أما جبل القبخ فهو جبل عظيم، وصقعه صقع جليل، قد أشتمل على كثير من الممالك والأمم، وفي هذا الجبل اثنتان وسبعون أمة، كل أمة لها ملك ولسان بخلاف لغة غيرها، وهذا الجبل ذو شعاب وأودية، ومدينة الباب والأبواب على شعب من شعابه، بَنَاها كسرى أنو شروان وجعلها بينه وبين بحر الخزر، وجعل هذا السور من جوف البحرعلى مقدار ميل منه ماداً إلىِ البحر، ثم على جبل القبح ماداً في أعاليه ومشخفضاته وشعابه نحواَ من أربعين فرسخاً، إلى أن ينتهي ذلك إلى قلعة يُقال لها طبرستان، وجعل على كل ثلاثة أميال من هذا السور أو أقل أو أكثر على حسب الطريق الذي جعل الباب من أجله باباً من حديد، وأسكن فيه على كل باب من داخله أمة تراعي ذلك الباب وما يليه من السور، كل ذلك ليدفع أذى الأمم المتصلة بذلك الجبل. من الخزر وَاللان وأنوِاع الترك والسرير وغيرهم من أنواع الكفار، وجبل القبخ يكون في المسافة علواَ وطولاً وعرضاً نحواً من شهرين، بل وأكثر، وحوله أمم لا يحصيهبم إلا الخالق عز وجل، أحد شعابه على بحر الخزر مما يلي الباب والأبواب على ما ذكرنا، ومن شعابه مما يلي بحر مايطس المقدم ذكره فيما سلف من هذا الكلام الذي ينتهي إليه خليج القسطنطينية، وعلى بحر طرابزندة، وهي مدينة على شاطىء هذا البحر لها أسواق في السنة يأتي إليها كثير من الأمم للتجارة من المسلمين والروم والأرمن وغيرهم من بلاد كشك ولما بني أنوشروَان هذه المدينة المعروفة بالباب والأبواب والسور في البر والبحر والجبل أسكن هناك أمماً من الناس وملوكاً، وجعل لهم مراتب رَتبهُمْ عليها ووسم كل أمة منهم بسمة معلومة، وَحدَّ له حداً معلوماً على حسب فعل أردشير بن بابك حين رتب ملوك خراسان، فممن رتب منهم أنوشروَان من الملوك في بعض هذه البقاع والمواضع مما يلي الِإسلام من بلاد بردعة ملك يقال له شروان، ومملكته مضافة إلى اسمه فيقال له شروان شاه، وكل ملك يلي هذا الصقع يقال له شروان، وتكون مملكته في هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة نحواً من شهر لأنه كان تغلَبَ على مواضع لم يكن رسمها له أنوشروان فانضافت إلى ملكه، والملك في هذا الوقت المؤرخ واللّه أعلم مسلم يُقال له محمد بن يزيد، وهو من ولد بهرام جور، لاخلاف في نسبه، وكذلك ملك السرير من ولد بهرام جور، وكذلك صاحب خراسان في هذا الوقت المؤرخ من ولد إسماعيل بن أحمد، وإسماعيل من ولد بهرام جور، لاخلاف فيما ذكرنا من شهرة أنساب من ذكرنا، وقد تملك محمد بن يزيد هذا وهو شروان على مدينة الباب والأبواب، وذلك بعد موت صهر له يُقال له عبد الملك بن هشام، وكان رجلًا من الأنصار، وكان فيه إمرة الباب والأبواب، وقد كانوا قطنوا تلك الديار منذ دخلها مَسْلَمة بن عبد الملك وغيره من أمراء الإسلام في صدر الزمان.
وتلى مملكة شروان مملكة اخرى من جبل القبخ يقال لها الِإيران، وملكها يدعى الِإيران شاه، وقد غلب على هذه المملكة في هذا الوقت شروان أيضاً، وعلى مملكة اخرى يُقال لها مملكة الموقانية، والمعول في مملكته على مملكة اللكز، وهي أمة لا تحصى كثرة ساكنة في أعالي هذا الجبل، ومنهم كفار لا ينقاعون إلى ملك شروان يُقال لهم الدودانية جاهلية لا يرجعون إلى ملك، ولهم أخبار طريفة في المناكح والمعاملات، وهذا الجبل فأودية وشعاب وفجاج، وفيه أمم لا يعرف بعضهم بعضاً لخشونة هذا الجبل وامتناعه وذهابه في الجو وكثرة غياضه وأشجاره وتسلسل المياه من أعلاه وعظم صخوره وأحجاره، وغلب هذه الرجل المعروف بشروان على ممالك كثيرة من هذا الجبل كان رَسَمها كسرى أنوشروان لغيره ممن رتب هناك، فأضافها محمد بن يزيد إلى ملكه: منها خراسان شاه وزادان شاه، وسنذكر بعد هذا الموضع تغلبه على مملكه شروان، وقد كان قبل ذلك على الِإيران هو وأبوه من قبل، ثم على سائر الممالك.
وتلي مملكة شروان في جبل القبخ مملكة طبرستان، وملكها في هذا الوقت مسلم، وهو ابن أخت عبد الملك الذي كان أمير الباب والأبواب، وهي أول الامم المُتَّصلة بالباب والأبواب.
ويبادي أهل الباب والأبواب مملكة يُقال لها جيدان، وهذه الأمةداخلة في جملة ملوك الخزر، وقد كانت دار مملكتها مدينة على ثمانية أيام من مدينة الباب يقال لها سمندر، وهي اليوم يسكنها خلق من الخزر، وذلك أنها افتتحت في بدء الزمان، افتتحها سليمان بن ربيعة الباهلي رضي الله تعالى عنه، فانتقل الملك عنها إلى مدينة آمل، وبينها وبين الأولى سبعة أيام، وآمل التي يسكنها ملك الخزر في هذا الوقت ثلاث قطع يقسمها نهرعظيم يرد من أعالي بلاد الترك ويتشعب مته شعبة نحوبلاد البرغز وتصب في بحر مايطس، وهذه المدينة جانبان، وفي وسط هذا النهر جزيرة فيها دار الملك، وقصر الملك في وسط هذه الجزيرة، وبها جسر إلى أحد الجانبين من سفن، وفي هذه المدينة خلق من المسلمين والنصارى واليهود والجاهلية؛ فأما اليهود فالملك وحاشيته والخزر من جنسه، وكان تهوَّدَ ملك الخزر في خلافة هرون الرشيد، وقد انضاف إليه خلق من اليهود وَرَدُوا عليه من سائر أمصار المسلمين ومن بلاد الروم، وذلك أن ملك الروم في وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وهم أرمنوس نَقَلَ من كان في ملكه من اليهود إلى دين النصرانية وأكرههم، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب كيفية أخبار ملوك الروم، وأعدادهم، وأخبار هذا الملك ومن قد شَاركه في ملكه في هذا الوقت المؤرخ، فتهارَبَ خلق من اليهود من أرض الروم إلى أرضه على ما وصفنا، وكاذ لليهود مع ملك الخزرخبر ليس هذا موضع ذكره.
وقد ذكرناه فيما سلف من كتبنا. وأما مَنْ في بلاده من الجاهليه فأجناس: منهم الصقالبة، والروس، وهم في أحد جانبي هذه المدينة، ويحرقون موتاهم ودواب ميتهم وآلاته والحلى، وإذا مات الرجل أحرقت معه امرأته وهي في الحياة. وإن ماتت المرأة لم يحرق الرجل، وإذا مات منهم أعزب زوج بعد وفاته والنساء يرغبن في تحريق أنفسهن لدخولهن عند أنفسهن الجنة، وهذا فعل من أفعال الهند على حسب ما ذكرنا آنفاً، إلا أن الهند ليس من شأنها أن تحرق المرأة مع زوجها إلا أنْ ترى ذلك المرأة والغالب في هذا البلد المسلمون؛ لأنهم جند الملك، وهم يعرفن في هذا البلد باللارسية، وهم ناقلة من نحو خُوَارزْمَ، وكان في قديم الزمان بعد ظهور الِإسلام وقع في بلادهم جدب، ووباء، فانتقلوا إلى ملك الخزر، وهم فو بأس وشدة، وعليهم يعول ملك الخزر في حروبه، وأقاموا في بللى على شروط بينهم، أحدها إظهار الدين والمساجد والأذان، وثانيها أن تكون وزارة الملك فيهم، والوزير في وقتنا هذا منهم هو أحمد بن كويه، وثالثها أنه متى كان لملك الخزر حرب مع المسلمين وقفا في عسكره منفردين عن غيرهم لا يحاربون أهل ملتهم، ويحاربون جهل ملتهم، ويحاربون معه سائر الناس من الكفار، ويركب منهم مع الملك في هذا الوقت شخوص منهم سبعة آلاف ناشب بالجواشن والدروع والخوذ ومنهم رامحة أيضاً على حسب ما في المسلمين من آلات السلاح، ولهم قضاة مسلمون، ورَسْمُ دار مملكة الخزر أن يكون فيها قضاة سبعة: اثنان منهم للمسلمين، واثنان للخزر يحكمان بحكم التوراة، وائنان لمن بها من النصرانية يحكمان بحكم النصرانية، وواحد منهم للصقالبة والروس وسائرالجاهلية يحكم بأحكام الجاهلية وهي قضايا عقلية؛ فإذا ورد عليهم ما لا علم لهم به من النوازل العظام اجتمعوا إلى قضاة المسلمين فتحاكموا إليهم انقادوا إلى ما توجبه شريعة الِإسلام، وليس في ملوك الشرق في هذا لصقع من له جند مرتزقة غير ملك الخزر، وكل مسلم من تلك الديار مرف بأسماء هؤلاء القوم اللارسية، والروس والصقالبة الذين ذكرنا أنهم جاهلية هم جند الملك وعبيده، وفي بلاده خلق من المسلمين تجاروصناع غير اللارسية فروا إلى بلاده لعدله وأمنه، ولهم مسجد جامع، والمنارة تشرف على قصر الملك، ولهم مساجد أخرى فيها المكاتب لتعليم الصبيان القرآن، فإذا اتفق المسلمون ومن بها من النصارى لم يكن للمك بهم طاقة.
قال المسعودي: وليس إخبارنا عن ملك الخزر نريد به خاقان، وذلك أن للخزر ملكاً يُقال له خاقان، ورسمه أن يكون في يدي ملك آخر هو وغيره، فخاقان في جوف قصر لا يعرف الركوب ولا الظهور للخاصة ولا للعأمة، ولا الخروج من مسكنه، معه حرمه، ولا يأمر ولا ينهى، ولا يدبر من أمر المملكة شيئاً، ولا تستقيم مملكة الخزر لملكهم إلا بخاقان يكون عنده في دار مملكته، ومعه في حيزه، فإذا أجد بت أرض الخزر أو نابت بلدهم نائبة، أو توجهت عليهم حرب لغيرهم من الأمم، أو فاجأهم أمر من الأمور، نفرت الخاصة والعأمة إلى ملك الخزر، فقالوا له: قد تطيرنا بهذا الخاقان وأيامه، وقد تشاء منابه، فاقتله أو سلمه إلينا نقتله، فربما سلَّمه إليهم فقتلوه، وربما تولَّى هو قتله، وربما رَقَّ له فدافع عنه لأنقتله بلا جرم استحقه ولا ذنب أتاه هذا رسم الخزر في هذا الوقت فلست أدري: أفي قديم الزمان كان ذلك أم حدث، وإنما منصب خاقان هذا من أهل بيتٍ بأعياِنهم أرى أن الملك كان فيهم قديماً، والله أعلم.
وللخزر زوارق يركب فيها الركاب التجار في نهر فق المدينة يصب إلى نهرها من أعاليها، يُقالى له برطاس، عليه أمم من الترك حاضرة داخلة في جملة ممالك الخزر، وعمائرهم متصلة بين مملكة الخزر والبرغز، يرد هذا النهر من نحو بلاد البرغز، والسفن تختلف فيه من البرغز والخزر.
وبرطاس أمة من الترك على ما ذكرنا على هذا النهر المعروف بهم،ومن بلادهم تحمل جلود الثعالب السود، والحمر التي تعرف بالبرطاسية، يبلغ الجلد منها مائة دينار، وأكثر من ذلك، وذلك من السود، والحمر أخفض ثمناً منها، وتلبس السود منها ملوك العرب والعجم، وتتنافس في لبسه، وهو أغلى عندهم من السمور والفنك وما شاكل ذلك، وتتخذ الملوك منه القلانس والخفاف والحواويج ويتعذر في الملوك من ليس له خفان ودواج مبطن من هذه الثعالب البرطاسية السود.وفي أعالي نهر الخزرمصب متصل بخليج من بحر نيطس، وهو بحر الروس لا يسلكه غيرهم، وهم على ساحل من سواحله، وهي أمة عظيمة جاهلية لاتنقاد إلى ملك ولا إلى شريعة، وفيهم تجار يختلفن إلى ملك البرغز وللروس في أرضهم معدن الفضة كثير نحو معدن الفضة الذي بجبل بنجهير من أرض خراسان.
ومدينة البرغز على ساحل بحر مايطس، وأرى أنهم في الإِقليم السابع، وهم نوع من الترك، والقوافل متصلة بهم من بلاد خوارزم من أرض خراسان، ومن خوارزم إليهم، إلا أن ذلك بين بوادي غيرهم من الترك، والقوافل مخفرة منهم. وملك البرغز في وقتنا هذا وهوسنة اثنتين وثلانين وثلثمائة مسلم، أسلم في أيام المقتدر بالله، وذلك بعد العشر والثلثمائة، وذلك لرؤيا رآهأ، وقد كان له ولد حًجّ، وورد مدينة السلام، وحمل معه لمقتدر لواء وبُنُودأ ومالاً ولهم جامعِ، وهذا الملك غزا بلاد القسطنطينية في نحو خمسين ألف فارس فصاعداَ ويشن الغارات حولها إلى بلاد رومية والأندلس وأرض برجان والجلالقة والِإفرانجة، ومنهم إلى. القسطنطينية نحو من شهرين متصلين عمائر ومفاوز، وقد كان المسلمون حين غزوا من بلاد طرسوس من الثغر الشامي مع أمير الثغور ثمل الخادم المعروف بالزلفى ومن كان معه من مراكب الشاميين والبصريين سنة اثنتي عشرة وثلثمائة قطعوا فم خليج القسطنطينية وفم خليج آخرمن البحر الرومي لا منفذ له، وانتهوا إلى بلاد فندبة، وأتاهم في البحر جماعة من البرغز ينجدونهم، وأخبروهم أن ملكهم بالقرب، وهذا يدل على ما وصفنا أن البرغز تتصل سراياها إلى ساحل بحر الروم، وكان نفر منهم ركبوا في مراكب الطرسوسيين، فأتوا بهم إلى بلاد طرسوس، والبرغز أمة عظيمة منيعة شديدة البأس، ينقاد إليها من جاورها من الأمم، والفارس ممن قد أسلم مع ذلك الملك يقاتل المائة من الفرسان والمائتين من الكفار، ولا يمتنع أهل القسطنطينية منه في هذا الوقت إلا بسورها، وكذلك كل من كان في هذا الصقع لا يعتصم منهم إلا بالحصون والجدران، والليل في بلاد البرغز في نهاية من القصر في بعض السنة، ومنهم من زعم أن أحدهم لا يستطيع أن يفرغ من طبخ قدره حتى يأتي الصباح، وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا علة ذلك من الوجه الفَلكي، وعلة الموضع الذي يكون الليل فيه ستة أشهر متصلة لا نهار فيه، والنهار ستة أشهر متصلة لا ليل فيه، وذلك نحو الجدي، وقد ذكر أصحاب النجوم في الزيجات علة ذلك من الوجه الفلكي.
والروس: أمم كثيرة وأنواع شتى، ومنهم من يُقال لهم اللوذعانة،وهم الأكثرون، يختلفن بالتجارة إلى بلاد الأندلس ورومية وقسطنطينية والخزر وقد كان بعد الثلاثمائة ورد عليهم نحو من خمسمائة مركب، في كل مركب مائة نفس، فدخلوا خليج نيطس المتصل ببحر الخزر، وهنالك رجال ملك الخزر مرتبين بالعدد القوية يصدّون من يرد من ذلك البحر،ومن يرد من ذلك الوجه من البر الذي شعبه من بحر الخزر تتصل ببحر نيطس، وذلك أن بَوَادي الترك الغز ترد إلى ذلك البروتُشَتَي هنالك، فربما يجمد هذا الماء المتصل من نهر الخزر إلى خليج نيطس، فتعبر الغز عليه بخيولها، وهوماء عظيم، فلاينخسف من تحتهم لشدة استحجاره، فتغير على بلاد الخزر، وربما يخرج إليهم ملك الخزر إذا عجز مَنْ هنالك من رجاله المرتبين عن دفعهم وَمَنَعَهم العبور على ذلك الْجَمَدِ، وأما في الصيف فلا سبيل للترك إلى العبور، فلما وردت مراكب الروس إلى رجال الخزر المرتبين على فم الخليج راسلوا ملك الخزر في أ ان يجتازوا البلاد وينحدروا في نهره فيدخلوا نهر الخزر ويتصلوا ببحر الخزر الذي هو بحر جرنجان وطبرستان وغيرهما من بلاد الأعاجم على ما ذكرنا، ويجعلوا لملك الخزر النصف مما يغنمون ممن هناك من الأمم على ذلك البحر، فأباحهم ذلك، فدخلوا الخليج واتصلوا بمصب النهر فيه، وساروا مُصْعِدين في تلك الشعبة من الماء، حتى وصلوا إلى نهر الخزر، وانحدروا فيه إلى مدينة آمل واجتازوا بها وانتهوا إلى فم النهر ومصبه إلى البحر الخزري، ومن مصب النهر إلى مدينة آمل وهو نهر عظيم وماء كثير فانتشرت مراكب الروس في هذا البحر، وطرحت سراياها إلى الجيل والديلم وبلاد طبرستان وآبسكون، وهي بلاد على ساحل جرجان وبلاد النفاطة، ونحو بلاد أذر بيجان، وذلك أن من بلاد أردبيل من بلاد أذر بيجان إلى هذا البحر نحو من نلاثة أيام، فسفكت الروس الدماء، واستباحت النسوان والولدان، وغنمت الأموال، وشنت الغارات، وأخربت، وأخرقت، فضج مَنْ حول هذا البحر من اللأمم، لأنهم لم يكونوا يعهدون في قديم الزمان عدواً يطرقهم فيه، إنما تختلف فيه مراكب التجار والصيد، وكانت لهم حروب كثيرة مع الجيل والديلم مع قائد لابن أبي الساج، فانتهوا إلى ساحل النفاطة من مملكة شروان المعروفة بباكة، وكانت الروس تأوي عند رجوعها من غاراتها الى جزائر تقرب من النفاطة على أميال منها، وكان ملك شروان يومئذعلي بن الهيثم، فاستعد الناس، وركبوا في القوارب، ومراكب التجار، وساروا نحو تلك الجزائر، فمالت عليهم الروس، فقتل من المسلمين وغرق ألوف، وأقام الروس شهوراً كثيرة في هذا البحر على ما وصفنا لا سبيل لأحد ممن جاور هذا البحر من الأمم أليهم، والناس مهتابون لهم، حذرون منهم. لأنه بحر غامر لمن حوله من الأمم، فلما غنموا وسئموا ما هم فيه ساروا إلى فم نهر الخزر ومصبه، فراسلوا ملك الخزر وحملوا إليه الأموال والغنائم على ما اشترط عليهم، وملك الخزر لا مراكب له، وليس لرجاله بها عادة، ولولا ذلك لكان على المسلمين منهم آفة عظيمة، وعلم بشأنهم اللارسية ومن في البلاد الخزر من المسلمين، فقالوا لملك الخزر: خَلِّنَا وهؤلاء القوم فقد أغاروا على بلاد إخواننا المسلمين، وسفكوا الدماء، وسبوا النساء والذراري، فلم يمكن الملك منعهم، وبعث إلى الروس فأعلمهم بما قد عزم عليه المسلمون من حربهم، وعسكروا، وخرجوا يطلبونهم منحدرين مع الماء، فلما وقعت العين على العين خرجت الروس عن مراكبها وصافا المسلمين، وكان مع المسلمين خلق من النصارى من المقيمين بمدينة آمل وكان المسَلمون في نحو خمسة عشر ألفاً بالخيل والعدد، فأقام الحرب بينهم ثلاثة أيام، ونصر اللّه المسلمين عليهم، وأخذهم السيف: فمن قتيل، وغريق، ونجا منهم نحو خمسة آلاف، فركبوا في المراكب إلى ذلك ذلك الجانب مما يلي بلاد برطاس، وتركوا مراكبهم وتعلقوا بالبر فمنهم من قتله أهل برطاس، ومنهم من وقع إلى بلاد البرغز إلى المسلمين فقتلوهم، وكان من وقع عليه الِإحصاء ممن قتله المسلمون على شاطىء نهر الخزر نحواً من ثلاثين ألفاً، ولم يكن للروس من تلك السنة عودة إلى ما ذكرنا. قال المسعودي: وإنما ذكرنا هذه القصة دفعاً لقول من زعم أن بحر الخزر متصل، ببحر مايطس وخليح القسطنطينية من جهة بحر مايطس ونيطس ولوكان لهذا البحر اتصال بخليج القسطنطينية من جهة بحر مايطس أو نيطس لكانت الروس قد خرجت فيه، إذ كان ذلك بحرها على ما ذكرنا، ولا خلاف بين من ذكرنا ممن تجاوز هذا البحر من الأمم في أن بحر الأعاجم لا خليج له متصل، بغيره من البحار ة لأنه بحر صغيريحاط بعلمه، وما ذكرنا من مراكب الروس فمستفيض في تلك البلاد عند سائر الأمم، والسنة معروفة، وكَانت بعد الثلاثمائة. وقد غاب عني تاريخها، ولعل من ذكر أن بحر الخزر متصل بخليج القسطنطينية يريد أن بحر الخزر هو بحر مايطس ونيطس الذي هو بحر البرغز والروس، واللهّ أعلم بكيفية ذلك. وساحل طبرستان على هذا البحر، وهنالك مدينة يُقال لها الهم،وهي فرضة قريبة من الساحل، وبينها وبين مدينة آمل ساعة من النهار، وعلى ساحل جرجان، مما يلي هذا البحر، مدينة يُقال لها آبسكون، على نحو من ثلاثة أيام من جرجان، وعلى هذا البحر الجيل والديلم، وتختلف المراكب بالتجارات فيه إلى مدينة آمل، فيدخل في نهر الخزر إليها وتختلف، المراكب فيه بالتجارات من المواضع التي سمينا من ساحله إلى باكة، وهي معدن النفط الأبيض وغيره، وليس في الدنياوالله أعلم نفط أبيض إلا في هذا الموضع، وهي على ساحل مملكة شروان، وفي هذه النفاطة أطمَة، وهي عين من عيون النار لا تهدأ على سائر الأوقات تَتَضرَّمُ الصعداء.
ويقابل فذا الساحل في البحر جزائر: منها جزيرة على نحو ثلاثة أيام من الساحل فيها أطمة عظيمة تزفر في أوقات من فصول السنة فتظهر منها نار عظيمة تذهب في الهواء كأشمخ ما يكون من الجبال العالية فتضيء الأكثر . من هذا البحر، ويرى ذلك من نحو مائة فرسخ من البر، وهذه الأطمة تشبه أطمة جبل البركان من بلاد صقلية من أرض الِإفرنجة ومن بلاد إفريقيةمن أرض المغرب، وليس في آطام الأرض أشد صوتاً ولا أسود دخاناً ولا كثر تلهباً من الأطمة التي في أعمال المهراج، وبعدها أطمة وادي برهوت، وهي نحوبلاد سبأ وحضرموت من بلاد الشِّحْر، وذلك بين بلاد اليمن وبلاد عُمَان، وصوتها يسمع كالرعد من أميال كثيرة تقذف من قعرها بجمركالجبال وقطع من الصخورسود حتى يرتفع ذلك في الهواء وَيُدرَكُ حساً من أميال كثيرة ثم ينعكس سفلًافيهوي إلى قعرها وحولها، والجمر الذي يظهر منها حجارة قد أحمرت مما قد أحالها من مواد حرارة النار، وقد أتينا على علة تكون عيون النيران في الأرض، وما سبب موادها، في كتابناأخبار الزمان.
وفي هذا البحر جزائر أخرى مقابلة لساحل جرجان، يصاد منها نوع من البُزَاة البيض، وهذا النوع من البُزَاة أسرِع الضواري إجابة، وأقلها معاشرة، إلا أن في هذا النوع من البُزْاة شيئاَ من الضعف، لأن الصائد يصطادها من هذه الجزائر فيغذيهَا بالسمك، فإذا اختلف عليها الغذاء عرض لها الضعف، وقد قال الجمهور من أهل المعرفة بالضواري وأنواع الجوارح من الفرس والترك والروم والهند والعرب: إن البازي إذا كان إلى البياض في اللون؛ فإنه أسرع البُزَاة وأحسنها وأنبلها أجساماً، وأجرؤها قلوبَاَ، وأسهلهارياضة وإنه أقوى جميع البزَاة على السمو في الجو، وأذهبها الصعداء وأبعدها غاية في الهواء؛ لأن فيها من حرف الحرارة وجراءة القلب ما ليس في غيرها من جميع أنواع البُزَاة، وإن اختلاف ألوانها لاختلاف مواضعها، وإن من أجل ذلك خلصت البيض لكثرة الثلج في أرمينية وأرض الخزر وجرجان وما والاها من بلاد الترك.
وقد حكي عن حكيم من خواقين الترك وهم الملوك المنقادة إلىملكهم جميع ملوك الترك أنه قال: إن بُزَاة أرضنا إذا أسقطت أنفس فراخها من الوعاء إلى الفضاء سمت في آخر الجو إلى الهواء البارد الكثيف فأنزلت عواب تسكن هناك فتغذيها بها، فلا تلبث أن تقوى وتنهض لِإسراع الغذاء فيها، وأنهم ربما وجدوا في أوكارها من تلك الدواب أشلاء.وقد قاك جالينوس : إن الهواء حار رطب، والبرد يعرض فيه لقوة الرياح المرتفعة ولا يخلوالجومن نشاء فيه وساكن.
وعن بليناس أنه قال: واجب إذا كان لهذين الاسطقصين يعني الأرض والماء خلق وساكن أن يكون للاسطقصين الأعليين يعني الهواء والنار خلق وساكن.
وَوَجَدت في بعض أخبار هارون الرشيد أن الرشيد خرج ذات يوم إلى الصيد ببلاد الموصل، وعلى يده بازأبيض ث فاضطرب على يده فأرسله ة فلمِ يزل يحلق حتى غاب في الهواء ثم طلع بعد الِإياس منه وقد علق شيئاَ فهوى به يشبه الحية أو السمكة وله ريش كأجنحة السمك فأمر الرشيد فضع في طست ؛فلما عاد من قَنَصِهِ أحضر العلماء فسألهم: هل تعلمون للهواء ساكناً؟ فقال مقاتل: يا أمير المؤمنين، روينا عن جدك عبد اللّه بن عباس أن الهواء معمور، بأمم مختلفة الخلق، فيها سكان أقربها منا دوَاب تبيض في الهواء تفرخ فيه، يرفعها الهواء الغليظ وَيربيها حتى تنشأ في هيئة الحيَّاتِ أو السمك، لها أجنحة ليست بذات ريش تأخذها بُزَاة بيض تكون بأرمينية، فأخرج الطست إليهم، فأراهم الدابة، وأجاز مقاتلًا يومئذ.
و قدأخبرني غير، واحد من أهال التحصيل بمصروغيرهامن البلاد أنهم شاهدوا في الجو حَيَّاتٍ تسعَى كأسرع ما يكون من البرق بيض، وأنها تقع على الحيوان في الأرض فتقتله، وربما يسمع لطيرانها في الليل وحركتها في الهواء صوت كنشرثوب جديد، وربما يقول من لا علم له وغيره من البشر: هذا صوت ساحرة لّطير، ذات أجنحة من قصب.وللناس كلام كثير فيما ذكرنا، واستدلالهم على هذا إنما هو بما يحدث في أسطقص الماء من الحيوان، وأنه يجب على هذه القصة أن يحدث ذلك بين العنصرين الخفيفين وهما الهواء والنار نشو وحيوان كحدوثه بين الثقيلين وهما الأرض والماء.
قال المسعوعي: وقد وصفت الحكماء والملوك البُزَاةَ، وأغربت في الوصف، وأطنبت في المدح، فقال خاقان ملك الترك: البازي شجاع مريد وقال كسرى أنو شروان: البازي رفيق يحسن الِإشارة ولا يؤخر الفرص إذا أمكنت، وقال قيصر: البازي ملك كريم إن احتاج أخذ وإن استغنى ترك، وقالت الفلاسفة: حسبك من البازي سرعة في الطلب وقوة على الرزق وفي السمو إذا طالت قوادمه وبَعُدَ ما بين منكبيه فذلك أبعد لغايته وأخف لسرعته، ألا ترى إلى الصقور لا تزداد في غاياتها إلا بعداً وسرعة وقوة على التكرار، وذلك لطول قوادمها مع كثافة أجسامها، وإنما قصرت غاية البازي لقصر جناحيه ورقة جسمه، فإذا طالت به الغاية أخره ذلك حتى تشتد نفسه، ولا تُؤْتَى الجوارح إلا من قصر القوادم، ألا ترى أن الدراج والسما ن والحجل واشباهها حين قصرت قوادمها، كيف قصرت غاياتها. وقال أرستجانس: البازي طير عاري الحجاب، وما يفته في كسوره يزيده في أخمصه ورجليه، وهو أضعف الطير جسماً، وأقواهاقلباً وأشجعها وذلك لفضله على سائر الطير بالجزء الذي فيه من الحرارة التي ليست في شيء منها، وَوَجدنا صدورها منسوجة بالعصب لا لحم عليها وقال جالينوس مؤيدأ لما ذهب إليه أرستجانس: إن البازي لا يتخذ وكراً إلا في شجرة لَفَاء مشتبكة بالشوك مختلفة الحجوم بين شجرعسىِ طلبأ للكن ودفعاً لألم الحر والبرد، فإذا أراد أن يفرخ بنى لنفسه بيتاَ وسقفه تسقيفاً لا يصل إليه منه مطرولا ثلج إشفاقاً على نفسه وفراخه من البرد والضر.
وذكر أدهم بن محرز أن أول من لعب بالصقور الحارث بن معاوية بن ثور الكندي، وهو أبوكندة، وأنه وقف يوماً لقانص وقد نصب حِبَالة للعصافير فانقضَّ أكْدرُ على عصفر منها قد علق، فعلقه الأكدر وهو الصقرومن اسمائه أيضاً الأجدل، فجعل يأكل العصفر وقد علق، فعجب الملك فأتى به وهو يأكل العصفر، فرمى به في كِسر البيت، فرآه قد دجن ولم يبرح مكانه ولم ينفر، وإذا رمى إليه طعاماً أكله، وإذا رأى لحماً نهض إلى يد صاحبه ثم دعى فأجاب فطعم على اليد، وكانوا يتباهون بحمله، إذ رأى يوماً حمأمة فطار إليها من يد حامله فعلقها، فأمر الملك بإتخاذها والتصيد بها، فبينما الملك يسير يوماً إذ نفجت أرنب فطار الصقر إليها فأخذها، فطلب بها الطير والأرانب فقتلها، واتخذها العرب بعده، ثم استفاضت في أيدي الناس.
فأما الشواهين فإن أرستجانس الحكيم ذكر في كتاب كان وجه به إلى المهدي حمل إليه من أرض الروم أهداه إليه الملك أن ملكاَ من ملوك الروم يُقالى له فسيان نظريوماً إلى شاهين يَهْوِي منحدراً على طير الماء فيضربه ثم يسمو مرتفعاً في الهواء، حتى فعل ذلك مراراً، فقال: هذا طير ضَارٍ تَدُلُّنا قوة انحداره على الطير في الماء أنه ضارٍ، وتدلنا سرعة ارتفاعه في جو السماء على أنة طير أبيٌّ ألوف، فلما رأى إلى حسن تكراره أعجبه، فكان أول من أتخذ الشواهين.وقد ذكر سعيد بن عبيس عن هاشم بن خديج قال: خرج قسطنطين ملك عمورية متصيداً بالبزاة، حتى انتهى إلى خليج نيطس الجاري إلى بحر الروم فعبر إلى مَرْج بين الخليج والبحر فسيح مديد، فنظر إلى شاهين يتكفأ على طير المات، فأعجبه ما رأى من سرعته وضراوته، ولم يدر الحيلة في صيده، فأمر أن يصطاد له فَضَرّاه، وكان قسطنطين أول من لعب بالشواهين، ونظر إلى ذلك المرج البساط مفروشاً بألوان الزهر، فقال: هذا موضع حصين بين نهر وبحر، وله سعة وامتداد يصلح أن يكون فيه مدينة، فبنى فيه مدينة القسطنطينية، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب عند ذكرنا لملوك الروم قسطنطين بن هلاين هذا، وما كان من خبره، وهو المظهر لدين النصرانية، وهذا الوجه أحد ما ذكر من السبب الداعي لبناء القسطنطينية. وقد ذكر ابن غفير عن أبي زيد الفهري أنه كان من رتبة ملوك الأندلس اللَّذَارقة أنه إذا ركب الملك منهم صارت الشواهين في الهواء مظلة لعسكره، مخيمة على موكبه، تنحدر عليه مرة وترتفع أخرى، معلمة لذلك، فلا تزال على ما وصفنا في حال مسيره حتى ينزل فتقع حوله، إلى أن ركب يوماً ملك منهمِ يُقال له أزرق وصارت الشواهين معه على ما وصفنا، فاستثارت طائراً فانقض عليه شاهين فأخذه، فأعجب بذلك الملك، وَضَرَّاها على الصيد؛ فكان أول من تصيد بها بالمغرب وبلاد الأندلس.قال المسعودي: وكذلك ذكر جماعة من أهل العلم بهذا الشأن أنه كان أول من لعب بالعقبان من أهل المغرب، فلما نظرت الروم إلى شدة أسْرِهَا وإفراط سلاحها قال حكماؤهم: هذه التي لا يقوم خيرها بشرها.
وذكر أن قيصر أهدى إلى كسرى عُقاباً وكتب إليه يُعْلِمه أنها تعمل أكثر من عمل الصقر الذي أعجبه صيده، فأمر بها كسرى فأرسلت على ظبى عرض له فدقته، فأعجبه ما رأى منها، فانصرف مسروراً، فجوعها ليصيد بها، فثبت على صبي له فقتلته، فقال كسرى: وَتَرَنَا قيصرفي أولادنا بغير جيش، ثم إن كسرى أهْدى إلى قيصر نمراً، وكتب إليه أنه يقتل الظباء وأمثالها من الوحش، وكتب ما صنعت العُقَاب، فأعجب قيصر حسن النمر، وطابق صفته بوصف من الفهد، وغفل عنه، فافترس بعضى فتيانه، فقال: صادنا كسرى، فإن كنا قد صدناه فلا بأس.هذا، وقد تغلغل بنا الكلام عند ذكرنا لبحر جرجان وجزائره إلى الكلام في أنواع الجوارح، وسنذكر لُمَعاً من أخبار البزاة وأعداد أجناس الجوارح وأشكالها عند ذكرنا لملوك اليونانيين، فلنرجع الان إلى ذكر الباب والأبواب ومن يلي السور من الأمم وجبل القبخ، وقد قلنا إن شر الملوك ممن جاورها من الأمم مملكة جيدان، وملكهم رجل مسلم يزعم أنه من العرب من قحطان ويعرف بسلفان في هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وليس في مملكته مسلم غيره وولده وأهله، وأرى أن هذه السمة يسمى بها كل ملك لهذا الصقع، وبين مملكة جيدان وبين الباب والأبواب أناس من المسلمين عرب لا يحسنون شيئاً من اللغات غير العربية في آجام هناك وغِيَاض وأودية وأنهار كبار من قرى قد سكنوها، وقطنوا ذلك الصقع منذ الوقت الذي افتتحت فيه تلك الديار ممن طرأ من بوأدي العرب إليها، فهم مجاورون لمملكة جيدان، إلا أنهم ممتنعون بتلك الأشجار والأنهار، وهم على نحو ثلاثة أميال من مدينة الباب والأبواب، وأهل الباب يحذرونهم.ويلي مملكة جيدان مما يلي جبل القبخ والسرير ملك يقال له برزبان مسلم، ويعرف بلده بالكرج، وهم أصحاب الأعمدة، وكل ملك يلي هذه المملكة يدعى برزبان.
ثم يلي مملكة برزبان مملكة يُقال لها غميق، وأهلها أناس نصارى لا ينقادون إلى ملك، ولهم رؤساء، وهم مهادنون لمملكة اللان.
ثم يليهم مما يلي السرير والجبل مملكة يُقال لها زريكران، وتفسيرذلك عمال الزرد، لأن أكثرهم يعمل الزرد واليَلَبَ واللجم والسيوف وغير ذلك من أنواع الحديد، وهم فو ديانات مختلفة: مسلمون، ويهود، ونصارى، وبلدهم بلد خشن، قد امتنعوا بخشونته على ما جاورهم من الأمم.
ثم يلي هؤلاء مملكة السرير، وملكها يدعي فيلان شاه، يدين بدين النصرانية، وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب أنه من ولد بهرام جور، وسمي صاحب السرير لأن يزدجرد وهو الآخر من ملوك ساسان حين ولى منهزماً قدم سريره الذهب وخزائنه وأمواله مع رجل من ولد بَهْرَام جور ليسير بها إلى هذه المملكة فيحرزها هناك إلى وقت موافاته، ومضى يزدجرد إلى خراسان فقتل هناك، وذلك في خلافة عمر رضي الله عنه على ما ذكرنا في هذا الكتاب وغيره من كتبنا، فقطن ذلك الرجل في هذه المملكة، واستولى عليها، وصار الملك في عقبه فسمي صاحب السرير، ودار مملكته تعرف بحمرج، وله أثنا عشرألف قرية يستعبد منهم من شاء، وبلده بلد خشن منيع لخشونته، وهو شعب من. جبل القبخ، وهويغيرعلى الخزر مستظهرأعليهم لأنهم في سهل وهوفي جبل.
ثم تلي هذه المملكة مملكة اللان وملكها يُقال له كركنداج، وهذا الاسم الأعم لسائر ملوكهم، وكذلك فيلان شاه، فهو الاسم الأعم لسائر ملوك السرير، ودار مملكة ملك اللان يقال لها معص، وتفسير ذلك الديانة، وله قصور ومنتزهات في غير هذه المدينة ينتقل في السكنى إليها، وبينه وبين صاحب السرير مصاهرة في هذا الوقت، وقد تزوج كل واحد منهما بأخت الآخر، وقد كانت ملوك اللات بعد ظهور الإسلام في الدولة العباسية اعتقدوا دين النصرانية. وكانوا قبل ذلك جاهلية، فلما كان بعد العشرين والثلثمائة رجعوا عما كانوا عليه من النصرانية، وطردوا مَنْ كان قبلهم من الأساقفة والقسيسين، وقد كالط أنفذهم إليهم ملك الروم.
وبين مملكة اللان وجبل القبخ قلعة وقنطرة على واد عظيم يقال لهذه القلعة قلعة باب اللان، بنى هذه القلعة ملك في قديم الزمان من الفرس الأوائل يقال له اسبنديار بن يستاسف بن بهراسب ورتب في هذه القلعة رجالاً يمنعون اللان عن الوصول إلى جبل القبخ، ولا طريق لهم إلا على هذه القنطرة من تحت هذه القلعة، والقلعة على صخرة صماء لا سبيل إلى فتحها والوصول إليها إلا بإذن مَنْ فيها؛ ولهذه القلعة المبنية على أعلى هذه الصخرة عين من الماء عذبة تظهر في وسطها من أعلى هذه الصخرة، وهذه القلعة إحور قلاع العالم الموصوفة بالمَنَعَة، وقد ذكرتها الفرس في اشعارها، وما كان لاسبنديار بن يستاسف في بنائها، ولِإسبنديار في الشرف حروب كثيرة مع أصناف من الأمم، وهو السائر إلى بلاد الترك، فخرب مدينة الصقر، وكانت من المنعة بالموضع العظيم الذي لا يُرَام، وبها تضرب الفرس الأمثال، وما كان من أفعال إسبنديار وما وصفنا فمذكور في الكتاب المعروف بكتاب البنكش، نقله ابن المقفع إلى لسان العرب، وقد كان مَسْلمة بن عبد الملك بن مروان حين وصل إلى هذا الصقع ووطىء أهله أسكن في هذه القلعة أناساً من العرب إلى هذه الغاية يحرصون هذا الموضع، وربما يحمل إليهم الرزق وأقوات من البر من ثغر تفليس، وبين تفليس وهذه القلعة مسيرة خمسة أيام، ولوكان رجل واحد في هذه القلعة لمنع سائر الملوك الكفار أن يجتازوا بهذا الموضع؛ لتعلقها بالجو وإشرافها على الطريق والقنطرة والوادي، وصاحب اللان يركب في ثلائين ألف فارس، وهو ذو مَنَعَة وبأس شديد وف سياسة بين الملوك، ومملكته عمائرها متصلة، غير منفصلة، إذا تصايحت الديوك تجاوبت في سائر مملكته لاشتباك العمائر واتصالها.
فلنرجِع الآن إلى ذكر جبل القبخ والسور والباب والأبواب؛إذ كنا قدذكرنا جملاَ من أخبار الأمم القاطنة في هذا الصقع، فمن ذلك أن أمة تلي بلاد اللان يقال لها الأبخاز منقادة إلى دين النصرانية، ولها ملك في هذا الوقت وملك اللان مستظهر عليهم، وهم متصلون بجبل القبخ، ثم يلي ملك الأبخاز ملك الجورية، وهي أمة عظيمة منقادة إلى دين النصرانية تدعى خزران، ولها ملك في هذا الوقت يقال له الطبيعي، وفي مملكة هذا الطبيعي موضع يعرف بمسجد ذي القرنين، وكانت الأبخاز والخزرية تؤدي الجزية إلى صاحب ثغر تفليس منذ تحت تليس وسكنها المسلمون في أيام المتوكل فإنه كان بها رجل يُقال له إسحاق بن إسماعيل، وكان مستظهراً بمن معه من المسلمين على من حوله من الأمم، وهم منقاعون إلى طاعته وأداء الجزية إليه، وعلا أمر مَن هناك من الأمم حتى بعث المتوكل بعثاً نزل على ثغر تفليس، وأقام عليها محارباً حتى افتتحها بالسيف، وقتل إسحاق بن إسماعيل؛ لأن إسحاق بن إسماعيل كان متغلباً على الناحية، وكانت له أخبار يطول ذكرها، وهي مشهورة في أهل ذلك الصقع وغيرهمِ ممن عني بأخبار العالم، وأراه رجلًا من قريش من بني أُمية أو مولى لاحقاَ، فانخرقت هيبة المسلمين من ثغر تفليس من ذلك الوقت إلى هذه الغاية، فامتنع من جاورهم من الممالك من الإِذعان لهم بالطاعة، واقتطعوا الأكثر من ضياع تفليس، وانقطع الوصول من بلاد الِإسلام إلى ثغر تفليس بين هؤلاء الأمم من الكفار؛ إذ كانت محيطة بذلك الثغر، وأهلها ذوو قوة وبأس شديد، وإن كان ما ذكرنا من الممالك محيطاً بهم.
ثم يلي مملكة خزران مملكة يُقال لها الصمصخي، نصارى وفيهم جاهلية لاملك لهم، ثم تلي مملكة هؤلاء الصمصخية بين ثغرتفليس وقلعة باب اللان المقدَّم ذكرها مملكة يقال لها الصنارية، وملكهم يقال له كرسكوس، هذا الاسم الأعم لسائر ملوكهم، وينقادون إلى دين النصرانية، وهؤلاء النصرانية يزعمون أنهم من العرب من نزار بن معد، من مضر، وأنهم فخذ من عقيل، سكنوا هنالك من قديم الزمان، وهم هناك مستظهرون على كثير من الأمم، ورأيت ببلاد مأرب من أرض اليمن أناساًمن عقيل محالفه لمذحج، لا فرق بينهم وبين أخلافهم لاستقامه كلمتهم، فيهم خيل كثيرة وَمَنَعَة، وليس في اليمن كلها قوم من نزاربن معد غيرهذا الفخذ من عقيل، إلا ما ذكر من ولد أنمار بن نزار بن معد، ودخولهم في اليمن حسب ما ورد به الخبر، وهو ما كان من خبر جريربن عبد اللّه البجَلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من خبر بجيلة، والصنارية يزعمون أنهم افترقوا في قديم الزمان هم ومن سَمَّينا من عقيل ببلاد مأرب في خبر طويل.
ثم يلي مملكة الصنارية مملكة شكين وهم نصارى، وفيهم خلق من المسلمين من التجاروغيرهم من ذوي المهن، ويُقالى لملكهم في هذا الوقت المؤرخ به كتابنا آزر بن نبيه بن مهاجر.
ثم تليهم مملكة قيلة وماحوت المدينة منها مسلمون، وماحولها من العمائر والضياع نصارى، ويقال لملكهم في هذا الوقت المؤرخ به كتابنا هذا عنبسة الأعور، وهو مأوى اللصوص والصعاليك والدعَّار. ثم تلي هذه المملكة مملكة الموقان، وهي التي قدمنا ذكرها، وأنها متغلب عليها، وأنها مضافة إلى مملكة شروان شاه، وليس هذا البلد المعروف بالموقانية هو الملك الذي على ساحل بحر الخزر، وقد كان محمد بن يزيد المعروف بشروان شاه في هذا الوقت ملك الِإيران شاه هو ومن سلف من آبائه، وكان ملك شروان شاه عليّ بن الهيثم، فلما هلك علي تغلب محمد على شروان شاه على حسب ما ذكرنا آنفاً، بعد أن قتل عمومة له واحتوى على ما ذكرنا من الممالك، وله قلعة لا يذكر في قلاع العالم أحسن منها في جبل القبخ. وللباب أخبار كثيرة من أخبار الأبنية العجيبة التي بناها كسرى بن قباذا بن فيرور وهو أبو كسرى أنو شروان في الموضع المعروف بالمسقط من المدينة بالحجارة والحيطان التي بناها ببلاد شروان المعروف بسور الطين وسور الحجارة المعروف بالبرمكي وما يتصل ببلاد برذعة أعرضنا عن ذكرها إذ كنا قد أتينا على ذلك فيما سلف من كتبنا.وأما نهر الكر فيبتدىء من بلاد خزران من مملكة جرجين، ويمر ببلاد أبخازحتى يأتي ثغر تفليس، ويشق في وسطه، ويجري في بلاد السياوردية حتى ينتهي على ثمانية أميال من بردعة، ويجري إلى برداج من أعمال برذعة ثم يصب فيه مما يلي الصنارة نهر الرس، ويظهر من أقاصي بلاد الروم من نحو مدينة طرابزنده حتى يجيء إلى الكر، وقد صار فيه نهر الرس، يصب في بحر الخزر، ويجري الرس بين بلاد البدين وهي بلاد بابك الخَرّمي من أرض أذر بيجان وجبل أبي موسى من بلاد الران، ويمر ببلاد ورثان، وينتهي إلى حيث وصفنا، وقد أتينا على وصف هذه الأنهار أيضاً، والنهر المعروف بأسبيذروج وتفسير ذلك النهر الأبيض على التقديم والتأخير بين اللغتين وهي الفارسية والعربية، وممره وجريانه في أرض الديلم نحو قلعة سلار، وهو ابن أسوار الديلمي بعض ملوك الديلم وقد ظهر في هذا الوقت المؤرخ به كتابنا تغلب بلاد أربيجان ثم يمر هذا النهر من الديلم إلى الجيل، ويصب فيه نهر آخر في بلاد الديلم، يُقال له: شاهان روذ، فينتهي مصب الجميع إلى بحر الجيل، وهو بحر الديلم والخزر وغيرهم ممن ذكرنا من الأمم المحيطة بهذا البحر، وعلى هذه الأنهار أكثر هؤلاء الديم والجيل الذين قد ظهروا وتغلبوا على كثير من الأرض.فإذ قد قدمنا من أخبار بلاد جبل القبخ وما فيه وما حوله من الأمم وأخبار الباب والأبواب وبحر الخزر.
فلندكر الآن ملوك السريان، وهم أول من يعدّ في كتب الزيجات والنجوم والتواريخ القديمة من ملوك العالم، ثم ملوك الموصل ونينوى، ثم ملوك بابل وهم الذين عمروا الأرض، وشقوا الأنهار، وغرسوا الأشجار، وطعموا الثمار، ومهدوا الوعر، وسهلوا الطريق، ثم نتبع ذلك بالفرس الأولى، وهم المعروفون بالخذاهان إلى ملك أفريدون، ثم الإِسكان إلى دارا وهو داريوس بن دارا وهم السكنون ثم ملوك الطوائ، ثم الفرس الثانية، ثم اليونانين، ثم الروم ونذكر من يتلوهم من ملوك العرب والأمم والسودان ومصر والِإسكندرية و غير ذلك من بقاع الأرض إن شاء اللّه تعالى.
ذكَرَ أهلى العناية بأخبار ملوك العالم أن أول الملوك ملوك السريانيين بعد الطوفان، وقد تنوزع فيهم و في النَّبَط: فمن الناس من رأى أن السريانيين هم النبط، ومنهم من رأى أنهم إخوة لودماش بن نبيط، ومنهم من رأى غيرذلك و كان أول من ملك منهم رجل يُقال له إشوسان وكان أول من وضع التاج على رأسه في تاريخ السريانيين والنَّبَط، وانقادت له ملوك الأرض، وكان ملكه ست عشرة سنة باغياً في الأرض، مفسداً للبلاد، سفاكاً للدماء.ثم ملك ولد له يقال له بربر وكان ملكه إلى أن هلك عشرين سنة. ثم ملك سماسير بن آوت، سبع سنين.ثم ملك بعده هريمون عشر سنين، خط الخطط، وكوَّرَ أْلكُوَر، وجدَّ في أمره، وإتقان ملكه، وعمارة أرضه، فلما استقامت له الأحوال وانتظم له الملك بلغ بعض ملوك الهند ما عليه ملوك السريانيين من القوة وشدة العمارة، وأنهم يحاولون الممالك، وقد كان هذا الملك من ملوك الهند غالباً على ما حوله من ممالك الهند، وانقادت إلى سلطانه، ودخلت في أحكامه، وقيل:إن مكله كان مما يلي بلاد السند والهند، فسار نحو بلاد بسط وغزنين ولعس وبلاد الداور على النهر المعروف بنهر الهرمند، وهو نهر سجستان ينتهي جريانه على أربع فراسخ منها، وهذا النهر عليه أهل سجستان وضياعهم ونخلهم وجبالهم ومنتزهاتهم في هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وهذا النهريعرف بنهر بسط، وتجري يه السفن من هناك إلى سجستان فيها الأقوات وغير ذلك ومن بسط إلى سجستان نحو من مائة فرسخ، وبلاد سجستان هي بلاد الرياح والرمال، وهو البلد الموصوف بأن الريح به تدير الأرْحِيَة وتسقي الماء من الآبار وتسقي الجِنَانَ، وليس في الدنيا بلد واللّه آعلم أكثر منه اتسعمالاً للرياح.
وقد تنوزع في مبدأ هذا النهر المعروف بنهر الهرمنده فمن الناس من رأى أنه من عيون بجبال السند والهند، ومنهم ! زآى أن مبدأه صت مبدأ نهر الكنك، وهو نهر الهند، ويمر بكثير من جبال السند، وهو نهر حاد الانصباب والجريان، عليه يعذب أكتر الهند أنفسها بالحديد وتغوقها زهداً في هذا العالم ورغبة في النقلة عنه، وذلك أنهم يقصدون موضعاً في أعالى هذا النهر المعروف بالكنك، وهو جبال عالية، وأشجار عادية، ورجال جلوس، وحدائد وسيوف منصوبة على ذلك الشجر، وقطع من الخشب فتأتيهم الهند من الممالك النائية والبلدان القاصية فيسمعون كلام أولئك الرجال المرتبين على هذا النهر وما يقولون من تزهيدهم في هذا العالم والترغيب فيما سواه، فيطرحون أنفسهم من أعالي تلك الجبال العالية على تلك ألأشجار العادية والسيوف والحدائد المصوبة، فيتقطعون قطعاً، ويصيرون إلى هذا النهر أجزاء، وما ذكرنا فموصوف عنهم وما يفعلون على هذا النهر كدْلك.
وهناك شجر من إحدى عجائب العالم ونوادره والغرائب من نباته،يظهر من الأرض أغصان مشتبكة من أحسن ما يكون من الشجر والورق، فتستقيم في الجو كأبعد ما يكون من طوال النخل، ثم ينحني جميع ذلك منعكسأ فيعود في اللأرض مندساً، ويهوي في قعرها سفلاً على المقدار الذي أرتفع به في الهواء صُعُداً، حتى يغيب عن الأبصار، ثم تظهر أغصان يادئة على حسب ما وصفنا في الأول فتدْهب صُعُداً، ثم تنقطر منعكسة، ولافرق بين المقدار الذي يذهب منها في الهواء ويتسع في افلضاء وبين ما يغيب سه تحت الأرض ويتوارى تحت الثرى، فلولا أن الهند قد وكلت بقطعة من يراعيه من أمره لأمريذكرونه، وخطر قي المسقبل يصفونه لطبق على تلك البلاد ولغشي تلك الأرض، ولهذا النوع من الشجر أخبار يطول ذكرها، يعرفها من طرأ إلى تلك البلاد ورآها، أُو ئمي إليه خبرها.
والهند تعذب أنفسها على ما وصفنا بأنواع العذأب من دون الأمم وقد تيقنت أنْ ما ينْالها من النعيم في المستقبل مؤجلَاَ لا يكون بغيرما أسلفته من تعذيب أنفسها في هذه الدار معجلاً، ومنهم من يصير إلى باب الملك يستأذن في إحراقه نقسه، فيدور في الأسواق وقد أجِّجَت له النار العظيمة وعليها من قد وكل بإيقادها، ثم يسير في الأسواق وقدامه الطبول والصنوج، و على بدنه أنواع من خرق الحرير قد مزقها على نفسه،وحوله أهله وقرابته، وعلى رأسه إكليل من الريحان، وقد قشر جلده عن رأسه، وعليها الجمر وعليها الكبريت والسندروس، فيسير وهامته تخترق رروائح دماغه تفوح وهو يمضغ ورقي التنبول وحب الفوفل، والتنبول في بلادهم ورق ينبت كأصغر ما يكون من ورق الأترج يمضغ هذا الورق بالنورة المبلولة مع الفوفل، وهو الذي غلب على أهل مكة وغيرهم من بقية أهل الحجاز واليمن في هذا الوقت مضغه بدلَاَ من الطين، ويكون عند الصنادلة للورم وغير ذلك، وهذا إذا مضغ على ما ذكرنا بالورق والنورة شَدَّ اللِّثَةَ، وبعث على الباه، وحمر الأسنان حتى تكون كأحمر ما يكون من حب الرمان، وأحدث في النفس طرباً وأريحية، وقوي البدن، وأثار من النكهة روائح طيبة خمرة، والهند خواصها وعوامها تستقبح مَنْ أسنانه بيض، وتجتنب من لا يمضغ ما وصفنا، فإذا طاف هذا المعذب لنفسه بالنار في الأسواق وانتهى إلى تلك النار وهو غير مكترث ولا متغير في مشيته ولا متهيب في خطوته، ففيهم من إذا أشرف على النار وقد صارت جمراً كالتل العظيم يتناول بيده خنجراً ويدعى الجريء عندهم فيضعه في لبته، وقد حضرت ببلاد صيمور من بلاد الهند من أرض اللازمن مملكة البلهرا، وذلك في سنة أربع وثلثمائة، والملك يومئذ على صيمور المعروف بحاج، وبها يومئذ من المسلمين نحو من عشرة الاف قاطنين بياسرة وسيرافيين وعمانيين وبصريين وبغداديين وغيرهم من سائر الأمصار ممن قد تأهل وقطن في تلك البلاد، وفيهم خلق من وجوه التجارمثل موسى بن إسحاق الصندالوني وعلى الهزمة يومئذ أبو سعيد معروف بن زكريا، وتفسير الهزمة يراد به رآسة المسلمين يتولاها رجل منهم عظيم من رؤسائهم تكون أحكامهم مصروفة إليه، ومعنى قولنا البياسرة يراد به من ولدوا من المسلمين بأرض الهند، يُدْعَوْن بهذا الاسم، واحدهم بيسر، وجمعهم بياسرة، فرأيتُ بعض فتيانهم وقد طاف على ما وصفنا في أسواقهم، فلما دنا من النار أخذ الخنجر فوضعه على فؤاده فشقَه، ثم أدخل يمه الشمال فقبض على كبده فجذب منها قطعة وهو يتكلم فقطعها بالخنجر، فدفعها إلى بعض إخوانه تهاوناً بالموت ولذة بالنقلة، ثم هوى بنفسه في النار، وإذا مات الملك من ملوكهم أو قتل نفسه حَرَّقَ خلق من الناس أنفسهم لموته، يدعون هؤلاء البلانجرية، واحدهم بلانجري، وتفسيرذلك المصادق لمن يموت فيموت بموته، ويحيا بحياته.وللهند أخبار عجيبة تجزع من سماعها النفس: من أنواع الآلام والمقاتل التي تألم عند ذكرها الأبدان، وتقشعر منها الأبشار، وقد أتينا على كثير من عجائب أخبارهم فيِ كتابنا أخبار الزمان.فلنرجع الآن إلى خبر ملك الهند ومسيره إلى بلاد سجستان، وقصده مملكة السريانيين، ونعدل عما احتذينا من أخبار الهند، فنقول:كان هذا الملك من ملوك الهند يُقال له زنبيل، وكل ملك يلي هذا البلد من أرض الهند يسمى بهذا الاسم زنبيل إلى هذا الوقت، وهوسنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وكان بين الهند وملوك السريانيين حروب عظام نحو من سنة، فقتل ملك السريانيين، واحتوى ملك الهند على الصقع، وملك جميع ما فيه، فسار إليه بعض ملوك العرب، فأتى عليه وملك العراق، ورد ملك السريانيين، فملكوا عليهم رجلًا منهم يُقال له:تستر وكان ولد المقتول، فكان ملكه إلى أن هلك ثمان سنين.
ثم ملك بعده أهريمون وكان ملكه اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك بعد ابن يُقال له هوريا فزاد في العمارة، وأحسن في الرعاية، وغرس الأشجار، وكان ملكه إلى أن هلك اثنتين وعشرين سنة.ثم ملك بعده ماروب واستولى على الملكَ وكان ملكه مدة خمس عشرة سنة، وقيل: ثلاثة وعشرين سنة.
ثم ملك بعد أزور و خلنجاس وُيقال: إنهما كانا أخوين؛ فأحسنا السيرة، وتعاضدا على الملك، ويُقال: إن أحد هذين الملكين كان جالساً ذات يوم إذ نظر في أعلى قصره إلى طائر قد أفرخ هناك، وإذا هو يضرب بجناحيه ويصيح، فتأمل الملك ذلك فنظر إلى حية تنساب إلى الوكر صاعدة لأكل فراخ الطائر، فدَعَا الملك بقوس فرمى به الحية فصرعها، وسلمت فراخ الطائر، فجاء الطائر بعد هنيهة يصفق بجناحيه وفي منقاره حبة وفي مخاليبه حبتان، وجاء إلى الملك وألقى ما كان في منقاره ومخاليبه، والملك يرمقه، فوقع الحب بين يدي الملك فتأمله، وقال: لأمر ما ألقى هذا الطائر ما ألقى، لا شك أنه أراد مكافأتنا على فعلنا به، فأخذ لحب وجعل يتأمله فلم يعرف مِثله في إقليمه، فقال جليس مِنْ جُلسائه حكيم وقد نظر إلى حيرة الملك في الحب: أيها الملك، ينبغي أن يودع لنبات أرحام الأرض فإنها تخرج كُنْهَ ما فيه، فنقف على الغاية مِنْه، إداء مَا في مخزونه ومَكنونه، فدعا بالأكَرَةِ وأمَرَهُم بزرع الحب ومُراعاته، وما يكون منه، فزرع، فنبت وأقبل يلتف بالشجر ثم حصرم وأعنب، وهم يَرْمُقُونه، والملك يراعيه، إلى أن انتهى في البلوغ وهم لا يُقْدمون على ذوقه خوفاً أن يكون متلفاً، فأمر الملك بعصر مائه، وأن يودع في أواني، وإفراد حُبٍّ منه وتركه على حالته، فلما صار في الآنية عصيراً هَدَرَ وقذف بالزبد وفاحت له روائح عبقة، فقال الملك: عليَ بشيخِ كبير فانٍ فأتي به، فلدد له من ذلك في إناء فرآه لوناً عجيباً، ومنظراَ كاملًا، ولوناً ياقوتيَاَ أحمر، وشعاعاً نيراً، ثم سقوا الشيخ فما شرب ثلاثاً حتى مال، وأرخى من مآزره الفضول وصفق بيديه وحرك رأسه، ووقع برجليه على الأرض، فطرب، ورفع عقيرته يتغنَّى، فقال الملك: هذا شراب يذهب بالعقل، وأخاف أن يكون قاتَلَا، ألا ترى إلى الشيخ كيفما عاد في حال الصبا وسلطان الدم وقوة الشباب. ثم أمر الملك به فزيد، فسكر الشيخ، فنام، فقال الملك: هلك، ثم إن الشيخ أفاق وطلب الزيادة من الشراب، وقال: لقد شربته فكشف عني الغموم، وأزال عن ساحتي الأحزان والهموم، وما أراد الطائر إلا مكافأتكم بهذا الشراب الشريف، فقال الملك؟ هذا أشرف شراب أهل الأرض، وذلك أنه رأى شيخاً قد حسن لونه، وقوي حيله، وانبسط في نفسه، وطرب في حال طبيعة الحزن وسلطان البلغم، وجاد هضمه، وجاءه النوم، وصفا لونه، واعترته أريحية، فأمر الملك أن يكثر من غَرْس الكَرْم، فكثر الغرس للكرم، وأمر أن يمنع العامة من ذلك، وقال:هذا شراب الملوك، وأنا السبب فيه، فلا يشرب غيري، فاستعمله الملك بقية أيامه، ثم نما في أيدي الناس واستعملوه، وقد قيل: إن نوحاً أول من زرعها، وقد ذكرنا الخبر حين سرقها إبليس منه حين خرج من السفينة واستولى على الجودي في كتاب المبدأ وغيره من الكتب.
نينوى: هي مقابلة الموصل، وبينهما دجلة، وهي بين قردى وما زندى من كور الموصل، ونينوى في وَقْتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة مدينة خراب فيها قرى ومزارع لأهلها، وإلى أهلها أرسل اللّه يونس بن مَتَّى، وآثار الصور فيها بينة واضحة وأصنام من حجارة مكتوبة على وجوهها، وظاهر المدينة تل عليه مسجد، وهناك عين تعرف بعين يونس النبي عليه الصلاة والسلام، ويأوي إلى هذا المسجد النُّسّاك والعباد والزهاد.
وكان أول ملك بَنَى هذه المدينة، وسًوّر سورها: ملك عظيم قد دانت له الملوك ودانت له البلاد، ويُقال له بسوس بن بالوس، فكانت مدة ملكه اثنتين وخمسين سنة.
وكان بالموصل ملك آخر محارب لهذا الملك، وكانت بينهما حروب ووقائع، ويقال: إن ملك الموصل كان في ذلك العصر سابق بن مالك رجل من اليمن.ثم ملك أهل نينوى عليهم بعده امرأة، يقال لها سميرم فأقامت عليهم أربعين سنة تحارب ملوك الموصل، وملكها من شاطىء دجلة إلى بلاد أرمينية ومن بلاد أذربيجان إلى حد الجزيرة والجوديَ، وجبل التيتل إلى بلاد الزوزان، وغيرها من أرمينية، وكان أهل نينوى ممن سمينا نبيطاً وسريانيين، والجنس واحد، واللغة واحدة، وإنما بان النبط عنهم بأحرفيسيرة في لغتهم، والمقالة واحدة.ثم مَلَكَ بعد هذه المرأة الأرسيس ويُقال: إنه كان ابنها، وكان ملكه نحوإً من أربعين سنة، ورجعت إليه الأرمن، وقد كانت الحروب بينهم سجالاً في ملكه، ثم غلبوا على أهل نينوى فكانت الحروب بين أهل أرمينية وبين ملوك الموصل. ويقال: إن هذا الملك آخر مُلوك نينوى، وقيل: إنه مَلَكَ بعده عشرون وكان يؤدي الضريبة إلى مَلِك أرمينية، ولهؤلاء الملوك أخبار وسير وحروب قد أتينا على جميعها في كتابنا أخبار الزمان وفي الكتاب الأوسط.
ذكَرَ جماعة من أهل التبصر والبحث، ومن ذوي العناية بأخبار ملوك العالم أن ملوك باب هم أول ملَوك العالم الذين مَهَّدُوا الأرض بالعمارة، وأن الفرس الأولى إنما أخذت الملك من هؤلاء، كما أخذت الروم الملك من اليونانيين.
وكان أولهم نمروذ الجبار، وكان ملكه نحواً من ستين سنة، وهو الذي احتفر أنهاراً بالعراق، آخذة من الفرَات فيقال: إن من ذلك نهر كوثى يطريق من طرق الكوفة، وهو بين قصر ابن هبيرة وبغداد، لاخفاء لخبره وشهرته، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب كثيراً من أنهار العراق، عند ذكرنا لملوك الفرس الأولى والثانية، وغيرهم من ملوك الطوائف، وإنما الغرض في هذا الكتاب التلويح بتاريخ ملوك العالم، والتنبيه على ما سلف من كتبنا.
وملك بعده بولوس نحواً من سبعين سنة، وكان عظيم البطش متجبراً في الأرض وكانت في أيامه حروب، ثم ملك بعده فيومنوس، نحواً من مائة سنة، باغياً في الأرض على أهلها، ثم ملك بعده سوسوس نحواً من تسعين سنة، ثم ملك بعده كورش نحواَ من خمسين سنة، ثم ملك بعده أذفر نحواً من عشرين سنة، ثم ملك بعد سملا نحواً من أربعين سنة، وقيل أكثرمن ذلك، ثم لك بعده بوسميس نحو من سبعين سنة، ثم ملك بعده، أنيوس نحواً من ثلاثين سنة، ثم ملك بعده "أفلاوس، خمس عشرة سنة، ثم ملك بعده الحلوس نحواً من أربعين سنة، ثم ملك بعده أومرنوس نحو ثلاثين سنة، ثم ملك بعده كلوس نحو ثلاثين سنة، ثم ملك بعده سيبفروس نحو أربعين سنة؟ وقد قيل دون ذلك وهلك، ثم ملك بعده مارنوس " نحو ثلاثين سنة ثم ملك بعده وسطاليم أربعين سنة، ثم ملك بعده أمنوطوس نحو ستين سنة، ثم ملك بعده تباوليوس نحواً من خمسين سنة، ثم ملك بعده العداس نحو ثلاثين سنة، ثم ملك بعده أطيروس نحو ستين سنة، ثم ملك بعده ساوساس نحو عشرين سنة، ثم ملك بعده فاربنوس نحو خمسين سنة، وقيل: خمساً وأربعين سنة، ثم ملك بعه سوسا أدرينوس نحو أربعين سنة، فغراهم ملك من ملوك فارس، من عقب دارا، ثم ملك بعده مسروس، نحو خمسين سنة، ثم ملك بعده طاطايوس نحو ثلاثين سنة، ثم ملك بعده طاطاوس نحو أربعين سنة، ثم ملك بعده أفروس نحو أربعين، ثم ملك بعده "لاوسيس " نحو خمسين سنة، وقيل: خمساً وأربعين سنة، ثمِ ملك بعده أفريقوس نحو ثلاثين سنة ثم ملك بعده منطوروس نحواَ من عشرين سنة، ثم ملك بعده قولا قسما نحواً من ستين سنة، ثم ملك بعده هنقلس، خمساً وثلاثين سنة، وقيل: خمسين سنهٌ، وكانت له حروب مع ملك من ملوك الصابئة، وكذلك ذكر في كتاب التاريخ القديم، ثم ملك بعده مرجد نحو ثلاثين سنة، ثم ملك بعده مردوج أربعين سنة، وقيل: أقل من ذلك، ثم ملك بعده سنجاريب ثلاثين سنة، وهو الذي أتى بيت المقدس، ثم ملك بعده نشوه منوشا ثلاثين سنة، وقيل: أقل من ذلك، ثم ملك بعده بختنصر الجبار خمساً وأربعين سنة، ثم ملك بعده فرمودوج نحو سنة، ثم ملك بعده "بنطسفر نحو ستين سنة، وقيل: أقل من ذلك، ثم ملك بعده منسوس نحو ثمان سنين، وقيل: عشراً، ثم ملك بعده معوسا سنة، وقيل: أقل من ذلك، ثم ملك بعده داونوس إحدى وثلاثين سنة، وقيل أكثر من ذلك، ثم ملك بعده كسرجوس عشرين سنة، ثم ملك بعده مرطياسة تسعة أشهر وقتل، ثم ملك بعده "فنحست إحدى وأربعين سنة، ثم ملك بعده أحرست ثلاث سنين، وقيل: سنتين وشهرين، ثم ملك بعده شعرياس سنة، وقيل: تسعة أشهر، ثم ملك بعده "داريوس عشرين سنة، وقيل:تسع عشرة سنة، ثم ملك بعده أطحست تسعاً وعشرين سنة ثم ملك بعده داروا اليسع خمس عشرة سنة، وقيل: عشر سنين.
قال المسعودي: فهؤلاء الملوك الذين أتينا على ذكرهم، وأسمائهم،ومدة مملكتهم، وقد رسمت أسماؤهم هكذا في كتب التواريخ السالفة، وهم الذين شيدوا البنيان، ومدنوا المدن، وكوروا الكور، وحفروا الأنهار، وغرسوا الأشجار، واستنبطوا المياه، وأثاروا الأرضين، واستخرجوا المعادن من الحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك، وطبعوا السيوف، واتخذوا عدة الحرب، وغير ذلك من الحيل والمكايد، ونصبوا قوانين الحرب بالقلب والميمنة والميسرة والأجنحة، وجعلوا ذلك مثالاً لأعضاء جسد الِإنسان، ورتبوا لكل جزء نوعاً من الأمة لا يوازيها غيرها فجعلوا أعلام القلب على صورة الفيل والتنين وما عظم من أجناس الحيوان، وجعلوا أعلام الميمنة والميسرة على صورة السباع على حسَب عظمها واختلافها في أنواعها، وجعلوا في الأجنحة صور ما لطف من السباع كالنمر والذئب، وجعلوا صور أعلام الكمناء، على صور الحيات والعقارب، وما خفي فعله من هوام الأرض، وجعلوا ألوان كل نوع منها من السواد وغيره من الألوان الستة، وهي: السواد والبياض، والصفرة والحمرة والخضرة، ولون السماء.
وقد ذكر قوم أن الألوان ثمانية على حسب الموضع المستحق لها،ومنعوا أن تكون الحمرة تشوب شيئاً من ذلك إلا ما لطف من أجزائها داخلاً في جملة الأكثر من أشباه الحيوان من تلك الأعلام، وعموا أن قضية القياس توجب أن تكون سائر أعلام الحرب حمراء؛ إذ كانت أليق وأشكل بلون الدم، وأكثر ملاءمة، إذ كان لونهما واحداً، لكن منع من ذلك استعمالها في خال الزينة والطرب وأوقات السرور، واستعمال النساء والصبيان لها، وفرح النفوس بها، وأوجب ترك ذلك، وإن حس البصر مشاكل للون الحمرة، إذا كان من شأنه أنه إذا أدركها انبسط نوره في إدراكها، وإذا وقع البصر على اللون الأسود نوره ولم ينبسط في إدراكه انبساطه في الحمرة، وأن النسبة الواقعة بين بصر الناظر وبين لون الحمرة الاشتراك، والمباينة الضدية بين نور البصر ولون السواد.وتكلم هؤلاء القوم في مراتب الألوان من الحمرة والسواد والبياض وغيرها، ومراتب الأنوار، وما وجه ذلك من أسرار الطبيعة، والحد المشترك بين نورية حِسِّ البصر وبين لون الحمرة والبياض، والضد المباين بين السواد وبين نور البصر، دون سائر الألوان من الحمرة والخضرة والصفرة والبياض، وتغلغل القوم في هذه المعاني إلى ما علا من الأجسام السماوية من النيرين والخمسة، واختلافها في ألوانها، وإلى غير ذلك من الأشخاص العلوية.وقد أتينا على ما قالوه من ذلك فيما سلف من كتبنا، وأتينا على سير هؤلاء الملوك وأخبارهم واختلافهم في كتابنا أخبار الزمان، وفي الكتاب الأوسط.وقد ذهبت طائفة من الناس إلى أن هؤلاء الملوك كانوا من النبط وغيرهم من الأمم، وأنه كان يرأس بعضهم غيره من ملوك الفرس ممن كان مقيماً ببَلْخَ، والأشْهَرُ ما قدمناه، وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب لمعاً من أخبار النبط وأنسابهم.
الفرس تخبر مع اختلاف آرائها وبعد أوطانها وتباينها في ديارها وما ألزمته أنفسها من حفظ أنسابها، ينقل ذلك باقٍ عن ماضٍ، وصغير عن كبير أن أول ملوكهم كيومرث ثم تنازعوا فيه فمنهم منِ زعم أنه ابن آدم، والأكبر من ولده، ومنهم من زعم وهم الأقلون عدداَ- أنه أصل النسل وينبوع النَرْء، وقد ذهبت طائفة منهم إلى أن كيومرث هو أميم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، لأن أميماً أول من حَلَّ بفارس من ولد نوح، وكان كيومرث ينزل بفارس، والفرس لا تعرف طوفان نوحِ، والقوم الذين كانوا بين آدم ونوح عليهما السلام كان لسانهم سريانياَ،. ولم يكن عليهم ملك، بل بهانوا في مسكن واحد، والله أعلم بذلك.
وكان كيومرث أكبر أهْل عصره، والمقدم فيهم وكان أول ملك نصب في الأرض فيما يزعمون، وكان السبب الذي دعا أهل ذلك العصر إلى أقأمة ملك ونصب رئيس أنهم رأؤا أكثر الناس قد جُبِلوا على التباغض والتحاسد والظلم والعدوان، ورأوا أن الشرير منهم لا يصلحه إلا الرهبة، ثم تأملوا أحوال الخليقة، وتصرف شأن الجسم، وصورة الِإنسان الحساس الدراك، فرأوا الجسم في بنيته وكونه قد رتب بخواص تؤدي إلى معنى هو غيرها يوردها ويصدرها ويميزها بما تورده إليه من أخلاقها في مداركها، وهو معنى في القلب فرأوا صلاخ الجسم بتدبيره، وأنه متى فسد تدبيره فسد سائره، ولم تظهر أفعاله المتقنة المحكمة، فلما رأوا هذا العالم الصغير الذي هو جسد الِإنسان المرئي لا تستقيم أموره ولا تنتظم أحواله إلا باستقامة الرئيس الذي قدمنا ذكره علموا أن الناس لا يستقيمون إلا بملك ينصفهم، ويوجه العدل عليهم، وينفذ الأحكام على ما يوجبه العقل بينهم، فساروا إلى كيومرث بن لاوذ، وعَرَّفوه حاجتهم إلى ملك وقيم، وقالوا: أنت أفضلنا، وأشرفنا، وأكبرنا، وبقية أبينا، وليس في العصر من يوازيك، فرُذَ أمرنا إليك، وكن القائم فينا؛ فإنا تحت سمعك وطاغتك، والقائلون بما تراه، فأجابهم ما دعوه إليه، واستوثق منهم بأكيد العهود والمواثيق على السمع والطاعة وترك الخلاف عليه، فلما وضع التاج على رأسه، وكان أول من ركب التاج على رأسه من أهل الأرض، قام خطيباً وقال: إن النعم لا تدوم إلا بالشكر وإنا نحمد اللّه على أياديه ونشكره على نعمه، ونرغب إليه في مزيده، ونسأله المعونة على ما دفعنا إليه، وجسن الهداية إلى العدل الذي به يجتمع الشمل ويصفو العيش، فثقوا بالعدل منا، وأنصفونا من أنفسكم نوردكم إلى أفضل ما في هممكم والسلام فلم يزل كيومرث قائماَ بالأمر، حسن السيرة في الناس، والحال آمنة، والأمة ساكنة طول مدته إلى أن مات.ولهم في وضع التاج على الرأس أسرار يذكرونها أعرضنا عن ذكرها إذ كنا قد أتينا على ذلك في كتابنا أخبار الزمان وفي الكتاب الأوسط.وذكروا أن كيومرث أول من أمر بالسكوت عند الطعام. لتأخذ الطبيعة بقسطها فيصلح البدن بما يرد إليه من الغذاء، وتسكن النفس عند ذلك، فتُدَبركل عضومن الأعضاء تدبيراً يؤدي إلى ما فيه صلاحه من أخذ صفو الطعام، فيكون الذي يرد إلى الكبد وغيره من الأعضاء القابلة للغذاء ما يناسبها، وما فيه صلاحها ة فإن الِإنسان متى شغل عن طعامه بضرب من الضروب انصرف قسط من التدبير وجزء من التقدير إلى حيث انصباب الهمة ووقوع الاشتراك، فأضر ذلك بالأنفس الحيوانية والقوى الإٍ نسانية، وإذا كان ذلك أدى إلى مفارقة النفس الناطقة لهذا الجسد المرئي، وفي ذلك ترك للحكمة، وخروج عن الصواب.ولهم في هذا الباب سر لطيف من أسرار السبب الذي بين النفس والجسم ليس هذا موضعه، وقد أتينا على ذكره في الكتاب المترجم بسر الحياة وفي كتاب الزلف عند ذكرنا النفس الناطقة والنفس العلامة والنفس الحسية والمخيلة والنزاعية، وما قال الناس في ذلك ممن تقدم وتأخر من الفلاسفة وغيرهم.وقد تنوزع في مقدار عمر كيومرث هذا فمن الناس من رأى أن عمره ألف سنة، دون ذلك، وللمجوس في كيومرث هذا خطب طويل في أنه مبدأ النسل، وأنه نبت من نبات الأرض، وهو الريباس، هو وزوجته، وهما شابة ومنشابة وغير ذلك مما يفحش إيراده، وما كان من خبره مع إبليس، وقتله إياه، وكان ينزل إصْطَخْرَ فارس، وكانت مدة ملكه أربعين سنة، وقيل: أقل من. ذلك.
ثم ملك بعده أوشهنج بن فروال بن سيامك بن يزنيق بن كيومرث الملك، وكان أوشهنج ينزل الهند، وكان ملكه أربعين سنة، وقيل: أكثر من ذلك، وقد تنوزع فيه،فمنهم من رأى أنه أخ لكيومرث بن آدم، ومنهم من رأى أنه ولد الملك الماضي.ثم ملك بعده طهمورث بن نوبجهان بن أرفخشذ بن أوشهنج، وكان ينزل سابور، وظهر في سنة من ملكه رجل يُقال له بوداسف أحدث مذاهب الصابئة، وقال: إن معالي الشرف الكامل، والصلاخ الشامل، ومعدن الحياة، في هذا السقف المرفوع، وإن الكواكب هي المدبرات والواردات والصادرات، وهي التي بمرورها في أفلاكها وقظعها مسافاتها واتصالها بنقطة وانفصالها عن نقطة يتم ما يكون في العالم من الآثار: من امتداد الأعمار وقصرها، وترك البسائط، وانبساط المركبات، وتتميم الصور، وظهور المياه وغَيْضها، وفي النجوم السيارة وفي أفلاكها التدبير الأكبر، وغير ذلك مما يخرج وصفه عن حد الاختصار والإِيجاز، واحتذى به جماعة من ذوي الصعف في الآراء؟؛فيقال: إن هذا الرجل أول من أظهر آراء الصابئة من الحرانيين والكيماريين، وهذا النوع من الصابئة مباينون للحرانيين في نِحْلَتهم، وديارهم بين بلاد واسط والبصرة من أرض العراق نحو البطائح والآجام، فكان ملك طهمورث إلى أن هلك ثلاثين سنة، وقيل غير ذلك.
ثم ملك بعده أخوه جمشيد، وكان ينزل بفارس، وقيل: إنه كان في زمنه طوفان، وذهب كثير من الناس إلى أن النيروز في أيامه أحدث وفي ملكه رسم، على حسب ما نورده فيما يرد من هذا الكتاب، كذلك ذكر أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى عن عمر المعروف بكسرى، وكان هذا الرجل ممن أشتهر بعلم فارس وأخبار ملوكها حتى لقب بعمر كسرى، وكان ملك جمشيد إلى أن هلك ستمائة سنة، وقيل: تسعمائة سنة وستة أشهر، وأحدث في الأرض أنواعاً من الصناعات والأبنية والمهن وادعى الِإلهية.
ثم ملك بعده بيوراسب بن أروادسب بن رستوان بن نياداس بن طاع ابن قروال بن ساهر فرس بن كيومرث، وهو كذلك، وقد عربت أسماؤه جميعاً فسماه قوم من العرب اِلضحاك، وسماه قوم بهراسب وليس هو كذلك، وإنما اسمه على ما وصفنا بيوراسب، وقتل جمشيد الملك، وقد تنوزع فيه: أمن الفرس كان أم من العرب؟ فزعمت الفرس أنه منها، وأنه كان ساحراً، وأنه ملك الأقاليم السبعة، وأن ملكه كان ألف سنة، وبغى في الأرض وتمرد، وللفرس فيه خطب طويل، وأنه مقيد مغلل في جبل دباوند بين الري وطبرستان، وقد ذكرته شعراء العرب ممن تقدم وتأخر، وقد افتخر أبو نواس به، وزعم أنه من اليمن؟ لأن أبا نواس مولى لسعد العشيرة من اليمن، فقال: وكان مِنِّا الضَحّاكُ تَعْبُده الجامل والوحش في مساربها
ثم ملك بعده إفريحون بن أثقابان بن جمشيد ملك الأقاليم السبعة،فأخذ بيوارسب، فقيده في جبل دباوند على حسب ما ذكرنا، وقد ذكر كثير من الفرس ومن عني بأخبارهم مثل عمر كسرى وغيره أن أفريدون جعل هذا اليوم الذي قيد فيه الضحاك عيداً له، وسماه المهرجان، على حسب ما نورده بعد هذا الموضع من هذا الكتاب، وما قيل في ذلك، وكانت دار مملكة أفريدون بابل وهذا الِإقليم يسمى باسم قرية من قراه يُقال لها بابل، على! شاطىء نهر من أنهار الفرات بأرض العراق، على ساعة من المدينة المعروفة بجسر بابل، ونهر النرس، وإليه تضاف الثياب النرسية، وفي هذه القرية بجب يعرف بجب دانيال النبي عليه السلام، تقصده النصارى واليهود في أوقات من السنة في أعيادهم، وإذا أشرف الِإنسان على هذه القرية تبين فيها آثاراً عظيمة من ردم وهدم وبنيان قد صارت كالروابي، وذهب كثير من الناس إلى أن بها هاروت وماروت، وهما الملكان المذكوران في القرآن على حسب ما قص اللّه تعالى من تسمية هذه القرية ببابل. وكان مُلك أفريدون خمسمائة سنة، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: أكثر، وقسم الأرض بين ولده الثلاثة، وقد قال في ذلك بعض الشعراء ممن سلف: من أبناء الفرس بعد الِإسلام يذكر ولد أفريدون الثلاثة:
وَقَسَمناملكنافي دهرنـا قـسـمة |
|
اللَّحْـم عـلـى ظـهـروَضَـمْ |
وجعلنـا الـشـام والـروم إلـى |
|
مغرب الشمس إلى الغطريف سلم |
وأطـوج جـعـل الـتـرك لـه |
|
فبلادالترك يحـويهـا ابـن عـم |
ولِإيران جعلنا عـنـوة |
|
فارس الملك وفزنابالنعم |
وللناس فيما ذكرنا خطب طويل، وأن بلاد بابل أضيفت إلى ولد أفريدون وهو إيراج، وقَتَله أخوه في حياة أفريدون، وهلك، ولم يخلص له الملك فيعدَّ في ملوك.وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب كيفية إضافة هذا الِإقليم إلى إيراج وإسقاطهم الجيم، وجعلهم النون بدلاً منها، فقالوا: إيران شهر، والشهر: الملك.
ثم ملك بعد أفريدون منوجهر بن إيران بن أفريدون، على حسب ماذكرنا من التنازع في نسبه وإلحاقه بإيران بن أفريدون، وكان ملكه عشرين سنة، وكان ينزل ببابل، وقد قيل: إنه في زمانه كان موسى بن عمران، ويوشع بن نون عليهما السلام، وكان لمنوجهر حروب مع عميه اللذين قتلا أباه، وهما أطوج وسلم، وقد أتينا على ذكر حروبهم فيما سلف من كتبنا.
ثم ملك بعد منوجهر سهم بن أبان بن أثقبان بن يود بن منوجهر، فنزل بابل، وملك ستين سنةَ، وقيل: أكثر من ذلك، وكانت له حروب كثيرة وسير وسياسات كثيرة قد أتينا على ذكرها في كتابنا أخبار الزمان.
ثم ملك بعده فراسياب بن أطوج بن ياسر بن رامي بن آرس بن بورك ابن ساساسب بن زسست بن نوح بن دوم بن سرور بن أطوج بن أفريدون الملك، وكان مولد فراسياب ببلد الترك؛ فلذلك غلط من غلط من أصحاب الكتب والتصنيفات في التاريخ وغيره فزعم أنه تركي، وكان تملكه على ما غلب عليه من البلاد اثنتي عشرة سنة، وعمره عند كثيرمن الناس أربعمائة سنة.ولاثنتي عشرة سنة خلت من ملكه ظهر عليه زوبن بهاست بن كمجهورابن عداسة بن رايريج بن ماسربن يود بن منوجهر الملك، فهزمه وقتل أصحابه بعد حروب كثيرة، وعَمَّر ما خَرَّبه براسياب.وقد تنوزع في المقدار الذي ملك فيه: فقيل ثلاث سنين، وقيل أكثر من ذلك، وكان مسكنه ببابل، وللفرس كلام طويل في قتل فراسيان، وكيفية قتله وحروبه، وما كان بين الفرس والترك من الحروب والغارات، وما كان قتل سياوخس وخبررستم بن دستان، هذا كله مشروح في الكتاب المترجم بكتاب السكيكين ترجمة ابن المقفع من الفارسية الأولى إلى العربية، وخبر اسفنديار بن كشتاشب بن بهراسب وقتل رستم بن دستان له، وما كان من قتل بهمن بن إسفنديار لرستم، وغير ذلك من عجائب الفرس الأولى وأخبارها، وهذا الكتاب تعظمة الفرس؟ لما قد تضمن من خبر أسلافهم وسير ملوكهم، وقد أتينا بحمد اللّه على كثير من أخبارهم فيما سلف من كتبنا.وقد قيل: إن أول من نزل من الملوك ببَلْخَ وانتقل عن العراق كيكاووس وقد كان سار نحو اليمن بعد أن كان له بالعراق تَمَرد على اللّه، وبنيان بناه لحرب السماء وكان ملك اليمن الذي سار إليه كيكاووس في ذلك الوقت شمر بن فريقس فخرج إليه شمر فأسره وحبسه في أضيق محبس، فهَوِيَتْهُ ابنه لشمريقال لها سعدى كانت تحسن إليه في خِفيَة من أبيها، وإلى من كان معه من أصحابه،، ومكث في محبسه أربع سنين، حتى أسرى رستم بن دستان من بلاد سجستان سرية فيها أربعة الاف، فقتل ملك اليمن شمر بن فريقس واستنقذ كيكاووس، ورَده إلى ملكه، وسعدى معه، فاعَتلتْ عليه، وأغرته بولده سياوخش، حتى كان من أمره مع فراسياب التركي ما قد شهر من استئمانه إليه وتزوجه بابنته حتى حملت منه بكيخسرو، وما كان من قتل فراسياب لسياوخش بن كيكاووس، وقتل رستم بن دستان لسعدى، وأخذه بطائلة سياوخش، فقتل من، قتله وجوه الترك، وعند الفرس على ما في كتاب السكيكين أن كيخسرو كان قبله على الملك جده لأبيه، وهوكيكاووس ولم يعلم ممن هو ولم يكن لكيخسرو عقب؛فجعل الملك في بهراسف، وهؤلاء القوم كانوا يسكنون بلخ، وكانت دار مملكتهم، وكان يدعي نهر بلخ وهو جيحون بلغتهم كالف، وكذلك يسميه كثير من أعاجم خراسان في هذا الوقت بهذا الاسم.فلم يزالوا كذلك إلى أن صار الملك إلىحاي ابنة بهمن بن إسفنديار ابن يستاسف بن بهراسف، فانتقلت إلى العراق، وسكنت نحو المد ائن.
ثم كان بعد كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووس الملك إلى لهراسب بن قنوج بن كيمس بن كيناسس بن كيناسة بن كيقباذ الملك، فعمر البلاد، وأحسن السيرة لرعَيته، وشملهم عدله. ولسنين خلت من ملكه نال بني إسرائيل منه مِحَنٌ، وَشَتَتهم في البلاد، وكانت له معهم أقاصيص يطول ذكرها.وذكر في بعض الروايات من أخبار الفرس أنه بنى بلخ الحسناء لما فيها من المياه والشجر والمروج.وكان ملكه مائة وعشرين سنة، وقد ذكر خبر مقتله مع الترك وما كان منهم في حصاره وَمَنْ أخذ بثأره بعد قتله في كتب قدماء الفرس.
وقد ذكر كثير ممن عُني بأخبار الفرس أن بختنصر مَرْزُبان العراق والمغرب كان من قِبَل هذا الملك، وهو الذي وطىء الشام، وفتح بيت المقدس، وسبى بني إسرائيل، وكان من أمره بالشام والمغرب ما قد اشتهر، والعامة تسميه البخت ناصر، وأكثر الِإخباريين والقُصَّاص يغالون في أخباره، ويبالغون في وصفه، والمنجمون في زيجاتهم وأهل التواريخ في كتبهم يجعلونه ملكاً برأسه، وإنما كان مَرْزُباباً على ما وصفنا للملوك ممن ذكرنا، وتفسير مرزبان يراد به صاحب رُبْع مات المملكة وقائد عسكر ووزير وصاحب ناحية من النواحي، وواليها، وقد كان حمل سبايا بني إسرائيل إلى الشرق، وتزوج منهن امرأة يقال لها دينارد، فكانت سبب رَدَ بني إسرائيل إلى بيت المقدس.وقيل: إن دينارد أولدهاَ لهراسب بن كشتاسب، وقيل غير ذلك من الوجوه، وإن حماية من نسل بني إسرائيل من أمها.وقيل: إن بهراسف قد كان أنْفذَ سنجاريب وكان خليفته على العراق إلى حرب بني إسرائيل فلم يصنع شيئاً، فعقب بعده بالبخت نصر، وقيل في البحث نصر غير ما ذكرنا مما سنورده بعد هذا الموضع في ذكر ملك بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن بهراسف.وقد أرخ بطليموس صاحب كتاب المجسطي تاريخ كتابه من عهد بخت نصر مَرْزُبان المغرب، وأرَّخَ ثاون صاحب كتاب القانون في النجوم من مملكة الإِسكندر بن فيلبس المقدوني.
ثم ملك بعده ابنه يستأسف، وكان منزله بلخ، ولثلاثين سنة خلت من ملكه أتاه زرادشت بن أسبيمان، وقيل: إنه زرادشت بن بورشف بن فذراسف بن أريكدسف بن هجدسف بن ححيش بن باتير بن أرحدس بن هردار بن أسبيمان بن واندست بن هايزم بن أرج بن دورشرين بن منوشهر الملك، وكان من أهل أذربيجان، والأشهر من نسبه أنه زرادشت بن أسبيمان، وهو نبي المجوس الذي أتاهم بالكتاب المعروف بالزمزمة عند عوام الناس، واسمه عند المجوس بستاه وأتى زرادشت عندهم بالمعجزات الباهرات للعقول، وأخبر عن الكائنات من المغيبات قبل حدوثها من الكليات والجزئيات، والكليات: هي الأشياء العامة، والجزئيات: هي الأشياء الخاصة، مثل زيد يموت يوم كذا، ويمرض فلان في وقت كذا، ويولد لفلان في وقت كذا، وأشباه ذلك، ومعجم هذا الكتاب يدور على ستين حرفاً من أحرف المعجم، وليس في سائر اللغات أكثر حروفاً من هذا، ولهم خطب طويل قد أتينا على ذكره في كتابينا أخبار الزمان والكتاب الأوسط، وأتى زرادشت بكتابهم هذا بلغة يعجزون عن إيراد مثلها، ولا يدركون كنه مرادها، وسنذكر بعد هذا الموضع من هذا الكتاب ما أتى به زرادشت، وما جعل له من التفسير وتفسير التفسير، وكتب هذا الكتاب في أثني عشر ألف مجلد بالذهب، فيه وعد ووعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من الشرائع والعبادات فلم تزل الملوك تعمل بما في هذا الكتاب إلى عهد الِإسكندر وما كان من قتله لدارا بن دارا، فأحرق الِإسكندر بعض هذا الكتاب.ثم صار الملك بعد الطوائف إلى أردشير بن بابك، فجمع الفرس على قراءة سورة منه يقال لها إسناد؛ فالفرس والمجوس إلى هذا الوقت لا يقرؤن غيرها، والكتاب الأول يسمى بثناه.ثم عمل زرادشت تفسيراً عند عجزهم عن فهمه، وسمَوا التفسير زنداً، ثم عملِ للتفسير تفسيراً، وسماه بازند، ثم عمل علماؤهم بعد وفاة زرادشت تفسيراَ لتفسير التفسير وشرحاً لسائر ما ذكرنا، وسموا هذا التفسير بارده فالمجوس إلى هذا الوقت يعجزون عن حفظ كتابهم المنزل، فصار علماؤهم وَمَوَابذتهم يأخذون كثيراً منهم بحفظ أسباع من هذا الكتاب وأرباع وأثلاث، فيبتدء كل واحد بما حفظ من جزئه فيتلوه،ويبتدء الثاني منهم فيتلو جزأ آخر، والثالث كذلك، إلى أن يأتي الجميع على قراءة سائر الكتاب لعجز الواحد منهم عن حفظه على الكمال، وقد كانوا يقولون: إن رجلاً منهم بسجستان بعد الثلاثمائة مستظهر بحفظ هذا الكتاب على الكمال.وكان ملك يستاسف إلى أن تمجس ثم هلك عشرين ومائة سنة، وكانت مدة نبوة زرادشت فيهم خمساً وثلاثين سنة، وهلك وهو ابن سبع وسبعين سنة..
ولما هلك زرادشت ولي مكانه خاناس العالم، وكان من أهل أذربيجان وهذا أول موبذ قام فيهم بعد زرادشت، نصبه لهم يستاسف الملك.
ثم ملك بعده بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن بهراسف، وكان له حروب كثيرة مع رستم صاحب سجستان إلى أن قتل رستم ووالده دستان، وقيل: إن أم بهمن كانت من بني إسرائيل من ولد طالوت الملك، وإنه هو الذي بعث بالبختنصر مرزبان العراق إلى بني إسرائيل، فكان من أمرهم ما وصفنا، وكان ملك بهمن إلى أن هلك مائة واثنتي عشرة سنة، وقيل: إنه في ملكه رَدّ بقايا بني أشرائيل إلى بيت المقدس، فكان مُقَامهم ببابل إلى أن رجعوا إلى بيت المقدس سبعين سنة، وذلك في أيام كورش الفارسي المملك على العراق من قبل بهمن، وبهمن يومئذ ببلخ، وقد قيل: إن أم كورش كانت من بني إسرائيل، وكان دانيال الأصغر خاله، وكانت مدة ملك كورش ثلاثَاَ وعشرين سنة، وفي وجه آخر من الروايات أن كورشاً كان ملكاً برأسه لا من قبل لهمن، وذلك بعد إنقضاء ملك بهمن، وأن كورشاً من ملوك الفرس الأولى، وليس هذا عاماً في كتب التواريخ القديمة، ودانيال الأكبر كان بين نوح وإبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو الذي استخرج العلم وما يحدث في الأزمان إلى أن تنقضي الأرض ومَنْ عليها وعلوم ملوك العالم وما يحدث في السنين والشهور والأيام من الحوادث، ودلائل ذلك في الأفلاك وإليه ينسب كتاب الجفر، ولما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس استخرجوا التوراة وغيرها من المواضع التي خُبِّئت فيها من الأرض على ما قدمنا.
ثم ملكت حماية، بنت بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن بهراسف وكانت تعرف بأمها شهرزاد، ولهذه الملكة سير وحروب مع الروم وغيرهم من ملوك الأرض، وكانت حسنة السياسة لأهل مملكتها، وكان ملكها بعد أبيها بهمن ثلاثين سنة، وقيل غيرذلك.ثم ملك بعدها أخ لها يُقال له دارا بن بهمن بن إسفنديار، وكان ملكه اثنتي عشرة سنة وكان ينزل بباب.
ثم ملك دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن بهراسف والفرس تسمى دارا هذا باللغة الأولى من لغاتهم داريوس، وهو الذي قتله الإِسكندر بن فليبس المقدوني، وكان ملكه إلى أن قتل ثلاثين سنة.وقد ذكر أن منوشهر حين انهزم من حرب فراسياب التركي سار إلى جبل طبرستان فتحضَنَ به، ثم ثاب بعد ذلك ومعه خيل، فحارب فراسياب التركي، وقد وطىء العراق، وغلب على الأقاليم، فهرب إلى أرض الترك، وأن الملك صار بعد منوشهر إلى أخوين، وقيل: بل كانا شَرِيكين في الملك متظافرين متعاونين على عمارة الأرض وما خَرَّبه فراسياب: أحدهما بهماسف بن كنجهر بن ورزق بن هوسف بن واحدسك بن دوس بن منوشهر، والآخر كرشاسف بن يمار بن طماهسف بن آشك بن فرسين بن أرج بن منوشهر، وكان كرشاسف محارباً لفراسياب، ومنازلاً له، والآخر وهو زاب بالعراق: يعمر ما خربه فراسياب من الأرض، واحتفر النهرين المعروفين بالزابين الصغير والكبير، على ما قدمنا من ذكرهما في هذا الكتاب، الخارجَيْنِ من بلاد أرمينية الصابَّيْنِ في دجلة: الأكبر بين الموصلِ والحديثة، والاخر ببلاد السن وسماهما باسمه، وحفر بسواد العراق نهراَ آخره وسماه بالزاب، وجعل على هذا النهر بالعراق ثلاث طساسيج من الضياع والعمائر وأسماها الزوابي، وما ذكرنا فهو باق إلى هذه الغاية، وأن مملكتهما كانت ثلاث سنين، وأن كيخسرو لما قتل جده ببلاد السرو والران من بلاد أذربيجان وهو فراسياب بن بشنك بن نبت بن نشمربن ترك، وترك هذا جد سائر الترك عند طائفة من الناس مِنْ ولد يسب بن طوح بن أفريدن، وقد قدمنا وجهاً من الرواية في نسبة فيما سلف من هذا الكتاب، وسار كيخسرو في البلاد، ووطىء الممالك، وانتهى إلى بلاد الصين، فبنى هناك مدينة عظيمة، وسماها كنكدر، وقد نزلها خلق من ملوك الصين كنزولهم أنموا وغيرها من مدنهم، وقد قيل: إن كنكدر هي أنموا بعينها، وقد قيل: إن كيقاوس بنى مدينة قشمير المقدم ذكرها بأرض السند، وإن سياوخس بنى في حياة أبيه كيقوس مدينة القندهار من أرض السند المقدم ذكرها فيما سلف من هذا الكتاب.
قال المسعودي: ولمن ذكرنا من هؤلاء الملوك أخبار وسير قد أتيناعلى شرحها فيما سلف من كتبنا، وإنما نذكر في هذا الكتاب جوامع، مُنَبِّهين بها على ما سلف من مبسوطها، وما نذكره من الوجوه فلا ختلاف الروايات وتباين الناس في المصنفات من كتبهم فيما ذكرناه من أخبارهم ليعلم من قرأ كتابنا هذا أنا قد بذلنا المجهود من أنفسنا، وذكرنا سائر ما قالوه فيما وصفناه، وبالله التوفيق، ومنه الِإعانة.
قال المسعودي: وقد تنازع الناس في ملوك الطوائف: أمن الفرس كانوا أم من النبيط أم من العرب؟ فحكى جماعة من الأخباريين ممن عني بأخبار الماضين أنه لما قَتَلَ الِإسكندر بن فليبس دارا بن دارا تغَلَّبَ كل رئيس ناحية على ناحيته، وكاتبهم الِإسكندر، فمنهم فرْس ونبيط وعرب، وكان مراد الِإسكندر من ذلك تشتيت كلمتهم وتحزيبهم، وغلبة كل رئيس منهم على الصقع الذي هو به، فينعدم نظام الملك، والِإنقياد إلى ملك واحد يجمع كلمتهم ليرجع إليه الأمر، إلّاَ أن أكثرهم كانوا ينقادون إلى الأشغانيين، وهم ملوك الجبال منَ بلاد الدينور ونهاوند وهمدان وماسبدان وأذربيجان، وكان كل ملك منهم يلي هذا الصقع يسمى بالاسم الأعم أشغان، فقيل لسائر ملوك الطوائف الأشغانيون إضافة إلى ملك هذا الصقع لانقيادهم إليه.وقدحكى محمدبن هشام الكلبي عن أبيه وغيره من علماء العرب أنهم قالوا: أول ملوك الدنيا الأسكيان، وهم من سمينا من ملوك من سلف من الفرس الأولى إلى دارا بن دارا؟ ثم الأردوان، وهم ملوك النَبِيط، وكانوا من ملوك الطوائف، وكانوا بأرض العراق مما يلي قصر ابن هبيرة وَسَقي الفرات والجامعين وسورا وأحمد آباد والنرس إلى حِنْبَا وتل فحار والفوف وسائر ذلك الصقع، وكانت ملوك العرب من مضر بن نزار بن معد وربيعة بن نزار وأنمار بن نزار، والنصرية من بني نصر من اليمن وغيرهم من قَحْطَان لهم ملوك، وقد نصبت كل طائفة لها ملكاً لعدم ملك يجمع كلمتهم، وذلك أن الإِسكندر أشار عليه مُعَلِّمه وهو وزيره أرسطاطاليس، في بعض رسائله إليه بذاك، وكاتب الإِسكندر ملك كل ناحية، ومَلَّكه على ناحيته، وتؤَجَه وَحَبَاه، فاستبد كل واحد منهم بناحية، فصار ملكه من بعده في عقبه، ممانعاً عما في يده، وطالباً للازدياد من غيره.
وكان ملك الطوائف عند كثير من الناس ممن عُني بأخبار الماضين، ومعرفة سنيهم، خمسمائة سنة وسبع عشرة سنة، وذلك من ملك الإِسكندر إلى أن ظهر أردشيربن بابك بن ساسان فغلب على ملوك الطوائف، وقتل أردوان الملك بالعراق، ووضع تاج أردوان على رأسه وكان قد قتله في مبارزة على شاطىء دجلة فهذا أول يوم يعدُ منه ملك أردوشير لاستيلائه على سائر ملوك الطوائف، وتمهدت له البلاد، واستقامت دعائمها بملكه، فمن ملوك الطوائف مَنْ قتلَهُ أردشير بن بابك، ومنهم مَنْ انقاد إلى ملكه وأجاب دعوته.وملوك الطوائف بين الفرس الأولى ممن سمينا، وبين الفرس الثانية،وهم الساسانية.
وقد ذكرأبوعبيدة معمربن المثنى التيمي عن عمركسرى في كتاب له في أخبار الفرس يصف فيه طبقات ملوكهم ممن سلف وخلف،وأخبارهم، وخطبهم وتشعب أنسابهم، ووصف ما بَنَوْه من المدن، وكوروه من الكور، واحتفروه من الأنهار، وأهل البيوتات منهم، وما وسم به كل فريق منهم، من، الشهارجة وغيرهم: أن أول ملك من ملوك الطوائف أشك بن أشك بن أردوان بن أشغان بن آس الجبار بن سياوش بن كيقاوس الملك عشرين سنة، ثم ملك بعد أشك سابور بن أشك الملك ستين سنة.
وفي إحدر وأربعين من مملكته كان ظهور السيد المسيح عليه السلام ببلاد فلسطين بإيليا، ثم ملك جودرز بن أشك بن أردوان بن أشغان عشر سنين، ثم ملك نيزر بن سابور الملك بن أشك الملك إحدى وعشرين سنة، وقيل: إنه في أيامه سار توس بن أسفانيوس ملك رومية إلى إيليا، وذلك بعد ارتفاع المسيح بأربعيِن سنة فقَتَلَ وأسر وسبى وخرب ثم ملك بعد نيزر بن سابور ابنه جودرز بن نيزر تسع عشرة سنة، ثم ملك بعد جودرز نرس بن نيزر أربعين سنة ثم ملك بعده أخوه هرمز بن نيزر عشرين سنة، ثم ملك أردوان بن هرمزبن نيزرخمس عشرة سنة، ثم ملك بعد أردوان ابنه كسرى بن أردوان أربعين سنة، ثم ملك بعد كسرى ابنه بلاس بن كسرى أربعاً وعشَرين سنة، ثم ملك بعد بلاس ابنه أردوان بن بلاس ثلاث عشرة سنة.
قال المسعودي: فهذا وجه آخر غير ما قدمنا ذكره، وقد قيل في تاريخ سني ملوك الطوائف غير ما وصفنا، وإن مدتهم كانت أقل مما وصفنا، والأول أشهر وأضح في مقدار ما ملكوا من السنين، مع تباين التواريخ واختلافها وتضاد ما فيها، غير أن الذي حكيناه ما أخذناه من علماء الفرس، وهم يراعون من تواريخ من سَلَف ما لا يراعيه غيرهم لأن الفرس تدين بما وصفنا قولاً وعملاً، وغيرهم من الناس يقول ذلك قولاً ولا ينقاد إليه عملاً لتباين أهل الشرائع، وقد أتينا فيما سلف من كتبنا على الغرر من أخبار الطوائف وسيرهم وبالله التوفيق.