الباب السابع والعشرون - القول في العضو الرئيس

وكما أن العضو الرئيس في البدن هو بالطبع أكمل أعضائه وأتمها في نفسه وفيما يخصه، وله من كل ما يشارك فيه عضو آخر أفضله؛ ودونه أيضا أعضاء أخرى رئيسة لما دونها، ورياستها دون رياسة الأول، وهي تحت رياسة الأول ترأس وتُرأس؛ كذلك رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما يخصه، وله من كل ما شارك فيه غيره أفضله. ودونه قوم رؤوسون منه ويرؤسون آخرين.

وكما أن القلب يتكون أولا، ثم يكون هو السبب في أن يكون سائر أعضا البدن، والسبب في أن تحصل لها قواها وأن تترتب مراتبها، فإذا اختل منها عضو كان هو المرفد بما يزيل عنه ذلك الاختلال، كذلك رئيس هذه المدينة ينبغي أن يكون هو أولا، ثم يكون هو السبب في أن تحصل المدينة وأجزاؤها، والسبب في أن تحصل الملكات الإرادية التي لأجزائها في أن تترتب مراتبها؛ وإن اختل منها جزء كان هو المرفد له بما يزيل عنه اختلاله.

وكما أن الأعضاء التي تقرب من العضو الرئيس تقوم من الأفعال الطبيعية التي هي على حسب غرض الرئيس الأول بالطبع بما هو أشرف، وما هو دونها من الأعضاء يقوم بالأفعال بما هو دون ذلك في الشرف، إلى أن ينتهي إلى الأعضاء التي يقوم بها من الأفعال أخسها؛ كذلك الأجزاء التي تقرب في الرياسة من رئيس المدينة تقوم من الأفعال الإرادية بما هو أشرف ومن دونهم بما هو دون ذلك في الشرف، إلى أن ينتهي إلى الأجزاء التي تقوم من الأفعال بأخسها.

وخسة الأفعال ربما كانت بخسة موضوعاتها، فإن كانت تلك الأفعال عظيمة الغناءس، مثل فعل المثانة وفعل الأمعاء في البدن؛ وربما كانت لقلة غنائها؛ وربما كانت لأجل أنها كانت سهلة جدا؛ كذلك "الحال" في المدينة. وكذلك كل جملة كانت أجزاؤها مؤتلفة منتظمة مرتبطة بالطبع، فإن لها رئيسا حاله من سائر الأجزاء هذه الحال.

وتلك أيضا حال الموجودات. فإن السبب الأول نسبته إلى سائر الموجودات كنسبة ملك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائها. فإن البريئة من المادة تقرب من الأول، ودونها الأجسام السماوية، ودون السماوية الأجسام الهيولانية. وكل هذه تحتذي حذو السبب الأول وتؤمه وتقتفيه؛ ويفعل ذلك كل موجود بحسب قوته. إلا أنها أنما تقتفي الغرض بمراتب، وذلك أن الأخس يقتفي غرض ما هو فوقه قليلا، وذلك يقتفي غرض ما هو فوقه، وأيضا كذلك للثالث غرض ما هو فوقه، إلى أن تنتهي إلى التي ليس بينها وبين الأول واسطة أصلا.

فعلى هذا الترتيب تكون الموجودات كلها تقتفي غرض السبب الأول فالتي أعطيت كل ما به وجودها من أول الأمر، فقد احتذى بها من أول أمرها حذو الأول ومقصده، فعادت وصارت في المراتب العالية. وأما التي لم تعط من أول الأمر كل ما به وجودها، فقد أعطيت قوة تتحرك بها نحو ذلك الذي تتوقع نيله، وتقتفي في ذلك ما هو غرض الأول. وكذلك ينبغي أن تكون المدينة الفاضلة: فإن أجزاءها كلها ينبغي أن تحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول على الترتيب.

ورئيس المدينة الفاضلة ليس يمكن أن يكون أي إنسان اتفق، لأن الرئاسة إنما تكون بشيئين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معدا لها، والثاني بالهيئة والملكة الإرادية. والرياسة تحصل لمن فطر بالطبع معدا لها. فليس كل صناعة يمكن أن يُرأس بها، بل أكثر الصنائع صنائع يخدم بها في المدينة، وأكثر الفطر هي فطر الخدمة. وفي الصنائع صنائع يراس بها ويخدم بها صنائع أخر، وفيها صنائع يخدم بها فقط ولا يرأس بها أصلا. فكذلك ليس يمكن أن تكون صناعة رئاسة المدينة الفاضلة أية صناعة ما اتفقت، ولا أية ملكة ما اتفقت.

وكما أن الرئيس الأول في جنس لا يمكن أن يرأسه شيء من ذلك الجنس، مثل رئيس الأعضاء، فإنه هو الذي لا يمكن أن يكون عضو آخر رئيسا عليه؛ وكذلك في كل رئيس في الجملة. كذلك الرئيس الأول للمدينة الفاضلة ينبغي أن تكون صناعته صناعة لا يمكن أن يخدم بها أصلا، ولا يمكن فيها أن ترأسها صناعة أخرى أصلا. بل تكون صناعته صناعة نحو غرضها تؤم الصناعات كلها، وإيّاه يقصد بجميع أفعال المدينة الفاضلة. ويكون ذلك الإنسان إنسانا لا يكون يرأسه إنسان أصلا؛ وإنما يكون ذلك الإنسان إنسانا قد استكمل، فصار عقلا ومعقولا بالفعل. وقد استكملت قوته المتخيلة بالطبع غاية الكمال على ذلك الوجه الذي قلنا، وتكون هذه القوة منه معدة بالطبع لتقبل، إما بأنفسها وإما بما يحاكيها، ثم المعقولات بما يحاكيها. وأن يكون عقله المنفعل قد استكمل بالمعقولات كلها، حتى لا يكون ينفي عليه منها شيء، وصار عقلا بالفعل.

فأي إنسان استكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلها، وصار عقلا بالفعل ومعقولا بالفعل، وصار المعقول منه هو الذي يعقل، حصل له حينئذ عقل ما بالفعل رتبته فوق العقل المنفعل، أتم وأشد مفارقة للمادة، ومقاربة من العقل الفعال، ويسمى العقل المستفاد، ويصير متوسطا بين العقل المنفعل وبين العقل الفعال، ولا يكون بينه وبين العقل الفعال شيء آخر. فيكون العقل المنفعل كالمادة والموضوع للعقل المستفاد، والعقل المستفاد كالمادة والموضوع للعقل الفعال. والقوة الناطقة، التي هي هيئة طبيعية، تكون مادة موضوعة للعقل الفعال الذي هو بالفعل عقل.

وأول الرتبة التي بها الإنسان إنسان هو أن تحصل الهيئة الطبيعية القابلة المعدة لأن يصير عقلا بالفعل. وهذه هي المشتركة للجميع؛ فبينها وبين العقل الفعال رتبتان "هما": أن يحصل العقل المنفعل بالفعل، وأن يحصل العقل المستفاد. وبين هذا الإنسان الذي بلغ هذا المبلغ من أول رتبة الإنسانية وبين العقل الفعال رتبتان. وإذا جعل العقل المنفعل الكامل والهيئة الطبيعية كشيء واحد، على مثال ما يكون المؤتلف من المادة والصورة شيئا واحدا، وإذا أخذ هذا الإنسان صورة إنسانية، هو العقل المنفعل الحاصل بالفعل، كان بينه وبين العقل الفعال رتبة واحدة فقط. وإذا جعلت الهيئة الطبيعية مادة العقل المنفعل الذي صار عقلا بالفعل، والمنفعل مادة المستفاد، والمستفاد مادة العقل الفعال، وأخذت جملة ذلك كشيء واحد، كان هذا الإنسان هو الإنسان الذي حل فيه العقل الفعال.

وإذا حصل ذلك في كلا جزئي قوته الناطقة، وهما النظرية والعملية، ثم في قوته المتخيلة، كان هذا الإنسان هو الذي يوحي إليه. فيكون الله عز وجل يوحي إليه بتوسط العقل الفعال، فيكون ما يفيض من الله، تبارك وتعالى، إلى العقل الفعال يفيضه العقل الفعال إلى عقله المنفعل بتوسط العقل المستفاد، ثم إلى قوته المتخيلة. فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيما فيلسوفا ومتعقلا على التمام وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيا منذرا بما سيكون ومخبرا بما هو الآن "عن" الجزئيات، بوجود يعقل فيه الإلهي. وهذا الإنسان هو في أكمل مراتب الإنسانية وفي أعلى درجات السعادة.ن وتكون نفسه كاملة متحدة بالعقل الفعال على الوجه الذي قلنا. وهذا الإنسان هو الذي يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة. فهذا أول شرائط الرئيس. ثم أن يكون له مع ذلك قدرة بلسانه على جودة التخيل بالقول لكل ما يعلمه، وقدرة على جودة الإرشاد إلى السعادة، وإلى الأعمال التي بها تبلغ السعادة، وأن يكون له مع ذلك جودة ثبات ببدنه لمباشرة أعمال الجزئيات.