الباب الحادي والعشرون - القول في كيف تصير هذه القوى والأجزاء نفسا واحدة

فالغاذية الرئيسة شبه المادة للقوة الحاسة الرئيسة، والحاسة صورة في الغاذية. والحاسة الرئيسة شبه مادة للمتخيلة، صورة في الحاسة الرئيسة. والمتخيلة الرئيسة مادة للناطقة الرئيسة، والناطقة صورة في المتخيلة، وليست مادة لقوى أخرى، فهي صورة لكل صورة تقدمتها. وأما النزوعية فإنها تابعة للحاسة الرئيسة والمتخيلة والناطقة، على جهة ما توجد الحرارة في النار تابعة لما تتجوهر به النار.

فالقلب هو العضو الرئيس الذي لا يرأسه من البدن عضو آخر. ويليه الدماغ، فإنه أيضا عضو ما رئيس، ورئاسته ليست رئاسة أولية، لكن رئاسة ثانية، وذلك لأنه يرأس بالقلب، ويرأس سائر الأعضاء؛ فإنه يخدم القلب في نفسه، وتخدمه سائر الأعضاء بحسب ما هو مقصود القلب بالطبع. وذلك مثل صاحب دار الإنسان، فإنه يخدم الإنسان في نفسه وتخدمه سائر أهل داره، بحسب ما هو مقصود الإنسان في الأمرين، كأنه يخلفه ويقوم مقامه وينوب عنه ويتبدل فيما ليس يمكن أن يبدله الرئيس، وهو المستولي على خدمة القلب في الشريف من أفعاله.

من ذلك أن القلب ينبوع الحرارة الغريزية، فمنه تنبث في سائر الأعضاء، ومنه تسترفد، وذلك بما ينبث فيها عنه من الروح الحيواني الغريزي في العروق الضوارب. ومما يرفدها القلب من الحرارة إنما تبقى الحرارة الغريزية محفوظة على الأعضاء. والدماغ هو الذي يعدل الحرارة التي شأنها أن تنفذ إليها من القلب حتى يكون ما يصل إلى كل عضو من الحرارة معتدلا له. وهذا أول أفعال الدماغ وأول شيء يخدم به وأعمها للأعضاء.

ومن ذلك أن في الأعصاب صنفين: أحدهما آلات لرواضع القوة الحاسة الرئيسة التي في القلب في أن يحس كل واحد منها الحس الخاص به، والآخر آلات الأعضاء التي تخدم القوة النزوعية التي في القلب، بها يتأتى لها أن تتحرك الحركة الإرادية. والدماغ يخدم القلب في أن يرفد أعصاب الحس ما يبقي به قواها التي بها يتأتى للرواضع أن تحس محفوظة عليها. والدماغ أيضا يخدم القلب في أن يرفد أعصاب الحركة الإرادية ما يبقي به قواها التي بها يتأتى للأعضاء الآلية الحركة الإرادية التي تخدم بها القوة النزوعية التي في القلب. فإن كثيرا من هذه الأعصاب مغارزها التي منها يسترفد ما يحفظ به قواها في الدماغ نفسه؛ وكثيرا منها مغارزها في النخاع النافذ، والنخاع من أعلاه متصل بالدماغ، فإن الدماغ يرفدها بمشاركة النخاع لها في الارفاد.

ومن ذلك أن تخيل القوةا لمتخيلة إنما يكون متى كانت حرارة القلب على مقدار محدود. وكذلك فكر القوة الناطقة، إنما يكون متى كانت حرارته على ضرب ما من التقدير، أي فعل. وكذلك حفظها وتذكرها للشيء.

فالدماغ أيضا يخدم القلب بأن يجعل حرارته على الاعتدال الذي يجو به تخيله، وعلى الإعتدال الذي يجود به فكره ورويته، وعلى الاعتدال الذي يجود به حفظه وتذكره. فبجزء منه يعدل به ما يصلح به التخيل، وبجزء آخر منه يعدل به ما يصلح به الفكر، وبجزء ثالث يعدل به ما يصلح الحفظ والذكر. وذلك أن القلب، لما كان ينبوع الحرارة الغريزية، لم يمكن أن يجعل الحرارة التي فيه إلا قوية مفرطة ليفضل منه ما يفيض إلى سائر الأعضاء، ولئلا يقصر أو يجود. فلم تكن كذلك في نفسها إلا لغاية بقلبه. فلما كان كذلك وجب أن يعدل حرارته التي تنفذ إلى الأعضاء، ولا تكون حرارته في نفسها على الاعتدال الذي تجود به أفعاله التي تخصه. فجعل الدماغ لأجل ذلك بالطبع باردا رطبا، حتى في الملمس، بالاضافة إلى سائر الأعضاء، وجعلت فيه قوة نفسانية تصير بها حرارة القلب على اعتدال محدود محصل. والأعصاب التي للحس والتي للحركة، لما كانت أرضية بالطبع، سريعة القبول للجفاف، كانت تحتاج إلى أن تبقى رطبة إلى لدانة مواتية للتمدد والتقاصر. و "لما" كانت أعصاب الحس محتاجة مع ذلك إلى الروح الغريزي الذي ليست فيه دخانية أصلا "ولما" كان الروح الغريزي السالك في أجزاء الدماغ هذه حاله، و "لما" كان القلب مفرط الحرارة ناريها، لم تجعل مغارزها التي بها تتسترفد ما يحفظ قواها في القلب، لئلا يسرع الجفاف إليها فتتحلل وتبطل قواها وأفعالها، جعلت مغارزها في الدماغ وفي النخاع لأنهما رطبان جدا، لتنفذ من كل واحد منهما في الأعصاب رطبوة تبقيها على اللدونة، وتستبقي بها قواها النفسانية، فبعض الأعصاب يحتاج فيها إلى أن تكون الرطوبة النافذة فيها مائية لطيفة غير لزجة أصلا، وبعضها محتاج فيها إلى لزوجة ما. فما كان منها محتاجا إلى مائية لطيفة غير لزجة، جعلت مغارزها في الدماغ؛ وما كان منها محتاجا فيها مع ذلك إلى أن تكون رطوبتها فيها لزجة، جعلت مغارزها في النخاع؛ وما كان منها محتاجا فيها إلى أن تكون رطوبتها قليلة، جعلت مغارزها أسفل الفقار والعصعص.

ثم بعد الدماغ الكبد، وبعده الطحالن وبعد ذلك أعضاء التوليد، وكل قوة في عضو كان شأنها أن تفعل فعلا جسمانيا ينفصل به من ذلك العضو جسم ما ويصير إلى آخر، فإنه يلزم ضرورة، إما أن يكون ذلك الآخر متصلا بالأول، مثل اتصال كثير من الأعصاب بالدماغ وكثير منها بالنخاع، أو أن يكون له طريق ومسيل متصل لذلك العضو يجري فيه ذلك الجسمس، وكانت تلك القوة خادمة له أو رئيسة، مثل الفم والرئة والكلية والكبد والطحال وغير ذلك. وكلما احتاجت أو كان شأنها أن تفعل فعلا نفسانيا في غيرها، فإنه يلزم ضرورة أن يكون بينها مسيل جسماني، مثل فعل الدماغ في القلب.

فأول ما يتكون من الأعضاء القلب، ثم الدماغ ثم الكبد ثم الطحال، ثم تتبعها سائر الأعضاء، وأعضاء التوليد متأخرة الفعل من جميعها. ورياستها في البدن يسيرة، مثل ما يتبين من فعل الأنثيين وحفظهما الحرارة الذكرية والروح الذكري الشائعين من القلب في الحيوان الذكر الذي له انثيان.

والقوة التي بها يكون التوليد، منها رئيسة ومنها خادمة. والرئيسة منها في القلب، والخادمة في أعضاء التوليد. والقوة التي يكون بها التوليد اثنتان: إحداهما تعد المادة التي يتكون عنها الحيوان الذي له تلك القوة، والأخرى تعطي صورة ذلك النوع من الحيوان وتحرك المادة إلى أن تحصل لها تلك الصورة التي لذلك النوع.

والقوة التي تعد المادة هي قوة الأنثى، والتي تعطي الصورة هي قوة الذكر. فإن الأنثى هي أنثى بالقوة التي تعد بها المادة، والذكر هو ذكر بالقوة التي تعطي تلك المادة صورة ذلك النوع الذي له تلك القوة.

والعضو الذي يخدم القلب في أن يعطي مادة الحيوان هو الرحم، والذي يخدمه في أن يعطي الصورة إما في الإنسان وإما في غيره من الحيوان العضو الذي يكيون المني. فإن المني إذا ورد على رحم الأنثى فصادف هناك دما قد أعده الرحم لقبول صورة الإنسان، أعطى المني ذلك الدم قوة يتحرك بها إلى أن يحصل من ذلك الدم أعضاء الإنسان وصورة كل عضو، وبالجملة صورة الإنسان. فالدم المعد في الرحم هو مادة الإنسان، والمني هو المحرك لتلك المادو إلى أن تحصل فيها الصورة.

ومنزلة المني من الدم المعد في الرحم منزلة الأنفحة التي ينعقد عنها اللبن. وكما أن الأنفحة هي الفاعلة للإنعقاد في اللبن، وليس هي جزءا من المنعقد ولا مادة، كذلك المني ليس هو جزءا من المنعقد في الرحم، ولا مادة. والجنين يتكون عن المني كما يتكون الرائب من الأنفحة، ويتكون عن دم الرحم كما يتكون الرائب عن اللبن الحليب، والابريق عن النحاس.

والذي يكون المني في الإنسان هي الأوعية التي يوجد فيها المني، وهي العروق التي تحت جلد العانة، يرفدها في ذلك بعض الإرفاد الأنثيان. وهذه العروق نافذة إلى المجرى الذي في القضيب ليسيل من تلك العروف إلى مجرى القضيب، ويجري في ذلك المجرى إلى أن ينصب في الرحم ويعطي الدم الذي فيه مبدأ قوة يتغير بها إلى أن تحصل به الأعضاء وصورة كل عضو، وصورة جملة البدن.

والمني آلة الذكر.

والآلات منها مواصلة، ومنها مفارقة من ذلك، مثل الطبيب؛ فإن اليد آلة للطبيب يعالج بها، والمبضع آلة له يعالج بها، والدواء آلة يعالج بها. فالدواء آلة مفارقة، وإنما يواصله الطبيب حين ما يفعله ويصنعه ويعطيه قوة يحرك بها بدن العليل مثلا، فتحرك بدنه نحو الصحة. والطبيب الذي ألقاها غائب أو ميت مثلا. وكذلك منزلة المني. والمبضع "آلة" لا تفعل فعلها إلا بمواصلة الطبيب المستعمل له، واليد أشد مواصلة له من المبضع. وأما الدواء فإنه يفعل بالقوة التي فيه من غير أن يكون الطبيب مواصلا له. كذلك المني فإنه آلة للقوة المولدة الذكرية وتفعل مفارقة. وأوعية المين والأنثيان آلة اللتوليد مواصلة للبدن. فمنزلة العروق التي تكون آلات المني من القوة الرئيسية التي في القلب منزلة يد الطبيب التي يعمل بها ادواء ويعطيه قوة حركة ويحرك بها بدن العليل إلى الصحة. فإن تلك العروق التي يستعملها القلب بالطبع هي آلات في أن يعطي المني القوة التي يحرك بها الدم المعد في الرحم إلى صورة ذلك النوع من الحيوان.

فإذا أخذ الدم عن المني القوة التي يتحرك بها إلى الصورة، فأول ما يتكون القلب وينتظر بتكوينه تكوين سائر الأعضاء ما يتفق أن يحصل في القلب من القوى. فإن حصلت فيه مع القوة الغاذية القوة التي بها تعد المادة، تكون سائر الأعضاء على أنها أعضاء أنثى. فإن حصلت فيه "القوة" التي تعطي الصورة، تكون سائر الأعضاء على أنها أعضاء ذكر وتحصل من تلك الأعضاء المولدة التي للأنثى، وتحصل من هذه الأعضاء المولدة التي للذكر. ثم سائر القوى النفسانية الباقية تحدث في الأنثى على مثال ما هي في الذكر.

وهاتان القوتان، أعني الذكرية والأنثوية، هما في الإنسان مفترقان في شخصين، وأما في كثير من النبات فإنهما مقترنان على التمام في شخص واحد، مثل كثير من النبات الذي يتكون عن البذر؛ فإن النبات يعطي المادة، وهي البذر، ويعطي بها مع ذلك قوة يتحرك بها نحو الصورة. فالذي أعطاه الاستعداد لقبول الصورة، وقوة يتحرك بها نحو الصورة. فالذي أعطاه الاستعداد لقبول الصورة هي القوة الأنثوية، والذي أعطاه مبدأ يتحرك به نحو الصورة هو القوة الذكرية.

وقد يوجد أيضا في الحيوان ما سبيله هذا السبيل. ويوجد أيضا ما القوة الأنثوية فيه تامة، وتقترن إليها قوة ما ذكرية ناقصة تفعل فعلها إلى مقدار ما ثم تجوز، فتحتاج إلى معين من خارج، مثل الذي يبيض بيض الريح، ومثل كثير من أجناس السمك التي تبيض ثم تودع بيضها، فيتبعها ذكورتها، فتلقي عليها رطوبة. فأية بيضة أصابها من تلك الرطوبة شيء كان عنها حيوان، وما لم يصبها ذلك فسدت.
وأما الإنسان فليس كذلك. بل هاتان القوتان متميزتان في شخصين، ولكل واحد منهما أعضاء تخصه: وهي الأعضاء المعروفة لهما، وسائر الأعضاء فيهما مشتركة. وكذلك يشتركان في قوى النفس كلها سوى هاتين. وما يشركان فيه من أعضاء فإنه في الذكر أسخن، وما كان منها فعله الحركة والتحريك، فإنه في الذكر أقوى حركة وتحريكا. والعوارض النفسانية، فما كان منها مائلا إلى القوة، مثل الغضب والقسوة، فإنها في الأنثى أضعف وفي الذكر أقوى. وما كان من العوارض مائلا إلى الضعف، مثل الرأفة والرحمة، فإنه في الأنثى أقوى. على أنه لا يمتنع أن يكون في ذكورة الإنسان من توجد العوارض فيه شبيهة بما في الإناث، وفي الإناث من توجد فيه هذه شبيهة بما هو في الذكور. فبهذه تفترق الإناث والذكور في الإنسان. وأما في القوة الحاسة وفي المتخيلة وفي الناطقة، فليسا يختلفان.

فيحدث عن الأشياء الخارجة رسوم المحسوسات في القوى الحاسة التي هي رواضع، ثم تجتمع المحسوسات المختلفة الأجناس، المدركة بأنواع الحواس الخمسة في القوى الحاسة الرئيسة، ويحدث عن المحسوسات الحاصلة في هذه رسوم المتخيلات في القوة المتخيلة، فتبقى هناك محفوظة بعد غيبتها عن مباشرة الحواس لها. فتتحكم فيها، فيفرد بعضها عن بعض أحيانا، ويركب بعضها إلى بعض أصنافا من التركيبات كثيرة بلا نهاية، بعضها كاذبة وبعضها صادقة.