الباب الثلاثون - الباب التاسع والعشرون - القول في مضادات المدينة الفاضلة

والمدينة الفاضلة تضادها المدينة الجاهلة، والمدينة الفاسقة، والمدينة المتبدلة، والمدينة الضالة. ويضادها أيضا من أفراد الناس نوائب المدن.

المدينة الجاهلة

والمدينة الجاهلة هي التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم. إن ارشدوا إليها فلم يفهموها ولم يعتقدوها، وإنما عرفوا من الخيرات بعض هذه التي هي مظنونة في الظاهر أنها خيرات من التي تظن أنها هي الغايات في الحياة، وهي سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات، وأن يكون مخلى هواه، وأن يكون مكرما ومعظما. فكل واحد من هذه سعادة عند أه الجاهلة. والسعادة العظمى الكاملة هي اجتماع هذه كلها. وأضدادها هي الشقاء، وهي آفات الأبدان والفقر وأن لا يتمتع باللذات، وأن لا يكون مخلى هواه وأن لا يكون مكرما.

وهي تنقسم إلى جماعة مدن، منها: I- المدينة الضرورية، وهي التي قصد أهلها الإقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوح، والتعاون على استفادتها.

II- والمدينة البدالة هي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة، ولا ينتفعوا باليسار في شيء آخر، لكن على أن اليسار هو الغاية في الحياة.
ج- ومدينة الخسة والسقوط، وهي التي قصد أهلها التمتع باللذة من المأكول والمشروب والمنكوح، وبالجملة اللذة من المحسوس والتخيل وإيثار الهزل واللعب بكل وجه ومن كل نحو.
د- ومدينة الكرامة، وهي التي قصد أهلها على أن يتعاونوا على أن يصيروا مكرمين ممدوحين مذكورين مشهورين بين الأمم، ممجدين معظمين بالقول والفعل، ذوي فخامة وبهاء، إما عند غيرهم وإما بعضهم عند بعض، كل إنسان على مقدار محبته لذلك، أو مقدار ما أمكنه بلوغه منه.
ه- ومدينة التغلب، وهي التي قصد أهلها أن يكون القاهرين لغيرهم، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم، ويكون كدهم اللذة التي تنالهم من الغلبة فقط.
و- والمدينة الجماعية، هي التي قصد أهلها أن يكونوا أحرارا، يعمل كل واحد منهم ما شاء، لا يمنع هواه في شيء أصلا.
وملوك الجاهلة على عهد مدنها، أن يكون كل واحد منهم إنما يدبر المدينة التي هو مسلط عليها ليحصل هواه وميله. وهمم الجاهلة التي يمكن أن تجعل غايات هي تلك التي أحصيناها آنفا.
?المدينة الفاسقة - وأما المدينة الفاسقة، وهي التي آراؤها الآراء الفاضلة، وهي التي تعلم السعادة والله عز وجل والثواني والعقل الفعال، وكل شيء سبيله أن يعلمه أهل المدينة الفاضلة ويعتقدونها، ولكن تكون أفعال أهلها أفعال أهل المدن الجاهلة.
المدينة المبدلة - والمدينة المبدلة، فهي التي كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء المدينة الفاضلة وأفعالها، غير أنها تبدلت فدخلت فيها آراء غير تلك، واستحالت أفعالها إلى غير تلك.

المدينة الضالة

-والمدينة الضالة، هي التي تظن بعد حياتها هذه السعادة، ولكن غيرت هذه، وتعتقد في الله عز وجل وفي الثواني وفي العقل الفعال آراء فاسدة لا يصلح عليها "حتى" ولا أن أخذت على أنها تمثيلات وتخيلات لها، ويكون رئيسها الأول ممن أوهم أنه يوحى إليه من غير أن يكون كذلك، ويكون قد استعمل في ذلك التمويهات والمخادعات والغرور.

وملوك هذه المدن مضادة لملوك المدن الفاضلة، ورياستهم مضادة للرياسات الفاضلة، وكذلك سائر من فيها. وملوك المدن الفاضلة الذين يتوالون في الأزمنة المختلفة واحدا بعد آخر فكلهم كنفس واحدة، وكأنهم ملك واحد يبقى الزمان كله. وكذلك إن اتفق منهم جماعة في وقت واحد، إما في مدينة واحدة، وإما في مدن كثيرة، فإن جماعتهم كملك واحد، ونفوسهم كنفس واحدة، وكذلك أهل كل رتبة منها، متى توالوا في الأزمان المختلفة، فكلهم كنفس واحدة تبقى الزمان كله. وكذلك إن كان في وقت واحد جماعة من أهل رتبة واحدة، وكانوا في مدينة واحدة أو مدن كثيرة، فإن نفوسهم كنفس واحدة، كانت تلك الرتبة رتبة رياسة أو رتبة خدمة.

وأهل المدينة الفاضلة لهم أشياء مشتركة يعلمونها ويفعولنها، وأشياء أخر من علم وعلم يخص كل رتبة وكل واحد منهم. إنما يصير "كل واحد" في حدّ السعادة بهذين، أعني بالمشترك الذي له ولغيره معا، وبالذي يخص أهل المرتبة التي هو منها. فإذا فعل ذلك كل واحد منهم، أكسبته أفعاله تلك هيئة نفسانية جيدة فاضلة؛ وكلما دوام عليها أكثر، صارت هيئته تلك أقوى وأفضل، وتزايدت قوتها وفضيلتها. كما أن المداومة على الأفعال الجيدة من أفعال الكتابة تكسب الإنسان جودة صناعة الكتابة، وكلما داوم على تلك الأفعال أكثر صارت الصناعة التي بها تكون تلك الأفعال أقوى وأفضل، وتزيد قوتها وفضيلتها بتكرير أفعالها، ويكون الإلتذاذ التابع لتلك الهيئة النفسانية أكثر، وإغتباط الإنسان عليها نفسه أكثر، ومحبته لها أزيد.

وتلك حال الأفعال التي ينال بها السعادة: فإنها كلما زيدت منها وتكررت وواظب الإنسان عليها، صيرت النفس التي شأنها أن تسعد أقوى وأفضل وأكمل إلى أن تصير من حد الكمال إلى أن تستغني عن المادة، فتحصل متبرئة منها، فلا تتلف بتلف المادة، ولا إذا بقيت احتاجت إلى مادة.

فإذا حصلت مفارقة للمادة، غير متجسمة ارتفعت عنها الأعراض التي تعرض للأجسام من جهة ما هي أجسام، فلا يمكن فيها أن يقال إنها تتحرك ولا إنها تسكن. وينبغي حينئذ أن يقال عليها الأقاويل التي تليق بما ليس بجسم. وكلما وقع في نفس الإنسان من شيئ يوصف به الجسم بما هو جسم، فينبغي أن يسلب عن الأنفس المفارقة. وأن يفهم حالها هذه وتصورها عسير غير معتاد. وكذلك يرتفع عنها كل ما كان يلحقها ويعرض لها بمقارنتها للأجسام. ولما كانت هذه الأنفس التي فارقت أنفسا كانت في هيوليات مختلفة، وكان تبين أن الهيئات النفسانية تتبع مزاجات الأبدان، بعضها أكثر وبعضها أقل، وتكون كل هيئة نفسانية على نحو ما يوجبه مزاج البدن الذي كانت فيه، فهيئتها لزم فيها ضرورة أن تكون متغايرة لأجل التغير الذي فيها كان. ولما كان تغاير الأبدان إلى غير نهاية محدودة، كانت تغايرات الأنفس أيضا إلى غير نهاية محدودة.