الباب الثالث والثلاثون - القول في الأشياء المشتركة لأهل المدينة الفاضلة

فأما الأشياء المشتركة التي ينبغي أن يعلمها جميع أهل المدينة الفاضلة فهي أشياء، أولها معرفة السبب الأول وجميع ما يوصف به، ثم الأشياء المفارقة للمادة وما يوصف به كل واحد منها بما يخصه من الصفات والمرتبة إلى أن تنتهي من المفارقة إلى العقل الفعال، وفعل كل واحد منها؛ ثم الجواهر السماوية وما يوصف به كل واحد منها؛ ثم الأجسام الطبيعية التي تحتها، كيف تتكون وتفسد، وأن ما يجري فيها يجري على إحكام واتقان وعناية وعدل وحكمة، وأنه لا إهمال فيها ولا نقص ولا جور ولا بوجه من الوجوه؛ ثم كون الإنسان، وكيف تحدث قوى النفس، وكيف يفيض عليها العقل الفعال الضوء حتى تحصل المعقولات الأول، والإرادة والاختيار؛ ثم الرئيس الأول وكيف يكون الوحي؛ ثم الرؤساء الذين ينبغي أن يخلفوه إذا لم يكن هو في وقت من الأوقات؛ ثم المدينة الفاضلة وأهلها والسعادة التي تصير إليها أنفسهم، والمدن المضادة لها وما تؤول إليه أنفسهم بعد الموت: أما بعضهم إلى الشقاء بوأما بعضهم إلى العدم، ثم الأمم الفاضلة والأمم المضادة لها.

وهذه الأشياء تعرف بأحد وجهين: إما أن ترتسم في نفوسهم كما هي موجودة، وإما أن ترتسم فيها بالمناسبة والتمثيل، وذلك أن يحصل في نفوسهم مثالاتها التي تحاكيها. فحكماء المدينة الفاضلة هم الذين يعرفون هذه ببراهين وببصائر أنفسهم. ومن يلي الحكماء يعرفون هذه على ما هي عليه موجودة ببصائر الحكماء اتباعا لهم وتصديقا لهم وثقة بهم. والباقون منهم يعرفون بالمثالات التي تحاكيها، لأنهم لا هيئة في أذهانهم لتفهمها على ما هي موجودة إما بالطبع وإما بالعادة وكلتاهما معرفتان. إلا أن التي للحكيم أفضل لا محالة؛ والذين يعرفونها بالمثالات التي تحاكيها، بعضهم يعرفونها بمثالات قريبة منها، وبعضهم بمثالات أبعد قليلا، وبعضهم بمثالات أبعد من تلك، وبعضهم بمثالات بعيدة جدا. وتحاكي هذه الأشياء لكل أمة ولأهل كل مدينة بالمثالات التي عندهم الأعرف فالأعرف، وربما اختلف عند الأمم أما أكثرة وأما بعضه، فتحاكي هذه لكل أمة بغير الأمور التي تحاكي بها الأمة الأخرى. فلذلك يمكن أن يكون أمم فاضلة ومدن فاضلة تختلف متلهم، فهم كلهم يؤمون سعادة واحدة بعينها ومقاصد واحدة بأعيانها.

وهذه الأشياء المشتركة، إذا كانت معلومة ببراهينها، لم يمكن أن يكون فيها موضع عناد بقول أصلا، لا على جهة المغالطة ولا عند من يسوء فهمه لها. فحينئذ يكون للمعاند، لا "حقيقة" الأمر في نفسه، ولكن ما فهمه هو من الباطل في الأمر. فإما إذا كانت معلومة بمثالاتها التي تحاكيها، فإن مثالاتها قد تكون فيها مواضع للعناد، وبعضها يكون فيه مواضع العناد أقل، وبعضها يكون فيها مواضع العناد أكثر، وبعضها يكون فيه مواضع العناد أظهر، وبعضها يكون فيه أخفى.

ولا يمتنع أن يكون في الذين عرفوا تلك الأشياء بالمثالات المحاكية، من يقف على مواضع العناد في تلك المثالات ويتوقف عنده، وهؤلاء شيء ما رفع إلى مثال آخر أقرب إلى الحق، لا يكون فيه ذلك العناد، فإن قنع به ترك، وإن تزيف عنده ذلك أيضا رفع إلى مرتبة أخرى، فإن فنع به ترك. وإن تزيف عنده مثال في مرتبة ما رفع فوقه، فإن تزيفت عنده المثالات كلها وكانت فيه فيه نية للوقوف على الحق عرف الحق، وجعل في مرتبة المقلدين للحكماء؛ فإن لم يقنع بذلك وتشوق إلى الحكمة، وكان في نيته ذلك، علمها.

وصنف آخر تتزيف عندهم المثالات كلها لما فيها من مواضع العناد، ولأنهم مع ذلك سيئو الإفهام، يغلطون أيضا عن مواضع الحق من المثالات، فيتزيف منها عندهم ما ليس فيها موضع للعناد أصلا.

فإذا رفعوا إلى طبقة الحق حتى يعرفوها، أضلهم سوء إفهامهم عنه، حتى يتخيلوا الحق على غير ما هو به، فيظنون أيضا أن الذي تصوروه هو الذي ادعى الحق أنه هو الحق؛ فإذا تزيف ذلك عندهم، ظنوا أن الذي تزيف هو الحق الذي يدعى أنه الحق لا الذي فهموه هم؛ فيقع لهم لأجل ذلك أنه لا حق أصلا، وأن الذي يظن به أنه أرشد إلى الحق مغرور. وأن الذي يقال فيه إنه مرشد إلى الحق، مخادع مموه، طالب، بما يقول من ذلك، رئاسة أو غيرها.

وقوم من هؤلاء يخرجهم ذلك إلى أن يتحيروا؛ وآخرون من هؤلاء يلوح لهم مثل ما يلوح الشيء من بعيد، أو مثل ما يتخيله الإنسان في النوم أن الحق موجود ويباين من ادراكه لأسباب يرى أنها لا تتأتى له، فيقصد إلى تزييف ما أدركه، ولا يحسبه حينئذ حقا، ثم يعلم أو يظن أنه أدرك الحق.