار على جالينوس علة اساطوريا والكراثية فمات بها قبل الصبح وحدثني يوسف بن علي بأرض الهركان التي بنبات أرضها خواص عظيمة نذكر نبذا منها في أماكن من هذا الكتاب وشيئا في كتاب السلسبيل. قالع يوسف شيخ الإسلام دخلت المعرة على زمان المعري وقد وشى به الوزير إلى الملك محمود بن صالح وقال إن المعري رجل برهمي لا يرى إفساد الصورة وأكل الحيوان وإنه يزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل ولم يزل الوزير جاهدا حتى حمل الملك على إحضار الشيخ أبي العلاء المعري فأنفذ وراءه خمسين فارساً فدخل إلى الشيخ رجلان من أصحابه وأعلماه بالقصة فدخل المعري المسجد وانزل الفرسان في دار الضيافة فدخل مسلم عم المعري على الشيخ وقال يا ابن أخي قد نزلت بنا حادثة يطلبك الملك فإن مانعنا عنك عجزنا وإن سلمناك كنا عارا عند ذوي الذمام وتكون الذمام على آل تنوخ فقال المعري خفف عنك غمك واكرم أضيافك فلي سلطان يذب عني ويحامي عمن هو في حماه ثم قال الشيخ لغلامه قدم الماء فقدمه إليه واغتسل به فلم يزل يصلى حتى انتصف الليل ومر أكثره ثم قال لغلامه أين المريخ فقال هو في منزلة كذا وكذا فقال ارقبه واضرب وتداً تحته وعقد خيطاً في يدي متصلا بالوتد ففعل به ذلك فسمعناه يقول يا علة العلل يا قديم الأزل يا صانع المصنوعات أنا في حماك الذي لا يضام ثم جعل يقول الوزير الوزير حتى برق بارق الصبح فسمعنا هذه عظيمة فسألنا عنها فقيل هي دار الضيافة وقعت على ثمانية وأربعين رجلاً وعند طلوع الشمس جاءنا كتاب الطائر يقول فيه لا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمام على الوزير ثم التفت الشيخ إلي وقال من أي أرض أنت فقلت من أرض الله تعالى فقال أنت من أرض الهركاز أنت يوسف بن على حملوك على قتلى وزعموا أني زنديق وكان حجتنا بالشام ثم قال لي اكتب على صفة الحالة شعر:  

باتوا وحتفي أمانـي لـنـيتـهـم

 

و بت لم يحضروا منى على بال

و فوقوا لي إشارات سهـامـهـم

 

فأصبحت وقعا منـى بـأًمـيال

فما ظنونك أن جـنـدي مـلائكة

 

و جند بـين طـواف وحـجـال

لقينهم بعصا موسى التي منعـت

 

فرعون ملكاً ونجت آل إسـرال

أقيم خمسين صوم الدهر ألـفـه

 

واد من الذكر إبكـارا الآصـال

عيدين أفطر في عامي إذا حضرا

 

عيد الأضاحي ويقفو عيد شـوال

إذا تنافست الجلاس فـي حـلـل

 

رأيتني من خسيس القض سربالي

لا آكل الحيوان الدهـر مـأثـرة

 

أخاف من سوء أعمالي وآمالـي

نهيتهم عن حرام الشرع كلـهـم

 

و يأمروني بترك المنزل العـال

و أعبد الله لا أرجو مـثـوبـتـه

 

لكن تـعـبـد إكـرام وإجـلال

أصون ديني عن جعـل أؤمـلـه

 

إذا تعـبـد أقـوام بـأجـعـال

فإذا كنت أيها الملك على هذا الوصف بلغت المقاصد ووصلت إلى المشرب الهنيء ونكبت أعداءك وتصير مثل دعاء القلنسوة والنجاشي وربما تكون أنت الملك السفياني يفتح لك الحصون من غير تعب ويجود بك الذرع والضرع والزرع إذ الناس بالمال وربما تسعد بهذه الحالات كما سعد الاسكندر فما قد كأن يجوز أن يكون.

وقد قال في خطبة البيان لا بد من ظهور ملك عادل زاهد خائف يمهد البلاد ويحسن إلى العباد وهذا بعد ثلث وسبعين بما شاء الله وهذه من الخواطر الربانية كيف ظهرت فراشتها في كشف الأمور المعيبة فإذا رق حجاب القلب يرتفع السد يتبين له ما في اللوح المحفوظ فيخبر بما في عالم الغيب من غير ريب والله عالم الغيب يعلمه من يشاء والملوك تودع سرها عند من تحبه وتختاره وقد سمعت حكاية أيار مع السلطان محمود فانتبه أيها الملك لهذه النكت والإشارات وقد نصحت لكم إن كنتم تحبون الناصحين. والفلك بالعلماء أليق من الفجرة الفاسقين ولكن ليقضى الله أمراً كان مفعولا ولا بد للأرض من ناصر ووارث يورثها من يشاء من عباده.

أعلم أن الناموس هو مفتقر إليه في بعض الأحيان كالدواء لكن نكشف شرح مشقة الأحوال غد العوام فان صاحب الشرع خاطب الناس على قد عقولهم والمنزه ذكره خاطب كل أحد بما يستحقه ويعقله. فلقوم ولدان مخلدون ولقوم سدر مخضود وطلح منضود ولأرباب الهمم العالية (وجوهُ يومئذٍ ناضرةٌ إلى ربّها ناظِرة) والمنشد قد نبه في نظمه شعر.

إما ذبابا فلا تعـبـأ بـمـنـقـصة

 

أو قمة الرأس وأحذر أن تقع وسطا

وأعلم أن الزمان حبيب أهله وطائفة تخترع لها مذهباً في الناموس بطريق الزهد كالسبح والمرقعات وجلود الغم والبراتس وآدان الليل والانقطاع في الكهفان وكبر الأمور بحيث أن يقول لصاحبه اذهب ففي الموضع الفلاني كذا وكذا وطائفة تظهر النور وأخرى تقعد بين القبور وإظهار الخزعبلات والنيرنجيات بمعرض الكرامات ودهن الأقدام والخوض في النور وإظهار الخرق من سمندل الصين التي يذهبه وسخها النار وإظهار الخفف ومد الشعبذة وضرب طلسم على النعل فيعبر الماء ووقوف السجادة في الهواء وشعلة القناديل وإشعال السراح بالماء دون الدهن وكثير من ذلك لا عدد لها.

والفرق بين المعجزة والسحر والكرامة هو دوام الشيء وإظهاره للناس كالقرآن المجيد فهو المعجز الأكبر والناموس الأعظم فلا تطلى على الملك حالات المبرهن وأما أرباب الكرامات والمكاشفات فهم الذين استخدموا وخدموا واستعملوا وعملوا فكشف لهم العمل سد الغفلة وضرب جهة الذكر ما في الشبة القلبية فأزال زرقتها وسوادها وقعت المشاهدة،. عقيب المجاهدة فتنورت القلوب بنور الصدق والتصديق فهامت النفوس المقدسة في مهامه المروح الصمدية وانكشف سر اللوح المحفوظ من دار الديمومية وظهرت الخواطر الصافية عن الأجسام الرذلة المعلولة فأغرقت في قالب كمال الوجود وافت من صحبة أهل الجود وبزغت لهم أقمار الحقائق من فلك الطرائق فكان باب بدو البداية رؤية كوكب ضعيف ثم انبسط النور الباني من نقش عرش الإيمان فصار قمراً إبراهيمياً ثم أنبجست عيون المحبة الربانية عن فيض شمس الحقيقة البرهانية ثم رق القلب الصادق الصافي الوافي على براق علو الهمة فصادفت فلكاً وملكاً ثم صفقت أجنحة الأشتباق فصادفت عقار المحبة ممزوجا بمياه الخوف شربت لما قربت وطربت وتقربت وشقت ثياب البشرية والتحقت به بالكلبة وأنشدت في سكرها شعر:  

ولقد خلعت على العواذل سلوتى

 

وحلفت بالحرمين لا أنسـاكـم

ففتحت أبواب مجالس الطرب ونادى العاشق الصادق من عظيم الويل والحرب عجز عن حمل حلاوة والخلاة فنادى بين شو ارع دروب الكروب:

 بالله ربكما عوجاً على سكنـى

 

وعاتباه لعل العتب يعطـفـه

وعرضا بي وقولاً في حديثكما

 

ما بالى عبدك بالهجران تتلفه

فأن تبسم قولا في مـلاطـفة

 

ما ضر لو بوصال منك تسعفه

وأن بدا لكما من مالكي غضب

 

فغالطاه وقولا لسنا نعـرفـه

فإذا شوهد فه ضعف الحمل أماته يدر القدرة تحمل التنين فهو معروف في البداية بالجنون وفي النهاية بالفنون فنراه في حال بدايته يتشبب بالنغمات والسماع إن اتخذه دأبه وعادته صرف وجهه عن الباب فضرب بينهم بسور له باب وأن جعل ذلك جسراً يجوز به من العلم الأصغر إلى العلم الأكبر وهو عالم المعارف فيدخل في حالات العاشقين ومقامات الصادقين فيقيل تحت أشجار الحكم اللاهوتية عند رب العالمين فتنكسر زجاجات جسمانية وبدور به دولات سعادته فاقل مقامه إظهار كرامته فإذا رأى أحداً من أحبائه وضع خده تحت نعله وترابه.

كما نقل في الحكايات المجنونية في ليلى العامرية أنه رئى على كتفه كلب يطعمه ويسقيه وقيل له في ذلك فقال رأيته يحرس باب ليلى ثم أنشد حين تأود شعر: 

رأى المجنون في الفلوات كلبا

 

فضم إليه بالإحـسـان ذيلا

فلاموه على ما كـان مـنـه

 

و قالوا لم منحت الكلب نيلا

فقال ذروا ملامكم فعبـنـي

 

رأته مرة في بـاب لـيلـى

وهذا يعضده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قيل له ألا تصلى على فلان وقد مات فقال: "لا أصل على من لم يصل" فقال عمر: أنا رأيته يصلي ركعتي العيد فقال عليه السلام: "كيف أصلي على من لم يصل إلا نافلة" لما فجاءه جبريل عليه السلام أمين الحضرة وقال له: يا محمد أليس رأوه في بابنا مرة فإذا رددته من بابي فبباب من يقف يا محمد إني قد غفرت له فصلت عليه ملائكتي إن الله لغني عن العالمين.

المقالة الحادية عشرة

المواعظ التي تجلب بها قلوب الناس إلى طاعة الملك

إنا قد عرفناك بطرق ثلاث داعية إلى الملك وها نحن نعرفك بطريقة أخرى فنقول يا أيها المعيب ألقاك من فلان حتى يثبت على الملك بماله وآله وملكه ومقاله وأبيه وأمه فيقول له من كان نمرود بن كنعان وعاد صاحب الجنان فادريس مخيط الخيام ونوح نجار للأيام وإبراهيم راعى الضأن وداود زراد وطالوت دباغ وصالح تاجر وسليمان خواص وعيسى سراج وآدم حراث أما تتعظ بقوله تعالى: (تؤتى المُلكَ من تَشاء وتَنزَع المُلكَ مَمَن تَشاء وتَعِزُ مَن تَشاء وتَذِلُ مَن تَشاء).

وأعلم أنه لا بد لك من ملك تقتدي به وتمل إليه فللحيوان أمير ومقدم كالنحل والنمل. وغيره إن فهمت بأذان العقل فكن أطوع من ضيف. وإلا هامتك والسيف. أما سمعت قول المشرع عليه السلام "أطيعوا أميركم ولو كان عبدا حبشياً" قال الله تعالى: (أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرَسُولَ وأولِي الأمرِ مِنكُم) فإن فهمت المواعظ فقد قال رسول لله صلى الله عليه وسلم "لا تشابكوا المساعيد فأني سيدهم" فإن عربد الجهل فأنظر إلى البازي والعقاب والنسر والذباب كما نظمه ذوو الألباب شعر: 

يا طـالب الـزق السـني بـقـوة

 

هيهـات أنت بـبـاطمـشغوف

رعت النسـور بـقوة جـيف الفلا

 

و رعى الذباب الشهـد وهو ضعيف

و أنت أيها العاقل لا تشابك الزمان والدول ولا تفتن بما جرى للقوم الأول لم إذا سمعت بالمرتاضين فكن بهم ملما فان خواص أنفاس القوم فيها جذب مغناطيسي أما سمعت بذي القرنين لما سمع بأرباب الهمم الهندية وهم أربعون رجلا اتخذ لهم ما أزعجهم وفرق هممهم مثل زعجة الطبول والأبواق فتفرقت هممهم فداسهم وأنظر إلى المعاني التي أودعناها في كتاب الملك فإنها كافية واستزد من إشارات ولا تكذب الكلمات فأنها أخوات المعجزات وأعلم أنه لا يستقيم جسم من غير رأس ولا سماء من غير شمس ولا تحسن أرض من غير عمارة وفلاحة وتجارة وموت وحياة وغنى وفقر وملك وسياسة وإمارة ووزارة فالأمور منظومة بعضها ببعض كما سنبين لك فيما بعد. مسألة ما يقول في الدليل ما أحد منكم يا معاشر المناظرين إلا وقد تمسك بدليل يصلح عقدة أن يكون دليلا فيعارضه مناظره بما يناقضه والمنقوص كيف يكون دليلا والناقض إذا نقض بغيره فقد دخلته العلة فبطل عن منهج الدليل وعارضه العلة بالنقض فصار كل دليل مزلزلاً معلولاً غير مقطوع فان كان منقولاً أو معقولاً وعارضه النقض فقد بطل حكمه أو قوله فان قلت بطل قوله فقد هدرت الشرع لأن الحكم والقول تابعان وإن قلت بطل حكمه فقد بطل العمل به وأن ثبت بطل حكمه وقوله معا فأين أثار فقه المستدل وإن كان دليلك معقولا قياساً فكيف يستند بالقياس إلى منقول منقوص وإن كان غير قياس فكيف يمشى به السؤال فبطل الكلام في النظر وإذا علمت أن كلامك مدخل تحت العلة والمغلول فما العلة التي تنفصل عن المعلول أم هي غير منفصلة عن المعلول فإن كانت العلة غير منفصلة عن المعلول فكيف يجوز أن يكون دليلا وإن كانت داخله في المعلول فإما أن تكون جنسه أو غيره فأن قلت إنها غيره فأين دليلك لتبيان القول وإن قلت بأنها جنسه فكيف يأتي بعد مبين من غير نتيجة بأنها عليه ومعلول وكل من فقهت نفسه لشيء فهو فقيه فكيف، خص الفقه وأين آثار التخصيص به والدليل المقطوع له وما النظر وما معنى المناظرة والمجاورة فإن قلت المجاورة هو زوال الأشكال من الحجة بطريق التبيين كما يقال التبعيض إن فلانا أعرب حين بين وفلان بيض قصيدته ورسالته فأين آثار تبيين حجتك إذا قطع الدليل والبرهان وإن قلت الجدال المتشابكة أو جدال الجبل حين حاستك بعضه ببعض فما ينفعك هذه المقالة اللغوية واللفظات الاصطلاحية إذا كان متن دليلك مقطوعاً بالنقض والعلة الداخلة عليه من الخصوم فلا بد من جواب فخور يفهم الخاطر فما هذا مقام أو مقال يحتمل المغالطة والمدافعة فان كان جوابك من غير السؤال فهو مداخلة ضعيفة به وإن كان من نفس المسألة فلا بد من برهان قاطع غير منقوض فالمنقوض معلول لا يصلح أن يكون جواباً وإذا سئلت عن الحجة والمعرفة بالشيء فأما أن يكون معرفتك برهان قاطع نقلاً أو عقلاً غير منقوص فمشه وكن به مستدلا فالمعرفة بالشيء إما بنفسه أو بغيره فإن كان بنفسه فهو البرهان المقطوع به إذا لم يكن سبيل البعض داخلا عليه فالبراهين التصديقية كان برهانها تصديقها مثل ما تقول هذا رجل فلا تفتقر أن تبرهنه وهذا ليل أو نهار أو عشرة أكثر من خمسة فهذه لا يطرد عليه معنى في بعض ولا ينعكس لأن تصديقه ينقسم ولا يفتقر إلى برهان فأت بدليل على مثل هذا المعنى فقد علمت أن هذه العلة لا تفارق معلولها وإن المعل لا يكون لجهل أو لفحم أو قبحه وإنما يكون براهين تصديقية أو براهين معلولة أو منقولة غير منفوضة فإذا دخل النقض أزال حكم الدليل فهذا معنى قولنا قطع الدليل ثم تستدلون بأخبار الأحاد والمراسيل وقد علمتم بالملزم فيها من الطعن والتشكيل ثم التواتر بنفسه عندكم فهو دليل ولا يعتبرون فيه العلم إذ همكم إنما هو وقائع وخصومات وإظهار مناقشات في رياسات والباحث عن إظهار الحق قليل.

المقالة الثالثة عشرة

في كتاب الطهارة وآدابها وأسبابها

وأعلم أن الطهارة فرض ظاهراً أو باطناً فأما الباطن فطهارة القلب من كل شيء سوى الله فإذا وجدت من القلب هذه الطهارة الصافية الكاملة صار القلب محلا للفيض الرباني والعلوم اللدنية الإلهية وكشف أغطية الأسرار عن نيرنهار القدس فانبجست عيون الكرامات وترقى العقل من حضيض الشهوات إلى سماء الخاصة ومعارفها ثم إلى سماء كشف أسرار الربوبية ثم يترقى العقل الجوهر الكامل إلى كرسي المراقبة ثم إلى عرش حضرة القدس ثم تقدم له موائد فوائد تحف المحبة فيشرق أنوارها على هياكل الطباع المظلمة ويجرى قلم التوحيد فوق لوح التمجيد بطريق التأييد فمنهم شقي وسعيد وإذا كشفت لك هذه المملكة الباطنة لم تلتفت على الموت فإن الموت هو جامع بين الأحباب وفي الطباع المتنافرات مفرق بينهم. (فتَمَنوا المَوتَ إن كُنتُمْ صادِقِينَ). وقد سمعت النظم فيه شعراً. 

سهل عليك الذي تلقاه من ألـم

 

إن كان شملك بالأحباب يجتمع

فإذا طلعت عليك كاسات الوصال في دار التخلية وهبت ريح النسيم ونادى مناد التقديم. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. فعند ذلك تصير روحك ملكا يضيء. ولو لم تمسه نار. وأعلم أن الله تعالى خلق الخلق وصنفهم ثلاثة أصناف فطائفة عقل مجرد وهم الملائكة وطائفة شهوة مجردة وهم البهائم وطائفة عقل وشهوة وهم بنو آدم وهم وسط بين الطائفتين فمن غلب عقله شهوته التحق بالملائكة ومن غلبت شهوته عقله التحق بالبهائم. فاستقم كما أمرت.

ثم تعود إلى الطهارة الظاهرة. قدم الماء الطاهر في الإناء المخمر واغسل يديك قبل الوضوء ثلاثاً واستقيل لوضوئك القبلة وكن على نشر خوف النضح وعليك بالتسمية والسواك والنية في مبدأ الفرض ففرض الوضوء ستة النية عند أول جزء من الوخه ثم غسل الوجه ثم غسل اليدين إلى المرفقين ومسح المقبل من الرأس وغسل الرجلين مع الكعبين ثم الترتيب في الموالاة في أصح الوجهين ثم غسل الحيض والجنابة بوضوء وغسل ثلاثاً ثلاثاً ونيته ونية غسل الجنابة أو الحيض ثم مناقض الوضوء وهي النوم قاعداً متمكناً ثم زوال العقل بأي فن كان ثم لمس الرجل المرأة ولا حائل بينهما ولنقض طهر اللامس دون الملموس في أصح الوجهين ولمس الفرج. ثم آداب دخول المسجد بالقدم اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج ولا يستدبر ولا يستقبل القبلة ولا الشمس والقمر إلا من وراء ستر وخائل وينحى ما عليه اسم الله من عليه ويجوز الاستنجاء بكل طاهر إلا ماله حرمة كالمطعم وغيره ولا يجوز الاستنجاء بعظم أو جارح أو مما يؤذي المحل فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تستنجوا بالعظم فإنه طعام إخوانكم الشياطين فإن الله يكسوه لحما فيأكلوه" والأفضل أن يعقب الاستجمار بالماء وهي طهارة أهل فناء ويقول في دخوله: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ومن الشيطان الرجس النجس " فإذا خرج يقول: "غفرانك الحمد الله الذي أخرج عني الأذى وعافاني".

ولا يجوز البول في الماء الراكد ولا ثقب أرض ولا على قارعة طريق أو شاطئ وتحت شجرة مثمرة وغيره ثم يجوز التيمم من عذر طارئ أو برد مخوف طارئ أو جراح أو حدوث ثمين فيجوز التيمم بتراب وعبار تعلق باليد ويجوز عن الحيض والجنابة مع الأعذار المخوفة الموجودة بضربتين لوجهه ويديه قال غيرنا يجوز التيمم بكل ما صعد عن الأرض من حجر أو جدار ولكن بعد دخول الوقت ونزع الخاتم من باليد ويجوز للمتيمم أن يصلى بالمتوضئ فقد فعل ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز المسح على الجبائر بشرط الطهارة.

المقالة الرابعة عشرة

في كتاب الصلاة

أعلم أن الصلوات الفرض هي خمس صلوات وركعاتها سبع عشرة ركعة واكمل سنتها ثماني عشرة ركعة وأحكامها الظاهرة مثل كمال الوضوء بالماء الطاهر وطهارة الثوب والبدن والمكان واستقبال القبلة والإتيان بتشديدات الفاتحة والطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال بين السجدتين والرفع من الركوع وقولك في الركوع ثلاث مرات سبحان ربي العظيم وبحمده وتقول في السجود سبحان ربي الأعلى وبحمده مثلها وهو أقل الكمال ثم الاكتناف.

ومعرفة الأوقات فوقت الصبح إذا تبين الفجر الثاني ويبقى وقت الأداء إلى طلوع الشمس ووقت الظهر إذا غربت الشمس من وسط الفلك ويبقى وقت الأداء إلى وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وزاد علبه أدنى زيادة ويبقى وقت الأداء إلى غروب الشمس والمغرب مع طلوع الليل ووقت العشاء إذا غاب الشفق الأحمر وعند أبي حنيفة والمزني إذا غاب الشفق الأبيض وهو وقت صلاة المتقين والأبرار والأذان شرط لا فرض إلا على الكفاية ثم تلزم قوانين الآداب وتستحي من الله كما تستحي من سلطانك أما سمعت الخبر لا تجعلني أهون الناظرين إليك قال الله تعالى: (أيَحَسبُ أن لَمْ يرهُ أحد) وتعظم شعائر الله وتأتي بها في أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر كما قال: "أبردوا بالظهر. ونوروا في الفجر. وأخروا في العصر". ثم تأتى بكوامل النوافل مثل الضحى والتراويح والصلاة بين المغربين وأوراد الليل والسحر وسنن يوم الجمعة العشرة وآدابها مثل الاغتسال والسبق إليها وقراءة الكهف وكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواظب فيها على الصلاة السبعينية قبل الزوال وتطلب فعلها في الإحياء وتأتي فيها بصلاة الحاجة من اثنتي عشرة ركعة بست تسليمات تقرأ بعد الفاتحة آية الكرسي مرة وثلاث مرات قل هو الله أحد فإذا فرغت من جميع الصلاة تسجد بعد السلام فتقول في سجودك سبحان الذي لبس العز وقال به سبحان الذي تعطف بالمجد وتكرم به سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له سبحان ذي العز والكرم سبحان ذي الطول والرحمة أسألك اللهم بمعاقد العز عن عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وبأسك الأعظم وجدك الأعلى وبكلماتك التامات كلها التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر أن تصلي على محمد وآل محمد ثم تسأل حوائجك الجائزة ولا تصل في المواضع النجسة والمواضع المغصوبة ولا في ثوب حرير ولا في خاتم ذهب وتقوم بالمسكنة به والذل والصغار فإذا اجتمع الناس يحسبه القيامة وتحسب صوت المؤذن كنفخ الصور فظهور الخطيب في الموعظة كتجلي الحق بعتب الخلق والتوبيخ. وقيام الناس في الصلاة كقيامهم في الموقف ثم الانصراف في المسجد كتفرقهم يوم المعاد: فريق في الجنة وفريق في السعير والسر في الوضوء هو طهارة الأعضاء وتنبيهها والشجرة الآدمية كغيرها من الشجر لا بد لها من خدمة.

فتقليم فروعها كقص الأظفار والحلق. وشربها الماء كالوضوء والغسل وتنظيفها وخدمتها كحسن آدابها. وترك العضلات الدنيوية إنبات بقول العلوم عن سواقي الخدمة وصون النفوس عن القبائح والرذائل سياطها وحرمتها وجريان مياه الفضل في مجاري أنهار العقول يكسب في الشجرة نوح حمام المحبة وصفير بليل التوحيد وتمام المعرفة وأنوار اليقين في برك البركات وصفاء نسيم الصدق في جواز أحداق المعرفة وأنوار اليقين في برك البركات وصفاء نسيم الصدق في جواز أحداق المعرفة وأهداب الشجرة مخاطبة بأنوار الإيمان ومنادى الأزل ينادي بقلوب المريدين سيروا من قواليب الأغبار إلى الشجرة الزيتونة المباركة التي ليست بشرقية ولا غربية (يَكادُ زَيتَها يُضيء ولَو لَم تَمسَسهُ نار) هذا معنى قوله تعالى: (لا يَزالُ عَبدِي المؤمِن يَتَقربُ إلي بالنَوافِل حتى أحبهُ فإذا أحببتهُ صِرتَ سَمعَهُ الذي يَسمَعُ بهِ وبَصَرهُ الذي يبصِر بهِ فَبي يَسمَع وبي يُبصِر) فمن يبصر ويسمع بي أقل ما أعطيه أن أخرق بيني وبينه روزنة يرابي بها وينظر من غير مثال وأعطيه نورا يفرق به بين حقائق معلومات معناه تحمل قلوبهم في صلاتهم إلى حظيرة القدس فيشاهدون جلال الربوبية من الديمومية ويظهر لهم شموس المعرفة من صفاء سماء حقائق القلوب وينجلي لهم حالات الآخرة بذاتها مثل ميزان العقل وصراط اليقين وهو معنى قوله عليه السلام: "أرحنا بها يا بلال" ومعنى قوله تعالى: (و أسجُد وأقتَرِب).

قال جعفر الصادق رضي الله عنه: عند سجود العارف لذي المعارج يرفع الحجاب فيرفع القلوب الطاهرة إلى سدرة المنتهى فتجلى لها أنوار القدس ويفتح لها أبواب جنات حرم الحق فيعطى ما تريد لتابعتها لما تريد كما تمثل فيه بعض أهل التوحيد شعر:  

أريد عطاءها وتريد مني

 

فأترك ما أريد لما تريد

وإذا صفت القلوب في الصلاة من الوساوس المرذلة حظيت بالمشاهدة لرفع غمام الغم وظلم الوساوس عن عرصات القلوب فهناك نشاهد الأفلاك والأملاك مثل ما نظمه القاضي البستي:  

رؤية الحق بالعمى عن سـواه

 

و عيون ترنو بـه سـتـراه

هو في الكل ظاهر غير أن ال

 

لهو بالعيش والهوا سـتـراه

وسأضرب لك مثلا فأقول أعلم أن القلب كعرصة فيها شجرة أراد أحد أن يصلى تحتها فوجد فيها عشاش طيور بزقازق وهدير منعته عن لذة قراءته ومناجاته فان تشاغل بطرد الطيور فأته الوقت فلا سبيل إلى وجود اللذةِ إلا قطعها وأنت قد غرست في قلبك شجرة حب الدنيا وملأت الشجرة بوسواس اكتسابك وهمك وغمك فأن قطعتها صفا حالك وعظم إجلالك وتجلى جلالك كما قال الجنيد:  

تركت هم الدنيا فصفا عيشـي،

 

و تركت هم الآخرة فصفا قلبي

والسر في الصلاة إنما هو كتقرب الخادم إلى المخدوم إذ يراه في قواليب الذل والانكسار. عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً. وهو معنى قول سقراط اشتباك نغمات الأصوات من هياكل العبادات تحل ما يعقد في الأفلاك الدائرات إذ باب خواص الأدعية مفتوح ترجم عنه القرآن، (إليهِ يَصعَدُ الكَلم الطَيبُ والعَملُ الصالحُ يَرفَعَهُ) وصفة داود مع المزامير معروفة كان إذا كان له حاجة جاء بزهاد المجاهدة وأقامهم في محاريبهم ووكل بكل واحد منهم صاحب مزمار ليقطع بلذة نغمة قلب المريد إلى حاجة داود فتسرع الإجابة كإجابة الاستسقاء والسحر المعول به متأثرة من الهمة، وأعلم أن الأوزان القلبية لا تظهر إلا بطهارة المحل فإذا ارتفع السد من القلب بانت موازين معارف القلوب وامتد فيها صراط الحق وفتحت أبواب جنات المعرفة بالله وبانت أنفاس حميم حب الدنيا كما قيل هناك حميمها القاسي: حميمها جنة فيها الحمام.

فإذا كان على هذه الوتيرة فاجعل حوائجك من ولاك في خدمتك وتطيب بطيب المعرفة والبس ثياب شعار الندم وضع خدك على تراب التواضع وأعلم أن لكل شيء وزناً ووزن الشعر بعروضه وأوزان المميز بالنظر وأوزان المأكول والمشروب بالكفتين والقبان وميزان الصوفية لأوقات النهار وميزان الخطب بتعديل الكلام وميزان القيمة بقصاص الأفعال فكفة ظلمة ظلمك وكفة نور طهارة أعمالك فاعلم حالك وأستقم في أحوالك فإبراهيم لما بان له ميزان النظر قال بطريق التشكيك: هذا ربي فلما استقام بين كفتى الأحوال قال: وجهت وجهي.

المقالة الخامسة عشرة

في أن خواص الأشياء غير محصورة

أعلم أن الخواص غير محصورة وليس لها تأويل يحل فتؤخذ بذواتها كالصبر المسهل والسقمونيا والشيء المقبض ليس علينا أن نسأل لم أسهل هذا أو قبض هذا فكيف نعترض طبيب الشرع فيما جاء به من التحليل والتحريم أو ليس حجر يشم يذهب النفخة فكيف تشك في شفاء خواص القرآن وما فيه من التحرير وفيه قوارع مخصوصة لمعاني مخصوصة مثل سورة الواقعة للغناء والمال وإذهاب الغم بسورة الدخان ورفع البلاء والتحرز بسورة الكهف وخاصيتها (فَما استَطاعوا أن يظهِروه وما استطاعوا لهُ نَقياً) ولا يجوز قراءة الآية وحدها إلا بإضافة السورة إليها كما قلتم لا يجوز استعمال الأدوية المفردة مسألة في تعجيز المنجم تقول يا حكيم هذا النجم الفاعل المتصرف في العبد المولد في نقطة الكرة كيف تصرف فيه بطبعه أم بجنسه أم بخاصيته فان قلت بالطبع فالطباع مختلفة وإن قلت بالجنس فذاك سماوي وهذا ترابي وإن قلت بالخاصية فالخاصية عرض لإبقاء له وإن سلمنا إليك بالخاصية فهل هي في نفس النجم أم في نفس الشخص فلا بد من الكشف والتبين وإقامة البرهان.

أما السحر فهو عمل وكلام قد تداولوه بينهم في أوقاتي معلومة وطوالع معروفة وطلسمات مضروبة فإذا أردت أن تولد طلسما يصلح لما تريد فخذ من كل ثلاثة أحرف حرفا فإذا اجتمعت لك في التأليف فهو يصلح لما تريد فخذ من كل ثلاثة أحرف حرفاً فإذا اجتمعت لك في التأليف ثلاثة أحرف من تسعة فهو طلسم يصلح لما تريد فأنظر في الاسطرلاب عند ساعة التأليف فهو يصلح لما دلت عليه الدقيقة من الساعة ومثاله أب ت ث فتأخذ الجيم والثاء أليق عوضاً عن الجيم ج ح خ خذ الصاد ص ط ظ خذ العين فمصير عقربا لتدوير الحروف فضع صورتها على خاتم والقمر في العقرب تكف خاصيتها عنك أذى النساء ترمي الخاتم في الماء فينفع سقياه الملسوع وتلقي به سوءا بين من أردت وترش من مائه على سطح المبغض أو طريقة أو داره فإنه يستضر من سنة.

وخذ صورة أسد والقمر في الأسد وانقشه على خاتم بسواد ومعه كلمة وهي: أتينا طائعين. فتدخل به إلى الملك فيذله الله لك. ذكر كلمات تذل الملوك: (ألم تَرَ كيفَ فَعلَ رَبُك بأصْحابِ الفيْل) ذل البحر لبني إسرائيل. شاهت الوجوه. فهم لا يبصرون. ولا يعقلون ولا يسمعون ذكر كلمات يأمن بها الخائف من السلطان بقدرة الله لا تزال تقول وأنت داخل إليه أو قاعد عنده في نفسك: يا قديم الإحسان بإحسانك القديم. ذكر كلمات تصدق بها عند لسان السلطان تقول عند الدخول عليه (اليَوم نَختِم على أفواهِهِم). (و لا يُؤذَن لَهُم فيعتَذِرونَ) (و صُمٌ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يرجِعُون) (و لا يعقِلون). ذكر كلمات تفرق بها بين جماعة فاسدة تخافهم تأخذ أفراداً من شعير حزام وتقول عليه أربع مرات هاطاش ماطاش هطاشنة. وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وترميه من حيث لا يشعرون وتنظر ما يصنع الله.

ذكر ما يبغض بين الشخصين يكتب على بيضة وتسوى وتطعم: (و مَزقناهُم كُل مُمَزَق). وحيل بينهم. قطعاً بغضاً ويكتب على بيضة مخيط عليها بخام مضيق سبع ضادات وتوضع في مجمرة ملة فإنها تستوي ولا تحترق الخرقة وتطعم البيضة للمحموم وكثير مثل هذا وقد حصرناها وشرحتاها في كتاب عين الحياة وهو صغير الحجم كثير الفوائد وفيه المقالة الإلهية التي هي سبب الجمع بين الأجساد، الأرواح بطريق بعث الإكسير: أعلم أن الصناعة الإلهية لا تخلق إن كانت فتكون وإن لم تكن فليس بصحيح لأن جماهير الناس أجمعوا على: إن كانت فلا شك أن تكون. ودلالات المنقول والمعقول قائمة دالة على الجواز فالمنقول قوله تعالى: (و مما يُوقِدونَ عَليهِ في النار ابتِغاء حُلية أو مَتاع) زبد مثله وقوله قال: (إنَما أوتيته على عِلمٍ عِندي).

وأما المعقود دل عليه عمل الصابون فإنه جامع بين الأضداد ماسك الطباع الدهنية والمائية والنارية فلما حصل تجميده على تجميده دل بتجميده على تجميده ولو لم تكن صناعة صحيحة لما كان الأبريز كثيراً لبعد المعدن وهي حالة مصنوعة كسائر المصنوعات وقد ضاع العالم فيها وضيعت الأموال في تحصيلها فلم يظفر بها إلا الرجال الأفراد المطلعون على علوم خواص النبات وخواص الحيوان ولكن يا موسى لا بدلك من خضر يعلمك معنى خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار مع معرفة الخصال الثلاثة حصل له كشف الكنز (و كان تَحتَهُ كَنزٌ لهُما) فإذا خرقت سفينة الصنعة وقتلت غلام الزنبق الأبق حتى يصير ماء زلالاً فأضف إليه جدار تصعيد الزرنيخ فإذا صح لك قوامه وملكت إكسيره فهي الحالة الفضية ولكن بشرط نشر الفلوس الرومية حتى يصير على هيئة التراب فتوضع وزناً بوزن فبعد حسن السبك وقوام التصعيد وصارت الأرض فضة يتخذ منها دراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين.

وأعلم أن الزرنيخ اسم مركب فأوله زر بالعجمية فإذا صحح لك فانخ بجمال غنائك على باب أستاذك ومعلمك وسر بذي القرنين من عقلك إلى مغرب الشمس الذهبية عند عين حيوان من نبات طأطأ فبياضها للأبيض وصغارها للأصفر هي دواء العيون إذا نامت العيون ثم سر إلى مطلع شمس حرارة زئبق الآبق وحصله فإذا بلغت بين السدين فانفخ عليه نار لطيفة طيبة فإذا صح إكسيرها أو لم يصح فارجع إلى حل الطلق فإن صح لك فهو الإكسير اللؤلؤ الكبير فحصله فإنه موجود وإن لم تقدر على تحصيله والعمل بها قد ذكرناه في كتاب عين الحياة فعليك بدارته والصبر على التطويل.

وأعلم أن هذه الصناعة هي صناعة ربانية لا يقدر عليها إلا الإبدال والرجال والأبطال الذين كشف الله الرين عن عيون قلوبهم وهذه لا تصح إلا للطائع الذي يريد به عوناً على الآخرة أو وفاء دين أو دفع شين وهي حريزة غريزة ولها أربعون صناعة قبلها ليكون عوناً عليها مثل عمل الإكحال والأبراد والأدوية والدوانبق ونحن نذكر خواصا دالة مظهرة لبدائعها وصناعتها مذكورة في كتاب عين الحياة وأعظم ملكها أكبر هو تصاعد الزرنيخ ومعرفة أجزائه وزمانه المعتدل الصالح النافع للأبدان غير مضر من حر وبرد وهذه الصناعة الفضية التي يسميها أرباب الصنعة القمرية فقد تعمل فيما يتصعد من إكسير بياض البيض واصلح ذلك هو الزرنيخ المصعد قواماً معتدلا ووزنا واحداً معروف الصفة فافهم وأعرف زمانه المعتدل وخف عليه من الحر المحرق والبرد الممزق والمفرق فتربيِته كتربية الأطفال مفتقر إلى الاعتدال فابدأ ولا بصنائع الأبرار والأكحال مثل الغريزي الصغير والكبير والجلاء الصدفي وبرود الحسك وبرود المياه وهو أن يجتمع المياه مثل مياه التفاح والحصرم والرمان وتضيف إليه عرق الماميرون وعرق الريح ودواودي جعفران وبهمنى سهر وماء الرازيانج وتوتيا أخضر رقيق وهو المرادني فإذا صح هذا كله فأجبله بهذه المياه مع ماء الرازيانج وماء الحسك ثم نشفه بين الشمس والظل فإذا أمسكت نفسه وزالت رطوبته فاعمل منه فصوصاً أو نصحنه جلا فهذا هو التوتيا الهندي الذي يساوي مثقاله مثقالا ولا بأس معه بماء الماميثا  وماحي العالم هذا هو البرود الجامع والجلاء النافع والتوتيا الهندي القاطع فإن عملت منه شيئاً فلما يكون وهو رطب حار هذا هو كيمياء الأبراد وبه يحصل لك إن شئت مكسبا تستريح من تعب غيره إذا أردت عمل الأدن خذ ما شئت من الأدن الخرق الصحيح وتصنيف إليه لكل جزء ثلاثة أجزاء من شمع صافي وتطبخة بنار لطيفة بقدر ما يمتزج وتحطه فهو الأدن وكل مصنوع لا بد له من خمير خالص وهو إكسيره صفة عمل الزعفران تأخذ أصفر لحم البقر وليكن من فخذه لا سميناً وتطبخه بالخل والزعفران ثم تبرده وتغسله شعرات زعفرانية ثم تضيف إلى كل أربعة أجزاء جزءا من الزعفران الخالص. فأما عمل المسك والزيادة تأخذ من الخالص خمسة أجزاء وتضيف إليه مثله من الخبز المحترق أو الكبد المشوية المحترقة أو جزء فأرة مسكية من كل واحد جزءا يضاف إلى الجزء الأصلي من مسك أو زباد فهذه الإشارة كافية إن عقلت بصدق العمل فقد قالت الشطيات لقمة من القدر تكفي لمن يشم الرائحة وفضل لقمة يتحتم لمن لم يكن شعبان والصنائع مغطاة فإذا كشفت بأن سرها والعجائب ظاهرة في كتاب عين الحياة. وأعلم أن المسك هو من دم غزال بري يأكل من أطايب الأفاويه التربة كالفلفل والقرنفل وغير ذلك وقد قيل في العنبر إنه ينبع من عين بأرض مدينة عنصوريا والكافور هو من عين فيعجن العنبر بأوراق بحرية بين أشهب وابيض وما شئت من الألوان وقد نزل من السماء عشرة أشياء كالمن والشير خشك والترنجبين. واللأذن وقيل هو عين في جبال مرعش وينزل من السماء القطر مع السحاب بضاف إليه شيء من الزوائد فيطبخ بماء الشعير فيسقى للمرأة التي لا لبن لها ولا حيض فتحيض هذه ويدر لبن هذه وقد ينزل من السماء ضفدع أخضر يصلح للبواسير وقد ينزل من السماء بأرض سقسين حنطة حمراء لبنة باردة على طعم الزبد والعسل والثلج.

إذا أخذ من دقيقها وكحلت بها العيون المعيبة زال عيبها ومن ههنا أخذ من أخذ. وإذا بخر بعضها تحت أحد أبصر الملائكة وبه يبخر لعطارد فيكلمه. وقد قوبت عزائم المنجمين بأن الأنبياء بخروا. فالكليم بخر لزحل أول ساعة من يوم السبت والمسيح بخر للمشتري وإبراهيم بخر يوم الأحد للشمس وللمريخ يوم الثلاثاء.

وقد بخر زرادشت للمريخ وعطارد وقد بخر محمد رسولنا، للزهرة يوم الجمعة، وأختفي في غار حراء، فكانت تأتيه في صورة جبرائيلية وهو تمثال لدحية الكلبي. ومن أراد أن يبصر الجن مشاهدة ومصادقة ومخاطبة ويسمع كلامهم ويعينونه على ما يريد فليقرأ سورة الجن في بيت خال من يوم بطالة في أحد أو أربعاء وبين يديه بخور اللبان ويخط له مندلاً يقعد فيه ولا ينقطع عنه البخور وهو يقرأ (قُل أوحى إليَ أنهُ أستَمَع نَفرٌ مِنَ الجِن) أربعين مرة وهو يمثلهم ويحدث إليهم فإذا خرجوا إليه لا يخافهم ويستخدم منهم من شاء على ما يشاء من سحر وطلسم وهياج وتسخير وإظهار كنوز وحب وتبغيض وأعلم أن من الخواص النباتية ما يطول شرحه ونحن نشير إلى بعضه من أراد أن لا يبصره ولا تراه العيون فليزرع الخروع عند بدو زراعة القطن في رأس سنور أسود فإذا طلع يخيط عليه كيساً.

ويربيه حتى يجنى القطن ثم يقطف العنقود كما هو بكيسه ويشقه حجرة ويأخذ مرآة بيده ثم يقطف منه حبة حبة ويضعها في فمه وينظر صورته في المرآة فأي حبة لم يشاهد فيها نفسه عند نظر المرآة فليمسك عليها. ولهم الأبهر الضم وهو نبت في الأرض على صورة ابن آدم فهذا يصلح لمن علقه على نفسه لو مر بحجر لتبعه الحجر. ولهم حشيشة تسمى بحشيشة الراسن تبخر من أوراقها على اسم من تريد فيأتيك وإن لم يرد ولكن بشرط أن تقول هذه الكلمات على البخور: تقول: يا جامع يا جن اجمعوا وقدموا لاق لاق عاجلا عاجلاً اشروثا اشروثا كبيبا الصبي: ائتنا كرهاً أو طوعاً: قالتا أتينا طائعين. وليكن في يوم الأحد أو أربعاء وهذا حشيش الراسن يعمل منه شراب. يسمى شراب. الملائكة يصلح لأرباب الأخلاط المتساوية ويصلح للنساء العجفاوات من شدة الحرارة وتجفف ورقه ويعمل منه برود يصلح للعين التي ارتخت أجفانها وقد يعمل منه دواء يقوى اللثة وقد يبخر منه تحت صاحب الحمى فيبرأ أو يبخر تحت النفساء ذات المشيمة المعلقة فتنزل وقد يسلق ورقه بالخل مع ورق الزيتون فينفع الأسنان الضاربة ولهم نبات لا أصل له في الأرض وهو على هيئة العنقود على شجر البطم والبلوط ويسمى حب الأصفور ويسمى حب دبق صيد العصافير يصلح بخوره للبيوت خاصيته طرد الشيطان ويبطل السحر المدفون مثل مثاقة الشعر المقعد وبرادات الأمشاط والأوتار، المعقدة فبهذه دخل السحر على محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "ضيعوا مشافات الشعور" فيها يعقد أكثر السحور وأعظم العبر في الأولياء والإبر التي تترك قريب النار يا عائشة. وعزيمتها عشر آيات من آخر سورة الرعد وهذا الحب يعمل منه الند فيؤخذ منه جزء وجزء من عروق القسط وعروق الزعفران وشيء من برادة العود القماري بدق ويطبخ جميعاً إلا حب العصفور فيطبخ جميعاً بماء الورد الجيد العرق الغاية فإذا تجيل وصار طيناً يحط إلى الأرض وإذا برد عمل منه الند على ما تريد. أما صفة عمل الدرانيق النافعة فقد سبقنا إلى ذكرها وعملها ولكن أقرب ما تأخذه هو أن تضيف البندق المدقوق مع الجوز واللوز والسمسم القليل والفستق فيعجن جميع هذا بالعسل الشهد مع قليل من ماء الورد ويرفع ففيه منفعة وخاصية لسم العقرب وفيه خاصية الوقاع. وجوف الجوز الهندي الحديث على الهريسة والحنطة نافع في الوقاع ويصلح لمن وثبت عليه الأرياح الباردة.

أما الترياق الأكبر فهو أربعون حاجة مع لحوم الحيات مشروحة في كتاب عين الحياة.

وأعلم أن في النبات والأدهان والحيوان ما يطول شرحه ولا يشغل كتابنا به لكني أذكر لك عمل إساءة وهي الظنبوث تأخذ من بصاصات الربيع ما تربد على ما تريد واسم من تريد في ساعة محمومة فتضعها في قارورة زيت بأعلى على النار فتعلمه ظنبوث إن شئت حبشية للبغض وإن شئت قريشية للمحبة وإن شئت فارسية للسلطان وإن شئت كرمانية للخروج من المضرة والأمراض وتعلقها في الشمس وكلما نقصت تزيدها دهناً ثم تتركها في نافذة ظاهرة وتربيها وتخدمها وتبخرها وتقول عندها في كل يوم هذه الكلمات أيها الظنبوث الطاهرة كوني لما أريد وهو يبخرها ولا يبخرها إلا طاهرا لا حائصناً ولا جنياً فهي تنقص عند نقص الهلال وتزداد بزيادته فهذا من جملة الخواص الدهنية وفي الدهن ما يطلى به الجسم فلا يعمل فيه النار وفي الأحجار ما يعمل منها فأس أو قدوم فإذا نقو به لا يسمع صوته.

وفي الأحجار ما إذا وضع في التنور سقط خبره وقد عرفت خاصية المغناطيس وأما خواص الحيوان فتطلبه في كتابه.

المقالة السادسة عشرة

في عزائم التسخير

تقف أول ساعة من يوم السبت مستقيل الغرب بثياب سوداء وزرق بأبخرة مذكورة مثل اللبان والحرمل وقشور الرمان والخردل البري ثم تقول في وقت سعيد من تثليث أو تسديس مناط إلى شرف فتقول أيها السلطان الأعظم والملك العرمرم مالك الفلك التابعة له النجوم الخاسف المزلزل: زحل أنت أشرف الكواكب وسيدها وقائدها ومؤيدها أسألك أن تعطيني وأن تمنحني ما يصلح منك لي وتقول يوم الأحد عند طلوع الشمس وأنت مستقبلها بهمة مصروفة إليها أيتها السيدة الرفيعة والملائكية المطيعة والمدبرة الكبيرة التي جادت بفيضها على الظلم فصارت أنواراً. ذاتها طاهرة وسلطنتها قاهرة أسألك أن تعطيني ما يصلح منك لي. واصرف همتك إلى وأنت الملكة العزيزة والسلطانة الحريرة بحق من سخرك وهو الملك العظيم وتمول أول ساعة من يوم الاثنين أيها الكوكب الأظهر والقمر الأبهر البارد الرطب الحال في الفلك المعتدل البارد اللطيف أسألك بحقك وبحق الملك المعطيك من نوره أسألك أن تعطيني ما يصلح منك لي وتقول في يوم الثلاثاء مخاطب المريخ أيها السلطان صاحب السيف والسفك ذو الحربة النارية والفتن الأرضية صاحب الحرب والصلاح والدم أسألك بحق سلطنتك ودولتك وقهرك أن تعطيني ما يصلح لي منك وتخاطب يوم الأربعاء للعطارد فتقول أيها الكوكب اللطيف الشريف والكوكب الكاتب الحاسب العالم ممازج الفلك ووزيره وملاطفة ومشيرة بلطافة أخلاقك وطيب أعراقك وحسن سمعتك وصفاتك الحميدة وأخلاقك المجيدة الحسنة الطيبة أن تعطيني ما يصلح لي منك ولتكن على الماء في فروج من حشيش أخضر وهواء لطيف بنفس فرحة وريح طيب وأنت متصف. بصفات الكتاب وتبخر في يوم الخميس للمشترى فتقول في دعائك أيها الكوكب الدين الصالح التقي الرفع البديع المطيع السميع السريع الذاكر الشاكر الناشر الحامد الباهر الخائف المستغفر عندك أكثر أحياء الأموات والذي يبرئ من كل داء أسألك بحق دينك وأمانتك ومودتك ومروءتك وطاعتك أن تعطيني ما يصلح إلى منك وتقول في يوم الجمعة مخاطباً للزهرة أيتها النفس الطاهرة والزهرة الزاهدة الباهرة ذات اللهو والطرب والرقص واللعب والشرب والأكل الفرحة النزهة الناظرة المزينة الطائعة لربها الحرة الطاهرة أسألك أن تعطيني ما يصلح منك لي فأما يوم السبت فهو مخصوص عندهم لموسى لأنه زحلي والأحد مخصوص بسليمان وجماعة من الأنبياء وصاحبة الشمس وفيه يتبخر الملوك لها ويوم الاثنين هو للقمر يصبح للوزارات والوزراء ويوم الثلاثاء للمريخ وفيه بخر إبراهيم الخليلِ ويوم الأربعاء لعطارد وفيه بخر زرادشت. وهو نبي المجوس صاحب كتاب سبطا ويوم الخميس مخوض به عيسى.

وأما يوم الجمعة فهو لمحمد صلى الله عليه وسلم فالذي يطلب من زحل وهو حيوان مثل المنافع الأرضية وإظهار الكنوز وشق الأنهار والأشجار وأما ما يخص الشمس فمثل الملك والملكة والقمر لائق بالوزارات والمريخ بالحروب والبأس وعطارد للكابة والنقش والحساب والهندسة والعلوم الدقائق والعزائم ومخاطبات الجن كما سبق ذكره وأما المشتري فهو للزهد والديانة وحل الطلسمات السماوية ثم الجمعة للزهرة قالوا إنما أمر باجتماع الخلق عند نصف النهار في هيكل العبادات لاجتماع خواص الأنفاس ليؤثر ذلك في حصول المطالب لشرف نفسه الفياض منه على تابعيه من قولهم في لحظة واحدة اللهم صل على محمد وآل محمد. وأعلم أن الناس قد اختلفوا في الخاصية كما ذكرناه في أول الكتاب وخواص النيات والحيوان كثيرة وقد ذكرنا منها فصلا طويلا زائداً خارجاً عن الحاجة وكم في الحيوان من خواص لا تعرفه مثل مرارة الدب للسمن وشحمها أيضاً ولحمها مع تحريمه يذهب بالأرياح. وأكباد الأرانب تنفع الأكباد.

وعيونها للعيون وشمها للأرباح ويصلح منه طلا لمعنى وشحم الخنزير في علف الدواب ودهن البيض للشعر وما قطع من الكرم ينفع في الشعر ودهن الشوك والحنطة للثواليل وشحم القنفذ للأرياح وقصبه مع السكر للطحال وزناً وسفاً. ومخ الحمار قاتل. وفي الهدهد منافع ذكره صاحب كتاب الحيوان والجوز الهندي في الهرايس نافع للجماع ومعاجين وأدهان للقيام. والحرارات الغالبة قاتلة وهكذا البرودات والماء عقيب الطعام متلف وحقن البول أتلف والفصد محمود الحجامة أحمد والقيء ينظف والقليل من لباب الخيار نافع والشوذاج للمبرود أجمل والحنطيات لصاحب الجماع يعنى. وأكل الهرايس أفضل. وشراب الرمان في المعدة موحل. والبطيخ فيه فوائد مطعم ومشرب وريح طيب ومقطع سال ومدر البول ومقطر لغسل المثانة ويذهب مع القئ الخلط. وفيه مضار ينشف الخلق ويزيد الصفراء ويورث الحكاك ودفعه بالسكنجبين. والقبيت المحلي يقطع الشهوات ويعصم ويسمن مع الريح الطيب. وخير الفواكه أنضجها وأجودها قبل الطعام إلا الكمثرى فقليله نافع بعد الطعام وتقليل البرد أجود لعينك: عن صفة الطبيب فدت. والجائع درهم أو أقل. وقد تصعب مداواة المتخوم. وسكره تعجيل الماء عقيب الطعام. ويستحب امتصاصه. ويكره عنه وأكل الحوامض في الصيف أنفع والشوداج في الشتاء.

وانفع الفواكه الغدي مثل التين والعنب وانفع الرمان الملاسي قليلة بعد الطعام أو عند النوم وهو مضر بأصحاب الجماع لا سيما حامضه.

المقالة السابعة عشرة

في الأشربة

أما السكنجبين فهو أول ما صنع لدى القرنين وأجوده المعتد وإبقاء المنعقد وشراب. الرمان يوجل المعدة وفيه تبريد الكبد. وشراب الخشخاش والبنفسج والنيلوفر فوائد عملها في الرأس وشراب الراسن يعمل في الخلط السوداوي حتى زعم أبو نصر الفارابي أنه يغني عن المفرح الصفير وأما شراب التفاح وما يتخذ منه ففيه الفوائد القلبية.

وأما شراب الورد فهو يسهل الخلط الصفراوي فان أعنته بدرهم ونصف تريد ودرهمين سورنجان فيكون سفوفا قبل شراب الورد أو بعده.

وأما الأرباب فرب السفرجل يعصم المحرور ورب التفاح بعمل في النميجة الواردة عن ضعف القلب إذا كان من حرارة ورب التوت فخاصيته في الحلق. وجميع الأشربة والربوب فالغناء عنها بالحمية مع العود إلى العادة القديمة كما جاء في الحديث: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وعود وأكل بدن ما أعتاد، ولا باس لمن أعتاد الشربه أن يتعهدها عند الحاجة إليها قال أبو طالب المكي رضي لله عنه لا تتعرضوا مع العافية إلى الدواء فربما يفضها وضرب الدواء في الخريف أولى من الربيع لقريه من المآكل التي تحدث السهولة.

وأما البقول فأنفعها الهليون والاسفناج.

روى ابن قتيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع حشائش من الجنة يقطر عليها في كل ليلة قطرة من ماء الجنة وهي الاسفناج والهندبا والهليون والخس " ففي الهندباء تبريد وفي الاسفناج والهليون ترطيب والخس يولد دماً صالحاً وانفع الهليون ما عمل بمخاض البيض والزيرباج. وأنفع البيض مخاخه. وأجود الخيار القليل من باطنه وأما الكرفس فانه يفتح السدد قليله وقد يتبرك به الناس في بعض البلاد. والسداب يورث الجذام إذ اصله من خرء الذباب.

قال صلى الله عليه وسلم في التين "كل التين رطباً كان أو يابساً فانه ينفع في الجذام والنقرس والبرص".

زعم الأطباء أن في التين خاصية قطع الناسور ويدر دم الحيض وأنفعه الغدي الصغير الأزرق البالغ وأكله على الريق أنفع وآخره أجود من أوله. وأول البطيخ أجود من آخره وخيار الخريف حمى وريحان الخريفه زكام والشرب في كوز الجماعة يورث الآلام. وسره من أبخرة الأفواه وحقن البول يورث حصاة المثانة وشرب بذر البطيخ السقي يعمل في عسر البول وغديه إذ أدق مع الكشنة أو العدس ينعم البدن ويزيل الزهكة.

ويكره العسل في الحمام بالعدس والمواضع النجسة ويجوز الغسل بالعدس في الأواني ودارك الأشنان ينشف رطوبات الأبدان ويسمن ويسمر الألوان ومعجون السمسم فيه ترطيب الشعر وتنعيم البدن وشقاق القدمين أمان من الجذام وأكل اليقطين يعمل في الخلط السوداوي وحلاوة القرع يزيل التجفيف. والزيرباج فاعدل الألوان. لكن بشرط أن يضاف إليه الخشخاش المرضوض. واللوز المحمص المرضوض مع الدار جينى والزعفران يحل بالماء الورد والعسل وبوضع في رأس البطيخ هذه حيلتهم على السكنجبين وانفع الحلوة ما كثر خبزه وأرطبها حلوة البيض والقطايف أميرها والمسير ثقيل في المعدة وأجوده السهل الناعم مثل الصابونية والكافورية. وأما خبيص اللوز فثقيل وأجوده الناضج الكثير الخشخاش وأما الهرايس فأجودها أنضجها وأحقها بلحم الحديث من المعز والضان قال صلى الله عليه وآله وسلم "شكوت إلى أخي جبرائيل ضعف الوقاع فأمر في بأكل الهرايس فوجدت لأمري جبراً" والإكثار من لحم الدجاج يورث الحرارة في الأطراف والمأمونية بالخروف المشوي أجمل لكنها اثقل هذا فصل إشارة في الأدوية والأطعمة وانفعها مادام وقل حسابه: فهذا طعام المترفين.

فقد قدم عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم قطايفاً بالقند والفستق ودهن القرع ففرك وجهه صلى الله عليه وسلم ثم قال: "آه من طعام المترفين وحساب المترفين، وقدم قعب من حليب وتمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كليه يا عائشة فالسمن يكن أليق".

كان يأكل النيت بعسل العرفط والمعافير فمن ترك شهوات الدنيا وهو قادر عليها كتب له من الأجر ما لا يعد والسر فيه أنه أوقع بينه وبين نفسه فسكت عن اللذات والشهوات فإذا فارقت هذا العالم الخسيس والحبس المظلم والجسد المعتم لم تتأسف على مفارقة المحقورات رقت على عالمها وشرفت بعملها مثل العلوم المرسومة المنتقشة فيها مثل علم التوحيد وهو العلم بالله وحده: بالبراهين النقلية والعقلية يحدث به لك جناح تخرق به عالم الملكوت إذ الأرواح ثلاثة: نفس العارف والناسك والزاهد إذا اجتمعت خلالها الثلاثة فلا يضرها الموت ولا الفوت لأنها كاملة رقت إلى عالم الكمال فهي تحظى بما ليس في الجنة من المقامات العلوية والأنوار القدسية في الحضرة الصمدية مجاورة للملائكة الروحانية تجتمع إليها وتسمع عليها من العلوم المودعة عندها فهي تنفصل عن عالم الكون والفساد وتلتحق بعالم البقاء الذي ليس فيه نقض ولا نفاد: "أعددت لعبادي في جنتي مالا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".

أعلم: أن هذا الحديث يدل على أن وراء نعيم الجنة نعيما لا تدركه النفوس إلا مع المشاهدة فهذا يعجز عن صفه مشاهدة لأنها لذة ذاتية تجوز عن حد التعبير والتفسير كما لو قيل للعنين عن لذة الجماع لما عقل. ومدرك اللذة لا يقدر على تعبيره فهذا لا يدركه إلا شاهده وهو النظر إلى الله الكريم وأنت تريد أن تعرف لذة المشاهدة من غير إبصار: كما لا ينتفع الجبان بذكر الحرب من غير مشاهدة ولا مواقعة وكيف تطمع مع الغفلة برفع الحجاب وقد سمعت أن زين العابدين عليه صلوات الله كان إذا قام في صلاته يرفع السد بينه وبين محبوبة فيطاف بقلبه في عالم الملكوت الأعلى وهو معنى قول أمير المؤمنين على عليه السلام سلوني عن طرق السموات فأني أخبركم بها وأنت أيها المبطل الغافل عبد نفسك وأسير شهوتك وتريد أن تلحق بالأبرار والمقربيِن أو تطعن مع حجتك وجهلك في كرامات الصالحين: شعر:  

تريدين إدراك المعالي رخـيصة

 

و لا بد دون الشهد من إبر النحل

تريدين أن أرضى وأنت بـخـيلة

 

فمن ذا الذي يرض الأحبة بالبخل

فجاهد ولا تجاهد واركب فرس حسن ظنك واقطع الغاية حتى تكون آية والبس ثوب الشفاء: إن أحببت اللقاء وأرض بالعيش الطفيف إن أحببت أن ترقى في عالم المجد إلى قبلة حمى الملكوت قال صلى الله عليه وآله وسلم "ظفر الزاهدون بعز الدنيا ونعيم الآخرة" وسلم المجنون على ليلى فأبت رد السلام فقال لها: ولم فقالت أخبرت أنك نمت البارحة لحظة ولو كنت صادقاً لما نمت عنا فقال عسر على زيارتكم فأحببت أن أراكم في المنام فنمت فقالت له ليلى كان شخصي قد زال عن قلبك ومثالي فقال عزفت عن المثال فاستفقت إلى التمثال فأنشدت ليلى: 

لم يكن المجنـون فـي حـالة

 

إلا وقد كنت كـمـا كـانـا

بل لي عليه الفضل من أجل ما

 

باح وإني مـت كـتـمـانـا

قالوا يا رسول الله إن بشراً وهنداً ماتا في حبهما فقال صلى الله عليه وسلم: "عجزا عن حمل المحبة فماتا" ثم قالت عائشة: حتى لك بورثك شوقا وفقراً؟ فقالت: أو أبقى بعدك لا كنت إن بقيت فقال كمتبقين ولكن تشقين حتى تلقين ثم قال يا عائشة إذا مات الزوجان المتحابان فلينظر أحدهما رفيقه كانتظار الغائب. شعر:  

نرى تقدم الغياب حتى نـراهـم

 

و نأخذ شوقاً منهم حين نـأنـس

لقد ضاقت الدنيا علينا ببعـدكـم

 

كمن غص بالماء الفرات فييأس

لئن غبتم عن ظاهر الأمر بيننـا

 

فما أنا إلا لـلـمـحـبة أدرس

إذا ما جلسنا بذكر الين بـينـنـا

 

تضيق القوافي منكم حيث أجلس

ولما حضر الموت الصديق قالت زوجته وأفراقاه فقال الصديق بل أنا وأفرحاه بلقاء الأحباب. فلا تخف الموت إن كنت مشتاقا إلى أحبابك فلا بد من اللقاء في دار البقاء فشمر عليك وقدم بين يديك عساك تظفر بسهرك فمن أدلج بلغ المنزل ومن جعل الليل له جملاً قطع عليه اوز الهلكات. شعر:  

فثـب واثـقـا بـالـلـه وثـبة مـاجـد

 

ترى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم

وشق الجنيد جبيبته لما سمع صبيا يترنم ويقول: أرى زماني يمر بخشن وينقضي بالمغالطة. وقد تركني زماني بحال. مالي حال إذا صحت الأعمال وطينت الأجسام وسهر العاشقون وقللوا الزاد والرقاد: فتحت أبواب بساتين الاشتياق ونزعت شموس المعرفة أزهرت مزاهر القرب من وراء الحجب وأشرقت هياكل القلب من أنوار جمال الرب ورفع الحجاب وقطعت الأماني ونادى العاشق بمعشوقه: كوشف بالكائنات وشاهد حقائق الموجودات وحظي بأنواع المكاشفات ونثر عليه نثار الكرامات وبشر بأعلى المقامات. وقال أبو الحسن النوري دخلنا على أبي يزيد البسطامي فوجدنا لديه رطباً فقال كلوه فأنه هدية الخضر جاء بها من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ما طلبتها إلا من الله تعالى ما طلبتها بواسطة الخضر: أكلها على يدي الخضر، ثم دخلنا عليه في الجمعة الثانية فوجدنا بين يديه رطبا في طبق ذهب أحمر فقلنا ما تطعمنا منه فقال لا هي لي ولا لكم فقلنا كيف حديثها فقال كنت قاعدا بالليل أتلو القرآن فسمعت خذ الهدية منالاً واسطة بيننا وأعلم أيها الغافل المحجوب عن لذة المعرفة أن أحباب الله يتدللون عليه كما يتدلل المعشوق على عاشقه. كما قالت رابعة: يحق ما كان بيني وبينك البارحة أجمع اليوم بيني وبين شيخنا يونس بن عبيد. فدخل يونس فقال يا رابعة ضيعت دعوة فيما لا بد أن يكون. فقالت يا شيخ دع عنك هذا فأين آثار دلال الأحباب وأنت تريد سبباً بلاش فهذا طلب الأوباش. قال الجنيد لرجل يعطى أجره الفعلة: أما تعطيني معهم يا شيخ فقال الرجل يا أحمق تمنى نفسك بالبطالة لو عملت لأخذت. وقد مر الشبلي بدار فسمع صاحبة الدار تقول لزوجها لا ثمن عليك إلا بقدر فعلك تريد بلاش عناق وزقاق فقال الزوج الكسل يعمل أكثر من هذا وانشد:

قد قاتني مقصدي فذبت جوى

 

حطت لدينا مصائب الكسل

لو عملت لرضبت عنى خليلة

المقالة الثامنة عشرة

في المأكل والمشرب وآداب المائدة

أعلم أن الله تعالى خلق هذه الصورة الآدمية وجعل لها غذاء وهو سبب بقائها فالناس فيه ضروب فطائفة تقنع بالقليل من المأكل وهي المتقنعة التي يصلح أن يكون منها متعبدون والتي هي شبيه الملائكة بخصالها وخلالها ونومها ومآكلها. فكلما قل الغذاء كنت مشبها لسكان السماء. وثمرته العافية والغناء عن الطبيب ومن قلة الأكل يحصل رقة القلب وقلة المخرج فمن كانت همته ما يدخل في بطنه كانت قيمته ما يخرج منها والإقلال من الأمراق والفواكه أسلم.

وأعلم أن كثرة المأكل كثرة الرفاق لا تربح من كثرتهم خيرا: ألم تر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يجمع بين الإدامين فهذا فيه زهد وطب. وفي البطون بطون نارية تأكل ما يلقي إليها. والنار لها سبعة أبواب. وللبطون مثلها مثل باب الحرص وباب الشره وباب النميمة وباب سدة الجوع وقلة المبالاة بالخطايا والمآكل الحرام أشد الذنوب وأعظمها وللجسد سبعة أبواب دالة على أبواب جهنم مثل السمع والبصر واللسان والبطن والفرج واليدان والقدمان فهذه أبواب السعاية الدالة على القبائح وأعظم البطون وأعظم الأفعال القبيحة مظالم العبيد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أكل لقمتين من حرام حجبت دعوته أربعين صباحاً ومن ملأ بطنا كانت النار أولى به" والحرام هو مثل المغصوب والسرقة وأخذ القصاص والجناية بغير إذن ربها وقطع الطريق وقبول الرشوة وأخذ القصاص والجناية بغير إذن ربها وقطع الطريق وقبول الرشوة والإجارات على الطاعات وابتياع الحرام وأجره الحجامات وأخذ مالا يستحق حتى نوبة الماء وأنواع كثيرة ذكرناها في كتب الأحياء من الحلال والحرام، وأما مكاسب الحلال فاصلها الحلال مثل البيض والبلوط والمن والحشيش والحطب. وأما الصيد ففيه كلام بين العلماء فتركه أجمل وعملك بيدك مع النصح أجل وأكسب.

أجتمع أبو الحسين النوري وأبو يزيد وسفيان بن عيينة فأخذوا ببعض أجرتهم خبزاً وتصدقوا بالباقي فلما قعدوا لأكل الزاد قال سفيان هل تعلمون منكم النصح في الحصاد فقالوا لا نعلم فتركوا الخبز مكانه وراحوا، وأعلم أن سر الحرام غامض نكشف بعضه فنقول إن الصانع واحد والخلق من فيضه فالمعتدى على بعض أجزاء الفيض يسري بعدوانه إلى الكل كما قال تعالى في القاتل. فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً والقياس إذا قال شعرك طالق سرى الطلاق في جميع جسدها. وهكذا: إذا تصدقت فقد أرضيت به الصانع والمصنوع واللقمة الطيبة وهي الحلال أفضل عند الله من صدقات كثيرة.

فإذا أردت الأكل فكل مادنا من الأرض بالأصابع الثلاثة بعد الجوع وقم قبل الشبع وأقعد كقعودك بين يدي شيخك للتعليم، وأعلم أن الله سبحانه وتعالى قد نزع البركة من الحار والحرام وفي المآكل الحار أربع مضار يهدم الأسنان ويصفر الألوان ويزيل الكبد وربما يخاف عليه من أذى المصران. وغسل اليدين من قبل الطعام وبعده.

ولا يجوز أكل المنتن للزوجين إلا بإذن بعضهم بعضا. والسر فيه أنه يورث النفرة بين الزوجين والريح الطيب مؤلف ومحبب وترك غسل اليدين يقمل الثوب ويولد رائحة كريهة وربما على ما ورد أن الشيطان يسترضع اليد ويستحسن الصورة فيألفها ولما كان. المقصود من الحلال تصفيه القلوب وتقليل الذنوب صار طلبه فرضاً كطلب العلم فان العلم إذا لم يدل على خير فهو ضرر وفي الحديث من ممل الحلال سنة كشف له عن طراز العرش وصفت أنوار خواطره. وهو كيمياء السعادة الأبدية ينشرح به الصدور وتصفو به أنوار المعرفة ويثبت في القلب عيون الحكم وبه تكشف غشاوة الغفلة وترفع سدود الغرور فيبين صفاء سماء التوحيد وينكشف له عن اللوح المجيد وتسمع بأذن صفا خاطرك هدير تسبيح الملائكة المقربين، وأعلم أن النفوس لا تكون مرهونة بعد الموت إلا بمظالم العبيد والسر فيه مطالبة حاضرة بين غريمين بين يدي حاكم عدل عليم باق. والمساواة واقعة بين العبدين إلا من أتى الله بقلب سليم: تخلصت الذمم من المظالم وانفك قيد النفوس فصارت الأرواح أين تختار.

ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أن الأرواح لتزور بيوتها وأهلها فإن رأتهم بخير شكرت وإلا نفرت وهي تنادي يا أهلي إياكم والدنيا فلا تغرنكم كما غررت بي" وهذا هو سر نداء الندم وأما الأرواح الطيبة الطاهرة من الدنس والآثام والمظالم فهي تطير أين شاءت واختارت على صور ما ذكرها الناس أما جوهر أو هيئة ملك أو جسم لطيف والكل مدرك حساس عليم بمفارقة الجسد فيقدر أنتقاش علمك يا هادي سيرقى العليم فوق الجهول وفي الحديث أن رد درهم مظلمة افضل عند الله من أربعة آلاف حجة مقبولة فإذا كان حجك واجتهادك خوفا من الآثام فاقطع أصولها.

المقالة التاسعة عشرة

في تهذيب النفوس

أعلم أن نفسك أشد عداوة لك كما في الحديث "نفسك التي بين جنبيك هي أعدي عدوك" تدعوك إلى الوبال وترشدك على الضلال وتوقعك في الدناءة وتركبك نفس الهوى وتوقعك وتطعمك وتهلكك وتملكك فأقطع خصالها وخلالها وشرهها وشركها وطمعها وولعها وشبعها. وفي الحديث أن الله تعالى لما خلق النفس قال لها: من انا؟ فقالت: وأنا من أنا؟ فعذبها بأنواع العذاب فكلما قال لها من أنا فتقول وأنا من أنا حتى عذبها بالجوع والتواضع فقال أنت الله الذي لا آله إلا أنت فنفسك زنجية تطالبك بالشهوات فإذا شعبت طمعت وإذا عصيت رفضت. هي الموقعة في البلايا وهي أم الرزايا. هي الذئب الكلب والأسد الحرب والكلب النهم. والعدو القرم. داؤها كثير ودواؤها قليل. وأعظم وسائل السلامة منها الخلاف لها شعر. 

إذا طالبتك النفس يوماً بشهـوة

 

و كان عليها للهـواء طـريق

فخالف هواها ما استطعت فإنما

 

هواها عدو والخلاف صـديق

ولا يجد المريض حسن الشفاء إلا بالصبر على مر الدواء.

فعذبها بما تهذبها فقد أنشد البستي لنفسه شعر: 

العاقل يهـزابـي

 

و الخلوة تهذيبي

ما أصعب أحوالي

 

و نفسي كالذيب

فإذا عزمت على تهذيبها فاضربها بسياط تعذيبها وأقمع بالتواضع كبرها وأطبخها بنار الامتحان. وأجعل العلم لها سيد الأخدان. والعمل الصالح لها مولي الخلان وتعلم الأخلاق اللطيفة. وتكسب الأعمال الصالحة والطف وإطراف وتكايس ولا تتيابس.

وأعلم أن الله لطيف وليس من شأن اللطيف أن يعذب اللطيف والمهذب لنفسه والمعذبها بنيران المجاهدة. وأعلم أن الخير عادة والشر لجاجة. فربها بالنوافل وهذبها بين يدي شيخك بالسمع والطاعة.

وأعلم أن حرمة الشيخ أعظم من حرمة الوالدين. والشيخ هو الوالد على الحقيقة والمرشد إلى الطريقة والخرج للمريد من ظلم الجهل إلى نور المعرفة وإلى السعادة الأبدية والنجاة الحاصلة والالتحاق بالملائكة لأن الشيخ هو الطبيب للذنوب أو الوالدان فهاجت نيران شهواتهما لقضاء الوطر وجنيت أنت من ثمار الشهوة ما تقدمت نيتهما بإيجادك عند الوطء وكان سبيا لإخراجك من ظلم العدم إلى ظلم الجهل ودار المكايدة والعناء فقد أجادا نقلاً وقصراً عقلاً. وأنشدني المعري لنفسه وأنا شاب في صحبة يوسف بن علي شيخ الإسلام: 

أنا صائم طول الحياة وإنمـا

 

فطري الحمام ويوم ذاك أعيد

قد فاز من صبح وليل أودنـا

 

شعري وأيدني الزمـان الأيد

قالوا فلان جيد لـصـديقـه

 

كذباً أتوا ما في البرية جـيد

فأميرهم نال الإمارة بالخنـا

 

و نقيمهم بصلابة يتـصـيد

كم من تشاء مهجنا أو خالصاً

 

فإذا رزقت حجي فأنت السيد

و الله ما سمعوا مقالة صادق

 

إلا وظنـوا أنـه مـتـزيد

هذا الشعر في بحر لزوم مالا يلزم. ومن علامة علمك أنهم إذا مرجوا لا تلتفت وإذا مزحوا لا تتزلزل وإذا كابروك لا تحول. وكابد نفسك عن المزاعقة والمصايحة فالكبر مطيب النفس فإذا أردت الغاية الكبرى في تهذيبها فأقصرها في بيت أربعين صباحا أو أربعة أشهر. وهو الأفضل وانقطع كأنك ميت ولا تبق لك حاجة. وحصل من الزاد ما وافقك وأعانك. كما تحصل طريق مكة ثم اركب مطية متابعة الشرع ثم سر في فلوات قمع النفس وليكن البيت مظلما وزمان الشتاء أولى ولا تأت بغير الفرائض من الصلوات ولا تنم إلا عن غلبة وكل ثلثي أكلك بعد الجوع ومقداره من اللقم الوسيطة ستة وثلاثون لقمة وليكن ذكرك لا آله إلا الله الحي القيوم فإذا كل اللسان فقل بقلبك ولا تخف من الواردات عليك فقد يجيئك صورة قبيحة وخيالات قاطعه وجن وشياطين وملائكة ومعلمون فواحد يقول أعلمك الكيمياء وآخر يمنيك بالكنوز وهذا يوعدك وهذا يهدد فلا تلتفت فأنه سيطهر لك مع الصدق وترك التجربة عجائب وفنون فعند ذلك تذوب كثائف الحجب عن القلب وترفع ستور الغفلة بين قلبك وبين اللوح المحفوظ فتشاهد ما فيه وتنقل إلى الخلائق معانية وينكشف لك في اليفظة ما كنت تشاهده في المنام فيستنير القلب وينشرح الصدر بأنوار الجلال وتنحرق الكائنات وتنكشف المستورات وتظهر الكرامات التي هن أخوات المعجزات. وبينهما فرق في التحدي والإظهار والاستتار بل إذا وصل العبد إلى درجة التمكين صار الكل بحكمه ما شاء فعل أو قال: (و أمّا بنعمِة ربَّك فحَدِث) وكلما تجده في الخلوة تعرفه شيخك فالشيخ في قومه كالنبي في أمته. ومن ليس له شيخ فالشيطان شيخه ومن مات بغير شيخ فقد مات ميتة الجاهلية: فيعلمه ويدله وبعرفه طريق الوصول إلى الله تعالى وصاحب الخلوة يهب عليه نسيم القرب من دواخل الحجب وكشف له أسرار قلوب المخلوقين ويزوره الإبدال فتراه فرحاً طيب الخلق حسن العشرة دعب لعب: لان الله يكون قد تجلى بقلبه فيسمع كلامه ويبلغ منه مرامه ويكشف شموس المشاهدة ويعلم المخفيات ويطلع على الكائنات.

ومن علامات الواصل بالله حسن الخلق وكثرة العلم وحلاوة الكلام والتواضع. وصاحب هذا الطريق مع علمه العزيز لا عبوس ولا حقود ولا متكبر ولا ظالم ولا متجبر ولا أكول ولا شروب ولا نؤوم: نفسه ملكوتيه. قوى جبرائيل همته. ونفخ إسرافيل سعادته في صور همته فحدا به حادي محبته. وسار به في بيداء معرفته حتى تجلى له بيت الجلال. فأنكشف منه خاصية يمشي بها على الماء والهواء ويطوى له بها البعيد. فاقربوا من هذا الرجل تكتسبون من قربة وفيض خاصيته ما اكتسبه الهلال من قرب الشمس وربما ينتقل أحوال الإبدال إلى التلاميذ والمريدين كما انتقلت النبوة من موسى إلى يوشع ابن نون.

وأعلم أن هذه الأحوال والمقامات لا يصدقها إلا من عرفها كما لا يصدق علم الكيمياء إلا من عالجه وعرفه فكل من يكلم. عند الصانع الواصل العليم فقد هدى فان الأعمى لا يبصر القمر والزمن لا يعد وخلف الطريدة وأنت تغيب وليس فيك نصيب ولا أنت محب ولا حبيب بطنك ملاءة وعينك محيطة ولسانك معقود وعلمك قليل واملك طويل وذنبك عزيز وربك بصير. فاسمع مناديك في جانب واديك: قال: لا تعب الحرائر حتى تكون مثلهم، واخش بمفلح نادى من وراء اللوح، فأحسن الظن فإنك قد طرحت فطرحت وجرحت فجرحت ولو أوصلت لوصلت ولو خدمتما لخدمت لكنك متشبث تجعل ط م ع وهي خالية من النقط فهلكت وما ملكت وما فاتك فاتك والندم تجده عند وفاتك. وأعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون: شعر:

قل للكئيب المعنى

 

إلى متى تتعنـى

فلا حياتك تصفو

 

و لا بنا تتهـنّـا

المقالة العشرون

في الأذكار

وأعلم أن الآيات الدالات على الذكر والإخبار كثيرة فمن ذلك قوله تعالى: (فاذكُروني إذ كَرَكُم) وقوله (اذكُروا الله ذِكراً كَثيراً) وقوله: (و لِذِكرِ الله أكبَر) وقوله: (و أذكُر رَبكَ في نَفِسكَ تَضَرُعاً وخِيفة ودونَ الجَهرِ مِن القَولِ بالغَدوِ والآصال ولا تَكُن منَ الغافِلينَ) بين المراتب والأوقات والذكر الخفي أجمل إذ ليس فيه أذى لسامعه وهو خالص عن الرياء والنفاق مثل صوم السر وصدقته. والحث عليه كثير. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل يتصدق بمال حلال وآخر يذكر الله من صلاة الصبح إلى طلوع الشمس فأي الرجلين أفضل؟ فقال ولذكر الله أكبر.

وفي الحديث أنه من ذكر الله من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فله أجر من تصدق بمائة ناقة حمراء حملها من ذهب أحمر وكأنه قد أعتق ثمانية رقاب من بني عبد المطلب ثم الذكر له ثلاث وظائف فذكر الظاهر بلقلقة اللسان فهذا يستحب في التلاوات من هياكل العبادات والذكر الخفي أعلى ضروب العبادات والصدقات. وذكر القلب ومنه يحدث الغناء من العالم والاشتغال بالمحبوب أنا ذاكر من ذكرني وجليس من شكرني وحبيب من أحبني. من ذكرني في نفسه ذركته في نفسي ومن ذكرني في ملأ من قومه ذكرته في ملأ من ملائكتي ثم يحصل من الفناء الأول قناء ثان وهو أن يعيب عن النفس لمشاهدة حضرة القدس فيصير الذكر لك عادة وعبادة كشف الموت عنك أعباء الأثقال عدت في عادة ذكرك مع الملائكة الذاكرين. إذ الخير عادة ويطاف بك في ساحة حظيرة القدس وتحظى بقرب من ذكرت. وهو قرب إكرام ومنزل احتشام ومن هذا الذكر ما هو قرآن ثم بعده تسبيح ثم صلوات النبي صلى الله عليه وسلم ثم استغفار ودعاء.

فهذه وظائفه فواظب عليه فانه يكشف لك من سر الربوبية ما يغنيك عن ملتمس كل حال تشاهد الملائكة ويخدمك مزمن الجن ويطيعك أعضاؤك ولزول وقر آذنك فتسمع تسبيح الجمادات (و أن مِنَ شَيء إلا يُسَبِح بحَمدهِ ولكن لا تفقَهون تَسبيحَهُم) وقد يحصل من ثمر الذكر أكثر ما مر بك في تهذيب النفوس ويثمر عليك أيضاً بعض ما أثمر على زين العابدين ذي الثفنات السجاد فأنه كان يسجد بين الليل والنهار ألف سجدة فأثمر عليه كان إذا قام في صلاته يكشف له الكائنات فيطلع على حومة حظيرة القدس وبه بلغ أصحاب المقامات درجات المكاشفات والسير على الماء والهواء وبه سمت الملائكة إلى أعل قلل الشرف واستحقوا دوام البقاء للتنزه عن المأكل والمشرب مع مداومات الذكر وشراب الفكر وهو التنزيه، والتسبيح من الملائكة وبه تجذب الملوك إلى المتزهدين وبه تنال مراتب العاشقين ويحدث منه خاصة جذب القلوب وقد يقف الذاكر الصادق على باب حسن الآداب وينحل بالذكر طريق الأسباب فتخلع نعل حب الدنيا. عن قدم إقدامه. ويقطع عوسج وساوسهم ببلوغ مرامه ويقف على طور صفاء قلبه في وأدى تقديس لبه هناك فيسمع كلام ربه. إني أنا الله رب العالمين. ويكفيك ما مر بك من قصة أمية بن أبي الصلت الثقفي. كان يترشح إلى طلب النبوة فقال لأخيه ها أنا أنا فأصطنع لي طعاما قال فبينا هو نائم إذ رأيت قد نزل طائران من النافذة فشق أحدهما صدره ثم أخرج منه نمته سوداء فقال أحدهما أوعى؟ قال نعم وعى علوم الأولين. فقال أو زكى؟ فقال لا فقال رد فؤاده إليه فليست النبوة إنما هي لسلالة آل عبد المطلب فلما انتبه أخبرته بالقصة فبكى وتمثل: 

باتت همومي تسري طوارقها

 

أغض عيني والدمع سابقهـا

مما أتاني مـن الـيقـين ولـم

 

أوت براءة يقض ناطـقـهـا

إما لـظـى عـلـيه واقـدة

 

النار محيط بهم سـرادقـهـا

أم أسكن الجنة التي وعدالأ ب

 

رار حفت بهـم حـدائقـهـا

هما فريقان فرقة تـدخـل ال

 

جنة مصفوفة نـمـارقـهـا

و فرقة منهما قد أدخلت الـن

 

ار وسيئاتهـم مـرافـقـهـا

لا يستوي المنزلان لـم ولا ال

 

أعمال لا يستوي طرائفـهـا

تعاهدت هذه الـنـقـوس إذا

 

همت بخير عاقت عوائقـهـا

و صدها للشفاء عن طلب الجن

 

ة دنيا الـلـه مـا حـقـهـا

عبد وعي نفسه فعـاتـبـهـا

 

يعلم أن البصير رامـقـهـا

ما رغبة النفس في الحياة لتح

 

يا طويلا فالموت لاحقـهـا

يوشك من فر عن مـنـيتـه

 

يوماً على غرة يوافـقـهـا

إن لم تمت غبطة تمت هرماً

 

الموت كأس والمرء ذائقهـا

وبهامات مصدوع الكبد: منعه شركه عن نيل مقصده. إذا الشهوات قاطعة. واللذات مانعة ومن رام الماء صبر على الكدر ومن قطع الليل خلص عن حر الطريق ومن جعل نفسه ذات الشهوات كان مسقطه الكثيف. والخلوات. ومن قطع العلو بهمة المجاهدات نال أعظم المراتب بالصبر على المصائب والنوائب. وما صاحب المآكل الكثير يحظى بسوء التدبير وهو مستور لا يفلح أبداً.

المقالة الحادية والعشرون

في جهاد النفس والتدبير

قال النبي صلى الله عليه وسلم "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر؟ فقال:"هي مجاهدة النفس.

وقال صلى الله عليه وسلم: "أعدي عدوك نفسك التي بين جنبيك ".

وقال صلى الله عليه وسلم بعثت:"لأتمم مكارم الأخلاق ".

وأعلم أن النفس أخلاقها ذميمة غير مستقيمة فإن فيها مع صغر حجمها كما قلناه - ما في السموات والأرضين. وهي النار الموصدة فيها ذئاب الغيبة وكلاب الشهوة وسباع الغضب. ونمور المخالفة وثعالب الحيلة. وكمين الشياطين بعسكر الهوى ومناجيق الامتحان ووساوس القبيح: كل هذا ممكن تحت قلة قلعة النفوس محيط بربصنها وحصنها. وأعلم أن القلب مدينة وساكنها الملك وهي النفس اللطيفة المدركة العالمة الطاهرة الربانية الخارجة عن صفة النفخة المشار بها إلى الروح وهي محجوبة بالأبخرة الظاهرة المتولدة من دم القلب الذي هو الشكل الصنوبري واللحم المجوف وما هذا هو. القلب المخاطب وإنما العقل، فهو المخاطب من قوله: تعالى (فأتقُون يا أولي الألباب) وقوله (إنَ في ذلكَ لذكرى لِمَنْ كانَ لهُ قَلب) وهو معنى قوله: (أذن واعيه) والنفس المشار إليها هي أسيرة الشهوات مقيدة بقيد الغفلات مشوهة مستورة. بالخيالات عاشقة للدنيا قد أطعمت ببخسها فأصبحت مخبطة سكرى قلقة حيرانة مشغولة بخدمة الجسد الترابي تحمله للكنيف مشغولة بتربيته وتغذيته الفته فعشقته فإذا فرق بينهما تأسفت حتى إذا مر عليها بمثل قدر ما خدمته بطون المدة نسيته وأنكرته كأنها ما عرفته فإذا ردت إليه نفرت حتى تسمع إشارة القدس (يا أيتُها النَفسُ المُطمَئنة أرجعي إلى رَبِكِ) هذا خطاب موجد لموجود غير مفقود إذ لا يجوز خطاب المعدوم ومن شواهد ذلك قوله. صلى الله عليه وآله وسلم: "تعرض على أعمال أمتي في كل أثنين وخميس فما كان من حسنة أسر بها وما كان من سيئة استغفر لها اشتد غضب الله على الزناة" وقوله صلى الله عليه وآله وسلم "أكثروا من الصلاة علي فإن صلاتكم علي معروضة" فأيها المكذب المذبذب الغافل المتأول أراك تعجز الصانع القادر لزعم يا مسكين أن لا عود للجسام والأرواح إلى الصانع القديم القادر أهو ذاك أم غيره سواه أتتجحد عليه وتتحكم وتعجزه في قدرته وآيته ونبوته أفمن رباك في بطن أمك أفلا يربيك في بعطن قبرك ثم، تقول تختلط العظام بعضا ببعض فكيف السبيل إلى تخليصها فأنظر إلى الصانع كيف يخلص التراب وبرادات الذهب والفضة والحديد وهي أجزاء تعجز أنت عن خلاصها فالصانع القادر ليس بمعجز ولا يدخل تحت طوق ما تريد وإنما أنت عاجز تعجز وتغتر بمقالات أبي علي بن سينا. أقد صار عنك أصدق من محمد صلى الله عليه وسلم فأنظر إلى فعل هذا وهذا ثم احكم بالفسق والعدالة وأرفع الحكومة إلى حاكم عقلك في التصديق والتعديل وأحسبهما حكمين فإن قلت هذا عقل وهذا نقل فأنظر ما يذكرون لك من حوائج طلبك إلا تسأله عن خواصها وبراهينها وتقول. لم يقبض هذا ويسهل هذا فيكون جوابك عنده إنما أنت معارض أم مريض فكيف تعارض طبيب أخرتك وقد كان الذين قبلك اكثر منك بصيرة وعقلا علموا أن الاعتراض والتعجيز كفر فاسلموا منه وآمنوا. فجاهد نفسك واتبع شرعك فلا تخالف نبيك واكرم كتابك فهو هدية الله اليك. وقبيح بمن أكرمه ملكه بهديته أن يستهين بها وعن قليل تلتقي وتتواقف وتستحي وأن كانت الروح راجعة إلى مبادئها عند بارئها فان صدق الشرع فهناك يتبين غليظ التوبيخ والجماهير أكثر منك إذا أنت منخرط في سلك نظام الآحاد لا التواتر تبعث طاعة نفسك فأردتك إلى البلايا وإلا فأنظر الليل والنهار والصيف والشتاء والربيع والخريف وتنقل الأحوال فيهما وإحياء الأرض بعد موتها ونومك وانتباهك بغير اختيارك وآيات كثيرة أنت عنها غافل ثم ارجع إلى مجاهدة نفسك تمح صفاتها الذميمة وأتثبث صفاتها الحميدة المستقيمة فأقمع الغضب بالرضا والكبر بالتواضع والبخل بالبذل والإمساك بالصدقة والصمت بالذكر والنوم باليقظة والشبع بالجوع والغفلة بالانتباه والخلطة بالخلوة والاشتراك بالعزلة والمداهنة بالصدق والشهوة بالقمع والباطل بالحق فإذا محوت صفات آفاتك بان لك عند رفع ستر الغفلة كيف تحي الموتى وهو، على كل شيء قدير. لكنك شيطان مريد.

وتزعم انك لله مريد فأين آثار حلاوة التوحيد. نام واحد من بني إسرائيل في موعظة داود عليه السلام فأوحى الله تعالى أن يا داود من أدعى محبتي ثم ينام عند ذكري فقد كذب لما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل عليه السلام في منامه فقال يا أبت هذا جزاء من نام عن خليله وآدم لما نام خلقت حواء قال الشاعر شعر. 

عجبا للمحب كـيف ينـام

 

كل نوم على المحب حرام

وأعلم أن قلبك هو المدينة التي أشرنا فيقدم شيطان نفسك إلى تعبئة جيوش الهوى وعساكر حب الدينا ونقاب الوساوس ونقاب التمني ومشاغل سوء الظن ومناجيق المخالفة وبوق الكبر وطبول إساءة السمعة وأسياف خيل الشره وزحف رجل المكر: وأجلب عليهم بخيلك ورجلك فإذا أحاطت هذه الجيوش بهذه المدينة ولم يكن لها زاد ولا رجال من الأخلاق الحميدة هلكت المدينة إن لم يدفع عنها البلاء وسلب الملك وخربت مدينته ونام عنها حارس الذكر وتهدمت أبراج الصدق وقعد شيطان النفس على سدة أسرار القلب وهتك أستار خزائن الأعمال ودارت في المدينة عوانية الشك وقطعت أشجار المعاملة ونهبت أموال الأعمال وأكلت ثمار الآمال ووقع الشك في الكتاب ونفرت النفوس من مصاحبات الأصحاب وعصى كل مولاه وتبع كل منهم هواه وكبكبوا على مناخرهم في النار: (و قالوا يا وَيلَنا ما لَنا لا نَرى رجالاً كُنا نَعِدَهُم من الأشرار اتَخَذناهُم سُخرياً أم زاعَت عَنهُم الأبصار) وكل ما الناس فيه من التشكيك والبلايا هي الشبه والحرام. وإلا فصف زادك وأنظر لشرح نور الإيمان في سرك وفؤادك ينكشف لك زادك ليوم بعثك ومعادك هي النفس ما عودتها تتعود.

وأعلم انك بنفس المجاهدة تهذب نفسك حتى تصير ملكا روحانيا. وبمتابعة الغفلة والشهوات تصير شيطانا رجيما فجاهد النفس الأمارة بالسوء تمح صفات آفاتها حتى تصير لوامة ثم انقل اللوامة إلى مقام المطمئنة كما ينقل السلطان فراشه إلى مقام الكاتب ثم إلى مقام الوزير ثم يتصرف مع نصحه في ملكة فينظر إلى حسناته فيكون عنده سيئات هذا مقام حسنات سابقة كما قيل: "حسنات الأبرار سيئات المقربين لما.

والطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق. والمقامات تعلو مع الأنفاس: كان صلى الله عليه وسلم يعلو من مقام إلى مقام وهي مقامات الكشف،و المعارف بها نبه حيث قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة". والرين أشد من الغين وأسمع نظم أمير المؤمنين علي عليه السلام في النفس:  

صبرت عن اللذات حتى تـولـت

 

وألزمت نفسي صبرها فاستمرت

و كانت على الأيام نفسي عـزيزة

 

فلما رأت عزمي على الذل ذلت

و قلت لها يا نفس موتي كـريمة

 

فقد كانت الدنيا لـنـا ثـم ولـت

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبـلـت

 

و لا البخل يبقيها إذا ما تـولـت

و ما النفس إلا حيث يجعلها الفتى

 

فإن أطعمت تاقت وإلا تسـلـت

فهذبها وعذبها وقربها من بابها وأنظر مقام الأنبياء والأولياء فيها وأغتنم الثواب والثناء فما ذكر الصادقين كذكر الفاسقين. (و لتَعلَمَنَ نَبأه بَعدَ حين). وقد سمعت مقالات اللعابات. وكم لي كرارا. فلك لذا التواني غائلة وللقبيح خميرة: يتبين بعد قليل والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. ولكنك كالعود النخر لا يحمل ثمرا ولا يظل بشرا وكالمرأة القرعاء التي باهت صاحبات الشعور بشعر الزور فإذا كشفت عن رأسها هتكت بين جلاسها وأنت قد رضيت بقعقعة ثيابك ونذل ثوابك. غدا ترحل القوافل. وتبقى على الطريق يا غافل. وتقعد بغير زاد وتقول لشاويش القافلة أرجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت: هيهات غلق الرهن فلا يقال. قالوا يا رسول الله ما السر في نقطة دمعة الميت على خده فقال أما الصغير لما يشاهد من حال أبويه في اللوح وأما الكبير فيكاشف بأعماله وانتقال زوجته وأمواله فبم تتنبه وهذا الحال أنت فيه وبه كما قيل عود نخر ما يحمل وأقرع ما يمتشط وما يجيء من مربح مزبلة لسبيل فأنا أرفعك وهمتك لصنعك. لا شك أن الغلبة لك. فمن كانت همته ما يدخل في بطنه كانت قيمته ما يخرج منها: إن فهمت فأنتبه. وإلا فأنت بنفسك أخبر ونصحت ولكن لا تحبون الناصحين.

المقالة الثانية والعشرون

في المحبة والشوق والمشاهدة

والمكاشفة والمواعظ والزواجر النقلية والعقلية

أعلم أن المحبة جائزة وجارية أولا بين الله وأوليائه وقد نوه بها القرآن من قوله (و الذين آمنوا أشَد حٌباً لله) وقوله (يَحبُهم ويَحِبونهُ). فإن قلت وثارت نشمك الخبيثة: كيف تحب من لم تره وليس من جنسك فقد تحب الصانع لما يظهر من حسن صناعته فأنظر إلى بساطة وما فيه من بدائع النقوش والخضر والأشجار والثمار والأنهار وإلى الفلك وما فيه من الليل والنهار وشموس وأقمار وكواكب كبار وصغار فهذه آيات صناعة الصانع دالات على استمرار وجوده فسبحان صانع المصنوعات فترتيب نفسك إن عقلت أعظم مما رأيت وسمعت والذي يدلك وهو من أقوى الدلائل في محبته لذة سامع كلامه إذ هو معجز لا نظير له فيه يستدل على محبة المتكلم أما سمعت نظم الشعراء:

و كاب قـالـت لأتـرابـهـا

 

يا قوم ما أعجب هذا الضرير

أيعشق الإنسـان مـن لا يرى

 

فقلت والدمع بعينـي غـزير

إن كان طرفي لا يرى شخصها

 

فإنها قد صورت في الضمير

وأنشد الشيخ أبو العلاء المعري لنفسه رحمه الله:

يا قوم أذني البعض الحي عاشـقة

 

و الأذن تعشق قبل العين أحيانـا

إن العيون التي في طرفها مرض

 

قتلننا ثم لـم يحـيين قـتـلانـا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

 

و هن أضعف خلق الله أركانـا

وأما الأخبار فكثيرة وقد ذكرناها في كتب الأحياء. وإشارة من جملتها كافية مثل قوله: كذب من ادعى محبتي، وإذا جن الليل نام عنى ومثل قوله "لا يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به: الحديث وأعلم أن الحب والعشق وأحدو الأفضل فيه هو هيام العاشق بالمعشوق وهو النظر لاستحسان بعض الصور بطريق الولع به نار عن طريق بخار حاد من خاطر ذكي لو ذعي سبك نيران المجاهدة فظهرت أبخرة نيرانها من وراء مؤخرات الدماغ وظهرت ملوحات الفكر في العشق من متقدمات اليافوخ وفتحت مصاريع خلوة القلب فاقعد خيال المعشوق قبالة عين اليقين والنفس تصقل مرآة المجاهدة في نظر جمال المحبوب والأصل في المحبة هو المنادمة والألفة واستحسان كلام للمعشوق فعند ذلك تثور همة الطلب بقدح نيران الشوق فتستغلب عليه حالة العشق فيصير في الشوارع مجنوناً ما صارت نيران الماليخو ليافخلط الكلام وأحترق البلاغم والأخلاط وصفقت سماء القلب لتجلي قمر المعشوق فيبقى العاشق والهاً والعاً تائها في تجلي جلال المعشوق فإذا انكشفت البلاغم نارت عرائس القلب تحمل صواني نثار الإشعار ورقصت عرائس الآمال في مجالس الأوصال فزمر مزمار التمني. وضرب مزهر التأبي كما قال سابق الرجال:  

تمنينها حتى إذا ما تمثـلـت

 

طربت كأني قد دعوت ولبت

تمنيتها حتى إذا ما رأيتـهـا

 

رأيت المنايا شرعاً قد أضلت

تمنت أحاليب الرعايا وخـيمة

 

بنجد وما يقض لها ما تمنـت

فلا تنسيا أن يعفو الله عنكمـا

 

و لوما إذا صليتما حيث صلت

فيا ليتني أحجار حائط مسجـد

 

لعزة إذ فيه تصلـي وولـت

ثم هيج الغبار فترى بخار التمني ويقوى بخار العناء فترى التقسيم الواقع في القلوب فهنالك لا نوم ولا قرار ويظهر مبادئ النحول والصفار ويبرز أعراض السهر وتقدح نيران العشق لهزال سمان الأبدان. وينشد المغني من غير توان. 

وجه الذي يعشق معروف

 

لأنه أصفر منـحـوف

ليس كمن أضحى له جنة

 

كأنه للذبح مـعـلـوف

في الحديث ينادي مناد في كل ليلة ألا لعن الله رسول النئوم ابن آدم لهذا خلقت؟ تقنع ليخف حسابك ويصح جسدك ويقل أمراضك وينصاح إعراضك ويقل منامك ويكثر ذكرك فيهديك محبوبك إليه فيجذبك إلى طاعته ويعصمك عن معصيته فأكثر من النوافل تفلح والسلام.

أعلم أن الشوق هو الداعي إلى حالة المكاشفة والشوق هو التمني للقاء المعشوق ولقاء المعشوق لا يحصل إلا بالمكاشفة والمكاشفة أما أن تكون عيانا أو قلبية وهو تجلى المعشوق بحالة يحملها قلب العاشق لكن العيان هو أفضل بل بشرط جامع بين القلب والعين كحالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فانه كاشفه ليلة إسرائه بالتجلي القلبي والنظري لصحة الروايتين عن عائشة وعلى وابن عباس. وأعلم إن حقيقة المكاشفة هي عين النظر إلى المحبوب ولكن يتفاوت على قدر درجات المحبين وليس نظر الخلق كله واحداً فأدنى درجاتهم النظر القلبي أما النظر البصري فهو غر قوم عرض غير دائم وأعظم المنزلتين هو الجمع بين النظر والقلب. فإذا رفعت ستور الغفلة والهواء تجلى المحبوب فتلاشى المحب حتى يخرج من الستور البشرية والحجاب الجسماني فيرى الحجاب ويسمع الخطاب: (و ما كانَ لبشرٍ أن يُكَلِمه الله إلا وَحياً أو مِن وراء حِجاب) فعند ذلك يمتد له خطاب من الهواء في جميع ما يحدث في الكائنات فيصير عيسوى الحال: وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فيصير الملائكة ومؤمنو الجن بحكمه وطاعته وينخرق بينه وبين الله ووزنة يعلم بها خلاصة صفاء أسرار الكائنات ولكن بشرط خير العلم والعمل بصدق من غير تجربة. فإذا هبت نسمات اللطف برفع حجاب الغفلة. انقلبت له الكائنات على ما يريد إذ الإرادتان امتزجتا: واحدة كما سبق في أحوال الصوفية من قولهم:  

إذا أبصرتنا أبصرتـه

 

و إذا أبصرته أبصرتنا

فيصير الناسوت معنى لطيفا يحدث له من الغيب قوة يقبل بها جميع الواردات عليه فمنه ثمار الكرامات والتحدث بالأمور الغيبيات يعرفه الباحث من جنسه وسائر الطير له منكر فتتجوهر النفس بزوال الأعراض الفاسدة عنها فتصير قدسية لا يخفى عليها الأمور الغيبية فإن قلت هذا نوع مشاركة عزت على الأنبياء فكيف ينالها الأولياء.

فأعلم أن اصل الغيب هو من الله القديم فمنته عليهم إطلاعهم على شيء من علوم الغيب: أما سمعته يقول: (عالِمُ الغَيبِ فلا يَظهرُ على غيَبِة أحداً إلا مَن أرتَضى مِن رَسُولِ) وقوله من رسول وهو ستر على الحلال لئلا يحسب أجلاف العامة إنها مشاركة غيبية وهذا غير بعيد إذ خزائن الملوك يطلع عليها المملوك والأمور المستورة من المعشوق فقد يشاهدها العاشق الصادق قياسا بالصورة الحسناء يشاهدها مالكها وهي مستورة عن الغير: وتلك الأمثال نضر بها للناس وما يعقلها إلا العالمون.

وقد سمعت الجنيد يقول كل أحد حلاج لكن ليس كل أحد خراج.

وقال أبو يزيد البسطامي من وصل درجة التمكين فهو طبيب يقعد على سرير أسرار الخلق فيطلع بإذن مالكه على خواطر أسرار الملوك مثل اطلاع مملوكك المحبوب عليك في حالاتك: أليس فاطمة السلماسية كانت تخرج وقد أذن مؤذن الظهر من سلماس فتصلي الظهر جماعة في بسطام فإن قلت خذا غير ممكن فإنها حالة لم تنخرق للأنبياء فكيف لغيرهم. الجواب إنك تحكم على الله أو على نفسك. فإن كان على نفسك فأنت أخبر. وأن كان على الله فأنت أصغر. فمن عجز عن عدد عروقه وعظامه ولا يحصر عدد أدوار عمامته على هامته فكيف يدخل بين الله وبين غلامه ثم ما علمت ما أعطى الله للأنبياء. فإن علمت بعض علومهم من طريق النقل فالمعجز يكذب العقل ويحكم عليه. فبواطن أسرارك لا يطلع عليها ولدك ولا جارك فكيف مليكك وجبارك.

وقد قال لك: فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من أرتض من رسول. وأنت غير واصل إلى كشف ستور الوصول فإذا بلغت المنى والسؤال تعرف ما بين الله والرسول. وقد قلنا لك سابقاً: جاهد ولا تجاهد فالمجاهدة تزيل غبار الشكوك مع المشاهدة وأنت معصب العين بعصابة حطام الدنيا وهمتك ضعيفة خسيسة فأين خنافسة الكنيف من المقام الشريف. وحسن الظن وهو الإكسير العظيم الذي به يقلب كل جهل علماً. فمن تمسك به فقد استراح فهذا نوع المحبة والشوق والمكاشفة على وجه الاختصار.

وأما الزواجر والوعظيات فمثل الآيات الرادعة المذكورة للوعد والوعيد والأخبار المذكورة للفزعة والحكايات الجاذبة والأشعار المخوفة والمشوقة. فخوفوا المبتدئ وشوقوا المنتهى لأن المبتدئ هو قريب من خروج دار الجهل فيضرب عليه سور من التخويف خوفاً من الزيغ والميل وأما المنتهى فقد غفر الذنب ورق القلب وأصابه عناء المجاهدة فلا بد للجمل من حاد لقطع الوادي. فالمجاهدة قلاشية والنغمات تنشية قياساً بأرض ميتة تحيا بوابل المطر فتهتز وتربو وشبت وتثبت وتنثر على المريد نثار الهمم. أنظر. كيف قال أبو حيان التوحيدي: إن كنت تنكر إن للنغمات فائدة ونفعا فأنظر إلى الإبل اللواتي هن أغلظ منك طبعاً تصفي إلى قول الحداة فتقطع الفلوات قطعاً فعليك بالخلوات الأربعينية التي يسميها مشايخ العجم جله. فهي عند العجم الجلاء وأعتد بها وليكن زادك وزنا تنقص كل يوم منه لقمة أو تزن مأكلك بعود ندى فهو ينقص على قدر جفافه فقلل ولا تتعلل خفف وطفف في مأكلك تلتحق بعالم الملائكة ففي الحديث: "أكثركم شبعاً في الدنيا أطولكم جوعاً يوم القيامة".

وإذا فعلت ذلك تستغني النفس بالقدس وتصير لك بها أنس.

فلا تتخذ على محبة الدنيا والفلس فينتقل إليك حالة الصفة المحمدية: صلى الله عليه وسلم من قولة لست كأحدكم أنا أظل وأبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني فهو حالات الصادقين ومنازل المتقين فلا تسكن من المكذبين الضالين فإن عجزت عن مقام المقربين فكن من أصحاب اليمين والحمد الله رب العالمين .

المقالة الثالثة والعشرون

في العلم والعمل

أعلم أن الخواص من خلق الله تعالى ثلاثة: عالم وعارف وناسك.

فأما العالم فهو الذي علم وأطلع على العلوم الظاهرة فعمل بها فورثة الله بعمله العلوم الباطنة: مثل علم المحبة وعلم الشوق والرضى وعلم القدر وعلم المكاشفة والمراقبة وعلم القبض والبسط. فهذه علوم الصوفية الصافية الصادقة الوافية: مثل الحسن وسفيان والفضيل بن عياض وأبي يزيد البسطامي وأبي الحسين النوري وحبيب العجمي ومعروف الكرخي وشقيق البلخيى ومحمد بن حفيف وبشر بن سعيد وأحمد الخوارزمي وأحمد الداراني وحارث المحاسبي وسرى السقطي وأبي الحسين بن المنصور الحلاج والجنيد والشبلي وأبي نعيم القاضي.

فهذه الطائفة الإلهية الذين نبغ ذكرهم ليسوا كالطائفة المشغولة بالعلوم والشهوات وصرفوا همومهم إلى الزيدية والقرصين فأتتهم المعاملات: بيضوا الثياب وسودوا الكتاب: صقلوا الخرق ولا نقلوا عن الخرق وجعلوا المرقعات شركا على الشهوات فهؤلاء هم الزنابيل وأولئك هم القناديل وأولئك تمسكوا بالواحد الشاهد وهؤلاء انصبوا إلى محبة الشاهد.

أولئك هجروا المناصب وهؤلاء دبوا إلى المناصب أكثر. كلامهم اذهبو المذهب حتى يذهب والخلاف عندهم كورق الخلاف. الأصول عندهم فضول. والنحو عندهم محو أكثر علومهم الرقص والشبابة لا يفرقون بين القرابة والصحابة فما أكثر عيوبهم لقد نسوا محبوبهم تشاغلوا بمأكل الدويرات. ونسوا مدارج الطاعات نصبوا السجادات لأجل الخلق ونسوا الله والحق فهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث: إن الله ينزع مرقعاتهم ويعلقها على أبواب الجنة ويكتب عليها مرقعات زور.

تركوها مناصب للاكتساب وهبوها لكلب أهل الكهف واقتسموا جلده عليهم عوضا من مرقعاتهم، فهؤلاء صوفية الدنيا وأولئك صوفية الأخرى. جمعوا بين العلم والعمل وسهروا حتى ظفروا. قالوا: فنالوا. صدقوا فحققوا. علموا ثم عملوا. فجمعوا بين المقال والحال. فهم أهل العلم والمغفرة. والنسك والزهادة فأحدثت لهم جميع هذه الحالات خاصية قوة الهيئة. فطاروا بأجنحة الاشتياق إلى رياض القدس وحظيرة الصمدية فاقتطفوا علوم الغيب. فقالوا هؤلاء فقراء الآخرة وصوفيتها الذين علموا أن النعمة هي من المنعم فتركوا الأسباب جوانب.

وأما علماء الآخرة فمثل الحسن البصري وسفيان بن عيينة والثوري صاحب المذهب والطائي الطاهري وأبو سعيد الخدري وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ومالك بن أنس المدني ومحمد بن إدريس الشافعي المطلبي وأحمد بن حنبل الشيباني والمزني وابن شريح والحداد والقفال وأبو الطيب وأبو حامد وأستاذنا أمام الحرمين أبو المعالي والجويني والشيخ الإمام أبو اسحق إبراهيم الفير وزابادي المعروف بالشيرازي.

فقد جرى له مع شيخنا نوبة عند السلطان وكنت أحضرها فما رأيتهم طلبوا بالمناظرة غير إظهار الحق لا غلبة ولا صقل كلام ولا نقص في الخبر النبوي ولا تأويل باطل في متن آية ولا مزاعقة ولا مخاصمة بل هو على طريق الفائدة والمباحثة فأولئك من علماه الآخرة الذين شبهوا صحب رسول لله صلى الله عليه وسلم بترديد الفتاوى من واحد إلى واحد وقالوا أميركم أحق بالتقليد ونحن علماء السوء نشتغل بسواد الريقة وبرى القلم والتصدي والتحدي وذرب اللسان وسواد الطيلسان وقعقعة الثياب وطول الأردان وسعة أكمام والصيحة والدهشة وذكور إناث العجم: ولا ينبئنك مثل خبير. فأنظر القوق بين الطرائف والفرق: أليس في الحديث من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة. فنحن لا بيوت ولا تخوت ولا حور ولا سخوت: رأى الشافعي مناماً وكان قد تكلم في مسألة مع أبي يوسف فرأى كأنه قد أدخل الجنة فرأى حوراً وهي تشرق للعرصبة من نورها: قال لمن أنت فقالت لمن ترك المراء وهو محق ثم ولت وهي تقول:  

خلطوا الحق بالـقـبـائح زوراً

 

ثم مالوا إلى المراء نـسـوراً

ثم رامـوا مـن الإلـه بـدوراً

 

قد فجرتم من المقال قـبـوراً

أيا مـالـكـم تـنـالـون دوراً

 

سوف تجزون في المعاد فجوراً

و طلبتـم مـن الإلـه أجـوراً

 

سوف تلقون في الجحيم أجوراً

ثم قالت: يا شافعي ما تنال بالقال والقيل هذه الثياب والخلاخيل. إن كنت صادقاً وتريد أن تكون للجنة مالكاً فعليك بالعلم والعمل. مثل مالك فمن أراد الممالك يصبر على المهالك. ثم انتبهت فعلمت أن مراء هؤلاء لا يقود إلا إلى الهوى. والآخرة عند ربك للمتقين وفي الحديث إن العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا أرتحل. فهؤلاء علماء الدنيا وعلماء الآخرة وفقراء الدنيا وفقراء الآخرة وأنت مشغول بالكرم عن الكرامات. وبالقصور عن القصور العاليات. أنت مثل الذئب وهمك في التشكيك والتكذيب. 

سوف ترى إذا انجلى الغبار

 

أسابق تحتـك أم حـمـار

أما العلوم فكثيرة أقربها ما دل على الآخرة: مثل علم الشريعة وتفاسير الواحدي وأمتان الصحاح وقراءة القرآن ومحافظات الأوراد المذكورة في كتب الأحياء. وإن أردت حسن العقيدة على وجه الاختصار فعليك بلواقح الأدلة وهو لشيخنا إمام الحرمين. وإلا قواعد العقائد. وإن أردت سلوك طريق السلف الصالح فعليك بكتاب نجاة الأبرار. وهو آخر ما صنفناه في أصول الدين. وقد ذكرنا لك التصانيف في معرض هذا الكتاب فأقرا ما شئت وأعمل ما شئت فإن اللقاء قريب. وأعلم إن فصول السنة معروفة: مثل صيفها وخريفها وشتائها وربيعها. فمن الحمل إلى الجوزاء ربيع ومن السرطان إلى آخر السنبلة صيف ومن الميزان إلى آخر القوس خريف ومن الجدي إلى آخر الحوت شتاء: وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب. قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه هذا الهواء إذا أقبل فتلقوه وإذا أدبر فتوقوه فإنه يفعل بأبشاركم كما يفعل بأشجاركم: أوله مورق وآخره محزق. ففي العلوم ما يضر مثل العمل بالسحر والكهانة وصبغ الصفر فضة يضر في الآخرة إذا قلبها فضة بالصناعة وباعها وفي المكاسب مكاسب خسيسة تأباها النفوس: كالغسال والحفار والكناس. والحجام، والصنائع من جملة العلوم المفهومة التي تعينك على طلب العلم الأخروي فكن عالماً عاملاً: تنال المقصد الأسنى في دار الله الحسنى هنالك تستقر نفسك من غير ضجر: في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

فصل

في أعاجيب الفنون والأسفار

قال صلى الله عليه وآله وسلم إن بالمغرب ههنا لأرضاً بيضاء من وراء قاف لا تقطعها الشمس في أربعين سنة قالوا يا رسول الله: أو فيها خلق؟ قال: نعم فيها مؤمنون لا يعصون الله طرفه عين لا يعرفون آدم ولا إبليس بينهم الملائكة يعلمونهم شريعتنا ويحكمون بينهم ويدرسونهم الكتاب العزيز قالوا يا رسول الله: زدنا من هذه الأعاجيب فقال إن له صديقة من مؤمني الجن غابت عني سنين فسألتها أين كنت فقالت كنت عند أختي من وراء الأرض البيضاء التي وراء قاف بهزد فقلت أو هم مؤمنون فقالت: نعم قرأت عليهم كتابك فآمن به قومنا فقلت: وما وراء تلك الأرض فقال جبال ثلج وماء وهواء وظلماء ثم وراء ذلك جهنم فقلت أو تصعد الشمس في تلك البلاد فقالت: نعم.

وأما حديث تميم بن حبيب الداري فعجيب حيث اختطفته الجن فشاهد من عجائبها حتى رأى القصر الذي فيه الدجال مقيداً فقال له من أي الأمم أنت فقال من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: أو قد بعث فقال: نعم فقال: آن أوان خروجي.

وأما حديث جن العقبة فاعجب قال عبد الله بن مسعود مشيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام في ليلة مظلمة حتى وقف نجنا على ثقب فظهر منه رجل فقال أنزل بنا يا رسول الله. فناولني فاضل ثيابه ثم أخذ بيد على عليه السلام ونزلا في الثقب وأقعدني مكاني فلما برق بارق الصبح عادا ومعهما رجال يشبهون الزط فقال هؤلاء إخوانك المؤمنين وكان معي ماء فيه منبوذ شيء من التمر فشرب منه ثم توضأ صح ذلك من غير نزاع.

وقد أوله أرباب الهوى على اختيار ما يريدون. فمن أراد أن يعلم حقيقة هذا وغيره فلينظرن في كتاب مغايب المذاهب وهو من جملة تصانيفنا. وأما قصة زعيم بن بلعام فهي عجيبة: قد أراد أن ينظر من أين منبع. النيل فلم يزل يسير حتى وجد الخضر فقال له: ستدخل مواضع ثم أعطاه علائمها فوصل إلى جبل وفيه قبة من ياقوت على أربعة أعمدة والنيل يخرج من تحتها وفيه فاكهة لا تتغير قالت فرقيت رأس الجيل فرأيت وراءه بساتين وقصوراً ودوراً وعالماً غزيراً وكنت شبحاً أبيض الشعر فهب على نسيم سود شعري وأعاد شبابي فنوديت من تلك القصور إلينا يا زعيم إلينا فهذه دار المتقين فجذبني الخضر ومنعني فهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم: "سبعة أنهار من الجنة جيحون وسيحون ودجلة وفرات ونيل وعين بالبردن وبالمقدس عين سلوان لان منها ماء زمزم". وأعجب من هذا الحديث حديث بلوقيا وعفان فحديثهما طويل وإشارة منه كافية فقد بلغ من سفرهما حتى وصلا إلى المكان الذي فيه النبي سليمان فتقدم بلوقيا ليأخذ الخاتم من إصبعه فنفخ فيه التنين الموكل معه فأحرقه فضربه عفان بقارورة فأحياه ثم مد يده ثانية وثالثة فأحياه بعد ثلاث فمد يده رابعة فأحترق وهلك فخرج عفان وهو يقول أهلك الشيطان أهلك الشيطان فناداه التنين أدن أنت وجرب فهذا الخاتم لا يقع فيم يد أحد إلا في يد محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث فقل له أن أهل الملا الأعلى قد اختلفوا في فضلك وفضل الأنبياء قبلك فأختارك الله على الأنبياء ثم أمرني فنزعت خاتم سليمان فجئتك به فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه علياً فوضعه في إصبعه فحضر الطير والجان والناس يشاهدون ويشهدون ثم دخل الدمرياط الجني وحديثه طويل فلما كانوا في صلاة الظهر تصور جبرائيل عليه السلام بصورة سائل طائف بين الصفوف فبينا هم في الركوع إذ وقف السائل من وراء علي عليه السلام طالباً فأشار علي بيده فطار الخاتم إلى السائل فضجت الملائكة تعجباً فجاء جبرائيل مهنيا وهو يقول أنتم أهل بيت أنعم الله عليكم ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.

فأخبر النبي بذلك علياً فقال علي عليه السلام ما نصنع بنعيم زائل وملك حائل ودنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب فإن أعترض المفتي وقال كيف قاتل معاوية على الدنيا فالجواب إنه قاتل على حق هو له يصل به إلى حق.

وأما التحكيم فباطل غير صحيح لان التحكيم إنما يكون على موجود ومحدود ومعروف ومعلوم غير مجهول هذا فقه. وشرع ثم قولوا ما تريدون فمن أراد أن ينظر في كشف ما جرى فيطلع في كتاب صنفته وسميته كتاب نسيم السليم.

وفي قصص ذي القرنين كفاية وكتاب رياض النديم لابن أبي الدنيا. وأنظر في كتاب الأقاليم. وأنظر في كتاب المسالك والممالك. وكتب الماوردي الموصلي.ثم إذا أردت أن تعرف سعة الأفلاك بعضها على بعض فأعلم إن سعة الأرض قطع الكوكب في ليلة واحدة. وأما الفلك الهوائي فقد تقطعه القمر في شهر.

فأنظر الفرق في القطع في ليلة وشهر ثم الفلك الناري يقطعه الشمس في سنة. ثم فلك زحل وهو الأعلى يقطع فلكه في ست وثلاثين سنة ثم فوقه الكرسي والعرش الذي هو سقف الجنان الثمانية التي واحدة منهن بعرض السموات والأرضين وخذ دليلك من المساق المذكور فما لهمتك ناقصة لا ترفعها إلى درج المعالي ولا تكسوها سهم السعادة بل أنت مشغول بعلف النفس وخدمتها فأنت كالذي عشق حمارة فاشتغل بها ففاته سير القافلة فظهر له قاطع الطريق. وهذه دار أحلام، والأنبياء مفسرون المنام فعند الانتباه يتبين لك صحة التأويل. أما سمعت الإشارة. والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ومثلك في دنياك كمثل طفلين في بطن واحد قال أحدهما لصاحبه أما أخرج. عسى أن أرى غير هذا المكان والعالم.

فلما خرج رأى سعة الدنيا هل يطيب له أن يعود إلى ضيق بطن أمه وهكذا إذا خرجت إلى سعة آخرتك لا يطيب لك العود إلى دنيا حملتك كضيق حمل أمك. ومثلك في باب مولاك كرجل أراد الدخول إلى ملك وهو جائع فوجد على باب الملك كلباً ورغيفاً. فالكلب يصده عن الدخول فإن كان ذا همة عالية آثر حضرة الملك على الرغيف فيدخل إلى الملك فيحظى بالمآكل اللينة وينسى جوعه لأنه شغل الكلب برغيفه فتشاغل الكلب بالرغيف ودخل الرجل إلى الملك. وإن كانت همته في بطنه أكل رغيفه فصده الكلب عن دخول الملك. ثم يتعفن الرغيف في بطنه. فبعد ساعة رماه فدنياك هو الرغيف والكلب هؤ الشيطان يصادك عن دخول الملك فارم الرغيف إلى الكلب تسترح. وأكتسب من جواهر الأعمال تشرف بها عند عرض البضائع ونيل المدخر الباقي في دار زفاف الحور وفتح أبواب القصور. فأنت مثالك كجماعة سافرت إلى وادي الظلمات فقال لهم الخبير بالمكان. احملوا من حصاها تظفروا. فصاحب حسن الظن حمل فأوقر. والمتشكك بطل فتحقر. فلما خرجوا من ضياء الشمس إلى الوادي وشاهدوا بضائعهم فإذا هي در ويواقيت فندم البطال وفاز الحمال فهذه صورة أعمالك في دنياك فأما أن تنادم فتصير غلاماً وأما أن تعمل فتحظى من الله تحية وسلاماً. فدع كبرك وقلل شبعك ونظف بطنك ومن النوم عينك عساك أن تقطع شينك وتوفي دينك فأنت الذي تنتنك العرقة وتوهنك البقة وتقتلك الشرقة وملابسك من قزة وحلاوتك من نحلة وخبزك من طينة وأنت غدا مستور باللبنة تؤاخذ بنعيمك أما سمعت النبي حاسبة الله على شبعه مرة واحدة من خبز شعير وتمر وقال له: (تَمَ لتَسألنَ يَومَئذٍ عَن النَعيم).

فصل

في علو الهمم ونيلها لمقاصدها

أعلم أن الهمة هي إجماع قلب المهتم وجمعه لنيل مقصد بالتوجه إليه دون غيره من غير قلب قاصد لسواه وصاحب الهمة لا يكون همه في مقصده لنيل أغراض متفرقة كمن أراد أعمالاً لا يقع في يده غير عمل واحد الهمم هي فروع من فروع النفس على قدر وضع النفس وارتفاعها إن همة كل أحد على قدر نفسه في علوها وطهارتها. ألا ترى إلى أصحاب الصنائع، الخسيسة كالكناف والزبال والإسكاف والدباغ والغسال فهؤلاء هممهم على قدر خسائس أنفسهم النازلة لسابق ما قدر لهم عند اعتصار خمير السعادة من عجين الطالع في خمير الولادة وهذا حال يتعلل به العاجز. إذ الملك معشوقك فلا تألف الخسائس.

فليس هذا أنساباً معروفة بأب وأم. وإنما هي بعلو الهمة كما كانت من أول الفيض الصادر عن النفس الكلية همم العلماء والملوك ثم كلما تباعد الفيض عن النفس الكلية رذلت الهمم كما رذل الحيوان بعد فيض الإنسان. ألا ترى إلى همة الفيل والحمار في المأكل والمشرب فهذا همة بريح وهذا تبن وشعير وأنظر إلى همة ذي القرنين وهو ابن هيلانة وأبوه نساج كيف تعرض بعلو الهمة إلى الملك ولم ينزل إلى الصنائع. فمثله في العالم كثير. ومن جملة علو همته إظهار اليغزن الذي أشاع بذكره المسافرون وأتخذ المتقدمون ألحان الموسيقا التي زعموا إنها معتصرة من دورات ألحان الأفلاك حين تدور ويسمع له نغمات بطرائق وأوزان غير خارجة نقلوها عن موسى وإدريس. وطائفة أخرى زعمت إن العود متخذ من شكل طائر معلق في جبل في أنفه أنقاب مخارج بعدد مخارج العود وهذا من جملة فروع الهمم. فنيل المقاصد من غير همة غم عمن تعلق بها فاكتساب الهمم ونيل مقاصدها للعلماء بالدرس والمواظبة والجوع والصبر ونبل مقصد المملكة هو بالاشتغال فيما يجذبها من التهاب. وما يشاكلها.

فان قلت هذه سعادات أزلية فمن قدر له في السابق شيء أخذه وبلغه ولا يمحى ما سطر على جبين العبد فقد صدقت ولكن مت تحت غبار طلب العزلا على مزايل الشهوات بالذل كما مر بك الإنشاد السابق شعر:  

أطلب العز في لظى وذر الذل

 

و لو كان في جنان الخـلـود

وقد سعت كلاما لمعاوية إذ قال هموا بمعالي الأمور لتنالوها فإني لم اكن للخلافة أهلاً فهممت بها فنلتها. وقد ذكرت حكاية في كتاب "سر خزانة الهدى والأمد الأقصى إلى سدرة المنتهى" أنه مات بعض الملوك فغلقت المدينة وقالوا لا تملكها إلا لملك كان في ساعده علامة نور شعشعاني فورد إليهم رجل فقير وفي ساعده نور كما كان في ساعد الملك المتقدم وكان بنظر إليه وزير المدينة بعين الدراية بعد أن ملكوه البلد فدخل الوزير إليه بهدية وهي قشرة من عود قناري كجفنة كبيرة فقال الملك: من أين لك هذا؟ فقال الوزير: كثير مثل هذا يجئ في نهرنا فقال الملك: لا تستقر في الوزارة حتى تأتيني بخبره وفي أي بلد يكون فأتخذ الوزير له مركباً فسار حتى دخل تحت جبل فلما قطعه بخروجه إلى جانبه الآخر رأى بلاداً أشجارها كلها مثل هديته ثم رأى جماعة قائمة منقطعين في جبل فقال: ما الذي يريد هؤلاء ويفعلون؟ فقالوا: كلهم في طلب الملك يتجرعون سنة مع أنواع المجاهدات فمن رقى على ساعده نور ابيض فهو مستحق الملك فلما عاد الوزير أخبر الملك بقصة ما رآه فقال الملك: لا تحتقر فتحقر وسافر وأعمل لتذكر.

فهذا علو الهمة بالجوع والمجاهدات ثم قال لا يغرنك الجواشن والبيض. وقد رأيت بعينيك مشار علو الهمة فإن أردت ذلك فعليك بالجوع والعلم والخلوات يكشف لك العلامات بسرائر الكائنات فأطلب وجد وأجتهد فنيل مقاصد الرجال من غير تعب هذيان والحمد الله رب العالمين. وصلاة الله وسلامه على سيد المرسلين آمين.