الباب الثاني والثلاثون - القول في أهل هذه المدن

أما أهل المدن الجاهلة، فإن أنفسهم تبقى غير مستكملة، ومحتاجة في قيامها إلى المادة ضرورة، إذ لم يرتسم فيها رسم حقيقة بشيء من المعقولات الأول أصلا. فإذا بطلت المادة التي بها كان قوامها، بطلت القوى التي كان شأنها أن يكون بها قوام ما بطل، وانحل إلى شيء آخر، صار الذي بقي صورة ما لذلك الشيء الذي إليه انحلت المادة الباقية. فكلما يتفق بعد ذلك أن ينحل ذاك أيضا إلى شيء، صار الذي يبقى صورة ما لذلك الشيء الذي إليه انحل، إلى أن ينحل إلى الاسطقسات، فيصير الباقي الأخير صورة الإسطقسات.

ثم من بعد ذلك يكون الأمر فيه على ما يتفق أن يتكون عن تلك الأجزاء من الاسطقسابت التي إليها انحلت هذه. فإن اتفق أن تختلط تلك الأجزاء اختلاطا يكون عنه إنسان، عاد قصار هيئة في إنسان؛ وإن اتفق أن تختلط اختلاطا يكون عنه نوع آخر من الحيوان أو غير الحيوان، عاد صورة لذلك الشيء. وهؤلاء هم الهالكون والصائرون إلى العدم، على مثال ما يكون عليه البهائم والسباع والأفاعي.

وأما أهل المدينة الفاسقةس، فإن الهيئات النفسانية التي اكتسوبها من الآراء الفاضلة، فهي تخلص أنفسهم من المادة، والهيئات النفسانية الرديئة التي اكتسبوها من الأفعال الرذيلة، فتقترن إلى الهيئات الأولى، فتكدر الأولى وتضادها؛ فيلحق النفس من مضاده هذه لتلك أذى عظيم، وتضاد تلك الهيئات هذه، فيلحق هذه من تلك أيضا أذى عظيم. فيجتمع من هذين أذيان عظيمان للنفس. وإن هذه الهيئات المستفادة من أفعال الجاهلة هي بالحقيقة يتبعها أذى عظيم في الجزء الناطق من النفس. وإنما صار الجزء الناطق لا يشعر بأذى هذه لتشاغله بما تورد عليه الحواس. فإذا انفرد دون الحواس، شعر بما يتبع هذه الهيئات من الأذى، ويخلصها من المادة، ويفردها عن الحواس وعن جميع الأشياء الواردة عليها من خارج.

كما أن الإنمسان المغتم، متى أورد الحواس عليه ما يشغله، لم يتأذ بما يغمه ولم يشعر به، حتى إذا انفرد دون الحواس، عاد الأذى عليه؛ وكذلك المريض الذي يتألم متى تشاغل بأشياء، إما أن يقل أذاه بألم المرض، وإما أن لم يشعر بالأذى. فإذا انفرد دون الأشياء التي تشغله، يشعر بالأذى أو عاد إليه الأذى؛ كذلك الجزء الناطق، ما دام متشاغلا بما تورده الحواس عليه، لم يشعر بأذى ما يقترن به من الهيئات الرديئة، حتى إذا انفرد انفرادا تاما دون الحواس شعر بالأذى، وظهر له أذى هذه الهيئات، فبقي الدهر كله في أذى عظيم. فإن ألحق به من هو في مرتبته من أهل تلك المدينة، إزداد أذى كل واحد منهم بصاحبه؛ لأن المتلاحقين بلا نهاية تكون زيادات أذاهم في غابر الزمان بلا نهاية. فهذا هو الشقاء المضاد للسعادة.

وأما أهل المدن الضالة، فإن الذي أضلهم وعدل بهم عن السعادة لأجل شيء من أغراض أهل الجاهلة وقد عرف السعادة، فهو من أهل المدن الفاسقة؛ فذلك هو وحده دون أهل المدينة شقي. فأما أهل المدينة أنفسهم فإنهم يهلكون وينحلون، على مثال ما يصير غليه حال أهل الجاهلية.

وأما أهل المدن المبدلة، فإن الذي بدل عليهم الأمر وعدل بهم، إن كان من أهل المدن الفاسقة شقي هو وحده، فأما الآخرون فإنهم يهلكون وينحلون أيضا مثل أهل الجاهلة. وكذلك من عدل عن السعادة بسهو وغلط.

وأما المضطرون والمقهوررون، من أهل المدينة الفاضلة، على أفعال الجاهلية، فإن المقهور على فعل شيء، لما كان يتأذى بما يفعله من ذلك، صارت مواظبته على ما قسر عليه لا تكسبه هيئة نفسانية مضادة للهيئات الفاضلة، فتكدر عليه تلك الحال حتى تصير منزلته منزلة أهل المدن الفاسقة، فلذلك لا تضره الأفعال التي أكره عليها، وإنما ينال الفاضل ذلك متى كان المتسلط عليه أحد أهل المدن المضادة للمدينة الفاضلة، واضطر إلى أن يسكن في مساكن المضادين.