فعندما تحصل هذه المعقولات للإنسان يحدث له بالطبع تأمل، وروية وذكر، وتشوق إلى الاستنباط، ونزوع إلى بعض ما عقله أولا، وشوق إليه وإلى بعض ما يستنبطه، أو كراهته. والنزوع إلى ما أدركه بالجملة هو الإرادة. فإن كان ذلك "النزوع" عن إحساس أو تخيل، سمي بالإسم العام وهو الإرادة؛ وإن كان ذلك عن روية أو عن نطق في الجملة، سمي الإختيار. وهذا يوجد في الإنسان خاصة، وأما النزوع عن إحساس أو تخيل فهو أيضا في سائر الحيوان. وحصول المعقولات الأولى للإنسان هو استكماله الأول. وهذه المعقولات إنما جعلت له ليستعملها في أن يصير إلى استكماله الأخير.
وذلك هو السعادة. وهي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام، وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائما أبدا. إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال. وإنما تبلغ ذلك بأفعال ما إرادية، بعضها أفعال فكرية، وبعضها أفعال بدنية، وليست بأي أفعال اتفقت، بل بأفعال ما محدودة مقدرة تحصل عن هيئات ما وملكات ما مقدرة محدودة. وذلك أن من الأفعال الارادية ما يعوق عن السعادة. والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليست تطلب أصلا ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيء آخر، وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها. والأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة. والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل. وهذه خيرات هي لا لأجل ذواتها بل إنما هي خيرات لأجل السعادة. والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور، وهي الأفعال القبيحة. والهيئات والملكات التي عنها تكون هذه الأفعال هي النقائص والرذائل والخسائس.
فالقوة الغاذية التي في الإنسان إنما جعلت لتخدم البدن، وجعلت الحاسة والمتخيلة لتخدما البدن ولتخدما القوة الناطقة. وخدمة هذه الثلاثة للبدن راجعة إلى خدمة القوة الناطقة، إذ كان قوام الناطقة أولا بالبدن. والناطقة، منها عملية ومنها نظرية. والعملية جعلت لتخدم النظرية، والنظرية لا لتخدم شيئا آخر، بل ليوصل بها إلى السعادة.
وهذه كلها مقرونة بالقوة النزوعية. والنزوعية تخدم المتخيلة وتخدم الناطقة. والقوى الخادمة المدركة ليس يمكنها أن توفي الخدمة والعمل إلا بالقوة النزوعية. فإن الإحساس والتخيل والروية ليست كافية في أن تفعل دون أن يقترن إلى ذلك تشوق إلى ما أحس أو تخيل أو روّى فيه وعلم، لأن الإرادة هي أن تنزع بالقوة النزوعية إلى ما أدركت.
فإذا علمت بالقوة النظرية السعادة ونضبت غاية وتشوقت بالنزوعية واستنبطت بالقوة المروية ما ينبغي أن تعمل حتى تنال بمعاونة المتخيلة والحواس على ذلك، ثم فعلت بآلات القوة النزوعية تلك الأفعال، كانت أفعال الإنسان كلها خيرات وجميلة. فإذا لم تعلم السعادة، أو علمت ولم تنصب غاية بتشوق، بل نصبت الغاية شيئا آخر سواها وتشوقت بالنزوعية واستنبطت بالقوة المروية ما ينبغي أن تعمل حتى تنال الحواس والمتخيلة، ثم فعلت تلك الأفعال بآلات القوة النزوعية، كانت أفعال ذلك الإنسان كلها غير جميلة.