وأما الخشوع فهو أن يقال إن إلها يدير العالم، وإن الروحانيين مدبرون مشرفون على جميع الأفعال، واستعمال تعظيم الإله والصلوات والتسابيح والتقاديس، وأن الإنسان إذا فعل هذه وترك كثيرا من الخيرات المتشوقة في هذه الحياة، وواظب على ذلك عوض عن ذلك وكوفي بخيرات عظيمة يصل إليها بعد موته. وإن هو لم يتمسك بشيء من هذه، وأخذ الخيرات في حياته، عوقب عليها بعد موته بشرور عظيمة ينالها في الآخرة.
فإن هذه كلها أبواب من الحيل والمكايدة على قوم لوقم؛ فإنها حيل ومكايد لمن يعجز عن المغالبة على هذه الخيرات بالمصالحة والمجاهدة؛ ومكايد يكايدن بها من لا قدرة له على المجاهدة والصلابةن ببدنه وصلاحه وخبث رويته ومعاونته بتخويف9هم وقمعهم لأن يتركوا هذه الخيرات كلها أو بعضها ليفوز بها آخرون، ممن يعجز عن المجاهدة بأخذها وبالغلبة عليها.
فإن المتمسك بهذه يظن به أنه غير حريص عليها، ويظن به الخير؛ فيركن غليه ولا يحذر ولا يتقى ولا يتهم، بل يخفى مقصده وتوصف سيرته أنها الإلهية؛ فيكون زيه وصورته صورة من لا يريد هذه الخيرات لنفسه؛ فيكون ذلك سببا لأن يكرم ويعظم ويوسل لسائر الخيرات، وتنقاد النفوس له، فتحبه فلا تنكر ارتكاب هواه في كل شيء، بل يحسن عند الجميع قبيح ما يعمله، ويصير بذلك إلى غلبة الجميع على الكرامات والرياسات والأموال واللذات ونيل الحرية، فتلك الأشياء إنما جعلت لهذه.
وكما أن صيد الوحوش، منه ما هو مغالبة ومجاهدة، ومنه ما هو مخاتلة ومكايدة، كذلك الغلبة على هذه الخيرات أن تكون بمغالبته، أو تكون بمخاتلته. ويطارد بأن يتوهم الإنسان في الظاهر أن مقصده شيء آخر غير الذي هو بالحقيقة مقصده، ولا يحذر ولا يتقي ولا ينازع، فيناله بسهولة.
فالمتمسك بهذه الأشياء والمواظب عليها، متى كان إنما يفعل ذلك ليبلغ الشيء الذي جعل هذه لأجله، وهو المواتاة بها في الظاهر ليفوز بإحدى تلك الخيرات أو بجميعها، كان عند الناس مغبوطا. فيزداد بيقين وحكمة وعلم ومعرفة، جليلا عندهم، معظما ممدوحا؛ ومتى كان يفعل ذلك لذاته لا لينال به هذه الخيرات، كان عند الناس مخدوعا، مغرورا، شقيا، أحمق، عديم العقل، جاهلا بحظ نفسه، مهينا، لا قدر له، مذموما. غير أن كثيرا من الناس يظهرون مديحته لسخرية به؛ وبعضهم يقويه لنفسه في أنلا يزاحم في شيء من الخيرات، بل يتركها ليتوفر عليه وعلى غيره؛ وبعضهم يمدحون طريقته ومذهبه خوفا أن يسلبهم ما عندهم على طريقته. وقوم آخرون يمدحونه ويغبطونه لأنهم أيضا مغرورون مثل غروره.
فهذه وما أشبهها هي آراء الجاهلة التي وقعت في نفوس كثير من الناس عن الأشياء التي تشاهد في الموجودات. وإذا حصلت لهم الخيرات التي غلبوا عليها، فينبغي أن تحفظ وتستدام وتمد وتزيد، فإنها إن لم يفعل بها ذلك نفدت.
فقوم منهم رأوا أن يكونوا أبدا بأسرهم يطلبون مغالبة آخرين أبدا.
وكلما غلبوا طائفة ساروا إلى أخرى. وآخرون يرون أن يمتدوا ذلك من أنفسهم ومن غيرهم، فيحفظونها ويدبرونها، أما من أنفسهم فبالغاية الإرادية، مثل البيع والشراء والتعاوض وغير ذلك، وأما من غيرهم فبالغلبة، وآخرون رأوا تزييدها في غيرهم بالوجهين جميعا.
وآخرون رأوا ذلك بأن جعلوا أنفسهم قسمين: قسما يرديون تلك ويمدونها من أنفسهم بمعاملات، وقسما يغالبون عليهم، فيحصلون طائفتين، كل واحدة منفردة بشيء: إحداهما بالمغالبة والأخرى بالمعاملة الإرادية. وقوم منهم رأوا أن الطائفة المعاملة منها هي إناثهم، والمغالبة هي ذكورهم. وإذا ضعف بعضهم عن المغالبة جعل في المعاملة. فإن لم يصلح لا لذا ولا لذاك جعل فضلا. وآخرون رأوا أن تكون الطائفة المعاملة قوما آخرين غير ما يغلبونهم ويستعبدونهم، فيكونوا هم المتولين لضرورتهم ولحفظ الخيرات التي يغلبون عليها وإمدادها وتزييدها.
وآخرون قالوا إن التغالب في الموجودات إنما هي بين الأنواع المختلفة، وأما الداخلية تحت نوع واحد فإن النوع هو رابطها الذي لأجله ينبغي أن يتسالم. فالإنسانية للناس هي الرباط؛ فينبغي أن يتسالموا بالانسانية، ثم يغالبون غيرهم فيما ينتفعون به من سائرها ويتركون ما لا ينتفعون به. فما كان مما لا ينتفع به ضارا غلب على وجوده، وما لم يكن ضارا تركوه. وقالوا: فإذا كان كذلك فإن الخيرات التي سبيلها أن يكتسبها بعضهم عن بعض، فينبغي أن تكون بالمعاملات الإرادية، والتي سبيلها أن تكتسب وتستفاد من سائر الأنواع الأخر، فينبغي أن تكون بالغلبة إذ كانت الأخرى لا نطق لها فتعلم المعاملات الإرادية. وقالوا: فهذا هو الطبيعي للإنسان. فأما الإنسان المغالب فليس بما هو مغالب طبيعيا. ولذلك إذا كان لا بد من أن يكون ههنا أمة أو طائفة خارجة عن الطبيعي للإنسان، تروم مغالبة سائر الطوائف علىالخيرات التي بها، اضطرت الأمة والطائفة الطبيعية إلى قوم منهم ينفردون بمدافعة أمثال أولئك إن وردوا عليهم يطلبون مغالبتهم، وبمغالبتهم على حق هؤلاء إن كانوا أولئك غلبوا عليه، فتصير كل طائفة فيها قوتان: قوة تغالب بها وتدافع، وقوة تعامل بها. وهذه التي بها تدافع ليست لها على أنها تفعل ذلك بارادتها، لكن يضطرها إلى ذلك بما يرد عليها من خارج. وهؤلاء على ضد ما عليه أولئك، فإن أولئك يرون أن المسالمة لا بوارد من خارج، وهؤلاء يرون أن المغالبة لا بوارد من خارج. فيحدث من ذلك هذا الرأي الذي للمدن المسالمة.