الباب التاسع عشر - القول في تعاقب الصور على الهيولي

وعلى هذه الجهات يكون وجودها أولا، فإذا وجدت فسبيلها أن تبقى وتدوم. ولكن لما كان ما هذه حاله من الموجودات قوامه من مادة وصورة، وكانت الصور متضادة، وكل مادة فإن شأنها أن توجد لها هذه الصورة وضدها، صار لكل واحد من هذه الأجسام حق واستئهال بصورته، وحق واستئهال بمادته.

فالذي له بحق صورته أن يبقى على الوجود الذي له، والذي يحق له بحق مادته أن يوجد وجودا آخر مضادا للوجود الذي هو له، وإذ كان لا يمكن أن يوفى هذين معا في وقت واحد، لزم ضرورة أن يوفى هذا مرة، فيوجد ويبقى مدة ما محفوظ الوجود، ثم يتلف ويوجد ضده، ثم يبقى ذلك، وكذلك أبدا. فإنه ليس وجود أحدهما أولى من وجود الآخر، ولا بقاء أحدهما أولى من بقاء الآخر، إذ كان لكل واحد منهما قسم من الوجود والبقاء.

وأيضا فإن المادة الواحدة لما كانت مشتركة بين ضدين، وكان قوام كل واحد من الضدين بها، ولم تكن تلك المادة أولى بأحد الضدين دون الآخر، ولم يمكن أن تجعل لكليهما في وقت واحد، لزم ضرورة أن تعطى تلك المادة أحيانا هذا الضد، وأحيانا ذلك الضد، ويعاقب بينهما، فيصير كل منهما كأن له حقا عند الآخرن ويكون عنده شيء ما لغيره، وعند غيره شيء هو له؛ فعند كل واحد منهما حق ما ينبغي أن يصير إلى كل واحد من كل واحد؛ فالعدل في هذا أن توجد مادة هذا، فتعطى ذلك، أو توجد مادة ذلك، فتعطى هذا؛ ويعاقب ذلك بينهما. فلأجل الحاجة إلى توفية العدل في هذه الموجودات، لم يكن أن يبقى الشيء الواحد دائما على أنه واحد بالعدد؛ فجعل بقاؤه الدهر كله على أنه واحد بالنوع. ويحتاج في أن يبقى واحدا بالنوع إلى أن يوجد أشخاص ذلك النوع مدة ما، ثم تتلف ويقوم مقامها أشخاص أخر من ذلك النوع، وذلك على هذا المثال دائما.

وهذه منها ما هي اسطقسات، ومنها ما هي كائنة عن اختلاطها. والتي هي عن اختلاطها، منها ما هي عن اختلاط أكثر تركيبا، ومنها ما هي عن اختلاط أقل تركيبا. وأما الاسطقسات فإن المضاد المتلف لكل واحد منها هو من خارج فقط، إذ كان لا ضد له في جملة جسمه. وأما الكائن عن اختلاط أقل تركيبا، فإن المضادات التي فيه يسيرة، وقواها منكسرة ضعيفة؛ فلذلك صار المضاد المتلف له في ذاته ضعيف القوة، لا يتلفه إلا بمعين من خارج. فصار المضاد المتلف له أيضا من خارج. وما هو كائن فقط؛ والتي هي عن اختلاط أكثر تركيبا، فبكثرة المتضادات التي فيها وتراكيبها، يكون تضادها فيها في الأشياء المختلفة أظهر، وقوى المتضادات التي فيها قوية، ويفعل بعضها مع بعض معا. أيضا فإنها لما كانت من أجزاء غير متشابهة، لم يمنع أن يكون فيها تضاد، فيكون المضاد المتلف له من خارج جسمه ومن داخله معا.

وما كان من الأجسام يتلفه المضاد له من خارج، فإنه لا يتحلل من تلقاء نفسه دائما، مثل الحجارة والرمل، فإن هذين وما جانسهما إنما يتحللان من الأشياء الخارجة فقط. وأما الآخر من النبات والحيوان، فإنهما يتحللان أيضا من أشياء مضادة لهما من داخل.

فلذلك إن كان شيء من هذه مزمنا، تبقى صورته مدة ما، بأن يخلف بدل ما يتحلل من جمسه دائما وإنما يكون ذلك الشيء يقوم مقام ما يتحلل، ولا يمكن أن يخلف شيء بدل ما يتحلل من جسمه ويتصل بذلك الجسم، إلا فيخلع عن ذلك الجسم صورته التي كانت له، ويكتسي صورة هذا الجسم بعينه، وذلك هو أن يتغذى، حيث جعلت في هذه الأجسام قوة غاذية وكل ما كان معينا لهذه القوة، حتى صار كل جسم من هذه الأجسام يجتذب إلى نفسه شيئا ما مضادا له، فينسلخ عنه تلك الضدية، ويقبله بذاته، ويكسوه الصورة التي هو ملتحف بها، إلى أن تخور هذه القوة في طول المدة، فيتحلل من ذلك الجسم ما لم يمكن القوة الخائرة أن ترد مثله، فيتلف ذلك الجسم فيه؛ فبهذا الوجه حفظ من محلله الداخل. وأما من متلفه الخارج، فإنه حفظ بالآلات التي جعلت له، بعضها فيه وبعضها من خارج جسمه.

فيحتاج، في دوام ما يدوم واحدا بالنوع، إلى أن يقوم مقام ما تلف منه أشخاص أخر تقوم مقام ما تلف منها. ويكون ذلك: إما أن يكون مع الأشخاص الأول أشخاص أحدث وجودا منها، حتى إذا تلف تلك الأول قامت هذه مقامها، حتى لا يخلو في كل وقت من الأوقات وجود شخص ما من ذلك النوع، إما في ذلك المكان أو في مكان آخر، وإما أن يكون الذي يخلف الأول يحدث بعد زمان ما من تلف الأول حتى يخلو زمان ما من غير أن يوجد فيه شيء من أشخاص ذلك النوع. فجعل في بعضها قوى يكون بها شبيهه في النوع، ولم تجعل في بعض. وما لم يجعل فيها فإن أشباه ما يتلف منه تكونه الأجسام السماوية وحدها، إذ هي مرافدة لاسطقسات له على ذلك؛ وما جعل فيه قوة يكون بها شبيهه في النوع فعلى تلك القوة التي له- ويقترن إلى ذلك فعل الأجسام السماوية وسائر الأجسام الأخر- إما بأن تفيد، وإما بأن تضاد مضادة لا تبطل فعل القوة بل تحدث امتزاجا، إما أن يعتدل به الفعل الكائن بتلك القوة، وإما أن يزيله عن الإعتدال قليلا أو كثيرا بمقدار ما لا يبطل فعله؛ فيحدث عند ذلك ما يقوم مقام التالف من ذلك النوع. وكل هذه الأشياء إما على الأكثر وإما على الأقل وإما على التساوي. فبهذا الوجه يدوم بقاء هذا الجنس من الموجودات.

وكل واحد من هذه الأجسام له حق واستئصال بصورته، وحق واستئصال بمادته. فالذي له بحق صورته، أن يبقى على الوجود الذي له ولا يزول؛ والذي له بحق مادته، هو أن يوجد وجودا آخر مقابلا مضادا للوجود الذي هو له. والعدل أن يوفى كل واحد منهما استئصاله. وإذ لا يمكن توفيته إياه في وقت واحد لزم ضرورة أن يوفى هذا مرة وذلك مرة، فيوجد ويبقى مدة ما محفوظ الوجود ويتلف ويجد ضده، وذلك أبداً.

والذي يحفظ وجوده إما قوة في الجسم الذي فيه صورته، وإما قوة في جسم آخر هي آلة مقارنة له تخدمه في حفظ وجوده، وإما أن يكون المتولي بحفظه جسم ما آخر يرأس المحفوظ، وهو الجسم السمائي أو جسم ما غيره، وإما أن يكون باجتماع هذه كلها.

وأيضا فإن هذه الموجودات لما كانت متضادة، كانت مادة كل ضدين منها مشتركة. فالمادة التي لهذا الجسم هي أيضا بعينها مادة لذلك، والتي لذلك هي أيضا بعينها لهذا؛ فعند كل واحد منهما شيء هو لغيره، وعند غيره شيء هو له. فيكون كأن لكل واحد عند كل واحد من هذه الجهة حقا ما ينبغي أن يصير إلى كل واحد من كل واحد. والمادة التي تكون للشيء عند غيره إما مادة سبيلها أن تكتسي صورة ذلك بعينها، مثل الجسم الذي يغتذي بجسم آخر، وإما مادة سبيلها أن تكتسي صورة عنه لا صورته بعينها، مثل ناس يخلفون ناسا مضوا. والعدل في ذلك أن يجد ما عند هذا من مادة ذلك، فيعطى ذلك، وما عند ذلك من مادة هذا، فيعطى ذلك هذا.

والذي به يستوفي الشيء مادته من ضده وينتزع به تلك منه، إما أن يكون قوة فيه مقترنة بصورته في جسم واحد، فيكون ذلك الجسم آلة له في هذا غير مفارقة؛ وإما أن يكون في جسم آخر، فيكون ذلك آلة له مفارقة تخدمه في أن ينتزع مادة من ضده فقط، وتكون قوة أخرى في ذلك الجسم أو في آخر تكسوه، إما صورته بعينها وإما صورة نوعه، وإما أن تكون قوة واحدة تفعل الأمرين جميعا؛ وإما أن تكون التي تستوفي له حقه جسما آخر يراسه، إما سمائية أو غيرها، وإما أن يكون ذلك باجتماع هذه كلها. والجسم إنما يكون مادة للجسم الآخر، إما بأن يوفيه صورته على التمام، وإما بأن يكسوه "جزءاً" من صورته وينقص من عزته. والذي يكون له آلة تخدم جسما آخر فإنما يكون آلة بأحد هذين أيضا: وذلك إما بصورته على التمام، وإما بأن يكسوه قليلا من عزة صورته مقدار ما لا يخرجه ذلك من ماهيته، مثل من يكسر من رعاع العبيد ويقمعهم حتى يذلوا فيخدموا.