ذكر ملوك اليونانيين ولمع من أخبارهم وما قاله الناس في بدء أنساب

ذكر ملوك اليونانيين ولمع من أخبارهم وما قاله الناس في بدء أنساب

اختلاف الناس في أصلهم

قال المسعودى: تنازع الناس في فرق اليونانيين؛ فذهب طائفة من الناس إلى أنهم ينتمون إلى الروم، ويضافون إلى ولد إسحاق، وقالت طائفة اخرى: إن يونان هو ابن يافث بن ينوح، وذهب قوم إلى أنهم من ولد آراش بن ناوان بن يافث بن نوح، وذهب قوم إلى أنهم قبيل متقدم في الزمان الأول، وإنما وهم من وهم أن اليونانين ينسبون إلى حيث تنسب الروم، و ينتمون إلى جدهم إبراهيم لأن الديار كانت مشتركة والمقاطن والمواطن كانت متساوية، وكان القوم قد شاركوا القوم في السجية والمذهب؛ فلذلك غلط من غلط في النسب، وجعل الأب واحداً، وهذا طريق الصواب عند المفتشين، وسبيل البحث عند الباحثين، والروم قَفتْ في لغاتها ووضع كتبها اليونانيين فلم يصلوا إلى كنه فصاحتهم وطلاقة ألسنتهم والروم أنقص في اللسان من اليونانيين، وأضعف في ترتيب الكلام الذي عليه نهج تعبيرهم وسَنَنُ خطابهم.

قال المسعودي: وقد ذكر ذوو العناية بأخبار المتقدمين أن يونان أخو قحطان، وأنه من ولد عابر بن شالخ، وأن أمره في الأنفصال عن دار أخيه كان سبب الشك في الشركة في النسب، وأنه خرج عن أرض اليمن في جماعة من ولده وأهله وَمَنْ انضاف إلى جملته حتى وافى أقاصي بلاد المغرب، فأقام هنالك، وَأنْسَلَ في تلك الديار، واستعجم لسانه، وَوَازى من كان هنالك في اللغة الأعجمية من الإِفرنجة رالروم، فزالت نسبته، وانقطع سببه، وصار منسياً في ديار اليمن غير معروف عند النسابيِن منهم وكان يونان جباراً عظيماً، وسيماً جسيماً، وكان حَسَنَ العقل والخلق جَزْل الرأي، كثير الهمة، عظيم القدر.وقد كان يعقوب بن إسحاق الكندي يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا من أنه أخٌ لقحطان، ويحتج لذلك بأخبار يذكرها في بدء الأنساب، ويوردها من حديث الآحاد والأفراد، لا من حديث الاستفاضة والكثرة.

وقد رَدَ عليه أبو العباس عبد اللّه بن محمد الناشىء في قصيدة له طويلة، وذكر خَلْطه نسب يونان بقحطان، على حسب ما ذكرنا آنفاً في صدر هذا الباب، فقال:

أبائوسُف، إني نظـرت فـلـم أجـد

 

عَلَى الفحْص رَاياً صَحَّ منك ولاعقدا

وصرت حكيماً عند قـوم إذا امـرؤ

 

بَلاَهُمْ جميعاً لم يجد عندهم عـنـدا

أتَقْرِنُ إلـحـاداً بـدين مـحـمـد؟

 

لقد جئت شـيئاً يا أخَـا كـنـده إدا

ولَخلط يونانـأبـقـحـطـان ضَـلةً

 

لعمري لقد بَاعَدْتَ بينـهـمـاجـدا

مساكن يونان

ولما نشأ ولديونان وكثرخرج يسيرفي الأرض يطلب موضعاً يسكنه، فانتهى إلى موضع من الغرب، فنزل بمدينة أثينا، وهي المعروفة بمدينة الحكماء في ديار المغرب في صدر الزمان، وأقام بها هو ومن معه من ولده، فكثر نسله بها وبنى بها البنيان العظيم، إلى أن أدركته الوفاة، فجعل وصيته إلى الأكبر من ولده، واسمه حربيوس، فقال له: يا بني، إني قد وافيت الأجل، وقربصَ من الْحَتْم الواجب، وإني راحل عنك ومفارقك، ومفارق إخواتك وأهل بيتك، وقد كانت أحوالكم حسنة النظام بي، وكنت لكم كَهْفاً في الشدائد، وعوناً على المحن، وَمِجَنّاً من الزمان فعليك بالجود فإنه قطب الملك، ومفتاح السياسة، وباب السيادة، وكن حريصأ على اقتناء الرجال بالِإنعام عليهم تكن سيداً رشيداً، وإياك وَالْحَيَدَ عن الطريق المثلى التي عليها بني العقل، فإن من ترك رأي اللب وثمرة العقل تورّط في المهالك، ووقع في مقابض المتالف.

حربيوس

ثم مات يونان، واستولى ولده حربيوس على مكان أبيه، وضم إليه أهله ووللى وعمل بما أمره ونما خبرهم، وكثر نسلهم، فغلبوا على ديار المغرب من بلاد الِإفرنجة والنوكبرد، وأجناس الأمم من الصقالبة وغيرهم.

فيلبس

وكان أول ملوكهم ممن سماه بطليموس في كتابه: فيلبس، وتفسيره محب الفرس، وقيل: إن اسمه يابس، وقيل: فيلقوس، وكانت مدة ملكه سبع سنين.وقد قيل: إن اليونانيين لما أن سار البخت نصر من ديار المشرق نحو الشام ومصر والمغرب وبذل السيف كانوا يؤدون الطاعة ويحملون الخراجِ إلى فارس، وكان خراجهم بيضاً من ذهب عدداً معلوماً ووزناً مفهوماَ وضريبة محصورة، فلما أن كان من أمر الِإسكندر بن فيلبس وهو الملك الماضي النيى هو أول ملوك اليونانيين على ما ذكره بطليموس ما كان من ظهوره وهمته بعث إليه داريوس ملك فارس، وهو دارا بن دارا، يطالبه بما جرى من الرسم، فبعث إليه الِإسكندر: إني قد ذبحت تلك الدجاجة التي كانت تبيض بيض الذهب، وأكلتها، فكان من حروبهم ما دعا الِإسكندر إلى الخروج إلى أرض الشام والعراق، فاصطلم من كان بها من الملوك، وقتل دارا بن دارا ملك الفرس، وقد أتينا على خبر مقتله ومقتل غيره من ملوك الهند، ومن لحق بهم من ملوك الشرق في الكتاب الأوسط. ونسب قوم الِإسكندر أنه الِإسكندربن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن هردوس بن ميطون بن رومي بن نويط بن نوفيل بن رومي بن ليطى بن يونان بن يافث بن نوح، ونسبه قوم أنه من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم، ومنهم من رأى أنه الإِسكندر بن يونه بن سرحون بن رومي بن قرمط بن نوفيل بن رومي بن الأصفر بن اليغزبن العيص بن إسحاق بن إ برا هيم.

الِإسكندر وذوالقرنين: وقد تنازع الناس فيه: فمنهم من رأى أنه ذو القرنين، ومنهم من رأى أنه غيره، وتنازعوا أيضاً في ذي القرنين: فمنهم من رأى أنه سمي بذي القرنين لبلوغه أطراف الأرض وأن الملك الموكل بجبل قاف سماه بهذا الاسم، ومنهم من رأى أنه من الملائكة. وهذا قول يُعْزَى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والقول الأول لابن عباس في تسمية الملك إياه. ومنهم من رأى أنه كان بذؤابتين من الذهب. وهذا قول يُعْزَى إلى علي بن أي طالب رضي الله عنه. وقد قيل غير ذلك وإنما نذكر تنازع الشرعيين من أهل الكتب. وقد ذكره تئع في شعره وافتخر به، وأنه من قحطان. ؤقيل: إن بعض التبابعة غزا مدينة رومية وأسكنها خلقاً من اليمن، وإن ذا القرنين الذي هو الإِسكندر من أولئك العرب المتخلفين بها. والله أعلم.وسار الإسكندر بعد أن ملك بلاد فارس؟ فاحتوى على ملوكها، وتزوج بابنة ملكها دارا بعد أن قتله، ثم سار إلى أرض السند والهند، ووطىء ملوكها، وحملت إليه الهدايا والخراج، وحاربه ملكها فور، وكان أعظم ملوك الهند، وكان له معه حروب، وقتله الإِسكندر مبارزة.

ثم سار الإِسكندر نحو بلاد الصين والتبت فدانت له الملوك، وحملت إليه الهدايا والضرائب، وسار في مفاوز الترك يُرِيد خراسان من بعد أن ذَلَل ملوكها ورتب الرجال والقواد فيما افتتح من الممالك، ورتب ببلاد التبت خلقأ من رجاله وكذلك ببلاد الصين، وكًور بخراسان كوراً، وبنى مدناً في سائر أسفاره، وكان معلمه أرسطاطاليس حكيم اليونانيين، وهو صاحب كتاب المنطق وما بعد الطبيعة وتلميذ أفلاطون، وأفلاطون تلميذ سقراط، وصرف هؤلاء هِمَمَهُمْ إلى تقييد علوم الأشياء الطبيعية والنفسية، وغير ذلك من علوم الفلسفة واتصالها بالِإلهيات، وأبانوا عن الأشياء، وأقاموا البرهان على صحتها وأوضحوها لمن استعجم عليه تناولها.

وسار الإِسكندر راجعاً من سفره يؤمُ المغرب، فلما صار إلى مدينة شهرزور اشتدت علته، وقيل: ببلاد نصيبين من ديار ربيعة، وقيل: بالعراق، فعهد إلى صاحب جيشه وخليفته على عسكره بطليموس.

الحكماء على جدث الإسكندر

فلما مات الإسكندرطافت به الحكماء ممن كان معه من حكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم من علماء الأمم، وكان يجمعهم، ويستريح إلى كلامهم ولا يصدر الأمور إلا عن رأيهم، وجُعِلَ بعد أن مات في تابوت من الذهب ورصع بالجوهر بعد أن طلي جسمه بالأطلية الماسكة لأجزائه، فقال عظيم الحكماء والمقدم فيهم: ليتكلم كل واحد منكم بكلام يكون للخاصة مُعزياً وللعأمة واعظاً، وقام فوضع يمه على التابوت، فقال: أصبح آسر الأسراء أسيراً، ثم قام حكيم ثان فقال: هدا الإِسكندر الذي كان يخبؤ الذهب فصار الذهب يخبؤه، وقال الحكيم الثالث: ما أزهد الناس في هذا الجسد، وأرغبهم في هذا التابوت وقال الحكيم الرابع:من أعجب العجب أن القوي قد غُلِب، والضعفاء لاهون مغترُّون، وقال الخامس: ياذاالذي جعل أجله ضماناً، وجعل أمله عياناً، هلا باعدت من أجلك، لتبلغ بعض أملك، هلا حققت من أملك بالامتناع عن فوت أجلك وقال السادس: أيها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عن الاحتياج، فغودرت عليك أوزاره وفارقتك أيامه، فمغناه لغيرك، ووباله عليك وقال السابع: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك، فمن كان له عقل فليعقل، ومن كان معتبراً فليعتبر، وقال الثامن: رُبّ هائب لك كان يغتابك من ورائك، وهو اليوم بحضرتك لا يخافك، وقالى التاسع: رب حريص على سكوتك إذ لا تسكت، وهو اليوم حريص على كلامك اذ لا تتكلم، وقال العِاشر: كم أماتتْ هذه النفس لئلا تموت، وقد ماتت، وقال الحادي عشر، وكان صاحب خزانة كتب الحكمة: قد كنت تأمرني أن لاأبعد عنك، فاليوم لا أقدر على الدنو منك، وقال الثاني عشر: هذا اليوم عظيم العبر، أقبل من شره ما كان مدبراً، وأدبر من خير ما كان مقبلًا؟ فمن كان باكياً على مَنْ زال ملكه فليبك، وقال الثالث عشر: يا عظيم السلطان اضْمَحًلّ سلطانك كما اضمحل ظل السحاب، وعَفتْ آثار مملكتك كما عفت آثار الرباب، وقال الرابع عشر: يا مر ضاقت عليه الأرض طولاً وعرضاً، ليت شعري كيف حالك فيما احتوى عليك منها؟ وقال الخامس عشر: أعجب لمن كانت هذه سبيله كيف شرهت نفسه بجمع الحطام البائد والهشيم الهامد، وقمال السادس عشر أيهما الجمع الحافل والملتقى الفاضل، لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذته فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغي والفساد، وقال السابع عشر: أنظروا إلى حلم النائم كيف انقضى.وظل الغمام كيف انجازها وقال الثامن عشر: وكان من حكماء الهند: يا من كان غضبه الموت على غضبت على الموت، وقال التاسع عشر: قد رأيتم أيها الجمع هذا الملك الماضي فليتعظ به الان هذا الملك الباقي، وقال العشرون: هذا الذي دار كثيراً والآن يقر طويلاً، وقال الحادي والعشرون: إن الذي كانت الآذان تنْصِت له قد سكت، فليتكلم الآن كل ساكت، وقال الثاني والعشرون: سيلحق بك مَنْ سَرَّه موتُك كما لحقت بمن سرك موته، وقال الثالث والعشرون: مالك لا تُقِلُّ عضواً من أعضائك، وقد كنت تستقل ملك الأرض. بل ما لك لا ترغب بنفسك عن ضيق المكان الذي أنت به، وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد؟ وقال الرابع والعشرون، وكان من نسّاك الهند وحكمائها: إن دنيا يكون هكذا آخرها فالزهد أولى أن يكون في أولها، وقال الخامس والعشرون، وكان صاحب مائدته: قد فرِشت النمارق، ونضدت الوسائد وهيئت الموائد، ولا أرى عميد المجلس، وقال السادس والعشرون، وكان صاحب بيت ماله: قد كنت تأمرني بالجمع، و الِإدخار فإلى من أدفع ذخائرك وقال السابع والعشرون وكان خازناً من خزانه: هذه مفاتيح خِزائنك، فمن يقبضها قبل أن أوخذ بما لم آخذ منها؟ وقال الثامن والعشرون: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طُوِيتَ منها في سبعة أشبار ولو كنت بذلك موقناً لم تحمل على نفسك في الطلب، القول لتاسع والعشرن قول زوجته روشنك بنت دارا بن دارا ملك فارس: ما كنت حسب أن غالب دارا الملك يغلب، وإن كان هذا الكلام الذي سمعت منكم معاشر الحكماء فيه شماتة فقد خلف الكأس الذي تشرب به الجماعة، القول الثلاثون ما يحكى عن امه أنها قالت حين جاءها نعيه: لئن فقد من ابني أمره، فما فقدت من قبلي ذكره.

مأتم الِإسكندر ودفنه

وقبض الإِسكندر وهو ابن ست وثلاثين سنة، وكان ملكه تسع سنين قبل قتله لدارا بن دارا، وست سنين بعد قتله لدارا بن دارا وتملكه على سائر ملوك الأرض، وملك وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وذلك بمقدونية، وهي مصر، وعهد إلى ولي عهده بطليموس بن أريت أن يحمل تابوته إلى والدته بالِإسكندرية، وأوصاه آن يكتب إليها إذا أتاها نعيه أن تتخذ وليمة وتنادي في مملكتها أن لا يتخلف عنها أحد، وأن لا يجيب دعوتها من قد فقَدَ محبوباً أوْ مات له خليل وليكون ذلك مأتم الِإسكندر بالسرور، خلاف مأتم الناس بالحزن، فلما ورد نعيه إليها، ووضع التابوت بين يديها، نادت في أهل مملكتها على ما به أمرها، فلم يجب أحد دعوتها، ولا بادر إلى ندائها، فقالت لحشمها : ما بال الناس لم يجيبوا دعوتي. فقالوا لها: أنت منعتيهم من ذلك، قالت: وكيف. قيلِ لها: أمرت أن لا يجيبك من فقد محبوباً، أو عدَم خليلاً، أوفارق حبيباَ، وليس فيهم أحد إلا وقد أصابه بعض ذلك، فلما سمعت ذلك استيقظت وعلمت ما به سئلت، وقالت: لقد عَزَّانِي ولده أحسن العزاء، وقالت: يا إسكندر ما أشبه أواخرك بأوائلك، وأمرت به فجعل في تابوت من المرمر، وطلي بالأطلية الماسكة لأجزائه، وأخرجته عن الذهب؟ لعلمها أنُ منَ يطرأ بعدها من الملوك والأمم لا يتركونه في ذلك الذهب، وجعل التابوت المرمر على أحجار نُصبَتْ، وصخور نصبت، من الرخام والمرمر قد رصفت، وهذا الموضع من الرخام والمرمر باقً ببلاد الإِسكندرية من أرض مصر يعرف بقبر الِإسكندر إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب جوامع من أخبار الِإسكندرية وعجائبها، ومصر وأخبارها ونيلها، في الموضع المستحق له من ذلك في كتابنا، إن شاء اللّه تعالى.

ذكر جوامع من حروب الاسكندر بأرض الهند

قال االمسعودي: لما قَتَل الإِسكندر فور صاحب مدينة المانكير من ملوك الهند، وانقاد إليه جميع ملوك الهند، على حسب ما ذكرناه من حمل الأموال والخراج إليه فبلغه أن في أقاصي أرض الهند ملكاً من ملوكهم ذا حكمة، وسياسة وديانة، وإنصاف للرعية، وأنه قد أتى عليه من عمره مئون من السنين وأنه ليس بأرض الهند من فلاسفتهم وحكمائهم مثله، يُقال له كند، وكان قاهراً لنفسه، مميتاً لصفاته من الشهوية والغضبية وغيرها، حاملاً لها على خلق كريم، وأدب زائن: فكتب إليه كتاباً يقول فيه: أما بعد، فإذا أتاك كتابي هِذا فإن كنت قائماً فلا تقعد، وإن كنت ماشياً فلا تلتفت، وإلا مزقْتُ ملكك، ولحقتك بمن مضى من ملوك الهند، فلما ورد عليه الكتاب أجاب الِإسكندر أحسن جواب، وخاطبه بملك الملوك، وأعلمه أنه قد اجتمع له قبله، أشياء لا يجتمع عند غيره مثلها إلا من صارت إليه عنه فمن ذلك ابنة له لم تطلع الشمس على أحسن صورة منها، وفيلسوف يخبرك بمرادك قبل أن تسأله لحِدة مزاجه، وحسن قريحته، واعتدال بنيته، واتساعه في علمه، وطبيب لا تخشى معه داء، ولا شيئاً من العوارض، إلا ما يطرأ من الفناء والدثور الواقع بهذه البنية، وحل العقدة التي عقدها المبدع لها المخترع لهذا الجسمِ الحسي، وإن كانت بنية الإسنان وهيكله قد نصبت في هذا العالم غرضاَ للأفات والحتوف والبلايا، وقَدَح عندي إذا أنا ملأته شرب منه عسكرك بجمعه ولا ينقص منه شيء، ولا يزيده الوارد عليه إلا دهاقاً، وأنا مُنْفذٌ جميع ذلك إلى الملك، وصائر إليه، فلما قرأ الإِسكندر هذا الكتاب ووقف على ما فيه قال: تكون هذه الأشياء الأربعة عندي، ونجاة هذا الحكيم من صولتي أحب من أن لا تكون عندي ويهلك، فأنفذ إليه الِإسكندر جماعة من حكماء اليونانيين والروم. في عدة من الرجال، وتقدم إليهم: إن كان صادقاً فيما كتب به فاحملوا ذلك إلي، ودعوا الرجل في موضعه، وإن تبينتم أن الأمر بخلاف ذلك وأنه أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به فقد خرج عن حد الحكمة فأشخصوه إلي، فمضى القوم حتى انتهوا إلى الملك فتلقاهم بأحسن لقاء، وأنزلهم أحسن منزل، فلما كان في اليوم الثالث جلس لهم مجلساً خاصاً للحكماء منهم دون من كان معهم من المقاتلة، فقال بعض الحكماء لبعض: إن صدقنا في الأولى صدقنا فيما بعدها مما ذكر، فلما أخذت الحكماء مراتبها، واستقرت بها مجالسها، أقبل عليهم مباحثاً لهم في أصول الفلسفة والكلام في الطبيعيات وما فوقها من الإِلهيات، وعلى شماله جماعة من حكمائه وفلاسفته، فطال الخطب في المبدأ الأول، وتشاحّ القوم، ونظروا في موضوعات العلماء وترتيبات الحكماء على غير مراء وتناهى بهم الكلامُ إلى غاية كان إليها صدورهم من العلويات، ثم أخرج الجارية فلما ظهرت لأبصارهم رَمَقُوها بأعينهم فلم يقع طرف واحد منهم على عضو من أعضائها مما ظهر فأمكنه أن يتعدى ببصره إلى غيره، وشغله تأمل ذلك وحسنه وحسن شكلها وإتقان صورتها، فخاف القوم على عقولهم لما ورد عليهم عند النظر إليها، ثم إن كل واحد منهم رجع إلى نفسه وفهمه وقهر سلطان هواه دواعي طبعه، ثم أراهم بعد ذلك ما تقدم الوعد به، وسيرهم وسير الفيلسوف والطبيب والجارية والقدح معهم، وشيعهم مسافة من أرضه، فلما وردوا على الإِسكندر أمر بإنزال الطبيب والفيلسوف، ونظر إلى الجارية، فحار عند مشاهدتها، وبهرت عقله، وأمر قَيمَة جواريه بالقيام عليها، ثم صرف همته إلى الفيلسوف وإلى علم ما عنده، وإلى علم الطبيب ومحله من صنعة الطب وحفظ الصحة، وقص الحكماء عليه ما جرى لهم من المباحثة مع الملك الهندي، ومن أحضره من فلاسفته وحكمائه، فأعجبه ذلك، وتأمل أغراض القوم ومقاصدهم والغاية التي إليها كان أصدرهم، وأقبل ينظر إلى مطاردة الهند في عللها ومعلولاتها وما يصفه اليونانيون من عللها وصحة قياسها على ما قدمنا من أوضاعها، ثم أراد محنة الفيلسوف على حسب ما أخبر عنه، وأجال فكره، فسنح له سانح من الفكر بإيقاع معنى يختبره به، فدعا بقدح فملأه سمناً وأدهقه، ولم يجعل للزيادة عليه سبيلاً، ودفعه إلى رسول له، وقال له: امض به إلى الفيلسوف، ولا تخبره بشيء، فلما ورد الرسول بالقدح ودفعه إلى الفيلسوف قال بصحة فهمه وتبينه للأمور المتقنة المحكمة في نفسه: لأمرٍ ما بعث هذا الملك الحكيم بهذا السمن إلي، وأجال فكره، وسَبَر المراد  به، ثم دعا بنحو ألف إبرة فغرز أطرافها في السمن، وأنفذها إلى الِإسكندر، فأمر الِإسكندر بسبكها كرة مدورة ململمة متساوية الأجزاء، وأمر بردها إلى الفيلسوف، فلما نظر إليها الفيلسوف وتأمل فعل الإسكندر فيها أمر ببسطها، وبأن يتخذ منها مرآة بحضرته،. وصقَلَها، فصارت جسماً صقيلاً تردُّ صورة مَنْ قابلها من الأشخاص لشدة صفائها، وزوال الدرن عنها، وأمر بردها إلى الِإسكندر، فلما نظر إليها، وتأمل حسن صورته فيها، دعا بطست فجعل المرآة فيه، وأمر بإراقة الماء فيه عليها حتى رسبت فيه، وأمر بحمل ذلك إلى الفيلسوف، فلما نظر الفيلسوف إلى ذلك أمر بالمرآة فجعل منها مشربة كالطر جهارة، وجعلها في الطست فوق الماء، فطفت فوقه، وأمر بردها إلى الِإسكندر، فلما نظر الِإسكندر إلى ذلك أمر بتراب ناعم فملئت منه، وردها إلى الفيلسوف، فلما نظر الفيلسوف إلى ذلك تغيرلونه وحال، وجزع وتغيرت صفاته، وأسبل دموعه على صحن خده، وكثر شهيقه، وطال أنينه، وظهر حنينه، وأقام بقية يومه غير منتفع بنفسه، ثم أفاق من ذلك الحال، وزجر نفسه، وأقبل عليها كالمعاتب لها وقال: ويحك يا نفس ما الذي قذف بك في هذه السُّدْفة وأصارك إلى هذه الغمة، ووصلك بهذه الظلمة؟ أنسيت وأنت في النورتسرحين وفي العلوم تمرحين، وتنظرين في الضياء الصادق، وتنفسحين في العالم المشرق. أنزلت إلى عالم الظلم والمعاندة، والغشم والمفاسدة، تخطفك الخواطف، وتنتهرك العواصف، قد حرمت علم الغيوب، والكون في العالم المحبوب، ورميت بشدائد الخطوب، ورفضت كل مطلوب، أين مصادرك الطبية وراحتك القوية؟ حللت في الأجساد، فقوي عليك الكون والفساد، حللت يا نفس بين السباع القاتلة والأفاعي المهلكة، والمياه الحاملة والنيران المحرقة، والريح العاصفة، وصيرتك الأعمار في قرارات الأجسام، لا تشاهدين إلا غافلَاَ، ولا تَرَيْنَ إلا جاهلاً، قد زهد في الخيرات ورغب عن الحسنات، ثم رفع طرفه نحو السماء فرأى النجوم تزهر، فقال بأعلى صوته: يالك من نجوم سائرة، وأجسام زاهرة، من عالم شريف طلعت، ولشيء ما وضعت، إنك من عالم نفيس قد كانت النفس في أعاليه ساكنة، وفي أكنافه قاطنة، فقد أصبحت عنه ظاعنة، ثم أقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: خذه ورده إلى الملك، يعني التراب، ولم يحدث فيه حادثة، فلما ورد الرسول صلى الله عليه وسلم على الِإسكندر أخبره بجميع ما شهده، فتعجب الِإسكندر من ذلك، وعلم مرامي الفيلسوف ومقاصده وغاية مراده فيما وقع بالنفوس من النقلة مما علا من العوالم إلى هذا العالم.ولما كان في صبيحة تلك الليلة جلس له الِإسكندر جلوساً خاصاً،ودعا به، ولم يكن رآه قبل، ذلك، فلما أقبل ونظر إلى، صورته وتأمل، قامتهوخلقته، نظر إلى رجل طويل الجسم، رَحْب الجبين، معتدل البنية، فقال في نفسه: هذه بنية تضاد الحكمة، فإذا اجتمع حسن الصورة وحسن الفهم كان أوحَدَ زمانه، ولست أشك أن هذا الشخص قد اجتمع له الأمران جميعاً، فإن كان هذا الشخص قد علم كل ما راسلته به، وأجابني عليه من غير مخاطبة ولا موافقة ولا مباحثة، فليس في وقته أحد يدانيه في حكمته، ولا يلحقه في علمه، وتأمل الفيلسوف الإِسكندر فأدار أصبعه السبابة على وجهه، ووضعها على أرنبة أنفه، وأسرع نحو الإِسكندر وهو جالس على غير سرير ملكه، فحياه بتحية الملوك، فأشار إليه الِإسكندر بالجلوس، فجلس حيث أمره، فقال له الإسكندر: ما بالك حين نظرت إلي. ورميت بطرفك نحوي أدرت أصبعك حول وجهك ووضعتها على أرنبة أنفك. قال: تأملتك أيها الملك بنورية عقلي وصفاء مزاجي، فتبينت فكرتك في، وتأملك لصورتي، وأنها قلما تجتمع مع الحكمة، فإذا كان ذلك كان صاحبها أوحد أهل زمانه، فأعرت أصبعي مصداقاً لما سنح لك، وأريتك مثالاً شاهداً، كما أنه ليس في الوجه إلا أنف واحد فكذلك ليس في دار مملكة الهند غيري، ولا يلحق أحد من الناس بي في حكمتي، فقال له الِاسكندر: ما أحسن ما تأتىَّ لك ما ذكرت، وانتظم لك بحسن الخاطر ما وصفت، فدع عنك هذا، وأخبرني ما بالك حين أنفذت إليك قدحاً مملوءاً سمناً غرزت فيه إبراً ورددته إليَّ؟ قال الفيلسوف: علمت أيها الملك أنك تقول: إن قلبي قد أمتلأ وعلمي قد أنتهى كامتلاء هذا الِإناء من السمن، فليس لأحد من الحكماء فيه مستزاد، فأخبرت الملك أن علمي سيزيد في علمك، ويدخل فيه دخول هذه الِإبر في هذا الِإناء، قال: فأخبرني ما بالك حين عملت من الإِبر كرة وأنفذتها إليك صيرتها مرآة ورددتها إلي صقيلة، قال: قد علمت أيها الملك أنك تريد أن قلبك قد قسا من سفك الدماء والشغل بسياسة هذا العالم كقسوة هذه الكرة، فلا يقبل العلم، ولا يرغب في فهم الغايات في العلوم والحكمة، فأخبرتك مجيباً متمثلاَ بسبك الكرة والحيلة في أمرها بجعلي منها مرآة صقيلة مؤدية إلى الأجسام عند المقابلة لحسن الصفاء، قال له الإِسكندر: صدقت، قد أجبتني عن مرادي، فأخبرني أيها الفيلسوف حين جعلت المرآة في الطست ورسبت في الماء: لِمَ جعلتها قدحاً فوق الماء طافية ثم رددتها اٍليّ، قال الفيلسوف: علمت أنك تريد بذلك أن الأيام قد انقضت وقصرت، والأجل قد قرب، ولا يدرك العلم الكثير في المهل القليل، فأجبت الملك متمثلاً أني ساعمل الحيلة في إيراد العلم الكثير في المهل القليل إلى قلبه وتقريبه من فهمه، كاحتيالي للمرآة من بعد كونها راسبة في الماء حتى جعلتها طافية عليه، قال له الاسكندر: صدقت فأخبرني ما بالك حين ملأت الإِناء تراباً رددته إليّ ولم تحدث فيه حادثة كفعلك فيما سلف، قال: علمت أنك تقول: ثم الموت وأنه لا بد منه، ثم لحوق هذه البنية بهذا العنصر البارد اليابس الثقيل الذي هو الأرض، ودثورها وتفرق أجزائها ومفارقة النفس الناطقة الصافية الشريفة اللطيفة لهذا الجسد المرئي، قال لهالإسكندر: صدقت، ولأحسنن إلى الهند من أجلك، وأمر له بجوائز كثيرة، وأقطعه قطائع واسعة، فقال له الفيلسوف: لو أحببتُ المار لما أردت العلم، ولست أدخل على علمي ما يضاده وينافيه، واعلم أيها الملك أن القنية توجب الخدمة، ولسنا نجد عاقلًا مَنْ خدم غير ذاته، واستعمل غير ما يصلح نفسه، والذي يصلح النفس الفلسفة، وهي صقالها وغذاؤها، وتناول اللذات الحيوانية وغيرها من الموجودات ضد لها، والحكمة سبيل إلى العلو، وسُلم إليه، ومن عدم ذلك عدم القربة من بارئه، واعلم أيها الملك أن بالعدل ركب جميع العالم بجزئياته، ولايقوم بالجور، والعدل ميزان البارىء جلّ وعز، فكذلك حكمته مبرأة عن كل ميل وزلل، وأشبه الأشياء من أفعال الناس بأفعال بارئهم الِإحسان إلى الناس، وقد ملكت أيها الملك بسيفك، وصولة ملكك، وتأتّيك في أمورك، وانتظام سياستك أجسام رعيتك فتَحَرَّ أن تملك قلوبهم بإحسانك إليهم، وإنصافك لهم، وعدلك فيهم، فهي خزانة سلطانك، فإنك إن قدرت أن تقول قدرت أن تفعل، فاحترز من أن تقول تأمن من أن تفعل، فالملك السعيد من تمت له رياسة أيامه، والملك الشقي من انقطعت عنه، فمن تحرى في سيرته العدل استنار قلبه بعذوبة الطهارة.قال المسعودي رحمه اللّه: وخلّى الِإسكَندر عن الفيلسوفِ لإبائه المقام معه فلحق بأرضه، وللِاسكندر مع هذا الفيلسوف مناظرات كثيرة في أنوع من العلوم، ومكاتبات، ومراسلات، جرت بين الِإسكندر وبين كند ملك الهند، قد أتينا على مبسوطها والغرر من معانيها والزُّهْر من عيونها في كتابنا أخبار الزمان.وأما القَدَحُ فامتحنه حين أدهقه بالماء، وأورد عليه الناس، فلم ينقص شربهم منه شيئاً، وكان معمولاً بضرب من خواص الهند والروحانية والطبائع التأمة والتوهم، وغير ذلك من العلم مما يَدَّعيه الهند، وقد قيل: إنه كان لآدم أبي البشر عليه السلام بأرض سرنديب من بلاد الهند مبارك له فيه، فوُرِثَ عنه، وتداولته الملوك، إلى أن انتهى إلى كند هذا الملك العظيم سلطانه، وما كان عليه من الحكمة، وقيل غير ذلك من الوجوه، مما قد أتينا على ذكره فيما سلف من كتبنا.وللطبيب معه أخبار ظريفة، ومناظرات عجيبة، في أوائل المعرفة وصنعة الطب وترقيه معه إلى مبسوط الصنعة من الطبيعيات وغيرها، أعرضنا عن ذكرها خوفاً من الِإطالة وميلاً إلى الاختصار في هذا الكتاب لتعلق الكلام بالتوهم الذي تدعيه الهند في صنعة الطب وغيرها.وقد كان للِاسكندر في أسفاره وتوسطه الممالك وقطعه الأقاليم ومشاهدته الأمم، وملاقاته الحكماء مع تنائي ديارهم، وبعد أوطانهم، واختلاف لغاتهم، وعجائب صورهم، وتباينهم في شيمهم وأخلاقهم أخبار كثيرة من حروب ومكايد وحيل وفنون من السير، وما أحدث من الأبنية، وقد أتينا على شرح ذلك فيما سلف من كتبنا مما سمينا، وغير ذلك مما عن وصفه أمسكنا، وإنما ذكرنا اليسير من أخباره، لئلا يَعْرَى كتابنا هدا من شيء منها مع ذكرنا لمسيره ووفاته، وباللّه التوفيق.

ذكر ملوك اليونانيين بعد الاسكندر

بطليموس

ثم ملك بعد الِاسكندر الملك خليفتُه بطليموس وكان حكيماً عالماً سائساً مدبراً، وكان ملكه أربعين سنة، وقيل: بل كان ملكه عشرين سنة، وقد كان لهذا الملك وهو التالي لملك الِاسكندر حروب مع بني إسرائيل وغيرهم من ملوك الشام.

اللعب بالبزاة والشواهين

وذكر جماعة من أهل الدرايات بأخبار ملوك العالم أنه أول من اقتنى البُزَاة ولعب بها وَضَراها، وأنه ركب في بعض الأيام في طربه إلى بعض متنزهاته فنظر إلى بازٍ يطير، فرآه إذا علا صفق، وإذا سفل خفق، وإذا أراد أن يستوي فرق، فأتبعه بصره حتى اقتحم شجرة ملتفة كثيرة الشوك، فتأمله فأعجبه صفاء عينيه وصفرتها وكمال خلقه، فقال: هذا طائر حسن، وله سلاح وينبغي أن تتزين به الملوك في مجالسها، فأمر أن يجمع منها عدة لتكون في مجلسه زينته، فعرض لبازٍ منها أيْمٌ، وهو الحية الذكر، فوثب عليه البازي فقتله، فقال الملك: هذا ملك يغضب مما تغضب منه الملوك، ثم عرض له بعد أيام ثعلب كان داجناً، فوثب عليه البازي فما أفلت إلا جريحاً، فقال الملك: هذا ملك جبار لا يحتمل الضيم، ثم مر به طائر فوثب عليه فأكله، فقال الملك: هذا ملك يمنع حماه ولا يضيع أكله، فلعب بها ثم لعب بعده ملوك الأمم من اليونانيين والروم والعرب والعجم وغيرهم، وثني مَنْ بعده من ملوك الروم بلعب الشواهين والاصطياد بها، وقد قيل: إن اللَّذَارقة وهم ملوك الأندلس من الأشبان أول من لعب بالشواهين وصاد بها، وكذلك اليونانيون أول من صاد بالعقبان ولعب بها، وقد ذكر أن ملوك الروم أول من صاد بالعقبان.قال المسعودي: وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا لجبل القبخ والباب والأبواب جملاً من أخبارها وأخبار من لعب بها، وقد كان من سلف من حكماء اليونانيين يقولون: إن الجوارح أجناس، خلقها اللّه تعالى وأنشأها على منازلها ودرجاتها، وهي: أربعة أجناس، وثلاثة عشر شكلَاَ، فأما الأجناس الأربعة فهي: البازي، والشاهين، والصقر، والعقاب، وقد ذكرنا هذه الأجناس والأشكال على طريق الخبر في الكتاب الأوسط على مراتبها من سائر أنواع الحيوان الجوارح، ودلائلها، وما قاله الناس في ذلك.

هيفلوس

ثم ملك بعد بطليموس هيفلوس وكان رجلًا جباراً، وفي أيامه عملت الطَّلسْمَات وظهرت عبادة التماثيل والأصنام لشُبَه دخلت عليهم، وأنها وسائط بينهم وبين خالقهم تقربهم إليه وتُدْنيهم منه، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة، وقيل: أربعين سنة. وقد قيل: إن الذيىتملك بعد خليفة الِإسكندر بطليموس الثاني،محب الأخ، وغزا بني إسرائيل ببلاد فلسطين وإيليا من أرض الشام، فسباهم، وقتل منهم، وطلب العلوم، ثم رد بني إسرائيل إلى فلسطين، وحمل معهم الجواهر والأموال، وآلات الذهب والفضة لهيكل بيت المقدس، وكان ملك الشام يومئذ أبطنجنس، وهو الذي بني مدينة أنطاكية، وكانت دار ملكه، وجعل بناء سورها أحد عجائب العالم في البناء على السهل والجبل، ومسافة السور أثنا عشر ميلاً، عدة الأبراج فيه مائة وستة وثلاثون برجاً، وجعل عدد شُرُفاته أربعة وعشرين ألف شرفة، وجعل كل برج من الأبراج ينزله بطريق برجاله وخيله، وجعل كل برج منها طبقات إلى أعلاه، فمربط الخيل في أسفله، وأرضه، والرجال في طبقاته والبطريق في أعلاه، وجعل كلى برج منها كالحصن عليه أبواب حديد، وآثار الأبواب ومواضع الحديد بَيِّن إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلائين وثلثمائة وأظهر فيها مياهاً من أعين وغيرها، لا سبيل إلى قطعها من خارجها، وجعل إليها مياهاً منصبة في قنيٍّ مخرقة إلى شوارعها ودورها، ورأيت فيها من هذه المياه ما يستحجر في مجاريها المعمولة من الخزف لترادف التقن فيها فيتراكم طبقات ويمنع الماء من الجريان بانسداده، فلا يعمل الحديد في كسره، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا المترجم بالقضايا والتجارب ما شاهدناه حساً، ونمي إلينا خبراً، مما يولده ماء أنطاكية في أجساد الحيوان الناطق وأجوافهم، وما يحدث في معدهم، من الرياح السوداوية الباردة والقولنجية الغليظة، وقد أراد الرشيد سكناها فقيل له بعض ما ذكرنا من أوصافها، وترادف الصدأ على السلاخ من السيوف وغيرها بهأ، وعدم بقاء ريح أنواع الطيب بها، واستحالته على اختلاف أنواعه فامتنع من سكناها.

جماعة من ملوك اليونانيين

ثم ملك على اليونانيين بعد هيفلوس بطليموس الصانع، ستاً وعشرين سنة.


ثم ملك بعده عليهم بطليموس المعروف بمحب الأب، تسع عشرة سنة وكانت له حروب مع ملوك الشام، وصاحب أنطاكية الِاسكندروس وهو الذي بني مدينة فامية بين حمص وأنطاكية. ثم ملك بعده على اليونانيين بطليموس صاحب علل علم الفلك والنجوم، وكتاب المجسطي وغيره، أربعأ وعشرين سنة.

ثم ملك بعده بطليموس محب الأم، خمساً وثلاثين سنة ثم ملك بعده بطليموس الصانع الثاني سبعاً وعشرين سنة.

ثم ملك بعده بطليموس المخلص، سبع عشرة سنة.

ثم ملك بعده بطليموس الاسكندراني، اثنتي عشرة سنة.

ثم ملك بعده بطليموس الجديد، ثمان سنين.

ثم ملك بعده بطليموس الجَوّال، ثمانياً وستين سنة، وكانت له حروب كثيرة.

ثم ملك بعده بطليموس الحديث، ثلاثين سنة.

كليوباترا

ثم ملكت بعد ابنته قلبطرة وكان ملكها اثنتين وعشرين سنة وكانت حكيمة متفلسفة، مقربة للعلماءمعظمة للحكماءولها كتب مصنفة في الطب والرُّقْيَة وغير ذلك من الحكمة، مترجمة باسمها، منسوب إليها، معروفة عند صنعة أهل الطب وهذه الملكة آخر ملوك اليونانيين إلى أن انقضى ملكهم وَدَثَرَت أيامهم، وامَّحَت آثارهم، وزالت علومهم إلا ما بقي في أيدي حكمائهم، وقد كان لهذه الملكة خبر ظريف في موتها وقتلها لنفسها، وقد كان لها زوج يُقال له أنطونيوس مشارك لها في ملك مقدونية، وهي بلاد مصر من الِاسكندرية وغيرها، فسار إليهم الثاني من ملوك الروم، من بلاد رومية، وهو أغسمطس، وهو أول من سمي قيصر وإليه تنسب القياصرة بعده، وسنذكر خبره في باب ملوك الروم بعد هذ الموضع، وكانت له حروب بالشام ومصر مع قلبطرة الملكة ومع زوجها أنطونيوس، إلى أن قتله، ولم يكن لقلبطرة في دفع أغسطس ملك الروم عن ملك مصر حيلة، وأراد أغسطس إعمال الحيلة فيها لعلمه بحكمتها. وليتعلم منها إذ كانت بقية الحكماء اليونانيين، ثم بعدها يقتلها، فراسلها. وعلمت مراده فيها وما قد وتَرَها به من قتل زوجها وجنودها، فطلبت الحية التي تكون بين الحجاز ومصر والشام وهي نوع من الحيات: تراعي الِإنسان، حتى إذا تمكنت من النظر إلى عضو من أعضائه قفزت أذرعاً كثيرة كالرمح فلم تخطىء ذلك العضو بعينه، حتى تتفل عليه سماً فتأتي عليه، ولا يعلم بها، لخموده من فوره، ويتوهم الناس أنه قدمات فجأة حتف أنفه، ورأيت نوعاً من هذه الحيات بين بلاد خوزستان من كور الأهواز لمن أراد بلاد فارس من البصرة، وهوالموضع المعروف بخان مردوية بين مدينة دورق وبلاد الباسيِان والفندم في الماء، وهي حيات شبرية، وتدعى هنالك الفترية، ذات رأسين تكون في الرمل وفي جوف تراب الأرض، فإذأ أحست بالِإنسان أو غيره من الحيوان وثبت من موضعها أذرعاً كثيرة فضربت بإحدى رأسيها إلى أي موضع من ذلك الحيوان، فتلحقه من ساعته ضد الحياة وعدمها لحينه، فبعثت قلبطرة هذه الملكة فاحتمل لها حية من هذه المقدم ذكرها التي توجد بأطراف الحجاز، فلما أن كان اليوم الذي علمت أن أغسطس يدخل قصر ملكها أمرت بعض جواريها ومن أحبّتْ فنَاءها قلَبلها، وأن لا يلحقها العذابُ بعدها، فسمتها في إنائها فخمدت من فورها، ثم جلست قلبطرة الملكة على سرير ملكها، ووضعت تاجها على رأسها، وعليها ثيابها وزينة ملكها، وجعلت أنواع الرياجن والزهر والفاكهة والطيب وما يجتمع بمصر من عجائب الرياحين وغيرها مما ذكرنا، مبسوطة في مجلسها وقدَّام سريرها، وعهدت بما أحتاجت إليه من أمورها، وفرقت حشمها من حولها، فاشتغلوا بأنفسهم عن ملكتهم، لما قد غشيهم من عدوهم ودخوله عليهم في دارملكهم، وأدنت يدها من الِإناء الزجاج الذي كانت فيه الحية، فقربت يدها من فيه فتفلت عليها الحية، فجفت مكانها، وانسابت الحية وخرجت من الِإناء لم تجد جُحْراً ولا مذهباً تذهب فيه لِإتقان تلك المجالس بالرخام والمرمرو الأصباغ، فدخلت في تلك الرياحين، ودخل أغسطس حتى انتهى إلى لمجلس، فنظر إليها جالسة والتاج على رأسها، فلم يشك في أنها تنطق، فدنا منها فتبين له أنها ميتة، وأعجب بتلك الرياحين، فمد يده إلى كل نوع منها يلمسه ويتبينه ويعجب خواص من معه به، ولم يدرسبب موتها وهو يتأسف على ما فاته منها فبينما هو كذلك من تناول تلك الرياحين وشمها إذ قفزت عليه تلك الحية فرمته بسمها، فيبس شقه الأيمن من ساعته، وذهب بصره الأيمن وسمعه، فتعجب من فعلها وقتلها لنفسها وإيثارها للموت على الحياة مع الذل، ثم ما كادته به من إلقاء الحية بين الرياحين، فقال في ذلك شعراً بالرومية يذكر حاله وما نزل به وقصتها، وأقام بعد ما نزل به ما ذكرنا يوماً وهلك، ولولا أن الحية كانت قد أفرغت سمها على الجارية ثم على قلبطرة الملكة لكان أغسطس قد هلك من ساعته، ولم تمهله هذه المدة، وهذا الشعر معروف عند الروم إلى هذه الغاية يذكرونه في نوحهم ويَرْثُوَن به ملوكهم وموتاهم، وربما ذكروه في أغانيهم، وهو متعالم معروف عندهم، وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا سير هؤلاء الملوك وأخبارهم وحروبهم وطوافهم البلاد، وأخبار حكمائهم، وما أحدثوه من الآرَاء والنحل، ومقائل فلاسفتهم، وغير ذلك من أسرارهم وعجيب أخبارهم.

عدد ملوك اليونانيين ومدة حكمَهم

والذي يعول عليه من عدد ملوكهم، واتفق على ذلك أهل المعرفة بأخبارهم، أن جميع عدد ملوك اليونانيين أربعة عشر ملكاً آخرهم الملكة قلبطرة، وأن جميع عدد سني ملوكهم ومدة أيامهم وامتداد سلطانهم ثلثمائة سنة وسنة واحدة، وكان كل ملك يملك على اليونانيين من بعد الِاسكندر ابن فيلبس يسمى بطليموس، وهذا الاسم الأعم الشامل لملكهم، كتسمية ملوك الفرس كسرى، وتسمية ملوك الروم قيصر، وتسمية ملوك اليمن تبع، وتسمية ملوك الحبشة النجاشي، وتسمية ملوك الزنج فليمي، وقد ذكرت جملاً من مراتب ملوك العالم وسماتهم واسمهم الأعم الشامل لهم فيما سلف من كتابنا هذا، وسنورد بعد هذا الموضع في الموضع المستحق له من هذا الكتاب جملًا عند ذكرنا الملوك والممالك إن شاء الله تعالى.