الباب السادس - القول في عظمته وجلاله ومجد

وإن العظمة والجلالة والمجد في الشيء إنما يكون بحسب كماله، إما في جوهره، وإما في عرض من خواصه. وأكثر ما يقال ذلك فينا، إنما هو لكمال ما لنا في عرض من أعراضنا، مثل اليسار والعلم، وفي شيء من أعراض البدن.

والأول، لما كان كماله باينا لكل كمال، كانت عظمته وجلاله ومجده باينا لكل ذي عظمة ومجد، وكانت عظمته ومجده الغايات فيما له من جوهره لا في شيء آخر خارج عن جوهره وذاته؛ ويكون ذا عظمة في ذاته وذا مجد في ذاته؛ أجلّه غيره أو لم يجله، عزمه غيره أو لم يعظمه، مجده غيره أو لم يمجده.

والجمال والبهاء والزينة في كل موجود هو أن يوجد وجوده الأفضل، ويحصل له كماله الأخير. وإذ كان الأول وجوده أفضل الوجود، فجماله فائق لجمال كل ذي الجمال، وكذلك زينته وبهاؤه.

ثم هذه كلها له في جوهره وذاته؛ وذلك في نفسه وبما يعقله من ذاته. وأما نحن، فإن جمالنا وزينتنا وبهاءنا هي لنا بأعراضنا، لا بذاتنا؛ وللأشياء الخارجة عنا، لا في جوهرنا. والجمال فيه والكمال ليسا هما فيه سوى ذات واحدة، وكذلك سائرها.

واللذة والسرور والغبطة، إنما ينتج ويحصل أكثر بأن يدرك الأجمل والأبهى والأزين بالادراك الأتقن والأتم. فإذا كان هو الأجمل في النهاية والأبهى والأزين، فإدراكه لذاته الإدراك الأتقن في الغاية، وعلمه بجوهره العلم الأفضل على الإطلاق، واللذة التي يلتذ بها الأول لذة لا نفهم نحن كنهها ولا ندري مقدار عظمها إلا بالقياس والإضافة إلى ما نجده من اللذة، عندما نكون قد أدركنا ما هو عندنا أكمل وأبهى ادراكا، وأتقن وأتم، إما بإحساس أو تخيل أو بعلم عقلي. فإنّا عند هذه الحال يحصل لنا من اللذة ما نظن أنه فائق لكل لذة ف يالعظم، ونكون نحن عند أنفسنا مغبوطين بما نلنا من ذلك غاية الغبطة، وإن كانت تلك الحال منا يسيرة البقاء سريعة الدثور. فقياس علمه هو وإدراكه الأفضل من ذاته والأجمل والأبهى إلى علمنا نحن، وإدراكنا الأجمل والأبهى عندنا، هو قياس سروره ولذته واغتباطه بنفسه إلى ما ينالنا من اللذة والسرور والإغتباط بأنفسنا. وإذن كأن لا نسبة لادراكنا نحن إلى إدراكه، ولا لمعلومنا إلى معلومه، ولا للأجمل عندنا إلى الأجمل من ذاته؛ وإن كانت له نسبة فهي نسبة ما يسيرة. فإذن لا نسبة لإلتذاذنا وسرورنا واغتباطنا لأنفسنا إلى ما للأول من ذلك. وإن كانت له نسبة فهي نسبة يسيرة جدا. فإنه كيف يكون نسبة لما هو جزء يسير إلى ما مقداره غير متناه في الزمان، ولما هو أنقص جدا إلى ما هو في غاية الكمال.

وإن كان ما يلتذ بذاته ويسر به أكثر ويغتبط به اغتباطا أعظم، فهو يحب ذاته ويعجب بها إعجاباً بنسبته. ونسبته إلى عشقنا لما نلتذ به من فضيلة ذاتنا كنسبة فضيلة ذاته هو، وكمال ذاته، إلى فضيلتنا نحن وكمالنا الذي نعجب به من أنفسنا، والمحب منه هو المحبوب بعينه، والمعجب منه هو المعجب منه، والعاشق منه هو المعشوق. وذلك على خلاف ما يوجد فينا، فإن المعشوق منا هو الفضيلة والجمال، وليس العاشق منا هو الجمال والفضيلة. لكن للعاشق قوة أخرى، فتلك ليست للمعشوق؛ فليس العاشق منا هو المعشوق بعينه. فأما هو فإن العاشق منه هو بعينه المعشوق، والمحب هو المحبوب، فهو المحبوب الأول والمعشوق الأول، أحبه غيره أو لم يحبه، وعشقه غيره أو لم يعشقه.