الباب الخامس والثلاثون - القول في العدل أو في علاقات المدن والأمم

قالوا: فإذا تميزت الطوائف بعضها عن بعض بأحد هذه الارتباطات، إما قبيلة عن قبيلة، أو مدينة عن مدينة، أو أحلاف عن أحلاف، أو أمة عن أمة، كانوا مثل تميز كل واحد عن كل واحد؛ فإنه لا فرق بين أن يتميز كل واحد عن كل واحد أو يتميز طائفة عن طائفة؛ فينبغي بعد ذلك أن يتغالبوا ويتهارجوا. والأشياء التي يكون عليها التغالب هي السلامة والكرامة واليسار واللذات وكل ما يوصل به إلى هذه. وينبغي أن يروم كل طائفة أن تسلب جميع ما للأخرى من ذلك، وتجعل ذلك لنفسها، ويكون كل واحد من كل واحد بهذه الحال. وتجعل ذلك لنفسها ويكون كل واحد من كل واحد بهذه الحال. فالقاهرة منها للأخرى على هذه هي الفائزة، وهي المغبوطة، وهي السعيدة. وهذه الأشياء هي التي في الطبع، إما في طبع كل إنسان أو في طبع كل طائفة، وهي تابعة لما عليه طبائع الموجودات الطبيعية. فما في الطبع هو العدل. فالعدل إذا التغالب. والعدل هو أن يقهر ما اتفق منها. والمقهور إما أن يقهر على سلامة بدنه، أو هلك وتلف، وانفرد القاهر بالوجود؛ أو قهر على كرامته وبقي ذليلا ومستعبدا، تستعبده الطائفة القاهرة ويفعل ما هو الأنفع للقاهر في أن ينال به الخير الذي عليه غالب ويستديم به. فاستعباد القاهر للمقهور هو أيضا من العدل. وأن يفعل المقهور ما هو الأنفع للقاهر هو أيضا عدل. فهذه كلها هو العدل الطبيعي، وهي الفضيلة. وهذه الأفعال هي الأفعال الفاضلة فإذا حصلت الخيرات للطائفة القاهرة فينبغي أن يعطى من هو أعظم غناءا في الغلبة على تلك الخيرات من تلك الخيرات أكثر، والأقل غناء فيها أقل. وإن كانت الخيرات التي غلبوا عليها كرامة، أعطي الأعظم غناءً فيه كرامة أكبر، وإن كانت أموالا أعطي أكثر. وكذلك في سائرها. فهذا هو أيضا عدل عندهم طبيعي.

قالوا: وأما سائر ما يسمى عدلا، مثل ما في البيع والشراء، ومثل رد الودائع، ومثل أن لا يغضب ولا يجور، وأشباه ذلكن فإن مستعمله إنما يستعمله أولا لأجل الخوف والضعف وعند الضرورة الواردة من خارج.

وذلك أن يكون كل واحد منهما كأنهما نفسان أو طائفتان مساوية "إحداهما" في قوتها للأخرى، وكانا يتداولان القهر. فيطول ذلك بينهما؛ فيذوق كل واحد الأمرين، ويصير إلى حال لا يحتملها، فحينئذ يجتمعان ويتناصفان، ويترك كل واحد منهما للآخر مما كانا يتغالبان عليه قسطا ما؛ فتبقى سماته، ويشرط كل واحد منهما على صاحبه أن لا يروم نزع ما في يديه إلا بشرائط، فيصطلحان عليها. فيحدث من ذلك الشرائط الموضوعة في البيع والشراء، ويقارب الكرامات ثم المواساة وغير ذلك مما جانسها. وإنما يكون ذلك عند ضعف كل من كل، وعند خوف كل من كل. فما دام كل واحد من كل واحد في هذه الحال فينبغي أن يتشاركا. ومتى قوي أحدهما على الآخر فينبغي أن ينقض الشريطة ويروم القهر.

أو يكون الأثنان ورد عليهما من خارج شيء على أنه لا سبيل إلى دفعه إلا بالمشاركة وترك التغالب، فيتشاركان ريث ذلك؛ أو يكون لكل واحد منهما همة في شيء يريد أن يغلب عليه، فيرى أنه لا يصل غليه إلا بمعاونة الآخر له وبمشاركة له. فيتركان التغالب بينهما ريث ذلك، ثم يتعاندان. فإذا وقع التكافؤ من الفرق بهذه الأسباب وتمادى الزمان على ذلك، ونشأ على ذلك من لم يدر كيف كان أول ذلك، حسب أن العدل هو هذا الموجود الآن، ولا يدري أنه خوف وضعف. فيكون مغرورا بما يستعمل من ذاك. فالذي يستعمل هذه الأشياء، إما ضعيف أو خائف أن يناله من غيره مثل الذي يجد في نفسه من الشوق إلى فعله، وإما مغرور.