الباب السادس والعشرون - القول في احتياج الإنسان إلى الإجتماع والتعاون

وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج، في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته، إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها هو وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه. وكل واحد من كل واحد بهذه الحال.

فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال، الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية، إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين، يقوم كل واحد لكل واحدن ببعض ما يحتاج إليه في قوامه؛ فيجتمع، مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد، جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال. ولهذا كثرت أشخاص الإنسان، فحصلوا في المعمورة من الأرض، فحدثت منها الإجتماعات الإنسانية.

فمنها الكاملة، ومنها غير الكاملة. والكاملة ثلاث: عظمى ووسطى وصغرى.

فالعظمى، اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة؛ والوسطى، اجتماع أمة في جزء من المعمورة؛ والصغرى، اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة.

وغير الكاملة: إجتماع أهل القرية، وإجتماع أهل المحلة، ثم إجتماع في سكة، ثم إجتماع في منزل. وأصغرها المنزل. والمحلة والقرية هما جميعا لأهل المدينة؛ إلا أن القرية للمدينة على أنها خادمة للمدينة؛ والمحلة للمدينة على أنها جزؤها. والسكة جزء المحلة؛ والمنزل جزء السكة؛ والمدينة جزء مسكن أمة والأمة جزء جملة أهل المعمورة.

فالخير الأفضل والكمال الأقصى إنما ينال أولا بالمدينة، لا باجتماع الذي هو أنقص منها. ولما كان شأن الخير في الحقيقة أن يكون ينال بالإختيار والإرادة، وكذلك الشرور إنما تكون بالإرادة والإختيار، أمكن أن تجعل المدينة للتعاون على بلوغ بعض الغايات التي هي شرور؛ فلذلك كل مدينة يمكن أن ينال بها السعادة. فالمدينة التي يقصد بالإجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة، هي المدينة الفاضلة. والإجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هو الإجتماع الفاضل. والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعاد هي الأمة الفاضلة. وكذلك المعمورة الفاضلة، إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة.

والمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح، الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان، وعلى حفظها عليهس. وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى، وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب، وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك الرئيس، وكل واحد منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعل بها فعله، ابتغاء لما هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيس، وأعضاء أخر فيها قوى تفعل أفعالها على حسب أغراض هذه التي ليس بينها وبين الرئيس واسطة- فهذه في الرتبة الثانية- وأعضاء أخر تفعل الأفعال على حسب غرض هؤلاء الذين في هذه المرتبة الثانية، ثم هكذا إلى أن تنتهي إلى أعضاء تخدم ولا ترؤس أصلا. وكذلك المدينة، أجزاؤها مختلفة الفطرة، متفاضلة الهيئات.

وفيها إنسان هو رئيس، وأخر يقرب مراتبها من الرئيس. وفي كل واحد منها هيئة وملكة يفعل بها فعلا يقتضي به ما هو مقصود ذلك الرئيس. وهؤلاء هم أولو المراتب الأول. ودون هؤلاء قوم يفعلون الأفعال على حسب أغراض هؤلاء، وهؤلاء هم في الرتبة الثانية. ودون هؤلاء أيضا من يفعل الأفعال على حسب أغراض هؤلاء. ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن تنتهي إلى أخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم، فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون ولا يخدمون، ويكونون في أدنى المراتب، ويكونون هم الأسفلين.

غير أن أعضاء البدن طبيعية، والهيئات التي لها قوى طبيعية وأجزاء المدينة، وإن كانوا طبيعيين، فإن الهيئات والملكات التي يفعلون بها أفعالهم للمدينة ليست طبيعية، بل ارادية. على أن أجزاء المدينة مفطورون بالطبع بفطر متفاضلة يصلح بها إنسان لإنسان، لشيء دون شيء. غير أنهم ليسوا أجزاء المدينة الفطرة، متفاضلة الهيئات.

وفيها إنسان هو رئيس، وأخر يقرب مراتبها من الرئيس. وفي كل واحد منها هيئة وملكة يفعل بها فعلا يقتضي به ماهو مقصود ذلك الرئيس. وهؤلاء هم أولو المراتب الأول. ودون هؤلاء قومي فعلون الأفعال على حسب أغراض هؤلاء. ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن تنتهي إلى أخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم، فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون ولا يخدمون، ويكونون في أدنى المراتب، ويكونون هم الأسفلين.

غير أن أعضاء البدن طبيعية، والهيئات التي لها قوى طبيعية وأجزاء المدينة، وإن كانوا طبيعيين، فإن الهيئات والملكات التي يفعلون بها أفعالهم للمدينة ليست طبيعية، بل ارادية. على أن أجزاء المدينة مفطورون بالطبع بفطر متفاضلة يصلح بها إنسان لإنسان، لشيء دون شيء. غير أنهم ليسوا أجزاء المدينة بالفطر التي لهم وحدها، بل بالملكات الإرادية التي تحصل لها، وهي الصناعات وما شاكلها والقوى التي هي أعضاء البدن بالطبع، فإن نظائرها في أجزاء المدينة ملكات وهيئات إرادية.