قَسمت الحكماء الأرض جهة المشرق والمغرب والشمال والجنوب،وقَسمُوا ذلك إلى قسمين: مسكون، وغير مسكون، وعامر، وغير عامر، وذكروا أن الأرض مستديرة، ومركزها في وسط الفلك، والهواء محيط بها من كل الجهات، وأنها عند فلك البروج بمنزلة النقطة قلة، وأخفا عمرانها من حدود الجزائر الخالدات في بحر أوقيانوس الغربي، وهي ستة أجزاء عامرة إلى أقصى عمران الصين، فجدوا ذلك اثني عشر ساعة فعلموا أن الشمس إذا غابت في أقصى الصين كان طلوعها على الجزائر العامرة المذكورة التي في بحر أوقيانوس الغربي، واذا غابت في هذه الجزائر كان طلوعها في أقصى الصين، وذلك نصف دائرة الأرض، وهو طول العمران الذي ذكروا أنهم وقفا عليه ومقداره من الأميال ثلاثة عشر ألف ميل وخمسمائة ميل من الأميال التي عملوا عليها في مساحة دور الأرض، ثم نظروا إلى العروض؟ فجدوا العمران من موضع خط الاستواء إلى ناحية الشمال ينتهي إلى جزيرة تولى التي في بريطانيا حيث يكون النهار الأطول عشرين ساعة، وذكروا أن موضع خط الاستواء من الأرض يقطع فيما بين المشرق والمغرب في جزيرة بين الهند والحبش من ناحية الجنوب، فيعرض ما بين الشمال والجنوب في النصف مما بين الجزائر العامرة وأقصى عمران الصين وهو قبة الأرض المعروفة بما ذكرنا، ويكون العرض من خط الاستواء إلى جزيرة تولى قريبأ من ستين جزأ، وذلك سدس دائرة الأرض،وإذا ضرب هذا السدس الذي هو مقدار العرض في النصف الذي هو مقدار الطول كان مقدار ما يظهر من العمران من ناحية الشمال مقدار نصف سدس دائرة الأرض.
وأما الأقاليم السبعة فأولها أرض بابل منه خراسان وفارس:الأهواز والموصل وأرض الجبال ة وله من البروج الحَمَلُ والقَوْس، ومن الأنجم السبعة المُشْتَرِي والاقليم الثاني الهند والسند والسودان، ولهَ من البروج الْجَديُ، ومن الأنجم السبعة زُحلُ، والِإقليم الثالث مكة والمدينة واليمن والطائف والحجاز وما بينها، وله من البروج العقرب، ومن الأنجم السبعة الزُهْرَة، وهي سعد الفلك، والِإقليم الرابع مصر وإفريقية والبربر والأندلس وما بينها، له من البروج الجوزاء، ومن الأنجم السبعة عُطَارد، والِإقليم الخامس الشام والروم والجزيرة، له من البروج الدَّلْو، ومن الأنجم السبعة القمر، والِإقليم السادس الترك والخزر والديلم والصقالبة، له من البروج السَّرَطَان، ومن الأنجم السبعة المَرِّيخُ، والِإقليم السابع الديبل والصين، له من البروج الميزان، ومن الأنجم السبعة الشمس.ذكر حسين المنجم صاحب كتاب الزِّيج في النجوم، عن خالد بن عبد الملك المروزي وغيره وقد كانوا رَصَدوا الشمس لأمير المؤمنين المأمون في بَرِّئة سنجار من بلاد ديار ربيعة أن مقدار درجة واحدة من وجه الأرض ستة وخمسون ميلاً؟ فضربوا مقدار درجة واحدة في ثلاثمائة وستين فجدوا دَوْرَ كرة الأرض المحيطة بالبر والبحَر عشرين ألف ميل ومائة وستين ميلَاَ، ثم ضربوا دور الأرض في سبعة فاجتمع مائة ألف ميل وأحد وأربعون ألف ميل ومائة وعشرون ميلاً؟ فقسموا ذلك على اثنين وعشرين ميلاً وخرج للقسم الذي هو مقدار قُطْر الأرض ستة آلاف وأربعمائة وأربعة عشرميلاً ونصفاً ونصف عشر ميل بالتقريب، ونصف قطر ثلاثة آلاف ميل ومائتا ميل وسبعة أميال وست عشرة دقيقة وثلثا ثانية، يكون ربع ميل ربع عشر ميل، والميل أربعة آلاف ذراع بالأسود، وهي الذراع التي وضعها أمير المؤمنين المأمون لذَرْع الثياب ومساحة البناء، وقسمة المنازل، والذراع مائة وعشرون إصبعاً.
قال المسعودي: وقد ذكر بطليموس في الكتاب المعروف بجغرافياصِفَةَ الأرض ومُدُنَهَا وجبالها وما فيها من البحار والجزائر والأنهار والعيون ووَصَفَ المدن المسكونة والمواضع العامرة، وأن عددها أربعة آلاف مدينة وخمسمائة وثلائون مدينة في عصره، وسماها مدينة مدينة في إقليم إقليم، وذكر في هذا الكتاب ألوان جبال الدنيا منِ الحمرة والصفرة والخضرة وغير ذلك من الألوان، وأن عددها مائتا جبل ونيف، وذكر مقدارها وما فيها من المعادن والجواهر.وذكر هذا الفيلسوفأن عدد البحار المحيطة بالأرض خمسة أبحر،وذكر ما فيها من الجزائر، والعامر منها وغير العامر، وما اشتهر من الجزائر دون ما لم يشتهر، وذكر أن في البحر الحبشي جزائر متصلة نحواً من ألف جزيرة يقال لها الدبيحات عامرة كلها من الجزيرة إلى الجزيرة الميلان والثلاثة وأكثر من ذلك، دون ما في هذا البحر من الجزائر.وذكر بطليموس في جغرافيا أن ابتداء بحر مصر من الروم إلى بحر الأصنام النحاس، وأن جميع العيون الكبار التي تنبع من الأرض مائتا عين وثلاثون عيناً، دون ما عداها من الصغار، وأن عدد الأنهار الكبار الجارية في الأقاليم السبعة على دوام الأوقات مائتان وتسعون نهراً، وأن الأقاليم على حسب ما قدمناه فى عدة الأقاليم، وكل إقليم سعته تسعمائة فرسخ في مثلها، وفي البحارما هو معمور بالحيوان، ومنها ما ليس بمعمور، وهو أوقيانوس البحر المحيط، وسنأتي فيما يرد من هذا الكتاب على ذكر جمل في تفصيل البحار ووصفها، وهذه البحار كلها بصورة في كتاب جغرافياً بأنواع من الأصباغ مختلفة المقادير في الصورة، فمنها ما هو على صورة الطيلسان، ومنها ما هو على صورة الشابورة، ومنها مصراني الشكل ومنها محور ومنها مثلث، إلاّ أن أسماءها في هذا الكتاب باليونانية متعذر فهمها، وأن قطر الأرض ألفان ومائة فرسخ يكون ذلك على الصحيح ستة آلاف وستمائة فرسخ تقدير كل فرسخ ستة عشر ألف ذراع، والذي يحيط بأسفل دائرة النجوم وهو فلك القمرمائة ألف فرسخ وخمسة وعشرون ألفَاَ وستمائة وستون فرسخأ، وأن قطر الفلك من حد رأس الحمل إلى حد رأس الميزان أربعون ألف فرسخ بتقدير هنه الفراسخ، وعدد. هذه الأفلاك تسعة فأولها وهو أصغرها وأقربها إلى الأرض للقمر، والثاني لعُطَارِد، والثالث للزُّهْرة، والرا بع للشمس، والخامس للمريخ، والسادس للمشتري، والسابع لزُحَل، والثامن للكواكب الثابتة، والتاسع للبروج، وهيئة هذه الأفلاك هيئة الأكَر بعضها في جوف بعض ففلك البروج يسمى الفلك الكلي، وبه يكون الليل والنهار لأنه يدير الشمس والقمر وسائر الكواكب من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلةدوْرَة واحدة، على قطبين ثابتين: أحدهما مما يلي الشمال وهو قطب بنات نَعْش، والأخر مما يلي الجنوب وهو قطب سُهَيْل، وليس البروج غير الفلكَ، وإنما هي مواضع لقبت بهذه الأسماء لتعرف مواضع الكواكب من الفلك الكلي؟ فيجب أن تكون البروج تضيق من ناحية القُطْبين وتتسع في وسط الكرة، والخط القاطع للكرة نصفين الآخذ من المشرق إلى المغرب يسمى دائرة مُعَدل النهار، لأن الشمس إذا صارت عليها استوى الليل والنهار في جميعِ البلدان، فما كان من الفلك آخذاً من الجنوب إلى الشمال يسمى العَرْض، وما كان أخذاً من الشرق إلى الغرب يسمى الطول، والأفلاك مستديرة محيطة بالعالم، وهي تدور على مركز الأرض، والأرض في وسطها مثل النقطة في وسط الدائرة، وهي تسعة أفلاك ة فأقربها من الأرض فلك القمر، وفقه فلك عُطَارد، وفق ذلك فلك الزُّهْرة، ثم فلك الشمس، والشمس متوسطة الأفلاك السبعة، وفقها فلك المريخ وفقه فلك المُشْتَرِي، وفق ذلك فلك زُحَل، وفي كل فلك من هنه الأفلاك السبعة كوكب واحد فقط، وفق فلك زُحَل الفلك الثامن الذي فيه البروج الاثنا عشر، وسائر الكواكب في الفلك الثامن، والفلك التاسع وهو أرفع وأعظم جسماً، وهو الفلك الأعظم يحيط بالأفلاك التي دونه مما سمينا، وبالطبائع الأربع، وبجميع الخليقة، وليس فيه كوكب، ودوْرُه من المشرق إلى المغرب في كل يوم دورة واحدة تأمة، ويدير بدورانه ما تحته من الأفلاك المتقدم وَصْفُها، وأما الأفلاك السبعة التي قدمنا ذكرها فإنها تدور من المغرب إلى المشرق، وللأوائل فيما ذكرنا حجج يطول الخطب بها، والكواكب المرئية التي نشاهدها وساثر الكواكب في الفلك الثامن، وهو يدورعلى قطبين غير قطبي الفلك الأعظم المتقدم ذكره، وزعموِا أن الدليل على أن حركة هذه البروج غير حركة الأفلاك هو أن البروج الاثنيْ عشَرَ يتلو بعضها بعضاً في مسيرها، ولا تنتقل عن أماكنها، ولا تتغير حركتها في طلوعها وغروبها، وأن الكواكب السبعة لكل واحد منها حركة خلاف حركة صاحبه، ولها تفاوت في حركاتهاث فربما أسرع الكوكب في حركته ومسيره، وربما أخذ في الجنوب، وربما أخذ في الشمال، وحَدُّ الفلك عندهم أنه نهاية لما تصير إليه الطبائع علواً وسفلاً، وَحده من جهة الطبائع أنه شكل مستدير، وهو أوسع الأشكال، وهو يحيط بالأشكال كلها، وأن مقادير حركة هذه الكواكب في أفلاكها مختلفة فمقام القمر في كل برج يومان ونصف، ويقطع الفلك في شهر، ومقام الشمس في كل برج شهر، ومقام عُطَارد في كل برج خمسة عشريوماً، ومقام الزُّهْرة في كل برج خمسة وعشرون يوماً، ومقام المريخ في كل برج خمسة وأربعون يوماً، ومقام المشتري في كل برج سنة، ومقام زُحَل في كل برج ثلاثون شهراً.وقد زعم بطليموس صاحب كتاب المجسطي أن استدارة الأرض كلها جبالها وبحارها أربعة وعشرون ألف ميل وأن قطرهاوهو عرضها وعمقها سبعة لآف وستمائة وستة وثلاثون ميلاً، وأنهم إنما استدركوا ذلك بأنهم أخنوا ارتفاع القطب انشمالي في مدينتين وهما على خط واحد من خط الاستواء، مثل مدينة تَدمُر التي في البرية بين العراق والشام، ومثلِ مدينة الرقة فجدوا ارتفاع القطب في مدينة الرقة خمسة وثلاثين جزءاَ وثلثَاَ ووجدوا ارتفاع القطب في مدينة تَدْمُر أربعة وثلاثين جزءاً، بينهما زيادة جزءوثلث جزء، ومَسَحُواما بين الرقة فجدوه سبعة وستين ميلاً؛ فالظاهر من الفلك سبعة وستون ميلاً من لأرض، والفلك ثلثمائة وستون جزءأ لعل ذكروها يبعد علينا إيرادها في هذا الموضع، وهذه قسمة صحيحة عندهم لأنهم وجدوا الفلك قد اقتسمته البروج الاثنا عشر، وأن الشمس تقطع كل برج في شهر، وتقطع البروج كلها في ثلثمائة وستين يومأ، وأن الفلك مستدير يدور بمحورين أو قطبين، وأنهما بمنزلة محوري النجار والخراط الذيِ يخرط الأكَرَ والقِصَاع وغيرها من الآلات الخشب، وأن من كل مسكنة وسط الأرض وعند خط الاستواء استوت ساعاتُ ليله ونهاره سائر الدهور، ورأى هذين المحورين أعني القطب الشمَالي والقطب الجنور جميعاً، فأما أهل البلدان التي مالت إلى ناحية السمال فإنهم يرون القطب الشمالي وبنات نَعْشٍ، ولا يرون القطب الجنوبي ولا الكواكب التي هي قريبة منه، وكذلك لا يرى الكوكب المعروف بسُهَيْلٍ بناحيةخراسان، ويرى في العراق في السنة أياماً، ولا تقع عين جمل من الجمال عليه إلا هلك، على حسب ما ذكرناه وما ذكر الناسُ من العلة في ذلك في موت هذا النوع من الحيوان خاصة، وأما البلدان الجنوبية فإنه يُرَى في السنة كلها. وقد تنازع طوائف الفلكيين وأصحاب النجوم في هذين المحورين اللذين يعتمد عليهما الفلك في دوره: أساكنان هما أم متحركان؟ فذهب الأكثر منهم إلى أنهما غيرمتحركين وقد أتينا على ما يلزم كل فريق منهم في بيان هذين المحورين: أمن جنس الأفلاك هما أم من غير ذلك فيما سلف من كتبنا.
وقد تنوزع في شكل البحار، فذهب الأكثر من الفلاسفة المتقدمين من الهند وحكماء اليونانيين إلا من خالفهم وذهب إلى قول الشرعيين أن البحر مستدير على مواضع الأرض، واستدلوا على صحة ذلك بدلائل كثيرة، منها أنك إذا لججت فيه غابت عنك الأرض والجبال شيئاً بعد شيء حتى تغيب ذلك كله، ولا ترى شيئأ من شَوَامخ الجبال، وإذا أقبلت أيضاً نحو الساحل ظهرت تلك الجبال شيئاً بعد شيء، وإذا قربت من الساحل ظهرت الأشجار والأرض.وهذا جبل دُنْبَاوَنْدَ بين بلاد الري وطبرستان يرى من مائة فرسخ لعلوه وذهابه في الجو، ويرتفع في أعاليه الدخان، والثلوج مترادفة عليه غير خالية من أعاليه، ويخرج من أسفله نهركثير الماء أصفركبريتي ذهبي اللون، مسافة الصعود إليه في نحو ثلاثة أيام بلياليها، وإن مَنْ عَلَاه وصار في قُلَّته وجد مساحة رأس نحوألف فراع في مثل ذلك، وهي ترى في رأي العين من أسفل نحو القبة المنخرطة، وإن في هذه المساحة في أعاليه رملًا أحمرتغوص فيه الأقدام، وإن هذه القبة لا يلحقها شيء من الوحش ولا من الطير،لشدة الرياح وسموها في الهواء، وشدة البرد، وإن في أعاليه نحواً من ثلاثين ثقباً يخرج منها الدخان الكبريتي العظيم، ويخرج مع ذلك من هذه المخارق مع الدخان دوي عظيم كأشد ما يكون من الرَّعْدِ، وذلك صوت تلهبِ النيران، وربما يحمل من غرَّر بنفسه وصعد إلى أعاليه من أفاه هذه الثقوب كبريتاً أصفر كأنه الذهب يقع في أنواع الصنعة والكيمياء وغير ذلك من الوجوه، وإن مَنْ عَلَاه يرى ما حوله من الجبال الشامخة كأنها رَوَاب وتلَال لعلوه عليها، وبين هذا الجبل وبحر طبرستان في المسافة نحو من عشرين فرسخاً، والمراكب إذا لَجَّت في هذا البحر غاب عنها جبل دُنْبَاوَنْدَ فلم يرهُ أحد، فإذا صاروا في هذا البحر على نحو من مائة فرسخ، ودَنَوْا من جبال طبرستان رأوا اليسير من أعالي هذا الجبل، فكلما قربوا من هذا الساحل ظهر لهم، وهذا دليل على ما ذهبوا إليه من كرية ماء البحر، وأنه مستدير الشكل.وكذلك مَن يكون في بحر الروم الذي هو بحر الشام ومصريرى الجبل الأقرع، وهو جبل عالٍ لا يحرك علوه، مُطِل على بلاد أنطاكية واللاذقية وطرابلس وجزيرة قبرص وغيرها في بلاد الروم، فيغيب عن أبصار مَنْ في المراكب لانخفاضهم في المسير في البحر عن المواضع التي يُرى منها.
وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب جبل دُنبَاوَنْدَ وما قال الفرس في ذلك، وأن الضحاك ذا الأفاه مُوثَق في أعاليه بالحديد، وهذه القبة التي في أعالي هذا الجبل أطُمٌ عظيمة من آطام الأرض وعجائبها.
وقد تكلم الناس في بعد الأرض فذكر الأكثر أن من مركز الأرض إلى ما ينتهي إليه الهواء والنار مائة ألف وثمانية عشر ألف ميل، وأما القمر فإن الأرض أعظم منه بتسع وثلاثين مرة، والأرض أعظم من عُطَارد بثلاث وعشرين ألف مرة، والأرض أعظم من الزهرة بأربع وعشرين ألف مرة، والشمس أعظيم من الأرض بمائة وسبعين مرة وربع وثمن، وأعظم من القمر بألف وستمائة وأربع وأربعين مرة، والأرض كلها نصف عشر ثمن جزء من الشمس، وقُطْر الشمس اثنان وأربعون ألف ميل، والمريخ مثل الأرض زيادة ثلاثة وستين مرة، وقطره ثمانية آلاف وسبعمائة ميل ونصف ميل، والمشتري مثل الأرض إحدى وثمانين مرة ونصف وربع، وقطره ثلاثة وثلاثون ألف ميل وستة عشر ميلاً، وزُحَلُ أعظم من الأرض تسعاً وتسعين مرة ونصفاً، وقطره اثنان وثلاثون ألف ميل وسبعمائة وستة وثلاثون ميلاً، وأما أجرام الكواكب الثابتة التي في المشرق الأول وهي خمسة عشر كوكباً فكل كوكب منها أعظم من الأرض بأربع وتسعين مرة ونصف مرة، وأما بعدها من الأرض فإن أقرب بعد القمر منها مائة ألف وثمانية وعشرون ألف ميل، وأبعد بعده من الأرض مائة ألف وأربعة وعشرون ألف ميل، وأبعد بعد عًطَارد من الأرض سبعمائة ألف ألف وسبعمائة وثلاثة وثلاثون ألف ميل، وأبعد بعد الزهرة من الأرض أربعة آلاف وتسعة عشر ألف ميل وستمائة ميل، وأبعد بعد الشمس من الأرض أربعة آلاف ألف ألف وثمانمائة ألف وعشرون ألفأ ونصف ميل، وأبعد بعد المريخ من الأرض ثلاثة وثلاثون ألف ألف ميل وستمائة ألف ميل وشيء، وأبعد بعد المشتري من الأرض أربعة وخمسون ألف ألف ومائة ألف وستة وستون ألف ميل إلا شيئَاَ، وأبعد بعد زُحَل من الأرض سبعة وسبعون ألف ألف ميل إلا شيئاً، وأبعد الكواكب الثابتة من مركز الأرض نحوذلك. وفيما ذكرنا من القسمة والأجزاء والمقاييس استدرك القوم علم الساعات والكسوفات وبها استخرجوا الآلات والِإسطرلابات، وعليها صنفا كتبهم كلها، وهذا باب إن شرعنا في إيراد البعض منه كثر، واتسع الكلام فيه، وإنما ذكرنا لمعاً من هذه الفنون لندل بها على ما لم نورده. وقد رتبت الصابئة من الحرانيين وهم عوام اليونانيين وحَشْوِية الفلاسفة المتقدمين الكهنة في هياكلها مراتب على ترتيب هذه الأفلاك السبعة، فأعلى كهانهم يسمى رأس كمرى، ثم وردت بعدهم النصارى فرتبت الكهنة في كَهَانتها، على ما تقدمت فيه الصابئة في مذهبها.وسمت النصارى هذه المراتب العظات: فأولها السلط، والثاني اعنسط، والثالث يودنا، والرا بع شماس، والخامس قسيس، والسادس يودوط، والسابع حور الغينطس، وهو الذي يخلف الأسقف، والثامن أسقف، والتاسع مُطْرَان، وتفسير مطران رئيس المدينة، والذي فق هؤلاء كلهم في المرتبه لبَطْرك، وتفسيره أبو الآباء، فمن تقدم ذكرهم من أصحاب المراتب وغيرهم من الأداني وعوامهم، هذا عند خواص النصارى،فأما العوام منهم فيذكرونَ في هذه المراتب غير ما ذكرنا، وهو أن مَلَكاً ظهر لهم، وأظهر أموراً يذكرونها لا حاجة بنا إلى وصفها، وهذا ترتيب الملكية،. وهم عُمُدُ النصراينة وقُطْبها؟ لأن ص المشارقة وهم العباد والملقبون بالنًسْطُورية واليعاقبة عن هؤلاء تفرعوا، ومنهم تبددوا، وإنما أخذت النصارى جملاً من هذه المراتب على ما ذكرنا من الصابئة، وأما القسيس والشماس وغير ذلك فعن المَانِية، إلا التصدوس والسماع، وإن كان ماني حَدَث بعد مضي السيد عيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك ابن دَيْصَان ومرقيون، وإلى ماني أضيفت المانية، وإلى مرقيون أضيفت المرقيونية، وإلى ابن ديصان أضيفت الديصانية، ثم تفرعت بعد ذلك المزْدَقية وغيرها ممن سلك طريقة صاحب الأثنين.وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان وفي الكتاب الأوسط على جُمَل من نوادرهذه المذاهب، وما أورده من الخرافات المزخرفة، والشُبَه الموضوعة، وما ذكرناه من مذاهبهم في كتابنا في المقالات في أصول الديانات وما ذكرناه في كسر هذه الآراء وهدم هذه المذاهب في كتابنا المترجم بكتاب الإِبانة في أصول الديانة وإنما نذكر في هذه الأبواب ما يتشعب الكلام إليه، ويتغلغل الوصف نحوه، فنورد منه لمعاً على طريق الخبر والحكاية للمذهب، لا على طريق النظر والجدل. لئلا يخلو كتابنا هذا مما تدعو الحاجة إلى ذكره، واللّه أعلم.
ذكر صاحب المنطق أن البحار تنتقل على مرور السنين وطويل الدهر، حتى تصير في مواضع مختلفة، وأن جملة البحار متحركة، إلا أن تلك الحركة إذا أضيفت إلى جملة مياهها وسَعَة سطوحها وبُعْدِ قُعُورها صارت كأنها ساكنة، وليست مواضع الأرض الرطبة أبداً رطبة، ولا مواضع الأرض اليابسة أبداً يابسة، لكنها تتغير وتستحيل، لصبّ الأنهار إليها، وانقطاعها عنها، ولهذه العلة يستحيل موضِع البحر وموضع البر، فليس موضع البر أبداً براً، ولا موضعِ البحر أبداَ بحراً، بل قد يكون براً حيث كان مرة بحراً، ويكون بحراَ حيث كان مرة براً، وعلة ذلك الأنهار وبدؤها؛ فإن لمواضع الأنهار شباباً وهَرَماً، وحياة وموتاً، ونَشْئاً ونُشُوراً، كما يكون ذلك في الحيوان والنبات، غير أن الشباب والكبر في الحيوان والنبات لا يكون جزأ بعد جزء، لكنها تشب وتكبر أجزاؤها كلها معاً، وكذلك تهرم وتموت في وقت واحد، فأما الأرض فإنها تهرم وتكبرجزأ بعد جزء، وذلك بدوران الشمس.وقد اختلف الناس في الأنهار والأعين من أين بدؤها.فذهبت طائفة إلى أن مجراها كلها أعني البحار واحد، وهوالبحر الأعظم، وأن ذلك بحر عذب ليس هو بحر أقيانوس.زعمت طائفة أن البحار في الأرضين كالعروق في البدن.
وقال آخرون: حق الماء أن يكون على سطح، فلما اختلفت الأرض فكان منها العالي والهابط أنحاز الماء إلى أعماق الأرض، فإذا انحصرت المياه في أعماق الأرض وقُعُورها طلبت التنفُّسَ حينئذ، لغلظ الأرض وضغطتها إياها من أسفل، فتنبثق من ذلك العيون والأنهار، ربما تتولد في باطن الأرضين من الهواء الكائن هناك، وأن الماء ليى بأسطقس، وإنما هو متولد من عُفنات الأرض وبخارها، وقالوا في فلك كلاماً كثيراً أعرضنا ذكره طلباً للإيجاز وميلاً للاختصار، وقد بسطنا ذلك في غير هذا الكتاب من كتبنا.أما مبادىء الأنهار الكبار، ومطارحها، ومقادير جريانها على وجه الأرض كالنيل والفرات والدجلة ونهر بلخ، وهو جيحون، ومهران السند وجنجس، وهو نهر عظيم بأرض الهند، ونهر سابط وهو نهر عظيم، ونهر طنابس الذي يصب إلى بحر نيطس، وغيرها مما كبر من الأنهار فقد تكلم الناس في مقدار جريانها على وجه الأرض.
فرأيت في جغرافيا النيل مصوراً ظاهراً من تحت جبل القمر، ومنبعه ومبدأ ظهوره من اثنتي عشرة عيناً، فتصب تلك المياه إلى بحرين هناك كالبطائح، ثم يجتمع الماء جارياً فيمر برمال هناك وجبال، ويخترق أرض السودان مما يلي بلاد الزنج؟ فيتشعب منه خليج ينصب إلى بحر الزنج، و!و بحر جزيرة قنبلو، وهىِ جزيرة عامرة فيها قوم من المسلمين، إلا أن لغتهم زنجية: غلبوا على هذه الجزيرة، وسَبَوْا مَنْ كان فيها من الزنج، . كغلبة المسلمين على جزيرة إقريطش في البحر الرومي، وذلك في مبدأ الدولة العباسية وتَقَضِّي الأموية، ومنها إلىِ عمان في البحر نحو مز خمسمائة فرسخ على ما يقول البحريُّونَ حَزْراَ منهم لذلك، لا علر طريق التحصيل والمساحة، وذكر جماعة من نَوَاخذة هذا البحر مو السيرافيين والعمانيين وهم أرباب المراكب أنهم يشاهدون في هذا البحر في الوقت الذي تكثر فيه زيادة النيل بمصر، أو قبل الأوان بمدة يسيرةماء يخترق هذا البحر ويشقه من شدة جريانه، يخرج من جبال الزنج، عرضه كثر من ميل عذباً حلوا، يتكدر في إبان الزيادة بمصر وصعيدها، فيها الشوهمان، وهو التمساح الكائن في نيل مصر، ويسمى أيضاً الورل.
وقد زعم عمرو بن بحز الجاحظ أن نهر مهران الذي هو نهر السند من نيل مصر، ويستدل على أنه من النيل بوجود التماسيح فيه، فلست أدري كيف وقّع له هذا الدليل، وذكر ذلك في كتابه المترجم بكتاب الأمصاروعجائب البلدان، وهو كتاب في نهاية الغَثَاثة لأن الرجل لم يسلك البحار، ولا كثر الأسفار، ولا تَقَرى المسالك والأمصار وإنما كان حاطب ليل، ينقل من كتب الوراقين أولم يعلم أن نهر مهران السنديخرج من أعَين مشهورة من أعالي بلاد السند من أرض القنوج من مملكة بؤورة وأرض قشمير والقفندار والطافر حتى ينتهي إلى بلاد المولتان، وكل هناك يسمى مهران الذهب، وتفسير المولتان فرج الذهب، وصاحب مملكةَ بلد المولتان رجل من قريش من ولد سَأمة بن لؤي بن غالب، والقوافل من إلى خراسان متصلة، وكذلك صاحب مملكة المنصورة رجل من قريش من ولد هَبَّار بن الأسود، والملك في هؤلاء وملك صاحب المولتان متوارثان قديماً من صدرالِإسلام، ثم ينتهي نهر مهران إلى بلاد المنصورة وبصب نحو بلاد الديبل في بحر الهند، والتماسيح كثيرة في أجواف هذا البحر،. وفي خليج ميدايون من مملكة ياغر من أرض الهند وخلجان الزابج من بحر مملكة المهراج وكذلك في خلجان الأغياب، وهي أغياب تلي جزيرة سرنديب، والأغلب على التماسيح كونها في الماء العذب، وما ذكرنا من خلجانات الهند فالأغْلَبُ من أمواهها أن تكون عذبة لصب مياه الأمطار إليها.
فلنرجع الآن إلى الأخبار عن نيل مصر، فنقرل: إِن الذي ذكرته الحكماء أنه يجري على وجه الأرض تسعمائة فرسخ، وقيل: ألف فرسخ، في عامر وغير عامر، حتى يأتي أسوان من صعيد مصر، وإلى هذا الموضع تصعد المراكب من فُسْطَاط مصر، وعلى أميال من أسوان جبال وأحجار يجري النيل في وسطها، ولا سبيل إلى جريان السفن فيه هناك، وهذه الجبال والمواضع فارقة بين مواضع سفن الحبشة في النيل وبين سفن المسلمين، ويعرف هذا الموضع من النيل بالجنادل والصخور، ثم يأتي النيل الفسْطَاط وقد قطع الصعيد ومر بجبل الطيلمون وحجر اللاهون من بلاد الفيوم، وهو الموضع المعروف بالجزيرة التي أتخذها يوسف النبي صلى الله عليه وسلم وطناًفيقطعه، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب أخبار مصر والفيوم وضياعها وكيفية فعل يِوسف عليه الصلاة والسلام في مائها، ثم يمضي جاريأ فينقسم خلجاناتٍ لى بلاد تَنِّيسَ ودمياط ورشيد والِإسكندرية، كل يصب في البحر الرومي،وقدأحدث فيه بحيرات فى هذا المواضم، وقد كان النيل انقطع،عن بلادالإِسكندرية قبل هنه الزيادة التي زادها في هذه السنة وهي سنة اثنتين وثلاثين وثلثماثة ونمي إلي وأنا بمدينة أنطاكية والثغر الشامي أن النيل زاد في هذه السنة ثمانية عشر ذراعاً فلست أدري أفي هذه الزيادة دخل خليجا الِإسكنرية أم لا، وقد كان الإِسكندر بن فيلبس المقْدُوني بنى الإِسكندرية على هذا الخليج من النيل، وكان يتفجر إليه معظم ماء النيل، ويسقي بلاد الإسكندرية وبلاد مَرْيُوط، وكان بلاد مريوط هذا في نهاية العمارة، والجنَان متصلة بأرض بَرْقَةَ من بلاد المغرب، وكانت السفن تجري في النيل فتتصل بأسواق الإِسكندرية، وقد بلط أرض نيلها في المدينة بالرخام والمرمر، فانقطع الماء عنها لعوارض سدت خُلْجَانها ومنعت الماء من دخوله، وقيل: لِعِلَل غيرذلك منعت من تنفسه وردت الماء إلى كنانه، لا يحملها كتابنا هذا لاستعمالنا فيه الاختصار، فصار شربهم من الابار، وصار النيل على نحو يوم منهم، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب في باب ذكرنا لأخبار الإِسكندرية جملاً من أخبارها وأخبار بنائها، وما ذكرت من الماء الجاري إلى بحر الزنج فإنما هوخليج آخذ من أعالي مصب الزنج، وفارق بين بلاد الزنج وبين أقاصي بلاد أجناس الأحابيش، ولولا ذلك الخليج ومفاوز من رمال ودهاس لم يكن للحبشة في ديارهم من أنواع الزنج لكثرتها وبطشها.
وأما نهر بَلْخَ الذي يسمى جَيْحُون فإنه يخرج من عيون تجري حتىتأتي بلاد خُوَارَزْمَ، وقد اجتاز قبل ذلك ببلاد الترمذ وإسفرائين وغيرها من بلاد خراسان فإذا ورد إلى بلاد خوارزم تفرق في مواضع هناك، ويمضي باقيه فيصب في البحيرة التي عليها القرية المعروفة بالجرْ جَانية أسفل خوارزم، وليس في ذلك الصقع أكبر من هذه البحيرة، ويُقال: إنه ليس في العمران بحيرة أكبرمنهالأن طولها مسيرة شهر في نحوذلك من العرض، تجري فيها السفن، وإليها يصب نهر فرْغَانة والشاش ويمر ببلاد الفاراب في مدينة جديس، وتجري فيه السفن إلى هذه البحيرة، وعليها لمدينة للترك يقال لها المدينة الجديدة، وفيها المسلمون، والأغلب من الأتراك في هذا الموضع الغُزية، وهم بَوَادٍ وحَضَر، وهذا الجنس من الأتراك هم أصناف ثلاثة: الأسافلِ، والأعالي، والأواسط، وهم أشد الترك بأساً وأقصرهم، وأصغرهم أعْيُناَ، وفي الترك مَنْ هو أصغر من هؤلاء على ما ذكر صاحبُ المنطق في كتاب الحيوان في المقالة الرابعة عشرة والثامنة عشرة حين ذكر الطير المعروف بالغَرَانيق، وسنذكر لمعاً من أخبار أجناس الترك فيما يرد من هذا الكتاب مجتمعاً ومفترقَاَ، وبمدينة بلخ رباط يقال له الأخشان على نحو من عشرين يوماً منها، وهوآخر أعمالها، وبإزائهم أنواع من الكفار يُقال لهم أوخان وتبت، وعلى اليمين من هؤلاء جنس آخر يقال لهم إيغان، ويخرج من هنالك نهر عظيم يعرف بنهر إيغان، وزعم قوم من أهل الخبرة أنه مبتدأ نهر جيحون، وهو نهر بَلْخَ، ومقدار جريانه على وجه الأرض نحو من خمسين ومائة فرسخ، من مبدأ نهر الترك، وهو إيغان، وقيل: أربعمائة فرسخ، وقد غلط قوم من مصنفي الكتب في هذا المعنى، وزعموا أن جيحون يصب إلى نهر مُهْرَان السند، يم يذكروا نهر رست الأسود، ولا نهر رست الأبيض الذي تكون عليه مملكة كيماك بيغور، وهم جنس من الترك وراء نهر بلخ، وهوجيحون، جملى هذين النهرين الغورية من الترك، ولهذين النهرين أخبار لم نحطْ مقدار مسافتهما على وجه الأرض فنذكر ذلك.
وكذلك جنجس نهر الهند، فمبدؤه في جبل من أقاصي أرض الهند مما يلي الصين من نحو بلاد الطغرغر من الترك، ومقدار جريانه إلى أن يصب في البحر الحبشي مما يلي ساحل الهند أربعمائة فرسخ.
وأما الفرات فمبدؤه من بلاد قَالِيقلا، ومقدار جريانه من بلاد الروم إلى أن يأتي بلاد ملطية مائة فرسخ، وأخبرني بعض إخواننا من المسلمين ممن كان أسيراً في أرض بلاد النصرانية أن الفرات إذا توسط أرض الروم تحلبت إليه مياه كثيرة منها نهريخرج مما يلي بحيرة الماذرمون، وليس في أرضي الروم بحيرة أكبر منها، وهي نحومن شهر، وقيل: أكثرمن ذلك طولَاَ وعرضاً، تجري فيها السفن، وينتهي الفرات إلى جسر مَنْبج، وقد اجتاز تحت قلعة سُمَيْساط، وهي قلعة الطين، ثم ينتهي إلى بالس ويمر بِصِفينَ موضع حرب أهل العراق وأهل الشام، ثم ينتهي إلى الرقة وإلى الرحبة وهَيْتَ الأنبار، ويأخذ منه هناك أنهار مثل نهر عيسى وغيره، مما ينتهي إلى مدينة السلام، فيصب في دجلة، وينتهي الفرات إلى بلاد سورى وقصر ابن هُبَيرة والكوفة والجامعين وأحمد أباد والفرس والطفف، ثم تنتهي غايته إلى البَطيحَة التي بين البصرة وواسط، فيكون مقدار جريانه على وجه الأرض نحواً من خمسمائة فرسخ، وقد قيل أكثر من ذلك، وقد كان الفراتُ الأكثر من مائة ينتهي إلى بلاد الحِيرةِ ونهرها بين إلى هذا الوقت وهويعرف بالعتيق، وعليه كانت وقعة المسلمين مع رُسْتم، وهي وقعة القادسية، فيصب في البحر الحبشي، وكان البحر حينئذ في الموضع المعروف بالنَّجَف في هذا الوقت، وكانت تقدم هناك سفن الصين والهند ترد إلى ملوك الحيرة، وقد ذكر ما قلنا عبد المسيح بن عمروبن بقيلة الغساني حين خاطب خالد بن الوليد في أيام أبي بكر بن أبي قحافة رضىِ اللّه عنه حين قال له: ما تذكر؟ قال: أذكر سفن الصين وراء هذهالحصون، فلما انقطع الماء عن مصبه فى ذلك الموضع انتقل البحر براً؟ فصار بين الحيرة وبين البحر في هذا الوْقت مسيرة أيام كثيرة، ومَنْ رأى النَجفَ وأشرف عليه تبين له ما وصفنا، وكتنقل الدجلة العوراء فصار بينها وبين الدجلة في هذا الوقت مسافة بعيدة، وصارت تدعى ببطن جوخى، وذلك من جهة مدينة فارس من أعمال واسط إلى دنوقاء إلى نحو بلاد السوس، وكذلك ما حدث في الجانب الشرقي ببغداد من الموضع المعروف برقة الشماسية وما نقل الماء بتياره من الجانب الغربي من الضياع التي كانت بين قُطْرُبل ومدينة السلام، كالقرية المعروفة بالقب والموضع المعروف بالبشرى والموضع المعروف بالعين، وغير ذلك من ضياع قُطْرُبل، وقد كان لأهلها مطالبات مع أهل الجانب الشرقي ممن ملك رقة الشماسيةِ في أيام المقتدر، بحضرة الوزير أبي الحسن علي بن عيسى، وما أجاب به أهل العلم في ذلك، وما ذكرناه مشهور بمدينة السلام، فإذا كان الماء في نحومن ثلاثين سنة قد ذهب بنحو من سبع ميل، فإنه يسير ميلاً في قدر مائتي سنة، فإذا تباعد النهر أربعة آلاف ذراع من موضعه الأول خربت بذلك السبب مواضع وعمرت، وإذا وجد الماء سبيلاً منخفضَاَ وانصباباَ وسع بالحركة وشدة الْجَرْيَة لنفسه، فاقتلع المواضع من الأرض من أبعد غايتها، وكلما وجد موضعاً متسعاً من الوهاد ملأه في طريقه من شدة جَرْيته حتى يعمل بحيرات وبطائح ومستنقعات، وتخرب بذلك بلاد، وتعمر بذلك بلاد، ولا يغيب فهم ما وصفنا على مَنْ له أدنى فكر.ولنبدأ بذكر دجلة ومبدأ جريانها ومصبها، فنقول: دجلة تخرج من بلاد آمدَ من ديار بكر، وهي أعين ببلاد خلاط منأرمينية، ويصب إليها نهر اسريط وساتيد ما يخرج من بلاد أرزن ومَيَّفارقين وغيرهما من الأفهار كنهر دوشا والخابور الخارج من بلاد أرمينية، ومصبه في دجلة بين مدينة باسورين وقبر سابور، من بلاد بقردى وبازبدى وباهمداء من بلاد الموصل،وهذه الديار ديار بني حمداد، وفي بقردي وبازبدي يقول الشاعر:
بقردي وبازبدي مصيف ومربع |
|
وعَذْبٌ يحاكي السلسبيل بَرُود |
وبغداد، ما بغداد أما ترابـهـا |
|
فجمر، وأمَا حَرُّها فـشـديد |
قَدرُوا بحر الهند، وهو الحبشي،. وأنه يمتذُ طوله من المغرب إلى المشرق من أقصى الحبش إلى أقص الهند والصين، ثمانية آلاف ميل، وعرضه ألفان وسبعمائة ميل، وعرضه في موضع آخر ألف وتسعمائة ميل، وقد يتقارب في قلة العرض في موضع دون موضع، ويكثركذلك، وقد قيل في طوله وعرضه غير ماوصفنا من الكثرة، وأعرضنا عن ذكره لعدم قيام الدلالة على صحته عند أهل هذه الصناعة، وليس في المعمور أعظم من هذا البحر، وله خليج متصل بأرض الحبشةيمتد إلى ناحية بربري من بلاد الزنج والحبشة، ويسمى الخليج البربري، طوله خمسمائة ميل، وعرض طرفيه مائة ميل، وليست هذه بربرى التي ينسب إليها البرابرة الذي ببلاد المغرب من أرض إفريقية لأن هذا موضع اخر يدعى بهذا الاسم، وأهل. المراكب من العمانيين يقطعون هذا الخليج إلى جزيرة قنبلو من بحر الزنج، وفي هنه المدينة مسلمون بين الكفار من الزنج، والعمانيون الذين ذكرنا من أرباب المراكب يزعمون أن هذا الخليج المعروف بالبربري وهم يعرفنه ببحر بربري، وبلاد جفني أكثر مسافة مما ذكرنا، وموجه عظيم كالجبال الشواهق فإنه موج أعمى، يريدون بذلك أنه يرتفع كارتفاع الجبال، وينخفض كأخفض ما يكون من الأوْدِية، لا ينكسر موجه، ولا يظهر من ذلك زبَدٌ، كتكسر أمواج سائر البحار، ويزعمون أنه موج مجنون، وهؤلاء القوم الذين يركبون هذا البحر من أهل عمان عَرَبٌ من الأزد، فإذا توسطوا هذا البحر ودخلوا بين ما ذكرناه من الأمواج ترفعهم وتخفضهم فيرتجزون ويقولون:
بربري وجفنـي |
|
وَمَوْخكَ الْمَجْنُون |
جفني وبربـري |
|
وَمَوْجُهَاكماترى |
وينتهي هؤلاء في بحر الزنج إلى جزيرة قنبلو على ما ذكرنا، وإلى بلاد سفالة والواق واق من أقاصي أرض الزنج، والأسافل من بحرهم، ويقطع هذا البحر السيرافيون، وقد ركبت أنا هذا البحر من مدينة سنجار، من بلاد عمان وسنجار قصبة بلاد عمان مع جماعة من نَوَاخذة السيرافيين، وهم أرباب المراكب، مثل محمد بن الريدوم السيرافي، وجوهربن أحمد، وهو المعروف بابن سيرة، وفي هذا البحر تَلِفَ ومن كان معه في مركبه، وآخر مرة ركبت فيه في سنة أربع وثلثمائة من جزيرة قنبلو إلى مدينة عمان، وذلك في مركب أحمد وعبد الصمد أخوي عبد الرحيم بن. جعفر السيرافي، بميكان وهي محلة من سيراف وفيه غرقا في مركبهم وجميع مَنْ كان معهما، وكان ركوبي فيه أخيراً والأميرُ على عمان أحمدُ بن هلال بن أخت القيتال، وقد ركبت عدة من البحار كبحر الصين والروم والخزر والقلزم واليمن، وأصابني فيها من الأهوال ما لا أحصيه كثرةً، فلم أشاهد أهول من بحر الزنج الذي قدمنا ذكره، وفيه السمك المعروف بافال طول السمكة نحو من أربعمائة ذراع إلى خمسمائة ذراع العمرية، وهي ذراع ذلك البحر، والأغلب من هذا السمك طوله مائة ذراع، وربما يهز البحر فيظهر شيئاً من جناحه، فيكون كالقلع العظيم، وهو الشَرَاع، وربمايظهررأسه، وينفخ الصُّعَدَاء بالماء فيذهب الماء في الجوأكثرمن ممر السهم، والمراكب تفزع منه في الليل والنهار، وتضرب له بالدبادب والخشب لينفر من ذلك، ويحشر بأجنحته وذنبه السمك إلى فمه، وقد فَغَرَفاهُ، وذلك السمك يهوي إلى جَوْفه جرياً.، فإذا بغت هذه السمكة بعث الله عليها سمكة نحو الذراع تدعى اللَشك فتلصق بأصل أذنها فلا يكون لها منها خلاص، فتطلب قعرالبحر، وتضرب بنفسها حتى تموت، فتطففق الماء، فتكون كالجبل العظيم، وربما تلتصق هذه السمكة المعروفة باللشك بالمركب فلا يدنو الأفال مع عظمتها من المركب، ويهرب إذا رأى السمكة الصغيرة، إذ كانت آفة له وقاتلته.
وكذلك التمساح يموت من دويبة تكون في ساحل النيلِ وجزائره، وذلك أن التمساح لا دبر له وما يأكله يتكون في بطنه دوداَ، وإذا آذاه ذلك الدود خرج إلى البر فاستلقى على قَفَاه فاغراً فاه، فيُقيِّصُ اللّه إليه طير الماء كالطيطوى والحصافي وغير ذلك من أنواع الطيور وقد اعتادوا ذلك منه، فيأكل ماظهرفي جوفه من ذلك الدود، وتكون تلك الدويبة قد كمنت في الرمل تراعيه، فتدب إلى حلقه، وتصير في جوفه، فيخبط بنفسه في الأرض فيطلب قعر النيل حتى تأتي الدويبة على خُشْوَة جوفه ثم تخرق جوفه وتخرج، وربما يقتل نفسه قبل أن تخرج فتخرج بعد موته، وهذه الدويبة تكون نحواً من ذراع على صورة ابن عُرْس، ولها قوائم شتى ومَخَالب.وفي بحر الزنج أنواع من السمك بصور شتى، ولولا أن النفس تنكر ما لم تعرفه وتدفع ما لم تألفه، لأخبرنا عن عجائب هذه البحار، وما فيهامن الحيتان والدواب، وغير ذلك من عجائب المياه والجماد.
فلنرجع الآن إلى ذكر تشعب مياه هذا البحر وخُلْجَانه، ودخوله في البحر ودخول البز فيه، فنقول: إن خليجاً آخر يمتذ من هذا البحر الحبشيِّ فينتهي إلى مدينة القُلْزُم من أعمال مصر، وبينها وبين فُسْطَاط مصر ثلاثة أيام، وعليه مدينة أيْلَةَ والحجاز وجُدَة واليمن، وطوله ألف وأربعمائة ميل، وعرض طرفيه مائتا ميل، وهو أقرب المواضع من عرضه، وعرضه في الوسط سبعمائة ميل، وهو أكثر العرض فيه، ويلاقي ما ذكرناه من الحجاز وبلاد أيْلَةَ من غربيه من الساحل الآخر من هذا الخليج بلاد العلاقي وبلاد العيذاب من أرض مصر وأرض البجة، ثم أرض الحبشة والأحابش والسودان إلى أن يتصل ذلك بأقاصي أرض الزنج وأسافلها، فيتصل إلى بلاد سفالة من أرض الزنج، ويتشعب من هذا البحر خليج آخر، وهو بحر فارس، وينتهي إلى بلاد الأبلة والخشبات وعبادان من أرض البصرة، وعرضه في الأصل خمسمائة ميل، وطول هذا الخليج ألف وأربعمائة ميل، وربما يصير عرض طرفيه مائة وخمسين ميلاً، وهذا الخليج مثلث الشكل ينتهي أحد زواياه إلى بلاد الأبلة، وعليه مما يلي المشرق ساحل فارس من بلاد دورق الفرس وماهر بان ومدينة حسان، وإليها تضاف الثياب الحسانية ومدينة نجيرهم ببلاد سيراف، ثم بلاد ابن عمارة، ثم ساحل كرمان، وهي بلاد هرموز، وهرموز مقابلة لمدينة سنجار من بلاد عمان، ثم يلي ساحل كرمان ويتصل به على ساحل هذا البحر بلاد مكران، وهي أرض الخوارج الشُرَاة، وهذه كلها أرض نخل، ثم ساحل السند، وفيه مصب نهر مهران، وهناك مدينة الديبل، ثم يكون ماراً متصلاً بساحل الهند إلى بلاد بروض، وإليها يضاف القَنَا البروضي، براً متصلاً إلى أرض الصين ساحلًا واحداً، ويقابل ما ذكرنا من مبدأ ساحل فارس ومكران والسند بلادالبحرين وجزائر قطر وشط بني جذيمة وبلاد عمان وأرض مهرة إلى رأس الجمجمة إلى أرض الشِّحْر والأحقاف، وفيه جزائر كثيرة مثل جزيرة خارك، وهي بلاذ جنابة ةلأن خارك مضافة إلى جنابة، وبينها وبين البر فراسخ وفيها مَغَاصُ اللؤلؤ المعروف بالخاركي، وجزيرة أوال فيها بنو مَعْن وبنو مسمار وخلائق كثيرة من العرب بينها وبين مدن ساحل البحرين نحو يوم، بل أقل من ذلك، وفي ذلك الساحل مدينة الزارة والعقل والقطيف من ساحل هجر، ثم بعد جزيرة أوال جزائر كثيرة، منها جزيرة لافت، وتدعى جزيرة بني كاوان، وقد كان افتتحها عمرو بن العاص، وفيها فسجده إلى هذه الغاية، وفيها خلق من الناس وقرىً وعمارة متصلة، وتقرب هذه الجزيرة إلى جزيرة هنجام، ومنها يستسقي أرباب المراكب الماء، ثم الجبال المعروفة بكسير وعوير وثالث ليس فيه خير، ثم الدردور المعروف بدردور مسندم، ويكنيه البحريون بأبي جهرة، وهذه مواضع من البحر، وجبال سود ذاهبة في الهواء لا نبات عليها ولا حيوان، يحيط بها مياه من البحر عظيم قعرها وأمواج متلاطمة تجزع منها النفس إذا أشرفت عليها، وهذه المواضع من بلاد عمان وسيراف لا بد للمراكب من الجواز عليها والدخول في وسطها، فتخطىء وتصيب، وهذا البحر هو خليج فارس ويعرف بالبحر الفارسي، عليه ما وصفنا من البحرين وفارس والبصرة وكرمان وعمان إلى رأس الجمجمة، وبين هذا الخليج وخليج القلزم أيلة والحجاز واليمن، ويكون بين الخليجين من المسافة ألف وخمسمائة ميل، وهي داخلة من البر في البحر، والبحريطيف بها من أكثر جهاتها على ما وصفنا.فهذا بحر الصين والهند وفارس وعمان والبصرة والبحرين واليمن والحبشة والحجاز والقُلْزم والزنج والسند ومَنْ في جزائره ومَنْ قد أحاط به من الامم الكثيرة التي لا يعلم وصفهم ولا عددهم إلا مَنْ خلقهم سبحانه وتعالى، ولكل قطعة منه اسم يُفْرِدها من غيرها، والماء واحد متصل غير منفصل.
وفي هذا البحر مغاصات الدر واللؤلؤ، وفيه العقيق والبادبيج، وهونوع من البجادي، وأنواع الياقوت والماس والسنباذج، وفيه معادن ذهب وفضة نحو بلاد كلة وسريرة، وحوله معادن حديد مما يلي بلاد كرمان، ونحاس بأرض عمان، وفيه أنواع الطيب والأفاويه والعنبر وأنواع الأدوية والعقاقير والساج والخشب المعروف بالد ارزنجي والقنَا والخيزران، وسنذكر بعد هذا الوضع تفصيل مواضع فيه أدركناها، وكل ما ذكرنا من الجواهر والطيب والنيات ففيه وحَوْلَه، وسائر ما ذكرنا من هذا البحر يدعى بالبحر الحبشي، ورياح ما وصفنا من قطعه التي تدعى كل واحدة منها بحراً كقولنا: بحر فارس، وبحر اليمن، وبحر القلزم، وبحر الحبش، وبحر الزنج، وبحر السند، وبحر الهند، وبحر كلة، وبحر الزانج، وبحر الصين- فمختلفة، فمنها ماريحه من قعر البحر يظهر فتغليه ويعظم موجه كالقدر تفر مما يلحقها من مواد حرارة النار، ومنها ما ريحه والآفة فيه من قعره والنسيم، ومنها ما يكون مهبُّة من النسيم عون ما يظهرمن قعره، وما وصفناه مما يظهر من قعره من الرياح فذلك تنفسات من الأرض تظهر إلى قعره ثم تظهرفي سطحه، واللّه عزّوجلّ أعلم بكيفية ذلك، ولكل من يركب هذه البحار من الناس رياح يعرفنها في أوقات تكون منها مَهَابها، قد علم ذلك بالعادات وطول التجارب، يتوارثون علم ذلك قولاً وعملاً، ولهم فيها دلائل وعلامات يعملون بها إبَاّنَ هَيَجَانه وأحوال ركوده وثورانه، هذا فيما سمينا من البحر الحبشي والروم، والمسافرون في البحر الرومي سبيلُهم كذلك، وكذلك من يركب بحر الخزر إلى بلاد جرجان وطبرستان والديلم، وسنأتي بعد هذا الموضع على جُمَل وفصول من علم معرنة هنه البحار، وعجائب أوصافها وأخبارها، إن شاء اللّه تعالى.
المد: مضيُّ الماء في فَيْحته وسَيْحته وسنن جريته، والجزر: رجوع الماء على ضد سنن مُصِيَّه وانكشاف ما مضى عليه في هَيْجه، وذلك كبحر الحبش الذي هو الصيني والهندي وبحر البصرة وفارس المقدم ذكره قبل هذا الباب وذلك أن البحار على ثلاثة أنواع: منها ما يتأتى فيه الجزر والمد ويظهرظهوراً بيناً، ومنها ما لا يتبين فيه الجزر والمد ويكون خفيفاً مستتراً، ومنها مالا يجزر ولا يمد. فالبحار التي لا يكون فيها الجزر والمد امتنع منها الجزر والمد لعلل ثلاث، وهي على ثلاثة أصناف: فأولها ما يقف الماء فيه زماناً فيغلظ وتَقْوَى مُلوحته، وتتكيف فيه الأرياح، لأنه ربما صار الماء إلى بعض المواضع ببعض الأسباب فيصير كالبحيرة وينقص في الصيف ويزيد في الشتاء، ويتبين فيه زيادة ما ينصبُّ فيه من الأنهار والعيون، والصنف الثاني البحار التي تبعد عن مدار القمر ومسافاته بعداً كثيراً، فيمتنع منه المد والجزر، والصنف الثالث المياه التي يكون الغالب على أرضها التخلخل، لأنه إذا كانت أرضها مخلخلة نفذ الماء منها إلى غيرها من البحار وتخلخل؛ وأنشبت الرياح الكائنة في أرضها أولاً فأولاً، وغلبت الرياح عليها، وأكثر ما يكون هذا في ساحل البحار والجزائر.
وقد تنازع الناس في علة المد والجزر؛ فمنهم من ذهب إلى أن ذلك من القمر لأنه مجانس للماء، وهو يسخنه، فينبسط، وشبهوا ذلك بالنار إذا أسخنت ما في القدر وأغْلَتْه، وإن الماء يكون فيها على قمر النصف أو الثلثين، فإذا غلا الماء انبسط في القدر وارتفع وتدافع حتى يفر فتتضاعف كميته في الحس، وينقص في الوزن ة لأن من شرط الحرارة أن تبسط الأجسام، ومن شرط البرودة أن تضمها، وذلك أن قعور البحار تحمي فتتولّد في أرضها عفبة وتستحيل وتحمى كما يعرض ذلك في البلاليع والابار، فإذا حمي ذلك الماء انبسط، وإذا أنبسط زاد، وإذا زاد ارتفع، فدفع كل جزء منه صاحبه، فَطَفَا على سطحه وبان عن قعره، فاحتاج إلى أكثر من وهدته، وإن القمر إذا أمتلأ حمي الجو حمياً شديداً فظهرت زيادة الماء، فسمي ذلك المد الشهري، وإن هذا البحر تحت معدل النهارأخذاً من جهة المشرق إلى المغرب ودور الكواكب المتحيرة عليه مع ما يساميه من الكواكب الثابتة إذا كانت المتحيرة في القدر مثل الميل على تجاوزه، وإذا زالت عنه كانت منه قريبة فاعلة فيه من أوله إلى آخره في كل يوم وليلة، وهي مع ذلك في الموضع المقابل الحمي، فقليل مايعرض فيه من الزيادة ويكون في النهر الذي يعرض فيه المد بينا من أطرافه وما يصب إليه من سائر المياه.
وقالت طائفة اخرى: لو كان الجزر والمد بمنزلة النار إذا أسخنت الماء الذي في القِدْر وبسطته فيطلب أوسع منها فيفيض حتى إذا خلا قعره من الماء طلب الماء بعد خروجه منه عمق الأرض بطبعه فيرجع اضطراراً بمنزلة رجوع ما يغلي من الماء في المرج والقمقم إذا فاض وتتابعت أجزاء النار عليه بالحمي، لكان في الشمس أشد سخونة.، ولوكانت الشمس علة مَدةلكان يمدمع بدء طلوع الشمس، ويجزرمع غيبتها فزعم هؤلاء أن علة الجزر والمد في الأبحرتتولد من الأبخرة التي تتولد من بطن الأرض؛ فإنها لا تزال تتولد حتى تكثف وتكثر فتدفع حينئذ ماء هذا البحر لكثافتها فلا تزال كذلك حتى تنقص موادها من أسفل، فإذا انقطعت موادها تراجع الماء حينئذ إلى قعر البحر، وكان الجزر من أجل ذلك، والمد ليلاً ونهاراً، وشتاء وصيفاً، وفي غيبة القمروفي طلوعه، وكذلك في غيبة الشمس وطلوعها، قالوا: وهذا يُدرَك بالحس، لأنه ليس يستكمل الجزرآخره حتى يبدأ أول المد، ولا ينقضي آخر المد حتى يبتدىء أول الجزر لأنه لا يتغير توالد تلك البخارات، حتى إذا خرجت تولدَ غيرها مكانها، وذلك أن البحر إذا غارت مياهه ورجعت إلى قعره تولدت تلك الأبخرة لمكان ما يتصل منها من الأرض بمائة، وكلما عاد تولدت، وكلما فاض نقصت.وذهب آخرون من أهل الديانات أن كل ما لم يعرف له من الطبيعة مجرى ولا يوجد له فيها قياس فهو فعل الإِله، يدل على توحيد اللّه عزّ وجل وحكمته؛ فليس للمد والجزرعلة في الطبيعة البتة، ولا قياس . وقال آخرون: ما هَيَجَان ماء البحر إلا كهيجان بعض الطبائع ة فإنك ترى صاحب الدم وصاحب الصفراء وغيرهما تهتاج طبيعته ثم تسكن، وكذلك مواد تمدها حالاً بعد حال، فإذا قويت هاجت،، ثم تسكن قليلَاَ قليلًاحتى تعود. وذهبت طائفة أخرى إلى إبطال سائر ما وصفنا من القول، وزعموا أن الهواء المطل على البحريستحيل دائماً، فإذا استحال عظم ماء البحر وفاض عند ذلك، وإذا فاض البحر فهو المد، فعند ذلك يستحيل ماؤه ويتنفس فيستحيل هواء فيعود إلى ما كان عليه، وهو الجزر، وهو دائم لا يَفْتر، متصل مترادف متعاقب؟ لأن الماء يستحيل هواء، والهواء يستحيل ماء، قالوا: وقد يجوز أن يكون ذلك عند امتلاء القمر أكثر؛لأن القمر إذا امئلأ استحال الهواء أكثر مما كان يستحيل، وإنما القمر علة لكثرة المد، لا للمد نفسه، لأنه قد يكون والقمر في محاقه، والمد والجزر في بحرفارس يكونان على مطالع الفجر في الأغلب من الأوقات.وقد ذهب كثير من نواخذة هذا البحر وهم أرباب المراكب، من السيرافيين والعمانيين ممن يقطعون هذا البحر ويختلفن إلى عمائره من الأمم التي في جزائره وحوله إلى أن المد والجزر لا يكون في معظم هذ البحر إلا مرتين في السنة: مرة يمد في شهور الصيف شرقاً بالشمال ستة أشهر، فإذا كان ذلك طغا الماء في مشارق الأرض وبالصين بالصين وما وراء ذلك الصقع وانحسر بالصين من مغارب البحر، ومرة يمد في شهور الشتاء غرباً بالجنوب ستة أشهر، فإذا كان الصيف طغا الماء في مغارب البحر وانحسر بالصين، وقد يتحرك البحر بتحرك الرياح، وإن الشمس إذ كانت في الجهة الشمالية تحرك الهواء إلى الجهة الجنوبية لعلل ذكروها فيسيل ماء البحر بحركة الهواء إلى الجهة الجنوبية، فكذلك تكون البحار في جهة الجنوب في الصيف لهبوب الشمال طامية عالية، وتقلُّ المياه في جهة البحار الشمالية، وكذلك إذا كانت الشمس في الجنوب وسال الهواء من الجنوب إلى جهة الشمال سال معه ماء البحر من الجهة الجنوبية إلى الجهة الشمالية، فقلَّتِ المياه في الجهة الجنوبية منه، وينتقل ماء البحر في هذين الميلين أعني في جهتي الشمال والجنوب فيسمى جزا ومداً، وذلك أن مَدّ الجنوب جَزْرُ الشمال ومد الشمال جزر الجنوب، فإن وافق القمر بعض الكواكب السيارة في أحد الميلين تزايد الفعلان وقوي الحمي واشتد لذلك سيلان الهواء فاشتد لذلك انقلاب ماء البحر إلى الجهة المخالفة للجهة التي ليس فيها الشمس.قال المسعودي: فهذا رأي يعقوب بن إسحاق الكندي وأحمد بن الطيب السرخْسِي فيما حكاه عنه: أن البحر يتحرك بالرياح، وَرأيت مثل ذلك ببلاد كنباية من أرض الهند، وهي المدينة التي تضاف إليها النعال الكنبائية الصرارة وفيها تعمل وَفيما يليها مثل مدينة سندارة وسريارة،وكان دخولي إليها في سنة ثلاث وثلثمائة، والملك يومئذ بانيا، وكان برهمانيا من قبل البلهري صاحب المانكير، وكان لبنيا هذا عناية بالمناظرة مع مَنْ يرد إلى بلاد من المسلمين وغيرهم من أهل الملل، وهذه المدينة على خور من أخوار البحر، وهو الخليج، أعرض من النيل أو دجلة أو الفرات، عليه المدن والضياع والعمائر والجنَانُ والنخل والنارجيل والطواويس والببغاء وغير ذلك من أنواع طيور الهند، بين تلك الجنان والمياه، وبين مدينة كنباية بين البحر الذي يأخذ منه هذا الخليج يومان، أو أقل من ذلك فيجزر الماء عن هذا الخليج حتى يبمو الرمل في قعر الخليج ويبقى في وسطه قليل من الماء فرأيت الكلب على هذا الرمل الذي ينصبُّ عنه الماء وقعر خليج قد صار كالصحراء، وقد أقبل المد من نهاية الخور كالخيل في الحَلْبَة، فربما أحس الكلب بذلك فأقبل يُحضِرُ ما استطاع خَوْفاً من الماء، طلب البر الذيى لا يصل إليه الماء، فيلحقه الماء بسرعته فيغرقه، وكذلك المد يَردُ بين البصرة والأهواز في الموضع المعروف بالباسيان وبلاد القندر، ويسمى هناك الذئب له ضجيج ودَوِي وغليان عظيم يَفْزَع منه أصحاب السفن وهذا الموضع يعرفه من يسلك هنالك إلى بلاد مورق من أرض فارس، والله أعلم.
أما بحر الروم وطرسوس وأذنة والمصيصة وأنطاكية واللاذقية وطرابلس صيدا وصور وغير ذلك من ساحل الشام ومصر وا لِإسكندرية وساحل مغرب، فذكَرَ جماعة من أصحاب الزيجات في كتبهم.، منهم محمد بن جابر النسائي وغيره، أن طوله خمسة آلاف ميل، وعرضه مختلف: فمنه ثمانمائة ميل، ومنه سبعمائة ميل، ومنه ستمائة ميل، وأقل من ذلك، على حسب مضايقة البر والبحر للبر، ومبدأ هذا البحر من خليج يخرج جاريأ من بحر أقيانوس، وأضيق موضع من هذا الخليج بين ساحل طنجة وسبتة من بلاد الغرب وبين ساحل الأندلس، وهذا الموضع المعروف بسيطاء، وعرضه فيما بين الساحلين نحو من عشرة أميال، وهذا الموضع هوا لْمَعْبَرُ لمن أراد العبور من الغرب إلى الأندلس ومن الأندلس إلى الغرب ويعرف بالزقاق، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب في أخبار مصر القنطرة التي كانت بين هذين الساحلين، وما ركبها من ماء هذا البحر، والطريق المتصل بين جزيرة قبرص وأرض العريش وسلوك القوافل إياه وعلى الحد بين البحرين أعني بحر الروم وبحر أوقيانوس المنارةُ النحاسُ، والحجارة التي بناها هِرَقْلُ الجبار، على أعلاها الكتابة والتماثيل مشيرة بأيديها أن لا طريق ورائي لجميع الداخلين إلى ذلك البحر بحر الروم؛ إذ كان بحر لا تجري فيه جارية ولا عمارة فيه، ولا حيوان ناطق يسكنه، ولا يحاط بمقداره، ولا تُحدرَى غايته، ولا يعلم منتهاه، وهو بحر الظلمات والأخضر والمحيط وقد قيل إن المنارة على غير هذا الزُقَاق، بل في جزير من جزائر بحر أوقيانوس المحيط وسواحله.وقد ذهب قوم إلى أن هذا البحر أصل ماء سائر البحار، وله أخبار عجيبة قد أتينا على ذكرها في كتابنا أخبار الزمان في أخبار من غَررَ وخاطر بنفسه في ركوبه، ومن نجا منهم، ومن تَلِفَ، وما شاهدوا منه، وما رَأوْا، وأن منهم رجلاً من أهل الأندلس يُقال له خشخاش، وكان من فتيان قرطبة وأحْدَاثها فجمع جماعة من أحد اثها، وركب بهم مرِاكب استعدها في هذا البحر المحيط، فغاب فيه محة ثم انثنى بغنائم واسعة، وخبَرُه مشهور عند أهل الأندلس وبين هذه المنارة المنصوبة، وبين موضع الأحجار مسافة طويلة في طول مصب هذا الخليج وجريانه، وذلك أن ماء يجري من بحر أوقيانوس إلى البحر الرومي يحس بجريانه ويعلم بحركته، ويتشعب من بحر الروم والشام ومصر، خليج من نحو خمسمائة ميل يتصل بمدينة رومية تسمى بالرومية أدرس وعلى هذا الخليج من جانب المغرب قرية يُقال لها سَبْتَة، وهي وطنجة من ساحل واحد، ويقابل سَبْتَة هذه من ناحية الأندلس الجبل المعروف بجبل طارق مَوْلَى موسى بن نُصَيْر، وَيَعْبُرُ الناس من سَبْتَة إلى ساحل الأندلس من غموة إلى الظهر، وفي هذا الخليج مَوْج عظيم، والماء من هناك يخرج من بحر أوقيانوس، ويصبُّ إلى البحر الرومي، وفي هذا الخليج مواضع تعلو أمواجها، ويعلو الماء من غيرريح، وهذا الخليج يسميه أهل المغرب وأهل الأندلس الزُقَاق ؛إذ كان على هيئة ذلك، وفي بحر الروم جزائر كثيرة منها جزيرة قبرص بين ساحل الشام والروم، وجزيرة رودس في مقابلة الِإسكندرية، وجزيرة إقريطش، وجزيرة صقلية، وسنذكر صقلية بعد هذا الموضع عند ذكرنا لجبل البركان الذي تظهر منه النار، وفيها أجسام وجثث وعظام.وقد ذكر يعقوب أن إسحاق الكندي، وتلميذه أحمد بن الطيب السرخسي في طول هذا البحر وعرضه غير ما ذكرنا.
وسنذكر بعد هذا الموضع فيما يرد من هذا الكتاب هذه البحار علىنظم من التأليف، وترتيب من التصنيف، إن شاء اللّه تعالى.
فأما نيطش فإنه يمتدّ من بلاد لاذقة إلى القسطنطينية وطوله ألف ومائةميل، وعرضه في الأصل ثلثمائة ميل، وفيه يصب النهر العظيم المعروف بأطنابس، وقد قدمنا ذكره، ومبدأ هذا البحر من الشمال، وعليه كثير من ولد يافث بن نوح، وخروجه من بحيرة عظيمة في الشمال من أعْيُنٍ وجبال، ويكون مقدار جريانه على وجه الأرض نحو ثلثمائة فرسخ عمائر متصلة لولد يافث، ويسير بحر مانطش فيما زعم قوم من أهل العناية بهذا الشأن حتى يصب في بحر نيطش، وهذا البحرعظيم فيه أنواع من الأحجار والحشائش والعقاقير، وقد ذكره جماعة ممن تقدم من الفلاسفة، ومن الناس من يسمى بحرمانطش بحيرة، ويجعل طوله ثلثمائة ميل،وعرضه مائة ميل، ومنه ينفجرخليج القسطنطينية الذي يصب إلى بحر الروم، وطوله ثلثمائة ميل، وعرضه نحو من خمسين ميلاً، وعليه القسطنطينية والعمائر من أوله إلى آخره، والقسطنطينية من الجانب الغربي من هذا الخليج، متصلة ببر رومية والأندلس وغيرهما فيجب واللّه أعلم على قول المنجمين من أصحاب الزيجات وغيرهم ممن تقدم، أن بحر البلغر والروس، وبجنى وبجناك وبغرد، وهم ثلاثة أنواع الترك هو بحر نيطش، وسيأتي ذكر هؤلاء الأمم فيما يرد من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى على حسب استحقاقهم في ذكرهم، واتصال عمائرهم، ومن يركب هذا البحر منهم ومن لا يركبه، واللّه أعلم.