قال المسعودي: ذكَرَ الله جل ثناؤه مصر في مواضع من كتابه، فقال عز وجل: "وقال الذي اشتراهُ مِنْ مِصْر" وقال "أدْخُلُوا مِصْرَ إنْ شاءَ الله آمِنِينَ " وقال تعالى: " وَأوْحَيْنَا إلى مُوسى وأخيه أن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمصر بُيُوتا" وقال: "اهْبطُوا مِصراً فإنَّ لكُمْ مَا سَألْتُمْ" وقال تعالى: "وقال نِسْوةٌ في المدِينَةِ امرأةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فتَاهَا عَنْ نَفسِه".
ووصف بعض الحكماء مصر فقال: ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاث أشهر مسكة سوداء، وثلاثة أشهر زمردة خضراء، وثلاثة أشْهُر سبيكة ذهب حمراء فأما اللؤلؤة البيضاء فإن مصر في شهر أبيب- وهو تموز- ومِسري- وهو آب- وتوت- وهو أيلول- يركبها الماء فترى الدنيا بيضاء، وضِيَاعها على رَاوَبِيَ وتلال مثل الكواكب، قد أحاطت المياه بها من كل وجه، فلا سبيل لبعض البلاد إلى بعض إلا في الزوارق، وأما المسكة السوداء فأن في شهر بابه- وهو تشرين الأول- وهاتور- وهو تشرين الثاني، وكيهك- وهو كانون الأول- ينكشف الماء عنها، وينضب عن أرضها فتصير أرضاً سوداء، وفيها تقع الزراعات، وللأرض روائح طيبة تشبه روائح المسك، وأما الزمردة الخضراء، فإن في شهر طوبة- وهو كانون الثاني- وأمشير- وهو شباط- وبرمهات- وهو آذار- تلمع ويكثر عشبها ونباتها؟ فتصير كألزمردة الخضراء وأما السبيكة الحمراء فإن في شهر برمودة- وهو نيسان- وبشنس- وهو أيَّارُ- وبؤونة- وهو حزيران- يبيضُ الزرع، ويتورد العشب، فهو كسبيكة الذهب منظراً ومنفعة.
وسنذكر هذه الشهور بالسريانية والعربية والفارسية، ونسمىِ كل شهر منها بعد هذا الموضع من هذا الكتاب، وإن كنا قد أتينا على جميع ذلك في الكتاب الأوسط.
ووصف آخَرُ مصر فقال: نيلها عجب، وأرضها ذهب، وخيرها جَلَب وملكها لمن سلب، ومالها رغب، وفي أهلها صَخَب، وطاعتهم رَهَب، وسلامهم شغب، وحروبهم حَرب، وهي لمن غلب.
ونهرها النيل من سادات الأنهار، وأشراف البحار؟ لأنه يخرج من الجنة على حسب ما ورد به خبر الشريعة إن النيل وسيحان، وهو نهر أدبه من الثغر الشامي، ويصب إلى البحر الرومي، ومخرجه على ثلاثة أيام من ملطية، ويجري في بلاد الروم، وليس للمسلمين عليه إلا مدينة أذنة بين طرسوس والمصيصة، وجيحان، ومخرجه من عيون تعرف بعيون جيحان على ثلاثة أيام من مدينة مرعش، ويطرح إلى البحر الرومي، فليس للمسلمين عليه من المدن إلا المصيصة وكفربيا، ومجراه بينهما، والفرات وقد قدمنا الأخبار عنه وعن النيل ومبدئهما ومقدار جريانهما على وجه الأرض ومصبهما، فيما سلف من هذا الكتاب، وأنه يخرج من الجنة، وكذلك الدجلة وغيرها مما اشتهر من الأنهار الكبار.
وقد قالت العرب في النيل: إنه إذا زاد غاضت له الأنهار والأعين والأبار، وإذا غاض زادت؟ فزياداتها من غَيْضه، وغيضهُ من زياداتها.
قال البسري : يغيض إن زاعت له الأنهار في الأرض ذات العرض والمقدار وقالت الهند: زيادته ونقصانه بالسيول، ونحن نعرف ذلك بتوالى الأنواء وكثرة الأمطار، وركود السحاب.
وقالت الروم: لم يزد قط ولم ينقص، وءإنما زيادته ونقصانه من عيون كثرت واتصلت.
وقالت القبط: زيادته ونقصانه من عيون في شاطئه، يراها مَنْ سافر ولحق بأعاليه.
وقيل: لم يزد قط، وإنما زيادته بريح الشمال إذا كثرت واتصلت به، فتحبسه، فيفيض على وجه الأرض.
وقد ذكرنا التنازع في النيل وزيادته ممن سلف وخلف، على الشرح والإيضاح، وغيره من الأنهار الكبار والبحار والبحيرات الصغار، في كتاب أخبار الزمان في الفن الثاني، فأغنى ذلك عن إعادتها في هذا الكتاب.
ومصر من سادات القُرَى، ورؤساء المدن، قال الله تعالى: حاكياً عن فرعون:" أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تُبصرُون " وقال عزّ وجل حاكياً عن يوسف عليه السلام: " اجعلني على خزائن الأرضِ، إني حفيظ عليم " وهي مصر، وليس في أنهار الدنيا نهر يسمى بحراَ ويَمّاً غير نيل مصر لكبره واستبحاره، وقد قدمنا فيما سلف من كتبنا الخبر عن جبل القمر الذي بَدْء النيل منه، وما يظهر من تأثير القمر فيه عند زيادته ونقصانه من النور والظلام في البدر والمحاق . وقد روي عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: " فإن لم يصبها وابل فطل "، قال: هي مصر، إن لم يصبها وابل زَكَتْ، وإن أصابها مطر ضعفت، وقال بعض الشعراء يصف مصر ونيلها: مصر، ومصْر شأنها عجيب ونيلها تجري به الجنوب وهي مصر، واسمها كمعناها، وعلى اسمها سميت الأمصار، ومنه اشتق هذا الاسم عند علماء البصريين، وقد قال عمرو بن معد يكرب:
ما النَيل أصبح زاخراً بـمـدوده |
|
وجرت له ريح الصًبَا فجرى لها |
عّودْتَ كندة عادة مـجـمـوعة |
|
فاصبر لجاهلها وَرَوِّسِجَالَـهَـا |
قال االمسعودي: ويبتدئ نيل مصر بالتنفس والزيادة بقية بؤونة- وهو حزيران- وأبيب- وهو تموز- ومسرى- وهو آب- فإذا كان الماء زائداً زاد شهر توت كله- وهو أيلول- إلى انقضائه، فإذا انتهت الزيادة إلى ست عشرة فراعاً، ففيه تمام الخراج، وخصب الأرض، ورَيْع للبلد عام، وهو ضار للبهائم لعدم المرعى والكل، وأتم الزيادات كلها العامة النفع للبلد كله سبع عشرة فراعاً، وفي ذلك كفايتها، وَرَفيُ جميع أراضيها، وإذا زاد على السبع عشرة وبلغ ثمان عشرة فراعاً وغلقها استبحر من أرض مصر الربع، وفي ذلك ضرر لبعض الضياع، لما ذكرنا من وجه الاستبحار وغير ذلك، وإن كانت الزيادة ثمان عشرة فراعاً كانت العاقبة في انصرافه حدوث وباء بمصر، وأكثر الزيادات ثمان عشرة فراعاً، وقد كان النيل بلغ في زيادته تسع عشرة فراعاً، وذلك سنة تسع وتسعين في خلافة عمر بز عبد العزيز، ومساحة. الفراعِ إلى أن تبلغ اثني عشر فراعاً ثمان وعشرون أصبعاً، ومن اثني عشر فراعاَ وما فوق يصير الفراع أربعاً وعشرين أصبعاً، وأقل ما يبقى في قاع المقياس من الماء ثلاثة أفرع، وفي مثل تلك السنة يكون الماء قليلاً، والأفرُعُ التي يستسقي عليها بمصر هي فراعان تسميان منكراً ونكيراً، وهي الفراع الثالث عشر، والفراع الرابع عشر، فإذ انصرف الماء عن هاتين الفراعين- أعني ثلاث عشرة وأربع عشرة- وزيادة نصف ذراع من الخمس عشرة، استسقى الناس بمصر، وكان الضرر شاملاً لكل البلدان، إلا أن يأذن اللّه عز وجل في زيادة الماء، وإذا تم خمس عشرة ودخل في ست عشرة ذراعاً كان فيه صلاح لبعض الناس، ولا يستسقي فيه، وكان ذلك نقصاً من خراج السلطان، والترع التي بَغيْضة مصر أربع أمهات؟ أسماؤها: ترعة ذنب التمساح، وترعة بلقينة، وخليج سردوس، وخليج ذات الساحل، وتفتح هذه الترع إذا كان الماء زائداً في عيد الصليب، وهو لأربع عشرة تخلو من توت وهو أيلول، وقد قدمنا خبر تسمية هذا اليوم بعيد الصليب فيما سلف من هذا الكتاب، والنبيذ الشيراري يتخذ بمصر من ماء طوبة، وهو كانون الآخر، بعد الغطاس، وهو لعشرة تمضي من طوبة، وأصفى ما يكون النيل في ذلك الوقت، وأهل مصر يفتخرون بصفاء النيل في هذا الوقت، وفيه تختزن المياه أهل تنيس ودمياط وبونة وسائر قرى البحيره.
ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها، لا ينام الناس- فيها، وهي ليلة إحدى عشرة تمضي من طوبة وستة من كانون الثاني.
ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلثمائة ليلة الغطاس بمصر، والإخشيد محمد بن ظغج في داره المعروفة بالمختارة في الجزيرة الراكبة للنيل والنيل يطيف بها، وقد أمر فأسرج من جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع، وقد حضر النيل في تلك الليلة مئو آلاف من الناس من المسلمين والنصارى، منهم في الزوارق، ومنهم في الدور الدانية من النيل، ومنهم على الشطوط، لايتنا كرون الحضور، ويُحْضِرون كل ما يمكنهم إظهاره من المأكل والمشارب والملابس وآلات الذهب والفضة والجواهر والملاهي والعزف والقصف، وهي أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سروراً، ولا تغلق فيها الدروب، ويغطس أكثرهم في النيل، ويزعمون أن ذلك أمان من المرض ومبرئ للداء.
قال االمسعودي: وأما المقاييس الموضوعة بمصر لمعرفة زيادة النيل ونقصانه فإني سمعت جماعة من أهل الخبرة يخبرون أن يوسف النبي صلى الله عليه وسلم، حين بنى الأهرام، اتخذ مقياساً لمعرفة زيادة النيل ونقصانه، وأن ذلك كان بمنف، ولم يكن الفسطاط يومئذ، وأن دلوكة الملكة العجوز وضعت مقياساً بأقصى الصعيد، ووضعت أيضاً مقياساً آخر ببلاد إخميم، فهذه المقاييس الموضوعة قبل مجيء الإسلام، ثم ورد الإسلام، وافتتحت مصر، وكانوا يعرفون زيادة النيل بما ذكرنا ونقصانه بما وصفنا، إلى أن ولي عبد العزيز بن مروان، فاتخذ مقياساً بحلوان، وهو صغير الذراع، وحلوان فوق الفسطاط، ثم اتخذ اسأمه بن زيد التنوخي مقياساً بالجزيرة التي تدعى جزيرة الصناعة، وهي الجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة، والمَعْبَر عليها من الفسطاط على الجسر، ثم منها على جسر آخر إلى الجيزة، وهو الجانب الغربي، لأن الفسطاط من الجانب الشرقي، وهذا المقياس الذي أتخذه اسأمه بن زيد التنوخي هو أكثرها استعمالا، واتخذ ذلك في أيام سليمان بن عبد الملك بن مر وأن، وهو المقياس الذي يعمل عليه في وقتنا هذا- وهو سنة اثنتِن وثلاثين وثلثمائة- بالفسطاط، وقد كان مَنْ سلف يقيسون بالمقياس الذي بمنف، ثم ترك استعماله، وعملى على مقياس الجزيرة المعمول في أيام سليمان بن عبد الملك، وفي هذه الجزيرة مقياس آخر لأحمد بن طولون، والعمل عليه عند كثرة الماء، وترادف الرياح، واختلاف مَهَابها، وكثرة الموج، وِقد كانت أرض مصر كلها تروي من ست عشرة ذراع اً عامرها وغامرها، لما أحكموا من جسورها، وبناء قناطرها، وتنقية خلجانها، وكان بمصر سبع خلجانات: فمنها خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج سرعوس، وخليج المنهي.
وكانت مصر فيما يذكر أهل الخبرة أكثر البلاد جناناً، وذلك أن جنانها كانت متصلة بحافتي النيل من أوله إلى آخره، من حد أسوان إلى رشيد، وكان الماء إذا بلغ في زيادته تسعة أفرع دخل خليج المنهي وخليج الفيوم وخليج سرعوس وخليج سخا، وكان الذي ولي حفر خليج سردوس لفرعون عدو اللّه هامان، فلما ابتدأ في حَفره أتاه أهل القرى يسألونه أن يُجْري الخليج إلى تحت قراهم، ويعطوه على ذلك ما أراد من المال، وكان يعمل ذلك حتى اجتمعت له أموال عظيمة، فحمل تلك الأموال إلى فرعون، فلما وضعها بين يديه سأله عنها فأخبره بما فعل، فقال فرعون: إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عبيدة، ويفيض عليهم معروفه، ولا يرغب فيما في أيديهم، ونحن أحق مَنْ فعل هذا بعبيده، فاردد على أهل كل قرية ما أخذته منهم، ففعل ذلك هامان، ورد على أهل كل قرية ما أخذ منهم، فليس في الخلجان التي بأرض مصر أكثر عطوفاً وعزاقيل من خليج سردوس، وأما خليج الفيوم، وخليج المنهي فإن الذي حفرهما يوسف بن يعقوب صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الريان بن الوليد ملك مصر لما رأى رؤياه في البقر والسنابل وعبَرَها يوسف عليه السلام استعمله على ما كان يلي من أرض مصر، وقد أخبر الله بذلك عند إخباره عن نبيه يوسف بقوله "اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم " .
قال المسعودي: وقد تنازع أهل الملة في تصرف المؤمنين مع الفاسقين: فمنهم من رأى أن الملك كان مؤمناً، ولولا ذلك ما وسع يوسف معاونة الكفار والتصرف في أوامرهم ونواهيهم، ومنهم من رأى أن ذلك جائز عَلَى ما توجبه أحوال الوقت والأصلح للحال، وقد ذكرنا قول كل فريق من هؤلاء في كتابنا في المقالات في أصول الديانات.
وأما أخبار الفيوم من صعيد مصر وخلجانها من المرتفع والمطاطي ومطاطي المطاطي، وهذه عبارة أهل مصر يريدون بذلك المنخفض، وكيفية فعل يوسف فيها وعمارته أرضها بعد كونها خرِبة ومصفاة لمياه الصعيد، وهى جزيرة قد أحاط الماء حينئذ لأكثر أقطارها، فقد أتيتا على، ذلك في الكتاب الأوسط فأغنى عن إعادته في هذا الكتاب، وكذلك في تسمية الفيوم فيوماً، وأن ذلك ألف يوم، وما كان من خبر يوسف مع الوزراء وحسدهم إياه. وقد كانت مصر- على ما زعم أهل الخبرة والعناية بأخبار شأن هذا العالم- يركب أرضَهَا ماء وينبسط على بلاد الصعيد إلى أسفل الأرض، وموضع الفسطاط في وقتنا هذا، وقد كان بدء ذلك من موضع يعرف بالجنادل بين أسوان والحبشة وقد قدمنا ذكر هذا الموضع فيما سلف من هذا الكتاب، إلى أن عرض لذلك موانع من انتقال الماء وجريانه، وما ينقل من التربة بتيَّاره من موضع إلى موضع فيصب من بعض المواضع من بلاد مصر على حسب ما وصفنا عن صاحب المنطق في عمران الأرض وخرابها فيما سلف من هذا الكتاب، فسكن الناس بلاد فصر، ولم يزل الماء ينصب عن أرضها قليلاً قليلاً حتى امتلأت أرض مصر من المدن والعمائر، وطرقوا للماء، وحَفروا له الخلجانات، وعقدوا في وجهه المسنّاة، إلا أن ذلك خفي على ساكنيها، لأن طول الزمان أذهب معرفة أول سكناهم كيف كان ذلك، ولم نتعرض في هذا الكتاب لذكر العلة الموجبة لامتناع المطر بمصر ولا لكثير من أخبار الإسكندرية وكيفية بنائها، والأمم التي تداولتها والملوك التي سكنتها من العرب وغيرهم؟ لأنا قد أتينا على ذلك في الكتاب الأوسط، وسنذكر بعد هذا الموضع جملاً من أخبارها، وجوامع من كيفية بنائها، وما كان من أمر الإسكندر فيها.
قال المسعودي: وقد كان أحمد بن طولون بمصر بَلَغَه في سنة نيف وستين ومائتين أن رجلًا بأعالي بلاد مصر من أرض الصعيد له ثلاثون ومائة سنة من الأقباط، ممن يشار إليه بالعلم من لدن حداثته، والنظر والِإشراف على الآراء والنحل من مذاهب المتفلسفين وغيرهم من أهل الملل، وأنه علامة بمصر وأرضها من برها وبحرها وأخبارها وأخبار ملوكها، وأنه ممن سافر في الأرض، وتوشَطَ الممالك، وشاهد الأمم من أنواع البيضان والسودان، وأنه ذو معرفة بهيئات الأفلاك والنجوم وأحكامها، فبعث أحمد بن طولون برجل من قواده في أصحابه، فحمله في النيل إليه مكرماً، وكان قد انفرد عن الناس في بنيان اتخذه، وسكن في أعلاه، وقد رأى الولد الرابع عشر من ولد ولده، فلما مثل بحضرة أحمد بن طولون نظر إلى رجل دلائلُ الهرم فيه بينة، وشواهد ما أتي من الدهر ظاهرة، والحواسُّ سليمة والقضية قائمة، والعقل صحيح، يفهم عن مخاطبة، ويحسن البيان والجواب عن نفسه، فأسكنه بعض مقاصيره، ومَهَّد له، وحمل إليه لذيذ المآكل والمشارب، فأبى أن يتواطأ على شيء، وأن يتغذى إلا بغذاء كان حمله معه من كعك وغيره، وقال: هذه بِنْية قوامُهَا بما ترون من هذا الغذاء، وهذا الملبس، فإن أنتم سُمْتُمُوها النقلة عن هذه العادة وتناول ما أوردتموه عليها من المآكل والمشارب والملابس كان ذلك سبب انحلال هذه البِنْيَة، وتفريق هذه الصورة، فترك على ما كان عليه، وما جرت به عادته، وأحضر له أحمد بن طولون من حضره من أهل الحراية، وصرف همته عليه، وأخلى نفسه له في ليال وأيام كثيرة، يسمع كلامه وإيراداته وجواباته فيما يسأل عنه، فكان مما سئل عنه الخبر عن بحيرة تنيس ودمياط، فقال: كانت أرضاً لمِ يكن بمصر مثلها استواء وطيب تربة وثراوة، وكانت جناناً ونخلاً وكرماَ وشجراً ومزارع، وكانت فيها مجارٍ على ارتفاعٍ من الأرض وقرى على قرارها، ولم ير الناس بلداً كان أحسن من هذه الأرض، ولا أحسن اتصالاً من جنانها وكرومها، ولم يكن بمصر كورة يقال إنها تشبهها إلا الفيوم وكانت أكثر خيراً من الفيوم وأخصب وأكثر فاكهة ورياحين من الأضناف الغريبة، وكان الماء منحدراً إليها لا ينقطع عنها صيفاً ولا شتاءً، يسقون منه جنانهم إذا شاءوا، وكذلك زروعهم وسائره يصب إلى البحر من سائر خُلْجَانه، ومن الموضع المعروف بالأشتوم، وقد كان بين البحر وبين هذا الارض نحو مسيرة يوم قبرس تسلكه الدواب يَبَساً، ولم يكن فيما بين العريش وجزيرة قبرس إلا مَخَاضة، وجزيرة قبرس اليوم بينها وبين العريش في البحر سير طويل، وكذلك فيما بينها وبين أرض الروم، وقد كان بين الأندلس وبين الموضع الذي يسمى الخضراء- وهو قريب من فاس المغرب وطنجة- قنطرة مبنية بالحجارة والطوب تمر عليها الإِبل والدواب من ساحل المغرب من بلاد الأندلس إلى المغرب، وماء البحر تحت تلك القنطرة متقطع خلجانات صغاراً تجري تحت قناطرها وما عقد من الطاقات تحتها على صخور صُمّ، وقد عقد من كل حجر إلى حجر طاق، وهو مبدأ بحر الروم الأخذ من أوقيانوس، وهو البحر المحيط الأكبر، فلم يزل البحر يزيد ماؤه ويعلو أرضاً فأرضاً في طول ممر السنين، يرى زيادته أهل كل زمان، ويتبينه أهل كل عصر، ويقفون عليه، حتى علا الماء الطريق الذي كان بين العريش وبين قبرس وعلا القنطرة التي كانت بين الأندلس وبَرِّطنجة، وما وصفتُ فبينٌ ظاهر عند أهل الأندلس وأهل فاس من بلاد المغرب من خبر هذه القنطرة، وربما بدا الموضع لأهل المراكب تحت الماء، فيقولون: هذه القنطرة، وكان طولها نحو اثني عشر ميلاً، في عرض واسع، وسمو بين، فلما مضت لديقلطيانوس من ملكه مائتان وإحدى وخمسون سنة هجم الماء من البحر على بعض المواضع التي تسمى اليوم بحيرة تنيس فأغرقه، وصار يزيد في كل عام حتى أغرقها بأجمعها، فما كان من القرى التي في قرارها غرق، وأما التي كانت على ارتفاع من الأرض فبقيت منها بونة وسمنور وغيم ذلك مما هي باقية إلى هذا الوقت، والماء محيط بها، وكان أهل القرى التي في هذه البحيرة ينقلون موتاهم إلى تنيس فيقبرونهم واحداً فوق آخر، وهي الأكوام الثلاثة التي تسمى اليوم أبو الكوم، وكان استحكام غرق هذه الأرض بأجمعها وقد مضى لديقلطيانوس الملك مائتان و إحدى وخمسون سنة، ذلك قبل أن تفتح مصر بمائة سنة، وقال: وقد كان لملك من ملوك الأمم كانت داره الفر ما مع أركون من أراكنة البلينا وما اتصل بها من الأرض حروب وخنادق وخلجانات فتحت من النيل إلى البحر، يمنع كل واحد من الآخر، وكان ذلك داعياً لتشعب الماء من النيل واستيلائه على هذه الأرض.
وسئل عن ملوك الأحابش على النيل وممالكهم فقال: لقيت من ملوكهم ستين ملكاً في ممالك مختلفة، كل ملك منهم ينازع من يليه من الملوك، وبلادهم حارة يابسة مسودة ليبسها وحرارتها ولاستحكام النارية فيها تغيرت الفضة ذهباً لطبخ الشمس إياها لحرارتها ويبسها وناريتها فتحولت ذهباً، وقد يطبخ الذهب التي يؤتى به من المعدن خالصاً صفائح بالملح والزاج والطوب فيخرج منه فضة خالصة بيضاء، وليس يدفع هذا الأمر إلا منْ المعرفة له بماوصفنا، ولا قارب شيئاً مما ذكرنا.
قيل له: فما منتهى النيل في أعاليه؟ قال: البحيرة التي لا يدرك طولها وعرضها، وهى نحو الأرض التي الليل والنهار فيها متساويان طول الدهر، وهي تحت الموضع الذي يسميه المنجمون الفلك المستقيم، وما ذكرت فمعروف غير منكر.
وسئل عن بناء الأهرام، فقال: إنها قبور الملوك، وكان الملك منهم إذا مات وضع في حوض حجارة وشمى بمصر والشام الجرن وأطبق عليه، ثم يبنى من الهرم على قدر ما يريدون من ارتفاع الأساس، ثم يحمل الحوض فيوضع وسط الهرم، ثم يقنطر عليه البنيان والأقباء، ثم يرفعون البناء على هذا المقدار الذي ترونه ويجعل باب الهرم تحت الهرم، ثم يحفر له طريق في الأرض بعقد أزج، فيكون طول الأزج تحت الأرض مائة ذراع وكثر، ولكل هرم من هذه الأهرام باب يدْخَل منه على ما وصفت، فقيل له: فكيف بنيت هذه الأهرام المملسة؟ وعلى أي شيء كانوا يصعدون ويبنون؟ وعلى أي شيء كانوا يحملون هذه الحجارة العظيمة التي لا يقدر أهل زماننا هذا على أن يحركوا الحجر الواحد إلا بجهد إن قدروا؟ فقال: كان القوم يبنون الهرم مدرجا ذا مراقي كالدرج، فإذا فرغوا منُه نحتوه من فوق إلى أسفل، فهذه كانت حيلتهم، وكانوا مع هذا لهم صبْر وقوة وطاعة لملوكهم ديانة. فقيل له: ما بال هذه الكتابة التي على الأهرام والبرابي لا تقرأ؟ فقال: دَثَرَ الحكماء وأهل العصر الذين كان هذا قلمهم، وتداول أرض مصر الأمم، فغلب على أهلها القلم الرومي، وأشكال الأحرف للروم، والقبط تقرؤه على حسب تعارفها إياه، وخلطها الأحرف الروم بأحرفها، على حسب ما ولّمُوا من الكتابة بين الرومي والقبطي الأول؟ فذهبت عنهم كتابة آبائهم.
فقيل له: فمن أول من سكن مصر؟ قال: أول من نزل هذه الأرض مصر بن بيصر بن حام بن نوح، ومر في أنساب ولد نوح الثلاثة وأولادهم، وتفرقهم في الأرض.
فقيل له: أتعرف بمصر مقاطع رخام؟ قال: نعم في الجانب الشرقي من الصعيد جبل رخام عظيم كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها، وكانوا يَجْلُون ما عملوا بالرمل بعد النقر، فأما العمد والقواعد والرؤوس التي قسميها أهل مصر الأسوانية، ومنها حجارة الطواحين، فتلك نَقَرَها الأولون بعد حدوث النصرانية بمئين من السنين، ومنها العمد التي بالإسكندرية، والعمود الذي بها الضخم الكبير لا يعلم بالعالم عمود مثله، وقد رأيت في جبل أسوان أخاً لهذا العمود قد هندس ونقر ولم يفصل من الجبل، ولم ايُحك ما ظهر منه، وإنما كانوا ينتظرون أن يفصل من الجبل ثم يحمل إلى حيث يريد القوم.
وسئل عن مدينة العقاب، فقال: هي غربي أهرام بوصير الجيزة وهي على خمسة أيام بلياليها للراكب المجد، وقد وعرت طريقها وعميت المسالك إليها، والسمت الذي يؤدي نحوها، وذكرها فيها من عجائب البنيان والجواهر والأموال والعلة التي لها سميت مدينة العقاب، ووصف مدينة أخرى غربي أخميم من أرض الصعيد ذات بنيان عجيب اتخذتها الملوك السالفة، وذكر من شأن هذه المدينة الأخرى عجائب من الأخبار، وزعم أن بينها وبين إخميم من أرض الصعيد مسيرة ستة أيام.
وسئل عن النوبة وأرضها، فقال: هم أصحاب إبِل وبُخْت، وبقر وغنم، وملكهم يستعد الخيل العتاق، والأغلب من ركوب عوامهم البراذين، ورميهم بالنبل عن قسيئ عربية، وعنهم- أخذ الرمي أهل الحجاز واليمن وغيرهم من الغرب، وهم الذين يسميهم العرب رماة الحدق، ولهم النخل والكرم والذرة والموز والحنطة، وأرضهم كأنها جزء من أرض اليمن، وللنوبة أترج كأكبر ما يكون بأرض الِإسلام، وملوكهم تزعم أنهم من حمير، وملكهم يستولى على مقرا ونوبة وعلوة، وراء علوة أمة عظيمة من السودان تدعى بكنة وهم عُرَاة كالزنج، وأرضهم تنبت الذهب، وفي مملكة هذه الأمة يفترق النيل فيتشعّب منه خليج عظيم، ثم يخضر الخليج بعد انفصاله من النيل، وينحدر الأكثر إلى بلاد النوبة، وهو النيل لا يتغير، فلذا كان في بعض الأزمنة انفصل الأكثر من الماء في ذلك الخليج، وابيض الأكثر، واخضر الأقل، فيشق ذلك الخليج في أوديا وخلجان وأعماق مأنوسة حتى يخرج إلى جلاسق والجنوب، وذلك على ساحل الزنج، ومصبه في بحرهم. ثم سئل عن الفيوم والمنهى وحجر اللاهون، فذكر كلاماً طويلًا فن أمر الفيوم، وأن جارية فن بنات الروم وابنها نزلوا الفيوم، وكانوا البدء في عمارتها وعمارة أرضها، وإنما كان الماء يأتي الفيوم من المنهي أيام جَرْي النيل، ولم يكن حجر اللاهون بني، وإنما كان مصب الماء من المنهي من الموضع المعروف بدمونة، ثم بني اللاهون على ما هو اليوم عليه ويقال: إن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، بناه أيام العزيز، ودبرَ من أمر الفيوم ما هو اليوم قائم بين من الخلج المرتفعة والمطاطية، وهو خليج فوق خليج فوق خليج، وبنى القنطرة المعروف بسفونة، وأقام العمود الذي في وسط الفيوم وهر غائص في الأرض لا يدْركة منتهاه منها، وهو أحد عجائب الدنيا مربع الشكل قد جهد أناس من الأمم ممن ورد بعد يوسف أن ينتهَوا إلى آخره في الأرض حَفراً فلم يتأت لهم ذلك، ولا قدروا عليه وغلبهم الماء فعجزهم، ورأس هذا العمود مساو لأرض المنهي، قال: وأما حجر اللاهون فإن من سطح الحجر الذي في بين القبتين إلى ناحية اللاهون، واللاهون هي القرية بعينها، ففي ما بيم السطح إلى القرية ستون درجة وربما مل الماء في المنهي، وظهر بعضُ الدرج، وفي حائط الحجر فوارات بعضها اليوم يخرج منه الماء، وبعض لا يرى، وفيما بين سطح الحجر الذي بين القبتين وبين القرية شاذروان وهو من أسفل الدرج، وإنما يدخل الماء الفيوم بوزن الحجر، وجعله الاستقالة- وهي القناطر- ليخرج الماء منها، ولا يعلو الماء الحجر أب سده، فبالتقدير بُني حجر اللاهون، وبقدر ما يكفي الفيوم من الماء يدخل إليها، وبناء حجر الهون من أعجب الأمور، ومن أحكم البنيان، ومن البناء الذي يبقى على وجه الأرض لا يتحرك ولا يزول، بالهندسة عملَ بالفلسفة أتقن، وفي السعود نصب، وقد ذكر كثير من أهل بلدنا أن يوسف عليه السلام عمل ذلك بالوحي، والله أعلم.
ولم تزل ملوك الأرض- إذا غلبت على بلادنا، واحتوت على أرضنا، صارت إلى هذا الموضع فتأملته؟ لما قد نمي إليها من أخباره، وسار في خليقة من عجائب بنيانه وإتقانه.
وكان هذا الرجل من أقباط مصر، ممن يظهر دين النصرانية ورأي بعقوبية، فأمر السلطان أحمد بن طولون في بعض الأيام، وقد أحضر جلسه بعض أهل النظر، أن يسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية، مآله عن ذلك، فقال: دليلي على صحتها وجودي إياها متناقضة متنافية، تدفعها العقول، وتنفرد منها النفوس، لتباينها وتضادها، لا نظر يقويها، أ جدَلَ يصححها ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند التأمل لها لفحْص عنها، ورأيت مع ذلك أمماً كثيرة، وملوكاً عظيمة ذوي معرفة وحسن رأي، قد انقادوا إليها وتدينوا بها، فعلمت أنهم لم يقبلوها، ولم يتدينوا بها- مع ما ذكرت من تناقضها في العقل- إلا لدلائل شاهدوها، وآبات علموها، ومعجزات عرفوها، أوجبت انقيادهم إليها والتدين أيها،،قال له السائل: وما التضاد الذي فيها؟ قال: وهل يدرك أو يعلم غايته؟ لما قولهم بأن الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد، ووصفهم الأقانيم والجوهر و والثالوث، وهل الأقانيم في أنفسها قادرة عالمة أم لا؟ وفي اتحاد ربهم القديم بالإنسان المحدَثِ، وما جرى في ولادته وقتله وصلبه، وهل في التشنيع أكبر وأفحش من إله صُلب، وبُصق في وجهه، ووضع على رأسه الإكليل من الشوك، وضرب رأسه بالقضيب، وسمرت يداه، ونخس بالأسنة والخشب جَنْباه، وطَلَب الماء فسُقي الخل في بطيخ الحنظل ؟ فأمسكوا عن مناظرته، وانقطعوا عن مجادلته؟ لما قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده ووهْيه .
فقال طبيب لابن طولون يهودي وقد حضر المجلس: أيأذن لي الأمير في مخاطبته؟ قال: شأنك: فأقبل عَلَى القبطي مسائلًا له، فقال له القبطي: وما أنت أيها الرجل؟ وما نحلتك؟ فقال له: يهودي، فقال له: مجوسي إذا!؟ قال له: كيف ذلك وهو يهودي؟ قال: لأنهم يرون نكاح البنات في بعض الحالات، إذ كان في دينهم أن الأخ يتزوج بنت أخيه، وعليهم أن يتزوجوا نساء أخوتهم إذا ماتوا، فإذا وافق اليهودي أن تكون امرأة أخيه ابنته لم يجد بداً من أن يتزوجها، وهذا من أسرارهم، وما يكتمونه ولا يُظْهرونه، فهل في الَمجوسية أشنع من هذا؟ فأنكر اليهودي ذلك، وجحد أن يكون في دينه أو يعرفه أحد من اليهود، فاستخبر ابن طولون عن صحة ذلك، فوجد ذلك الطبيب اليهودي قد تزوج امرأة أخيه، وكانت بنته، ثم أقبل القبطي على ابن طولون، فقال: أيها الأمير، هؤلاء يزعمون- وأشار إلى اليهودي- أن الله خلق آدم على صورته، وعن نبي من أنبيائهم سماه قال في كتابه: إنه رآه في قديم الزمان أبيض الرأس واللحية، وإن الله تعالى قال: إني أنا النار المحرقة، والحمى الأخذة، وأنا الذي آخذ الأبناء بذنوب الأباء، ثم في توراتهم أن بنات لوط سَقَيْنَه الخمر حتى سكر وزنى بهن، وحملن منه، وولحن، وأن موسى رَدَ على الله الرسالة مرتين حتى أشتد غضب الله عليه. وأن هارون صنع العجل الذي عبده بنو إسرائيل. وأن موسى أظهر معجزات لفرعون وفعلت السحَرَة مثلها. ثَم قالوا في ذبائح الحيوان والتقرب إلى الله بدمائها ولحومها وتحكمهم على العقل ومنعهم من النظر بغير برهان، وهو قولهم: إن شريعتهم لا تنسَخ، ولا يقبل قولي أحد من الأنبياء بعد موسى إذا انحرف عما جاء به موسى ولا فرق في قضئة العقل بين موسى وغيره من الأنبياء إذا أتى ببرهان، وبان بحجة، ثم الأكبر من كفرهم قولهم في يوم عيد الكفور، وهو يوم الاستغفار ذلك لعشر تخلو من تشرين الأول: إِن الرب الصغير- ويسمونه ميططرون- يقول في هذا اليوم قائماً، وينتف شعور رأسه، ويقول: ويلي إذا خربت بيتي، وأيتمت بنتي، قامتي منكسة لا أرفعها، حتى آتي بنتي، وذكر عن اليهود أقاصيص وتخاليط كثيرة، ومناقضات واسعة.
ولهذا القبطي مجالس كثيرة عند أحمد بن طولون مع جماعة من الفلاسفة والديصانية والثنوية والصابئة والمجوس، وعدة من متكلمي الإسلام، وقد أتينا على ما احتمل منها إيراده في كتابنا في أخبار الزمان وذكرنا جميع ذلك في كتابنا المقالات، في أصول الديانات وكان هذا القبطي- على ما نمي إلينا من خبره، وصح عندنا من قوله- يذهب إلى فساد النظر، والقول بتكافؤ المذاهب، وأقام عند ابن طولون نحو سنة، فأجازه، وأعطاه، فأى قبول شيء من ذلك، فرده إلى بلده مكرماً، وأقام بعد ذلك مدة من الزمان، ثم هلك- وله مصنفات تدل من كلامه على ما ذكرنا عنه، والله أعلم بكيفية ذلك.
واليهود تأبى ما ذكره القبطي في نكاح بنت الأخ، وكثر هم يقر بالتزوبج ببنت الأخ.
قال المسعودي: وفي نيل مصر وأرضها عجائب كثيرة من أنواع الحيوان مما في البر والبحر، من ذلك السمك المعروف بالرغَاد، وهو نحو الذراع، إذا وقعت في شبكة الصيَّاد رُعدت يداه وعضداه، فيعلم بوقوعها، فيبادر إلى أخذها وإخراجها عن شبكته، ولو أمسكها بخشب أو قصب فعلت ذلك، وقد ذكرها جالينوس، وأنها إن جعلت على رأس مَنْ به صداع شديد أو شقيقة وهي في الحياة هدأ من ساعته. والْفرَسُ الذي يكون في نيل مصر إذا خرج من الماء وانتهى وطؤه إلى بعض المواضع من الأرض علم أهل مصر أن النيل يزيد إلى ذلك الموضع بعينه غير زائد عليه ولا مقصر عنه، لا يختلف ذلك عندهم بطول العادات والتجارب، وفي ظهوره من الماء ضرر بأرباب الأرض والفلاحة لرعيه الزرع، وذلك أنه يظهر من الماء في الليل فينتهي إلى موضع من الزرع، ثم يولي عائداً إلى الماء، فيرعى في حال رجوعه من الموضع الذي انتهى إليه سيره، ولا يراعي من ذلك شيئاً في ممره، كأنه يحدد مقدار ما يرعاه فمنها ما إذا رعت ورعت إلى النيل فشربت ثم تقفف ما في أجوافها في مواضع شتى، فينبت ذلك مرة ثانية، فإذا كثر ذلك من فعله واتصل ضرره بأرباب الضياع طرح له الترمس في الموضع الذي يعرف خروجه مكاكيك كثيرة مبدَدأ مبسوطأ، فيأكله، ثم يعود إلى الماء فيربو في جوفه، ويزداد في انتفاخه فيشق جوفه، فيموت ويطفو على الماء، ويقفف به إلى الساحل والموضع الذي يكون فيه لا يكاد يرى فيه تمساح، وهو على صورة الفرس إلا أن حوافره وذنبه بخلاف ذلك، والجبهة أوسع.
قال المسعودي: وقد ذكر جماعة من الشرعيين أن يبصر بن حام بن نوح لما أنفصل عن أرض بابل بولده وكثير من أهل بيته غَرًبَ نحو مصر، وكان له أولاد أربعة: مصر بن بيصر، وفارق بن بيصر، وماح وياح، فنزل بموضع يُقال له منف، وبذلك يسمى إلى وقتنا هذا، وكان عدمهم ثلاثين فسميت ثلاثين بهم، كما سميت مدينة ثمانين من أرض الجزيرة وبلاد الموصل من بلاد بني حمدان، وإنما نسبت إلى عدد ساكنيها ممن كان مع نوح في السفينة، وكان بيصر بن حام قد كبر سنه، فأوصى إلى الأكبر من ولده، وهو مصر، واجتمع الناس إليه وانضافوا إلى جملتهم، وأخصبت البلاد، فتملك عليهم مصر بن بيصر، وملك من حد رفح من أرض فلسطين من بلاد الشام، وقيل: من العريش، وقيل: من الموضع المعروف بالشجرة، وهو آخر أرض مصر، والفرق بينها وبين الشام، وهو الموضع المشهور بين العريش ورفح- إلى بلاد أسوان من أرض الصعيد طولاً، ومن أيلة- وهي تخوم الحجاز- إلى برقة عرضاً، وكان لمصر أولاد أربعة، وهم قبط، وأشمون، وإتريب، وصا، فقسم مصر الأرض بين أولده الأربعة أرباعاً، وعهد إلى الأكبر من ولده- وهو قبط- وأقباط مصر يضافون إلى النسب إلى أبيهم قبط بن مصر، وأضيفت المواضع إلى ساكنيها، وعرفت بأسمائهم، فمنها أشمون وقبط، وصا، فى تريب، وهذه أسماء هذه المواضع إلى هذه الغاية، واختلطت الأنساب، وكثر ولد قبط، وهم الأقباط، فغلبوا على سائر الأرض، ودخل غيرهم في أنسابهم؟ لما ذكرنا من الكثرة، فقيل لكل قبط مصر وكل فريق منهم يعرف نسبة واتصاله بمصر بن بيصر بن حام بن نوح إلى هذه الغاية.
ولما هلك قبط بن مصر ملك بعده أشمون بن مصر، ثم ملك بعده صا بن مصر، وملك بعده إتريب بن مصر، ثم ملك بعده ماليق بن دارس ثم ملك بعده حرايا بن ماليق ثم ملك بعده كلكي بن حرايا وأقام في الملك نحواً من مائة سنة، ثم ملك بعده أخ يُقال له ماليا بن حرايا ثم ملك بعده لوطسى بن ماليا نحواً من سبعين سنة، ثم ملكت بعده ابنة له يُقال لها حورياينت لوطس نحواً من ثلاثين سنة، ثم ملكت بعدها امرأة أخرى يُقال لها ماموم وكثر ولد بيصر بن حام بأرض مصر، فتشعبوا، وملكوا النساء، فطمعت فيهم ملوك الأرض، فسار إليهم من الشام ملك من ملوك العماليق، يقال له الوليد بن دومع، فكانت له حروب بها، وغلب على الملك، فانقادوا إليه، واستقام له الأمر إلى أن هلك، ثم ملك بعده الريان بن الوليد العملاقي، وهو فرعون يوسف، وقد ذكر الله تعالى خبره مع يوسف وما كان من أمرهما في كتابه العزيز، وقد أتينا على شرح ذلك في كتابنا الأوسط، ثم ملك بعده دارم بن الريان العملاقي، ثم ملك بعده كامس بن معدان العملاقي، ثم ملك بعده الوليد بن مصعب وهو فرعون موسى، وقد تنوزع فيه: فمن الناس من رأى أنه من العماليق ومنهم من رأى أنه من لخم من بلاد الشام، ومنهم من رأى أنه من الأقباط من ولد مصر بن بيصر، وكان يعرف بظلما، وقد أتينا على ذلك في الكتاب الأوسط، وهلك فرعون غَرَقاً حين خرج في طلب بني إسرائيل حين أخرجهم موسى بن عمران وجعل الله لهم طريقاً في البحر يَبَساً، ولما غرق فرعون ومن كان معه من الجنود وخشي من بقي بأرض مصر من الفراري والنساء والعبيد أن يغزوهم ملوك الشام والمغرب فملكوا عليهم امرأة ذات رأي وحزم؟ يقال لها دلوكة فبنت على بلاد مصر حائطاً يحيط بجميع البلادة وجعلت عليه المحارس والأحراس والرجال متصلة أصواتهم بقرب بعضهم من بعض، وأثر هذا الحائط باقٍ إلى هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، يعرف بحائط العجوز، وقيل؟ إنما بنته خوفاً على ولدها وكان كثير القنص، فخافت عليه من سباع البر والبحر واغتيال مَنْ جاور أرضهم من الملوك والبوادى، فحوًطت الحائط من التماسيح وغيرها، وقد قيل في، لك من الوجوه غير ما ذكرنا، فملكتهم ثلاثين سنة وقيل: أقل من ذلك -اتخذت بمصر البرابي والصور، وأحكمت آلات السحر، وجعلت في لبرابى صور مَنْ يرد من كل ناحية، ودوابهم إبلا كانت أو خيلاً، وصورت ما يرد في البحر من المراكب من بحر المغرب والشام، وجمعت في هذه لبرابي العظيمة المشيدة البنيان أسرار الطبيعة وخواص الأحجار والنبات الحيوان، من الجاذية والدافعة، وجعلت ذلك في أوقات حركات فلكية واتصالها بالمؤثرات العلوية وكانوا إذا ورد إليهم جيش من نحو الحجاز أو اليمن عورت تلك الصور التي في البرابي من الإِبل وغيرها، فيتعور ما في الجيش، وينقطع عنهم ناسه وحيوانه، وإذا كان الجيش من نحو الشام فعل في تلك الصور التي من تلك الجهة التي أقبل منها جيش الشام ما فعل بما صفنا قبلها فيحدث في ذلك الجيش من الآفات في ناسه وحيوانه ما صنع في تلك الصور التي من تلك الجهة وكذلك ما ورد من جيوش الغرب، وما رد في البحر من رومية والشام وغير ذلك من الممالك، فهابتهم الملوك الأمم، ومنعوا ناحيتهم من عدوهم، واتصل ملكهم بتدبير هذه العجوز إتقانها لزم أقطار المملكة وإحكامها السياسة.
وقد تكلم الناس ممن سلف وخلف في هذه الخواص، وأسرار طبيعة التي كانت ببلاد مصر، وهذا الخبر من فعل العجوز عند المصريين مستفيض لا يشكون فيه، والبرابي بمصر من صعيدها وغيره باقية إلى هذا وقت، وفيها أنواع الصور مما إذا صورت في بعض الأشياء أحدثت أفعالاً على حسب ما رسمت له ووضعت من أجله، على حسب قولهم في الطباع تام، والله أعلم بكيفية ذلك.
قال المسعودي: وأخبرني غير واحد من بلاد أخميم من صعيد مصر، عن أبي الفيض في النون بن إبراهيم المصري الِإخميمي الزاهد، وكان حكيمأ، وكانت له طريقة يأتيها ونحلة يعضدها، وكان ممن يقرأ عن أخبار هذه البرابي ودارها وامتحن كثيراً مما صور فيها ورسم عليها من الكتابة والصور، قال: رأيت في بعض البرابي كتاباً تدبرته، فإذا هو احفروا العبيد المعتقين، والأحداث المغترين والجند المتعبدين، والنبط المستعربين قال: ورأيت في بعضها كتابأ تدبَّرْته فإذا فيه يقدر المقدور والقضاء يضحك وزعم أنه رأى في آخره كتابة وتبينها بذلك القلم الأول فوجدها:
تُدَئر ُبالنجوم ولمستَ تَدْري |
|
ورَب النجم يفعلُ ما يريد |
وكانت هذه الأمة التي أتخذتَ هذه البرابي لهِجَة بالنظر في أحكام النجوم مواظبة على معرفة أسرار الطبيعة، وكان عندها مما دلت عليه أحكام النجوم أن طوفانأ سيكون في الأرض، ولم تقطع بأن ذلك الطوفان ما هو: أنار تأتي على الأرض فتحرق ما عليها، أو ماء فيغرقها، أو سيف يبيد أهلها؟ فخافت دثور العلوم وفناءها بفناء أهلها، فاتخذت هذه البرابي، واحدها بربا، ورسمت فيها علومها من الصور والتماثيل والكتابة، وجعلت بنيانها نوعين: طينأ، وحجر أو فرزت ما يبنى بالطين مما يبنى بالحجر، وقالت: إن كان هذا الطوفان ناراً استحجر ما يبنى من الطين وانحرق، وبقيت هذه العلوم، وإن كان الطوفان الوارد ماء أذهب ما يبنى بالطين، ويبقى ما يبنى بالحجارة، وإن كان الطوفان سيفاً بقي كِلَا النوعين ما هو بالطين وما هو بالحجر، وهذا على ما قيل- والله أعلم- كان قبل الطوفان، وقيل: إن ذلك كان بعد الطوفان لرأن الطوفان الذي كانوا يرقبونه ولم يتيقنوا أنار هو أم ماء أم سيف، كان سيفاً أتى على جميع أهل مصر من أمة غشيتها وملك نزل عليها فأباد أهلها ومنهم من رأى أن ذلك الطوفان كان وباءً عم أهلها ومصداق ذلك ما يوجد ببلاد تنيس من التلال المنضدة من الناس من صغير وكبير، وذكر وأنثى، كالجبال العظام، وهي المعروفة ببلاد تنيس من أرض مصر بأبي الكوم وما يوجد ببلاد مصر وصعيدها من الناس المنكسين بعضهم على بعض في كهوف وغير ان ونواوشى، ومواضع كثيرة من الأرض لا يدرى من أي الأمم هم، فلا النصارى تخبر عنهم أنهم من أسلافهم، ولا اليهود تقول عنهم إنهم من أوائلهم، ولا المسلمون يدرون مَنْ هم ولا تاريخ ينبئ عن حالهم، عليهم أثوابهم، وكثيراً ما يوجد في تلك الروابي والجبال من حليهم، والبرابي ببلاد مصر بنيان قائم عجيب: كالبربا المتخفة بأنصناء من صعيد مصر، وهو أحد الموصوفين منها، والبربا التي ببلاد أخميم، والبربا التي ببلاد سمنود، وغير ذلك.
ولا تمانع بين ذوي الفهم أن في مواضع من الأرض مدناً وقرى لا يدخلها عقرب ولا حية، مثل مدينة حمص ومَعَرة وبُصْرَى وإنطاكية، وقد كان ببلاد إنطاكية، إذا أخرج إنسان يده خارج السور وقع عليها البق، فإذا جذبها إلى داخل لم يبق على يده من ذلك شيء، إلى أن كسر عمود من الرخام في بعض المواضع بها، فأصيب في أعلاه حُقُّ من نحاس في داخله بق مصور من نحاس نحو كف، فما مضت أيام- أو على الفور من ذلك- حتى صار البق في وقتنا هذا يعم الأكثر من دهرهم، وهذا حجر المغناطيس يجذب الحديد، ولقد رأيت بمصر حية مصورة من حديد أو نحاس توضع على شيء ويُدْنى منها حجر المغناطيس فتحدث فيها حركة تباعد منه، وحجر المغناطيس إذا أصابته رائحة الثوم بطل فعله في الحديد واذا غسل بشيء من الخل أو ناله شيء من عسل النحل عاد إلى فعله الأول من جذب الحديد، وللمغناطيس في الحديد خواص عجيبة غير ما ذكرنا كالحجر الماص للدم، والله عز وجل قد استأثر بعلم الأشياء، وأظهر للعباد ما شاء ما لهم فيه الصلاح على قدر الوقت وحاجتهم فيه إليه وأشياء استأثر بعلمها لم يظهرها لخلقه؟ فلا تقف العقول عَلَى كنهها، وكما يجمع بين أشياء فيحدث لاجتماعها معنى هو غيرها، كما يحدث من ماء العفص والزاج عند الاجتماع من شدة السواد، وكحدوث جوهر الزجاج عند جمعنا بين الرمل والمغنيسيا والقلى عند الطبخ والسبك لذلك، وكذلك لو جمع بين ماء القلي وماء المرتك وهو المرداسنج خرج الحارث من مزاجيهما كالزبد بياضاً، وإذا مزج ماء القلي بماء الزاج خرج من مزاجيهما لون أحمر كالعصفر، وكجمعنا في النتاج بين الفرس الأنثى والحمار فتحدث بغلاً، ولو نتج دابة على أتان لخرج منها بغل أفطس ذو خبث ودها يسمى الكودن.
وقد ذكرنا النتاج الذي كان بصعيد مصر مما يلي. الحبشة، وما كان ينتج من الثيران على الأتن، والحمير على البقر، وما كان يحدث من ذلك من الدواب العجيبة التي ليست بحمير ولا بقر كالبغل التي ليس بدابة ولا حمار.
وقد ذكرنا ضروب التوليدات في أنواع الحيوان والنبات من تطعيمهم الغررس والأشجار وما تولد من الطعوم في المذاق في كتابنا المترجم بكتاب القضايا والتجارب في أنواع الفلاحات وغيرها، وذكرنا باب خواص الأشياء ومعرفتها والطلسمات وعجائبها، وهو باب كبير في ذكر بعضه نيابة عن بعض، والجزء منه يوهمك الكل، واليسير منه يدلُّكَ على معرفة الكثير.
ويمكن -والله اعلم أن تكون هذه الخواص والطلسمات والأشياء المحدثة في العالم للحركات مما وصفنا والدافعة والمانعة والمنفردة والجاذبة والفاعلة في الحيوان وغير ذلك مثل الطرد والجذب- كانت دلالة لبعض الأنبياء في الأمم الخالية، جعلها الله كذلك لذلك النبي دلالة ومعجزة تدل على صدقه وتنبيئه من غيره ليؤدي عن الله أمره ونهيه وما فيه من الصلاح لخلقه في ذلك الوقت، ثم رفع الله ذلك النبي، وبقيت علومه، وما أبانه الله عز وجل مما ذكرنا، في أيدي الناس، وأصل ذلك أنهى كما وصفنا، إذ كان ما ذكرنا ممكناً غير واجب ولا ممتنع في القدرة.
قال المسعودي: فلنرجع إلى ما كنا فيه من أخبار ملوك مصر.
وكان الملك بعد انقضاء ملك دلوكة العجوز عركوس بن بلوطس ثم ملك بعده بورس بن عركوس ثم ملك بعده فغامس بن بورس نحواً من خمسين سنة، ثم ملك بعده دنيا بن بورس نحواً من عشرين سنة، ثم ملك بعده نماريس بن مرينا عشرين سنة، ثم ملك بعده بلوطس بن ميناكيل أربعين سنة، ثم ملك بعده مالوس بن بلوطس عشرين سنة، ثم ملك بعده بلوطس بن ميناكيل بن بلوطس، ثم ملك بعده بلونا بن ميناكيل وكانت له حروب ومسير في الأرض، وهو فرعون الأعرج الذي غزا بني إسرائيل وخَرب بيت المقدس، ثم ملك بعده مرينوس وكانت له حروب كثيرة بالمغرب، ثم ملك بعده نقاس بن مرينوس ثمانين سنة، ثم ملك بعده فوميس بن نقاس عشر سنين، ثم هلك بعده كابيل وكانت له حروب مع ملوك المغرب، وغزاه البخت ناصر مَرْزُبَان المغرب من قبل ملوك فارس، فخرب أرضه وقتل رجاله، وسار البخت ناصر نحو المغرب، وقد أتينا على أخباره في كتاب راحة الأرواح لأن هذا الكتاب رسمناه بأخبار مسير الملوك للأرض، وأخبار مقاتلهم، عون ما ذكرناه في كتابنا أخبار الزمان. ولما زال أمر البخت ناصر ومن معه من جنود فارس، ملكت الروم مصر، وغلبت عليها، فتنصر أهلها، فلم يزالوا على ذلك إلى أن ملك كسرى أنوشروان، فغلبت جيوشه على الشام، وسارت نحو مصر، فملكوها، وغلبوا على أهلها، نحواً من عشرين سنة وكانت بين الروم وفارس حروب كثيرة فكان أهل مصر يؤدون خراجين: خراجاً إلى فارس، وخراجاً إلى الروم، عن بلادهم.
ثم انجلت فارس عن مصر والشام لأمر حدث في دار مملكتهم، فغلب الروم على مصر والشام وأشهروا النصرانية، فشمل ذلك مَنْ بالشام ومصر، إلى أن أتى الله بالِإسلام، وكان من أمر المقوقس صاحب القبط مع النبي صلى الله عليه وسلم من الهدايا ما كان إلى أن افتتحها عمرو بن العاص، ومن كان معه في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فبنى عمرو بن العاص الفسطاط وهي قصبة مصر في هذا الوقت، وكان ملك مصر- وهو المقوقس صاحب القبط- ينزل الإسكندرية في بعض فصول السنة، وفي بعضها ينزل مدينة مَنْف، وفي بعضها قصر الشمع، وهو اليوم يعرف بهذا الاسم في وسط مدينة الفسطاط.
ولعمرو بن العاص في فتح مصر أخبار، وما كان بينه وبين المقوقس وفتحه لقصر الشمع، وغير ذلك من أخبار مصر والإسكندرية، وما كان من حروب المسلمين في ذلك، ودخول عمرو بن العاص إلى مصر والإسكندرية في الجاهلية، وما كان من خبره مع الراهب والكُرَة الذهب التي كانوا يظهرونها للناس في أعيادهم، ووقوعها في حِجْر عمرو بن العاص، وذلك قبل ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، قد أتينا على جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان والكتاب الأوسط.
قال المسعودي: والذي اتفقت عليه التواريخ- مع تباين ما فيها- أن عدة ملوك مصر من الفراعنة وغيرها اثنان وثلاثون فرعونا، ومن ملوك بابل ممن تملك على مصر خمسة، ومن ملوك بابل- وهم العماليق الذين طرأوا إليها من بلاد الشام- أربعة، ومن الروم سبعة، ومن اليونانيين عشرة، وذلك قبل ظهور السيد المسيح عليه السلام، وملكها أناس من الفرس من قبل الأكاسرة، وكان مدة من هلك مصر من الفراعنة والفرْس والروم والعماليق واليونانيينَ ألف سنة وثلثمائة سنة.
قال المسعودي :وسألت جماعة من أقباط مصر بالصعيد وغيره من بلاد مصر من أهل الخبرة عن تفسير فرعون فلم يخبروني عن معنى ذلك، ولا تحصّل لي في لغتهم، فيمكن- والله أعلم- أن هذا الاسم كان سِمَةَ ملوك تلك الأعصار وأن تلك اللغة تغيرت كتغير الفهلوية، وهي الفارسية الأولى إلى الفارسية الثانية، وكاليونانية إلى الرومية، وتغير الحميرية، وغْير ذلك من اللغات.
ذكر جماعة من أهل العلم أن الإسكندر المقدوني لما استقام ملكه في بلاده سار يختار أرضاً صحيحة الهواء والتربة والماء، حتى انتهى إلى موضع الإسكندرية فأصاب في موضعها آثار بنيان عظيم وعمدأ كثيرة من الرخام، وفي وسطها عمود عظيم عليه مكتوب بالقلم المُسْنَدِ- وهو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد- أنا شداد بن عاد بن شداد بن عاد، شددت بساعدى البلاد، وقطعت عظيم العماد، من الجبال والأطواد، وأنا بنيت إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وأردت أن أبني ههنا كإرم، وأنقل إليها كل في إقدام وكرم، من جميع العشائر والأمم، وذلك إذ لا خوف ولا هرم، ولا اهتمام ولا سقم، فأصابني ما أعجلني، وعما أردت قطعني مع وقوع ما أطال همي وشَجَنِي، وقل نومي وسكني، فارتحلت بالأمس عن داري لا لقهر ملك جبار، ولا لخوف جيش جَرار، ولا عن رهبة ولا عن صَغَار، ولكن لتمام المقدار، وانقطاع الأثار، وسلطان العزيز الجبار، فمن رأى أثري، وعرف خبري، وطول عمري، ونَفاذ بصري، وشدة حفري، فلا يغتر بالدنيا بعدي، فإنها غرارة تأخذ منك ما تعطي، وتسترجع ما تُوِلي. وكلام كثير يُرِي فناء الدنيا ويمنع من الاغترار بها والسكون إليها.
ونزل الإسكندر متفكراً يتدبر هذا الكلام ويعتبره، ثم بعث فحشر الصناع من البلاد،. وخط الأساس، وجعل طولها وعرضها أميالاً، وحشد إليها العمد والرخام، وأتته المراكب فيها أنواع الرخام. وأنواع المرمر والأحجار، من جزيرة صقلية، وبلاد إفريقية، وإقريطش، وأقاصي بحر الروم مما يلي مصبه من بحر أوقيانوس، وحمل إليه أيضاً من جزيرة روعس وهي جزيرة مقابلة للإسكندرية على ليلة منها في البحر، وهي أول بلاد الِإفرنجة، وهذه الجزيرة في وقتنا هذا، وهو صنة اثنتين وثلانين وثلثمائة، دار صناعة لم لروم، وبها تنشأ المراكب الحربية، وفيها خلق كثير من الروم، ومراكبهم تطرق بلاد الإسكندرية وغيرها من بلاد مصر فتُغِيرُ وتأسر وتسبي. وأمَرَ الإسكندر الفعَلة والصناع أن يدوروا بما رسم لهم من أساس سور المدينة، وجعل على كل قطعة من الأرض خشبة قائمة، وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالاً منوطة بعضها ببعض، وأوصل جميع ذلك بعمود من الرخام، وكان أمام مضربه، وعلق على العمود جرساً عظيماً مصوتاً، وأمر الناس والقُؤام على البَنَائين والفعَلة والصناع أنهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس وتحركت الحبال وقد علق على كل قطعة منها جرساً صغيراً حرصوا على أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطارها، وأحب الإسكندر أن يجعلِ ذلك في وقت يختاره في طالع سعيد، فخفق الإسكندر برأسه وأخذته سِنةٌ في حال ارتقابه الوقتَ المحمودَ المأخوذَ فيه الطالعُ، فجاء غراب فجلس على حبل الجرس الكبير الذي فوق العمود فحركه، وخرج صوت الجرس وتحركت الحبال، وخفقت ما عليها من الأجراس الصغار، وكان ذلك معمولاً بحركات فلسفية، وحيل حكمية، فلما رأى الصناع تحرك تلك الحبال وسمعوا تلك الأصوات وضعوا الأساس دفعة واحدة، وارتفع الضجيج بالتحميد والتقديس، فاستيقظ الإسكندر من رَقْدته وسأل عن الخبر، فأخبر بذلك، فعجب وقال: أردت امرأَ وأراد الله غيره، ويأبى الله إلا ما يريد، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها وتداول الملوك إياها.
وإن الإسكندرية لما أحكم بنيانها وأثبت أساسها وجن الليل عليهم خرجت دواب من البحر فأتت على جميع ذلك البنيان، فقال الإسكندر حين أصبح: هذا بدء الخراب في عمارتها، وتحقق مراد الباري في زوالها، وتطير من فعل الدواب، فلم يزل البناءُ يُثنَى في كل يوم ويحكم، :يوكل به من يمنع الدواب إذا خرجت من البحر، فيصبحون وقد أخرب البنيان، فقلق الإسكندر لذلك، وراعه ما رأى، فأقبل يفكر ما الذي يصنع، وأي حيلة تنفع في دفع الأذية عن المدينة، فسنحت له الحيلة في ليلته عند خلوته بنفسه وإيراده الأمور وإصدارها، فلما أصبح دعا بالصناع فاتخذوا له تابوتاً من الخشب طوله عشرة أذرع في عرض خمس،، وجعلتفيه جامات من الزجاج قد أحاط بها خشب التابوت باستدارتها، وقد أمسك ذلك بالقار والزفت وغيره من الأطلية الدافعة للماء، حذراً من دخول الماء إلى التابوت، وقد جعل فيها مواضع للحبال، ودخل الإسكندر في التابوت هو ورجلان معه من كتابه ممن له علم باتقان التصوير ومبالغة فيه وأمر أن تسد عليهم الأبواب، وأن تطلى بما ذكرنا من الأطلية، وأمر فأتي بمركبين عظيمين، فأخرجا إلى لجة البحر، وعلق على التابوت من أسفل مثقلات الرصاص والحديد والحجارة لتهوي بالتابوت سفلاً إذ كان من شأنه لما فيه من الهواء أن يطفو فوق الماء ولا يرسب في أسفله، وجعل التابوت بين المركبين، فألصقهما بخشب بينهما لئلا يفترقا، وشد حبال التابوت إلى المركبين وطَؤلَ حباله، فغاص التابوت حتى انتهى إلى قرار البحر، فنظروا إلى دواب البحر وحيوانه من ذلك الزجاج الشفاف في صفاء ماء البحر؟ فإذا هم بشياطين على مثال الناس ورؤوسُهم على مثال رؤوس السباع، وفي أيدي بعضهم الفؤوس، وفي أيدي بعض المناشير والمقاطع، يحاكون بذلك صناع المدينة والفعَلة وما في أيديهم من آلات البناء، فأثبت الإسكندر ومن معه تلك الصور وأحكموها بالتصوير في القراطيس، على اختلاف أنواعها وتشوه خلقتهم وقدودهم وأشكالهم، ثم حرك الحبال، فلما أحس بذلك مَنْ في المركبين جذبوا الحبال وأخرجوا التابوت، فلما خرج الإسكندر من التابوت وسار إلى مدينة الإسكندرية أمر صناع الحديد والنحاس والحجارة فصنعوا تماثيل تلك الدواب على ما كان صؤره الإسكندر وصاحباء، فلما فرغوا منها وضعت الصور على العُمُد بشاطئ البحر، ثم أمرهم فبنوا، فلما جن الليل ظهرت تلك الدوالب والآفات من البحر، فنظرت إلى صورها على العمد مقابلة إِلى البحر، فرجعت إلى البحر ولم تعد بعد ذلك.
ثم لما بنيت الإسكندرية وشيدت أمر الإسكندر أن يكتب على أبوابها هذه الإسكندرية، أردت أن أبنيها على الفلاح والنجاح واليمن والسعادة والسرور والثبات في الدهور، فلما يرد الباري عز وجل ملك السموات والأرض ومفني الأمم أن نبنيها كذلك، فبنيتها وأحكمت بنيانها، وشيدت سورها، وآتاني اللّه من كل شيء علماً وحكماً، وسهل لي وجوه الأسباب، فلم يتعذر علي شيء في العالم مما أردته، ولا امتنع عني شرء مما طلبته، لطفأ من الله عز وجل، وصنعاً بي، وصلاحاً لي ولعبادي من أهل عصري، والحمد للّه رب العالمين، لا إله إلا اللهّ رب كل شيء.
ورسم الإسكندر بعد هذه الكتابة كل ما يحدث ببلده من الأحداث بعده في مستقبل الزمان: من الآفات، والعمران، والخراب، وما يؤول إليه إلى وقت دُثور العالم.
وكان بناء الإسكندرية طبقات، وتحتها قناطر مقنطرة، عليها دور المدينة، يسير تحتها الفارس وبيده رمح لا يضيق به حتى يدور جميع تلك الأزاج والقناطر التي تحت المدينة، وقد عمل لتلك العقود والازاج مخاريق، وتنفسات للضياء، ومنافذ للهواء.
وقد كانت الإسكندرية تضيء بالليل بغير مصباح، لشدة بياض الرخام و المرمر، وأسواقها وشوارعها وأزقتها مقنطرة بها لئلا يصيب أهلها شيءٌ من لمطر، وقد كان عليها سبعة أسوار من أنواع الحجارة المختلفة ألوانها، بينها خنادق، وبين كل خندق وسور فصلان، وربما علق على المدينة شقاق الحرير الأخضر؟ لاختطاف بياض الرخام أبصار الناس لشدة بياضه.
فلما أحكم بناؤها، وسكنها أهلها، كانت آفات البحر وسكانه- على، زعم الإِخباريون من المصريين والاسكندريين- تختطف بالليل أهل هذه لمدينة، فيصبحون وقد فقد منهم العدد الكثير.
ولما علم الإسكندر بذلك اتخذ الطلسمات على أعمدة هناك تدعى المسال، وهي باقية إلى هذه الغاية، وكل واحد من هذه الأعمدة على هيئة السَّرْوَة وطول كل واحد منها ثمانون ذراعاً، على عمد من نحاس وجعل تحتها صورأ وأشكالاً وكتابة، وذلك عند انخفاض درجة من درجات الفلك وقربها من هذا العالم، وعند أصحاب الطلسمات من المنجمين والفلكيين أنه إذا ارتفع من الفلك درجة وانخفض أخرى في مدة يذكرونها من السنين نحو ستمائة سنة نأتي في هذا العالم فعل الطلسمات النافعة المانعة والدافعة، وقد ذكر هذا جماعة من أصحاب الزيجات والنجوم وغيرهم من مصنفي الكتب في هذا المعنى، ولهم في ذلك سر من أسرار الفلك ليسى كتابنا هذا موضعاً له، ولغيرهم ممن ذهب إلى أن ذلك للطف قوى الطبائع التام وغير ذلك مما قاله الناس، وما ذكرنا من عرج الفلك فموجود في كتب من تأخر من- علماء المنجمين والفلكيين، كأب معشر البلخي، والخوارزمي، ومحمد بن كثير الفرغاني، وما شاء الله، وحبش، واليزيدي، ومحمد بن جابر البُتاني في زيجه الكبير، وثابت بن قرة، وغير هؤلاء ممن تكلم في علوم هيأت الفلك والنجوم.
قاله المسعودي: فأما منارة الإسكندرية فذهب الأكثر من المصريين والِاسكندرانيين - ممن عني بأخبار بلدهم - إلى أن الإسكندر بن فيلبس المقدوني هو الذي بناها على حسب ما قدمنا في بناء المدينة، ومنهم من رأى أن دلوكة الملكة هي التي بنتها، وجعلتها مرقباً لمن يرد من العدو إلى بلدهم، ومنهم من رأى أن العاشر من فراعنة مصر هو الذي بناها، وقد قدمنا ذكر هذا الملك فيما سلف من هذا الكتاب، ومنهم من رأى أن الذي بنى مدينة رومية هو الذي بنى مدينة الإسكندرية ومنارتها والأهرام بمصر، و-إنما أضيفت الإسكندرية إلى الإسكندر لشهرته بالاستيلاء على الأكثر من ممالك العالم فشهرت به، وذكروا في ذلك أخباراً كثيرة، يدلون بها على ما قالوا، والإسكندر لم يطرقه في هذا البحر عدو، ولا هاب ملكاً يرد إليه في بلده ويغزوه في داره، فيكون هو الذي جعلها مرقباً، وإن الذي بناها جعلها على كرسي من الزجاج على هيئة السرطان في جوف البحر وعلى طرف اللسان الذي هو داخل في البحر من البر، وجعل على أعلاها تماثيل من النحاس وغيره، وفيها تمثال قد أشار بسبابته من يده اليمنى نحو الشمس أينما كانت من الفلك، وإذا علت في الفلك فإصبعه مشيرة نحوها فإذا انخفضت يده سفلاً، يدور معها حيث دارت، ومنها تمثال يشير بيده إلى البحر إذا صار العدو منه على نحو من ليلة، فإذا دنا وجاز أن يرى بالبصر لقرب المسافة سمع لذلك التمثال صوت هائل يسمع من ميلين أو ثلاثة، فيعلم أهل المدينة أن العدو قد دنا منهم، فيرمقونه بأبصارهم، ومنها تمثال كلما مضى من الليل والنهار ساعة سمعوا له صوتاً بخلاف ما صوت في الساعة التي قبلها، وصوته مُطْرِب.
وقد كان ملك الروم في مدة الوليد بن عبد الملك بن مروان أنفذ خادماً من خواص خدمه ذا رأي ودهاء سراً، ؤجاء مستأمناً إلى بعض الثغور، فورد بآلة حسنة، ومعه جماعة، فجاء إلى الوليد فأخبره أنه من خواص الملك، وأنه أراد قتله لَموْجدَةٍ وحال بلغته عنه لم يكن لها أصل، وأنه استوحش منه، ورغب في الِإسلام، فأسلم على يدي الوليد، وتقرب من قلبه، وتنصح إليه في دفائن استخرجها له من بلاد دمشق وغيرها من الشام بكتب كانت معه فيها صفات تلك الدفائن، فلما رأى الوليد تلك الأموال والجواهر شَرِهَتْ نفسه، واستحكم طمعه، فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين، إن ههنا أموالاً وجواهر ودفائن للملوك، فسأله الوليد عن الخبر، فقال: تحت منارة الإسكندرية أموال الأرض، وذلك أن الإسكندر احتوى على الأموال والجواهر التي كانت لشداد بن عاد وملوك العرب بمصر والشام، فبنى لها الأزاج تحت الأرض، وقَنْطَر لها الأقَبَاء والقناطر والسراديب، وأودعها تلك الذخائر من العين والوَرِق والجواهر وبنى فوق ذلك هذه المنارَةَ، وكان طولها في الهواء ألف ذراع، والمرآة على علوها والدبادبة جلوس حولها، فإذا نظروا إلى العدو في البحر في ضؤ تلك المرآة صوتوا بمن قرب منهم، ونصبوا ونشروا أعلاماً فيراها من بَعُدَ منهم فيحذر الناس وينفر البلد، فلا يكون للعدو عليهم سبيل، فبعث الوليد مع الخادم بجيش واناس من ثقاته وخواصه فهدَمَ نصف المنارة من أعلاها، وأزيلت المرآة؟ فضج الناس من أهل الإسكندرية وغيرها، وعلموا أنها مكيدة وحيلة في أمرها، ولما علم الخادم استفاضة ذلك، وأنه سينمى إلى الوليد، وأنه قد بلغ ما يحتاج إليه هرب في الليل في مركب كان قد أعده، وواطأ قومأ على ذلك من أمره، فتمت حيلته، وبقيت المنارة على ما ذكرنا إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- وكان حوالي منارة الإسكندرية في البحر مغَاصٌ يخرج منه قطع من الجواهر تتخذ منه فصوص للخواتم يشبه أنواعا من الجواهر: منه السكركهن والأدرك وأشباد جشم، ويقال: إن ذلك من الألات التي كان اتخذها الإسكندر للشراب، فلما مات كسرتها أمه صرَمَتْ بها في تلك المواضِع من البحر، ومنهم من رأى أن الإسكندر اتخذ ذلك النوع من الجوهر وغرقه حول المنارة لكيلا يخلو من الناس حولها، لأن من شأن الجوهر أن يكون مطلوباً أبداً في كل عصر في معدنه براً أو بحراً، فيكون الموضع على عوام الأوقات بالناس معموراً، والأكثر مما يستخرج من الجوهر حول منارة الإسكندرية الأشباد جشم، وقد رأيت كثيراً من أصحاب التلويحات وممن عُنِيَ بأعمال الجواهر المنسوبة بالمغرب يعمل هذه الجواهر المعروفة بالأشباد جشم، ويتخذ منه الفصوص وغيرها، وكذلك الفصوص المعروفة بالباقلمون وهي ترى ألواناً مختلفة من حمرة وخضرة وصفرة تتلون في المنظر ألواناً مختلفة على حسب ما قدمنا، والتلون من ذلك على حسب الجرهر في صفائه واختلاف نظر البصر في إدراكه، وتلون هذا النوع من الجوهر- أعني الباقلمون- نحو تلون ريش صدر الطواوشى ؟ فإنها تلون ألواناً مختلفة بأذنابها وأجنحتها- أعني الذكور دون الإناث- وقد رأيت منها بأرض الهند ألواناً تظهر لحس البصر عند تأملها، لا تدرك ولا تحصى، ولا تشبه بلوق من الألوان؟ لما يتراثف من تموج الألوان في ريشها، ويتأتى ذلك منها لعظمٍ خلقها وكبر أجسامها وسعة ريشها؟ لأن للطواوس بأرض الهند شأناً عجيبا، والذي يحمل منها إلى أرض الإسلام ويخرج عن أرض الهند فيبيض ويفرخ تكون صغيرة الأجسام، كَدِرَة الألوان، لا تخطف أنوار الأبصار بإدراكها، وأنما تشبه بالهندية بالشبه اليسير، هذا في الذكور منها دون الإناث.
وكذلك شجر النارنج والأترج المدور، حمل من أرض الهند إلى أرض غيرها بعد الثلثماثة، فزرع بعمان ثم نقل إلى البصرة والعراق والشام، حتى كثر في دور الناس بطرسوس وغيرها من الثغور الشامية وإنطاكية وسواحل الشام وفلسطين ومصر، وما كان يعهد ولا يعرف، فعدمت منه الروائح الخمرية الطيبة، واللون الحسن الذي يوجد فيه بأرض الهند؟ لعدم ذلك الهواء والتربة والماء وخاصية البلد.
ويقال: إن المنارة إنما جعلت المرآة في أعلاها؟ لأن ملوك الروم بعد الإسكندر كانت تحارب ملوك مصر والإسكندرية، فجعل من كان بالإسكندرية من الملوك تلك المرآة تُرِي من يرد في البحر من عدوهم، إلا أن من يدخلها يتيه فيها إلا أن يكون عارفاً بالدخول والخروج فيها لكثرة بيوتها وطبقاتها ومَمَارقها، وقد ذكر أن المغاربة حين وافوا في خلافة المقتدر في جيش صاحب المغرب دخل جماعة منهم على خيولهم إلى المنارة فتاهوا فيها، وفيها طرق تؤوَل إلى مَهَاوٍ تهوي إلى سرطان الزجاج، وفيها مخارق إلى البحر فتَهَؤرواً بدوابهم، وفقد منهم عدد كثير، وعلم بهم بعد ذلك، وقيل: إن تهورهم كان في كرسي بها قدامها، وفيها مسجد في هذا الوقت يرابط فيه في الصيف متطوعة المصريين وغيرهم.
ولبلاد مصر والإسكندرية والمغرب وبلاد الأندلس ورومية وما في الشرق واليمن والمغرب أخبار كثيرة في عجائب البلدان والأبنية والآثار وخواص البقاع وما يؤثر في ساكنيها وقطانها أعرضنا عن ذكرها؟ إذ كنا قد أتينا على الأخبار عنها فيما سلف من كتبنا من عجائب العْالم وحيوانه وبره وبحره، فأغنى ذلك عن إعادة ذكره.
ولم نتعرض فيما سلف من هذا الكتاب لذكر بيوت النيران والهياكل المعظمة والبيوت المشرفة وغير ذلك مما يليق بمعناها، بل نذكرها في الموضع المستحق لها من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.