ذكر السودان وأنسابهم واختلاف أجناسهم وأنواعهم وتباينهم في ديارهم وأخبار ملوكهم

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكر السودان وأنسابهم واختلاف أجناسهم وأنواعهم وتباينهم في ديارهم وأخبار ملوكهم

ولد كوش بن كنعان ومساكنهم

قال المسعودي: ولما تفرق ولد نوح في الأرض سار ولد كوش بن كنعان نحو المغرب حتى قطعوا نيل مصر، ثم افترقوا فسارت منهم طائفة مُيَمِّنة بين المشرق والمغرب وهم النوبة والبجة والزنج، وسار فريق منهم نحو المغرب وهم أنواع كثيرة نحو الزغاوة والكانم ومركه وكوكو وغانة وغير ذلك من أنواع السودان والدمادم، ثم افترق الذين مضوا بين المشرق والمغرب، فصارت الزنج من المغير والمشكر وبربرا وغيرهم من أنواع الزنج، وقدمنا فيما سلف عند ذكرنا للبحر الحبشي، الخليج البربر في وما عليه من أنواع السودان واتصالهم في ديارهم إلى بلاد الدهلك والزيلع وناصع، وهؤلاء القوم أصحاب جلود النمور الحمر وهي لباسهم، ومن أرضهم تحمل إلى بلاد الإسلام، وهي أكبر ما يكون من جلود النمورة وأحسنها للسروج، وبحر الزنج والأحابش هو عن يمين بحر الهند، وإن كانت مياههما متصلة، ومن أرضهم يحمل الذبل من ظهور السلاحف، وهو الذي تتخذ منه الأمشاط كالقرون، وأكثر ما تكون الدابة المعروفة بالزرافة في أرضهم، وإن كانت عامة الوجود في أرض النوبة دون سائر بلاد الأحابش.

الزرافة

وقد تتوزع في نتاج هذا النوع من الدواب المعروفة بالزرافة، فمنهم من رأى أن بدء نتاجها من الإبل، ومنهم من رأى أن ذلك كان بجمع بين الإبل والنمورة وأن الزرافة ظهرت من ذلك، ومنهم من زعم أنه نوع من الحيوان قائم بذاته كقيام الخيل والحمير والبقر، وأن ليس سبيلها كسبيل البغال المولدة من النتاج بين الخيل والحمير، وتدعي الزرافة بالفارسية اشتركاو، وقد كانت تهدى إلى ملوكهم من أرض النوبة كما تحمل إلى ملوك العرب ومن مضى من خلفاء بني العباس وولاة مصر، وهي دابة طويلة اليدين والرقبة، قصيرة الرجلين، لا ركبتين لرجليها وإنما الركبتان ليديها، وقد ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان عند ذكر الزرافة كلاماً كثيراً في نتاجها، وأن في أعالي بلاد النوبة يجتمع سباع ووحوش ودواب كثيرة في حَمَارَة القيظ إلى شرائع المياه، فتتسافد هنالك، فيلقح منها ما يلقح ويمتنع منها ما يمتنع، فيجيء من ذلك خلق كثير مختلفون في الصور والأشكال ؛ منها الزرافة ذات الأظلاف، وهي دابة منحنية إلى خلفها، منصوبة الظهر إلى مؤخرها وذلك لقصر رجليها، وللناس في الزرافة كلام كثير على حسب ما قدمنا في بدء نتاجها، وأن النمور ببلاد النوبة عظيمة الخلق، وأن الإبل صغيرة الخلق قصيرة القوائم، وأن ذلك كاتساع أرحام القلاص العربية، لفوالج كرمان وغيرها من إبل خراسان، فيظهر بينهما ويتولد عنهما الجمال البخت والجمازات ، ولا ينتج بين بختى وبختية، وإنما يصح هذا النوم من الإبل بين فوالج الإبل، وهي ذات السنامين، وبين قلاص الإبل، وهي النوق العربية، وكنتاج البخت بين البجاوية والمهرية، وللزرافة أخبار كثيرة قد ذكر ذلك صاحب المنطق في كتابه الكبير في الحيوان ومنافع أعضائها وغير ذلك من سائر أعضاء الحيوان، وقد أتينا على جميع ما يحتاج إليه من ذلك في كتابنا المترجم ب القضايا والتجارب.

والزرافة عجيبة الفعل في إلفها، وتووُّرها إلى أهلها، وهي كالفيلة: منها وحشية، ومنها مستأنسة أهلية، مع من قدمنا ذكره من الزنوج والأجناس من الأحابش الذين صاروا عن يمين النيل، ولحقوا بأسفل البحر الحبشي، وقطعت الزنج دون سائر الأحابش الخليج المنفصل من أعلى النيل الذي يصبُّ إلى بحر الزنج، فسكنت الزنج في ذلك الصقع، واتصلت مساكنهم إلى بلاد سفالة، وهي أقاصي بلاد الزنج، وإليها تقصد مراكب العمانيين والسيرافيين، وهي غاية مقاصدهم في أسافل بحر الزنج كما أن أقاصي بحر الصين متصل ببلاد السيلي، وقد تقدم ذكرها فيما سلف من هذا الكتاب، وكذلك أقاصي بحر الزنج هو بلاد سفالة، وأقاصيه بلاد الواق واق، وهي أرض كثيرة الذهب، كثيرة العجائب، خصبة حارة.

وقليمي ملك الزنج

واتخذها الزنج دار مملكة، وملكوا عليهم ملكا سموه وقليمي، وهي سمة لسائر ملوكهم في سائر الأعصار على ما قدمنا آنفا، ويركب وقليمي - وهو يملك ملوك سائر الزنوج - في ثلثمائة ألف فارس، ودوابهم البقر، وليس في أرضهم خيل ولا بغال ولا إبل، ولا يعرفونها، وكذلك لا يعرفون الثلج والبرد، ولا غيرهم من الأحابش، ومنهم أجناس محددة الأسنان يأكل بعضهم بعضاً.

ومساكن الزنج من حد الخليج المتشعب من أعلى النيل إلى بلاد سفالة والواق واق، ومقدار مسافة مساكنهم واتصال مقاطنهم في الطول والعرض نحو سبعمائة فرسخ أودية وجبال ورمال.

صيد الفيلة

والفيلة في بلاد الزنجِ في نهاية الكثرة، وحشية كلها غير مستأنسة، والزنج لا تستعمل منها شيئاَ في حروب ولا غيرها، بل تقتلها، وذلك أنهم يطرحون لها نوعاً من ورق الشجر ولحائه وأغصانه يكون بأرضهم في الماء، ويختفي رجال الزنج، فترد الفيلة لشربها، فإذا وردت وشربت من ذلك الماء حرقها وأسكرها، فتقع، ولا مفاصل لقوائمها ولا ركب على حسب ما قدمنا، فيخرجون إليها بأعظم ما يكون من الحراب فيقتلونها لأخذ أنيابها؛ فمن أراضيهم تجهز أنياب الفيلة، في كل ناب منها خمسون ومائة مَنًّ، بل أكثر من ذلك والاثنان منها ثلثمائة مَنًّ، وأكثر من ذلك فيجهز الأكثر منها من بلاد عمان إلى أرض الصين والهند، وذلك أنها تحمل من بلاد الزنج إلى عمان، ومن عمان إلى حيث ذكرنا؛ ولولا ذلك لكان العاج بأرض الإسلام كثيراً، وأهل الصين يتخذ ملوكها وقوادها وأراكنتها الأعمدة من العاج، ولا يدخل قوِّادها ولا أحد من خواصها على ملوكها بشيء من الحديد، بل بتلك الأعمدة المختلفة من العاج، ورغبتهم فيما استقام من أنياب الفيلة ولم يتقوس، لاتخاذ الأعمدة منها على ما ذكرنا، ويستعمل العاج في دخن بيوت أصن أمه ا وأبخرة هياكلها، كاستعمال النصارى في الكنائس الدخنة المعروفة بدخنة مريم وغيرها من الأبخرة، وأهل الصين لا يتخذون الفيلة في أرضهم، ويتطيرون من اقتنائها عندهم والحرب عليها؛ لخبر كان لهم في قديم الزمان في بعض حروبهم.

لعب الشطرنج ومقامرة الهندبه

والهند كثيرة الاستعمال لما يجهز إليهم من العاج في نُصُب الخناجر، وهي الحراري، أحدها حَرَي، وفي قوائم سيوفها، وهي القراطل، وأحدها قرطل، وهي سيوف معوجة، والأغلب في استعمال الهند العاج اتخاذها منه الشطرنج والنرد، والشطرنج ذو صور وأشكال على صور الحيوان من الناطقين وغيرهم، كل قطعة من الشطرنجِ كالشبر في عرض ذلك بل أكثر، فإذا لعبوا بها فإنما يقوم الواحد منهم قائماَ فينقلها في بيوتها، والأغلب عليهم القمار في لعبهم بالشطرنج والنرد على الثياب والجواهر، وربما أنفد الواحد منهم ما معه فيلعب في قَطْع عضو من أعضاء جسمه، وهو أن يجعلوا بحضرتهم قدرا ًمن النحاس صغيرة على نار فحم فيها دهن لحم أحمر فيغلي ذلك الدهن المدمل للجراح والماسك لسيلان الحم، فإذا لعب في إصبع، من أصابعه وقُمِرَ قطعها بذلك الخنجر، وهو مثل النار، ثم غمس يده في ذلك الدهن، فكواها، ثم عاد إلى لعبه، فإذا توجه عليه اللعب أبان إصبعا ثانية، وربما توجه عليه اللعب في قطع الأصابع والكف ثم الذراع والزند وسائر الأطراف، وكل ذلك يستعمل فيه الكي بذلك الدهن وهو دهن عجيب يعمل من أخلاط وعقاقير بأرض الهند عجيب المعنى، لما ذكرنا، وما ذكرناه عنهم فمستفيض من فعلهم.

الفيل ببلاد الهند

والهند تتخذ الفيلة في بلادها وتتناتج في أرضها، ليس فيها وحشية، وإنما هي حربية ومستعملة كاستعمال البقر والإبل، وأكثرها يأوي إلى المروج والضياع والغياض كالجواميس في أرض الإسلام، والفيلة تهرب من المكان الذي يكون فيه الكركدن على حسب ما قدمنا، فلا ترعى في موضع تشم فيه رائحة الكركدن، ويعمر الفيل بأرض الزنج نحواً من أربعمائة سنة، كذلك يذكر الزنج؛ لأنها تعرف في ديارها ومفاوزها، والفيل العظيم مما لا يتأتى لهم قتله، ومنها الأسود والأبيض والأبلق والأغبر، وفي أرض الهند منها ما يعمر المائة سنة والمائتين، ويضع حمله في كل سبع سنين.

حيوان الزبرق

ولها بأرض الهند آفة عظيمة نوع من الحيوان يعرف بالزبرق، وهي دابة أصغر من الفهد أحمر ذو زَغَب وعينين براقتين عجيبة سريع الوثبة، يبلغ في وثبته الثلاثين والأربعين والخمسين ذراعاً، وأكثر من ذلك، فإذا أشرف على الفيل رشش عليه بوله بذنبه فيحرقها. وربما لحق الإنسان فأتى عليه، وفي الهند من إذا أشرفت عليه هذه الدابة تعلق بأكبر ما يكون من شجر الساج، وهي أكبر من النخل وأكبر من شجر الجوز، تكِنّ الشجرة منها الخلق الكثير من الناس وغيرهم من الحيوان على حسب ما يحمل إلى البصرة والعراق ومصر من خشب الساج في طوله، فإذا تعلق الإنسان بأعلى تلك الشجرة وعجز هذا الحيوان عن إدراكه لصق بالأرض ووثب إلى أعلى الشجرة، فإن لم يلحق الإِنسان في وثبته رشش من بوله إلى أعلى الشجرة، وإلا وضع رأسه في الأرض وصاح صياحاً عجيباً، فيخرج من فيه قطع دم ويموت من ساعته، وأي موضع من الشجرة سقط عليه بوله أحرقه، وإن أصاب الإنسان شيء من بوله أتلفه، وكذلك سائر الحيوان.

وملوك الهند تتخذ في خزائنها مرارة هذه الدابة، ومذاغيره، ومواضع من أعضائه، وهو السم القاتل من ساعته، ومنه ما يسقى به السلاح فيتلف من فوره، ومذاغير هذه الدابة كمذاغير كلب الماء الذي يخرج منه الجند بادستر، وهذا الكلب أمره مشهور عند الصيادلة وغيرهم، وهو اسم فارسي معرب، وإنما هوكند وتفسير ذلك الخصية، فعرب فقيل جند بادستر.

والدابة المتقدم ذكرها المعروفة بالزبرق لا تأوي إلى موضع يكون فيه النوشان- وهو الكركدن- وتهرب منه كما يهرب منه الفيل أيضاً، والفيل يهرب من السنانير- وهي القطاط- ولا يقف لها البتة إذا أبصرها، وقد ذكر عن ملوك الفرس أنها كانت توقي الفيلة المقاتلة بالرجالة حولها ومراعاة حيل الأعداء عند الحرب بتخلية السنانير عليها، وكذلك أفعال ملوك السند والهند إلى هذه الغاية، وقد ذكر أن الخنازير ربما تهرب منها الفيلة.

وقد كان رجلِ بالمولتان من أرض السند يدعى هارون بن موسى مولى الأزد، وكان شاعراَ شجاعاً ذا رياسة في قومه ومنعة بأرض السند مما يلي أرض المولتان، وكان في حصن له، فالتقى مع بعض ملوك الهند وقد قدمت الهند أم أمه ا الفيلة، فبرز هارون بن موسى أمام الصف وقصد لعظيم من الفيلة وقد خبأ تحت ثوبه سنورا، فلما دنا في حملته من الفيل خلى القط عليه، فولَى الفيل منهزماً لما بصر بذلك الهر، وكان ذلك هزيمة الجيش، وقتل الملك، وغلبة المسلمين عليهم، ولهارون بن موسى قصيدة يصف فيها ما ذكرناه وهي:

أليس عجيبـاً بـأن تـلـقـه

 

له فطن الأسد في جرم فـيل

وأطرف من نسـبـه زولـه

 

بحلم يجل عن الخنـشـبـيل

أليس عجيبَـاَ بـأن تـلـقـه

 

غليظ الدراك لطيف الحـوِيل

وأرقص مختلـف خـلـقـه

 

طويل النيوب قصير النصيل

ويخضع لليث ليث الـعـرين

 

فإن ناشب الهر من رأس ميل

ويلقى العدو بنـاب عـظـيم

 

وجوف رحيب وصوت ضئيل

وأشبـه شـيء إذا قـسـتـه

 

بخنزير بر وجامـوس غـيل

ينـازعـه كـــك ذي أريع

 

فما في الأنام له مـن عـديل

ويعصف بالبَبْر ِبعد النـمـور

 

كما تعصف الريح بالعندبـيل

وشخـص تـرى يده أنـفـه

 

فإن وصلوه فسيف صـقـيل

وأقبل كالطَّوْد هادي الخمـيس

 

بصوت شديد أمام الـرعـيل

فمر بسـيل كـسـيل الاتـي

 

بخطو خفيق وجـرم ثـقـيل

فان سُمْتَه زاد فـي هـولـه

 

بشاعة أذنين في رأس غـول

وقد كنت أعـددت هـراً لـه

 

قليل التهيب لـلـزنـدبـيك

فلما أحَسَّ به في الـعـجـاج

 

أتانا الإله بـفـتـح جـلـيل

وطـار وراغـمَ فـيَّالـــه

 

بقلب نخيب وجسـم ثـقـيل

فسبحـان خـالـقـه وحـده

 

إلـه الأنـام ورب الـفـيول

العندبيل: طائر صغير يكون بأرض السند والهند، تذكره الشعراء في أشعارها تمثلا به لصغره، والزندبيل: هو العظيم من الفيلة والمقدم فيها،وقد قيل: إن الزندبيل هو اسم لما اشتد في الحرب من إناث الفيلة، وقد ذكر بعض الشعراء في هذا المعنى الزندبيل عند ذكره للفيل فقال:

ذاك الذي مشفره طويل

 

وهو من الأفيال زندبيل

وقال آخر:

وفيلُهُ كالطود زندبيل

وقد ذكر عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب الحيوان هذه القصيدة، وفسر بعض أبياتها، وذكر في معنى الخنشبيل وتفسيره قول الأنصاري في صفة النحل:

تبيض العشـاء بـأذنـابـهـا

 

وفى مدر الأرض عنها فضول

ويشبعها المص مص الـثـرى

 

إذا عاجت الشاة والخنشـبـيل

قال: وهذا غير قوله:

قد علمت جارية عُطْبًـول

 

أني بنصل الصيف خَنْشَبِيل

والفيلة لا تنتج ولا تتوالد إلا بأرض الزنج والهند، ولا تعظم أنيابها بأرض السند والهند على حسب ما تعظم بأرض الزنج، والزنج تتخذ من جلود الفيلة الدَوق وكذلك الهند، ولا يلحق ذلك في المنعة شيء من الدرق الصيني والتبتي، واللمطي والبجاوي، ولا ما نقع في اللبن وغير ذلك من أنواع الدرق.

وخرطومه أنفه، وبه يوصَلُ الطعام والشراب إلى جَوْفه، وهو شيء بين إلغضروف واللحم والعصب، وبه يقاتل ويضرب، ومنه يصيح، وليس صوت الفيل على مقدار عظم جسمه وكبر خلقه.

عناية المنصور بالفيلة

وقد كان المنصور عُني بجمع الفيلة لتعظيم الملوك السالفة إياها واقتنائها لها، وإعدادها للحروب والزينة في الأعياد وغيرها؛ فإنها أوطأ مراكب الملوك و أمه دُها، وأخبرني بعض الكتاب ممن يرجع إلى أدب وعقل ومعرفة بأيام الناس بمدينة السلام، أنه اشترى بغلة في غاية الفَرَاهة والحسن، فكان يركبها في مهماته وتصرفاته، وكانت إذا رأت الجمال البُخْت أو العراب من العَمَّالة أو غيرها في الطريق نفرت وَشَبَّتْ، وكان يلقي منها جهدأ جهيدأ فيصبر على ذلك المكروه، لما هي علية من الفراهة والحسن، وأنه لا يحمله غيرها لعظم جسمه وكبر بطنه وسمنه قال: فلما كان في بعض الأيام اجتزت باب الطاق- وذلك في أيام المقتدر، وقد أخرج الفيلة للرياضة والتمهيد وليحمل عليها الليث بن علي الصفار وأصحابه، وقد كان مؤنس المظفر الخادم أسره ببلاد فارس حين خرج على السلطان- قال: فأشرفت على قطار من الجمال البُخْتِ منهزمة خائفة من الفيل، تجمز في مشيتها، لاسبيل لمن عليها أن يحبسها لما قد لحقها من الجزع، فلما رأت البغلة ذلك شَئت وَوَلت على عقبها، وَرمت بي الأرض فوقعت كجلد ثور منفوخ، ودخلت الجمال إلى درب لا ينفد، وقد كانت البغلة حين رمت بي ونفرت من الجمال دخلت ذلك الدرب، وجاءت الفيلة على أثر ذلك، فلما نظرت البغلة إلى الفيلة وعظم خلقها لحقت بالجمال ودخلت بينها كأنها لم تزل معها وتزلزلت كتزلزل الجمال، إذ رآني جماعة من الناس، فرفعوني، ودخل الغلام فأخرج البغلة، وما استطاع إخراجها حتى مضت الفيلة، وأخرجت من وسط بعض الجمال، فواللّه ما نفرت بعد ذلك من جمل، وقد ألفت الجمال حتى كأنها بعضها؛ لاستصغارها صورة الجمل عن ما شاهدت من عظم صورة الفيل.
عود إلى وصف الفيل: وكل حيوان في لسان فأصل لسانه إلى داخل، وطرفه إلى خارج، إلا الفيل؛ فإن طرف لسانه إلى داخل وأصله إلى خارجِ، والهند تزعم أنه لولا أن لسانه مقلوب ثم لقن الكلام لتكلم، والهند تُشرِّفُ الفيل وتفضله على سائر الحيوان، لما اجتمع فيه من الخصال المحمودة: من علو سمكه، وعظم صورته، وبديع منظره، واتصال صَهْوَته، وطول خرطومه، وسَعَة أذنه، وكبر غرموله، مع خفة وطئه، وطول عمره، وثقل جسمه، وقلة اكتراثه بما وضع على ظهره، وأنه- مع كبر هذا الجسم وعظم هذه الصورة- يمر بالإنسان فلا يحس بوطئه، ولا يشعر به حتى يغشاه لحسن خطوته واستقامة مشيه. وقد وصف عمرو بن بحر الجاحظ الفيل في كتاب الحيوان فأغرق في وصفه، وأكثر في مدحه، وعدد معاني كثيرة في صفة الفيل وهيئته، وما هو عليه من عجيب التركيب وغريب التأليف، والمعاني الصحيحة، والإحساسات اللطيفة، وفي قبولها التأديب وصحة تمييزها وسرعتها إلى التلقين والتقويم، وما في أبدانها من الأعضاء الكريمة، والأجزاء الشريفة، وكم مقدار منافعها، ومبلغ مضارها، وبتلك الفضيلة من الإحساس فاقت تلك الأجناس، وما فيها من الآيات والبرهانات والعلامات النيرات التي جلاها اللّه لعيون خلقه، وفرق بينها وبين عقول عبادة، وقيدها عليهم، وحفظها لهم، لتكثر لهم، وتزيد بهم إلى وضوح الحجة، وتسخرهم لتمام النعمة، وما ذكر اللّه في الكتاب الناطق والخبر الصاعق، وفي الآثار المعروفة، والأمثال المضروبة، والتجارب الصحيحة، وما قالت الشعراء فيه، ونطقت به الفصحاء، وميزته العلماء، وعجبت منه الحكماء، وحالها عند الملوك، وموضع نفعها عند الحروب، وتباينها في العلوم، وجلالتها في الصدور، وفي طول أعمارها، وقوة أبدانها، وفي اعتز أمه ا وتصميمها وأحقادها وشدة اكتراثها، وطلبها بطوائلها، وارتفاعها عن ملك السُّقاط واقتناء السفلة والأراذل وعن ارتخاصها في الثمن، وارتباطها على الخسف، وابتذالها، وإذلالها، وعن امتناع طبائعها، وتمنع غرائزها أن تصلح أبدانها وتنبت أنيابها وتعظم جوارحها وتتسافد وتتلاقح إلا في معادنها وبلادها ومغارس أعراقها، مع التماس الملوك ذلك منها، وطمع القوم عليها بالتقرب بذلك منها، حتى أعجزت الحيل، وخرجت عن حد الطمع، وعن الأخبار عن حملها ووضعها ومواضع أعضائها، والذي خالفت فيه الأشكال الأربعة التي تحيط بالجميع مما يستناخ، أو يقوم أو يمشي أو يطر، وجميع ما ينتقل عن أولية خلقه، وما يبقى على الطبع الأول من صورته وعما يتنازعه من شبه الحيوان، وما يخالف فيه جميعِ الحيوان، وعن القول في شدة قلبه وأسره وفي حدته على ما هو أعظم بدناَ وأشد قلباً وأحَذُ ظفرأَ وذرب لساناً وهربه مما هو أصغر جسماً، وأكلُّ حداً، وأضعف أسراً، أخمل ذكراً، وعن الأخبار عن خصاله المذمومة، وأموره المحمودة، وعن القول في لونه وجلده وشعره ولحمه وشحمه وعظمه وبوله ونَجْوِه، وعن لسانه وفمه، مع غير ذلك من المواعيد الكثيرة التي تضمنت إيرادها، فلما أنتهي إلى موضع نظمها وإيراد وصفها وما أسلفه من القول في هذه المعاني التي قدًمها أورد جوامع متفرقة، ولمعاً غير متسقة في الفيلة وغيرها، وأعرض عن إِيراد خواص أعضائها، وأكثر منافعها، وعجيب خصالها، وما ذكر من أسرار الطبيعة فيها- وما قالته فلاسفة الهند في بدْئها، وما أثرته عمن تقدم من حكمائها في بدء أوليتها وعلة تكوينها في أرض الزنج والسند، دون سائر البقاع من الأرض، والسبب المانع لتكونها في غيرها، والتضاد الذي بينها وبين الكركدن مع عظم خلقهاِ، وفرارها من السنور، مع صغر حجم جسمه ولطافة منظره، وعن كثرة الطرب الذي يوجد في الفيل دون غيره من الحيوان، وقبولها الرياضة والدربة والمعرفة عند المحاورة، والدهاء، والخبث، والتمييز.

وقد ذكر صاحب المنطق في كتاب الحيوان جملاً كثيرة من خصال الفيل ومنافع أعضائه، وسلك طريقة لم يسلكها من تقدم من حكماء الهند في الفيل، وما ذهب إليه حكماء الهند من أن العالم بما فيه من الأجسام على جهات ثلاث: متفق، ومختلف، ومضاد، وأن ذلك في الجملة هو جماد ونامٍ، وإخراجهم عن العالم- الأفلاك والنجوم والبروج وغير ذلك من الأجسام السماوية، وأنها ليست بجماد ولا نام، وأنها أحياء ناطقة.

عود إلى وصف الزنج

قال المسعودي: فلنرجع الآن إلى ما كنا فيه آنفا في صدر هذا الباب، من ذكر الزنج وبلادهم وغيرهم من الزنج أو الأحأبش، فالزنج مع كثرة اصطيدها لما ذكرنا من الفيلة وجمعها لعاجها- غير منتفعة بشيء من ذلك في آلاتها، وإنما تتحلى الزنج بالحديد بدلاً عن الذهب والفضة، وما ذكرنا من دوابهم أنها بقر، وأنهم عليها يتقاتلون بدلاً من الإبل والخيل، وهي بقر تجري كالخيل بسروج ولُجُم، ورأيت بالري نوعا، من هذا البقر يبرك كما يبرك الجمل، ويثور بجمله كما تثور الإبل إذا استقلَّت بأحمالها، وهذا النوع من البقر يحمل عليه الميتة من الحيوان كالخيل والإبل والحمير والبغال، وملاكها نوع من المجوس مزْدَقية، ولهم خارج الري قرية لا يسكن معهم فيها غيرهم، فإذا مات بالري أو قَزْوِين شيء مما ذكرنا من البهائم ورد الواحد منهم مع ثوره فأناخه، وحمل عليه تلك الجيفة وسار بها إلى قريته، فأكلُهم منها، وبنيانهم من عظ أمه ا، ويحففون من لحمها ما يدخرونه لشتائهم، فأكثر أكلهم وأكل بقرهم من تلك اللًّحْمَان رطبَاَ ويابساً، وهذا النوع من البقر الغالب عليه حمرة الحدق، وسائر البقر تنفر وتهرب من هذا البقر، ورأيت بأصبهان وقدم منها ما في أنوفها حلق الحديد والصُّفْر، قد خزمت فيها الحبال، وخطمت بها كما يفعل بالجمال البخت، وكذلك بالري رأيت ثوراً منها قد عدا نحو ثور من غير هذا النوعِ، فلما رآه قد قصده قام فزعاً من هذا الجنس.

وليس في سائر أنواع البقر ما يأوي المياه والجزائر والبحيرات إلا البقر المعروف الحبشية التي تكون ببلاد مصر وأعمالها، وبحيرة تنيس ودمياط وما اتصل بتلك الديار، وأما الجواميس فإنها بالثغر الشامي تجر أكبر ما يكون من العَجَل، في أنوفها حلق الحديد والصُفْر على ما ذكرنا من البقر، وكذلك منها ببلاد إنطاكية، وأكثر ذلك ببلاد السند والهند وطبرستان، وقْرون تلك البقر أكبر من قرون هذه الجواميس التي بأرض الإسلام، وطول القرن منها نحو الزراع والذراعين وكذلك الجواميس كثيرة بأرض العراق مما يلي طفوف الكوفة والبصرة والبطائح وما اتصل بهذه الديار، والناس يذكرون عنقاء مًغْرب ويصورون العنقاء في الحمامات وغيرها، ولم أجد أحدا في هذه الممالك ممن شاهدته أو نمي إلي خبره ذكر أنه رآها، ولست أدري كيف ذلك، ولعله اسم لا مسمى له.

تفسير لقب ملك الزنج

ولنرجع الآن إلى أخبار الزنج وأخبار ملوكها: فأما تفسير اسم ملك الزنج-الذي هو وقليمي- فمعنى ذلك ابن الرب الكبير، لأنه اختار لملكهم والعدل فيهم، فمتى جار الملك عليهم في حكمه وحاد عن الحق قتلوه وحرموا عقبه الملك، ويزعمون أنه إذا فعل ذلك فقد بطل أن يكون ابن الرب الذي هو ملك السموات والأرض، ويسمون الخالق عز وجل ملكنجلو، وتفسيره الرب الكبير، والزنج أولو فصاحة في ألسنتهم، وفيهم خطباء بلغتهم، يقف الرجل الزاهد منهم فيخطب على الخلق الكثير منهم، ويرغبهم في القرب من بارئهم،- ويبعثهم على طاعته، ويرهبهم من عقابه وصولته، ويذكرهم من مضى من ملوكهم وأسلافهم، وليس لهم شريعة يرجعون إليها، بل رسوم لملوكهم، وأنواع من السياسات يسوسون بها رعيتهم، وأكلهم الموز، وهو ببلادهم كثير، وكذلك بأرض الهند، الغالب على أقوات الزنج الذرة، ونبت يقال له الكلاري يقلع من الأرض: كالكمأة، والراسن، ومنه كثير ببلاد عدن وما اتصل بها من أرض اليمن، ويشبه هذا الكلاري القلقاس الذي يكون بالشام ومصر، ومن غذائهم أيضا العسل واللحم، ومن هويَ منهم شيئاَ من نبات آو حيوان أو جماد يجده، وجزائرهم في البحر لا تحصي كثرة، وفيها النار جيل يعم أكله سائر الزنج، ومن بعض تلك الجزائر جزيرة بينها وبين ساحل الزنج نحو من يوم أو يومين، فيها خلائق من المسلمين يتوارثها ملوك من المسلمين، يقال لها قنبلو، على حسب ما ذكرنا من أمرها في هذا الكتاب.

مساكن النوبة

وأما النوبة فافترقت فرقتين: فرقة في شرق النيل وغربية، وأناخت على شطيه، فاتصلت ديارها بديار القبط من أرض مصر والصعيد من بلاد أسوان وغيرها، واتسعت مساكن النوبة على شاطئ النيل مصعدة، ولحاقوا بقريب من أعاليه، وبنوا دار مملكة، وهي مدينة عظيمة تدعئ دنقلة، والفريق الأخر من النوبة يقال لهم علوة، وبنوا مدينة عظيمة وسموها سرية. قال المسعودي: وانتهيت في تصنيفي إلى هذا الموضوع من كتابنا هذا في شهر ربيع الأخر سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وكنت بفسطاط مصر فأخبرت أن الملك في مدينة دنقلة للنوبة كابل بن سرور، وهو ملك أبن ملك ابن ملك فصاعدا وملكه يحتوي على ما قرة وعلوة، والبلد المتصل بمملكته بأرض أسوان يعرف بمريس، وإليه تضاف الريح المريسية، وعمل هذا الملك متصل بأعمال مصر من ارض الصعيد ومدينة أسوان.

البجة

وأما البجة فإنها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر، وتشعبوا فرقا، وملكوا عليهم ملكا، وفي أرضهم معادن الذهب، وهو التبر، ومعادن الزمرّد، وتتصل سراياهم ومناسرهم على النُّجُبِ إلى بلاد النوبة، فيغيرون وسبون، وقد كانت النوبة قبل ذلك أشد من البجة، إلى أن قوتي الإسلام وظهر، وسكن جماعة من المسلمين معدن الذهب وبلاد العلاة وعلاقي و عيذاب، وسكن في تلك الديار خلق من العرب من ربيعه بن نزار بن معد بن عدنان، فاشتدت شوكتهم، وتزوجوا في البجة، فقويت البجه بمن صاهرها من ربيعه، وقويت ربيعه بالبجة على ما ناوأها وجاورها من قحطان وغيوهم من مضر بن نزار ممن سكن تلك الديار، وصاحب المعدن شي وقتنا هذا- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثماثة- أبو مروان بشر بن إسحاق، وهو من ربيعه، يركب في ثلاثة آلاف من ربيعه وأحلافها من مضر واليمن وثلاثين ألف حراب على النُّجُب من البجة بالحجف البجاوية، وهم الحداربة، وهم المسلمون ممن بين سائر البجة، وباقي البجة كفار يعبدون صنما لهم.

الحبش

وأما الحبشة فاسم مملكتهم كعبر وهي مدينة عظيمة، وهي دار مملكة النجاشي، وللحبشة مدن كثيرة وعمائر واسعة، يتصل ملك النجاشي بالبحر الحبشي، ولهم ساحل لهم فيه مدن كثيرة، وهو مقابل لبلاد اليمن: فمن مدن الحبشة على الساحل الزيلع والدهلك وناصع، وهذه مدن فيها خلق من المسلمين إلا أنهم في ذمة الحبشة، وبين ساحل الحبشة ومدينة غلافقة- وهي ساحل زبيد من أرض اليمن- ثلاثة أيام عرض البحر بين الساحلين، ومن هذا الموضع عبرت الحبشة البحر حين ملكت اليمن في أيام في نواس وهو صاحب الأخدود المذكور في القرآن، وصاحب زبيد في وقتنا هذا إبراهيم بن زياد صاحب الحرملي ومراكبه تختلف إلى ساحل الحبشة، وتركب فيها التجار بالأمتعة، وبينهم مهادنة، وهذا الموضع من البحر بين هذين الشطين- أعني ساحل اليمن، وساحل الحبشة- أقل المواضع فيه عرضاً، وهنالك جزائر بين هذين الساحلين: منها جزيرة العقل، يقال: إن فيها ماء يعرف بماء العقل، يستسقي منه أرباب المراكب، ويفعل في القرائح والذكاء فعلاً جميلا، وقد ذكر بعض الفلاسفة المتقدمين ما يفعل هذا الماء وماله من الخواص، وذكر علة ذلك، وقد أتينا على الخبر في كتابنا "أخبار أخبار الزمان عند ذكرنا لأخبار المتطببين في تجاربهم وما كان من قضاياهم في علاجاتهم ممن سلف قبل ظهور الإسلام وغيرهم ممن اتصل بالملوك والخلفاء بعد ظهور الشرع، وقد غلب ابن زياد على هذه الجزيرة، وله في هذا الوقت رجال مرتبون فيها من أصحابه.

جزيرة سقرطة وسكانها

وفي هذا البحر مما يلي بلاد عدن جزيرة تعرف بسقطرة، إليها يضاف الصبر السقطري، ولا يوجد إلا فيها، ولا يحمل إلا منها، وقد كان أرسطاطاليس بن نقوماخس كتب إلى الإسكندر بن فيلبس حين سار إلى الهند في أمر هذه الجزيرة يوصيه بها، وأن يبعث إليها جماعة من اليونانيين يسكنهم فيها من أجل الصبر السقطري الذي يقع في الأيارجات وغيرها، فصيَّر الإسكندر إلى هذه الجزيرة خلقاً من اليونانيين أكثرهم من مدينة ارسطاطاليس بن نقوماخس، وهي مدينة اسطاغر، في المراكب بأهليهم في بحر القلزم، فغلبوا على من كان بها من ملوك الهند، وملكوا الجزيرة، وكان للهند بها صنم عظيم، فنقل ذلك الصنم في أخبار يطول ذكرها، وتناسل من بالجزيرة من اليونانيين فيها، ومضى الإسكندر فظهر المسيح فتنصر من كان بها إلى هذا الوقت، وليس في الدنيا- واللّه أعلم- موضع فيه قوم من اليونانيين يحفظون أنسابهم لم يُدَاخلهم في أنسابهم رومي ولا غيرهم غير أهل هذه الجزيرة، وهم في هذا الوقت تأوي إليهم بوارج الهند الذين يقطعون على المسلمين في هذه البوارج- وهي المراكب- على من أراد الصين والهند وغيرها كما يقطع الروم في الشواني على المسلمين في البحر الرومي من ساحل الشام ومصر، ويحمل من جزيرة سقطرة الصبر السقطري وغيره من العقاقير، ولهذه الجزيرة أخبار عجيبة، ولما فيها من خواص النبات وللعقاقير قد أتينا على كثير من ذكرها فيما سلف من كتبنا.

بقية أجناس السودان

وأما غير هؤلاء من الحبشة الذين قدمنا ذكرهم من أمعن في المغرب - مثل الزغاوة والكوكو والقراقر ومديدة ومريس والمبرس والملانة والقوماطي ودويلة والقرمة- ذلكل واحد من هؤلاء وغيرهم من أنواع الأحابش ملك، ودار مملكة.

وقد أتيناء على ذكر جميع أجناس السودان وأنواعهم ومساكنهم ومواضعها من الفلك، ولأية علة تفلفلت شعورهم واسودت ألوانهم، وغير ذلك من أخبارهم وأخبار ملوكهم وعجائب سيرهم وتشعبهم في أنسابهم، في كتابنا أخبار الزمان في الفن الأول من جملة الثلاثين فناً، ثم في الكتاب الأوسط مما لم نذكره في كتابنا أخبار الزمان من أخبارهم، وذكرنا في هذا الكتاب مالا يسع ترك إيراده فيه ولا تعريته منه.

بين النوبة وفاتح مصر

قال المسعودي: وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لما افتتح عمرو بن العاص مصر كتب إليه بمحاربة النوبة، فغزاهم المسلمون، فوجدوهم يرمون الحدق وأبي عمرو بن العاص أن يصالحهم، حتى صرف عن مصر، ووليها عبد اللّه بن سعد، فصالحهم على رؤوس من السبي معلومة، مما يسبي هذا الملك المجاور للمسلمين من غيرهم من ممالك النوبة المقدم ذكرها فيما سلف من صدر هذا الباب المدعو بملك مريس وغيرها من أرض النوبة، فصار ما قبض منه من السبي سَنّةً جارية في كل سنةٍ إلى هذه الغاية يحمل إلى صاحب مصر ويدعى هذا السبي في العربيه بأرض مصر والنوبة بالبقط، وعمد ذلك ثلثمائة رأس وخمس وستون رأسا، وأراه رسم على عدد أيام السنة، هذا لبيت مال المسلمين بشرط الهدنة بينهمِ وبين النوبة، وللأمير بمصر غير ما ذكرنا من عدد السبي أربعوت رأسا، ولخليفته المقيم ببلاد أسوان المجاورة لأرض النوبة، وهو المتولي لقبض هذا البقط، وهو السبي، عشرون رأساً غير الأربعين، وللحاكم المقيم بأسوان الذي يحضر مع أمير أسوان قَبْضُ البقط خمسة رؤوس غير العشرين التي يقبضها الأمير، ولاثني عشر شاهداً عدولاً من أهل أسوإن يحضرون مع الحاكم حين قبض البقط اثتا عشر رأساً من السبي حسب ما جرىَ به الرسم في صدر الإسلام في بلد إيقاع الهدنة بين المسلمين النوبة، والموضع الذي يتسلَّم فيه هذا البقط ويحضره من سميناه وغيرهم من النوبة من ثقات الملك يعرف بالقصر، وهو على ستة أميال من مدينة آسوان بالقرب من في يرة بلاق، وبلاق هذه مدينة في الموضع المعروف بالجنادل من الجبال والأحجار، وهذه المدينة في هذه الجزيرة يحيط بها ماء النيل كإحاطة ماء الفرات بالمدن التي في الجزائر الكائنة بين رَحْبَة مألك بن طَوْق وهَيْت، وهي ناوسة وعانة والحديثة، وفي مدينة بلاق خلق كثير من الناس ومنبر ونخل كثير في كلا الشطين، وهذء المدينة إليها تنتهي سفن النوبة وسُفُن المسلمين من بلاد مصر وأسوان، ومدينة أسوان يسكنها كثير من العرب من قحطان ونزاربن معد من ربيعه ومضر وخلق من قريش، وأكثرهم ناقلة من الحجاز وغيره، والبلد كثير النخل خصيب كثير الخير تُودعُ النواة الأرض فتنبت نخلة، ويؤكل من ثمرها بعد سنتين، وليست تربتهم كتربة البصرة ولا الكوفة ولا غيرهما من أرض النخل، لأن النخل بالبصرة لا ينبت من النوى بل ينبت من الثال والفسيل، وهو النخل الصغير، وما يخرج من النواة فليس يثمر ولا يفلح، ولمن بأسوان من المسلمين ضياع كثيرة داخلة بأرض النوبة يؤدًون خراجها إلى ملك إلنوبة، وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدر الزمان في دولة بني أمية وبني العباس، وقد كان ملك النوبة استعدى المأمون حين دخل مصر على هؤلاء القوم بوفد أوفدهم إلى الفسطاط، ذكروا عنه أن ناساً من أهل مملكته وعبيده باعوا ضياعاً من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان، وأنها ضيهاعه والقوم عبيدة، ولا أملاك لهم، وإنما تملكهم على هذه الضياع تملك العبيد العملين فيها فرد المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة أسوان ومن بها من أهل العلم والشيوخ، وعلم من ابتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها ستنزع من أيديهم، فاحتالوا على ملك النوبة بأن تقدموا إلى من ابتاع منهم من أهل النوبة أنهم إذا حضروا حضرة الحاكم أن لا يقروا لمليكهم بالعبوية، وأن يقولوا: سبيلنا معاشر المسلمين سبيلكم مع ملككم تجب علينا طاعته وترك مخالفته، فإن كنتم أنتم عبيداً لملككم وأموالكم له فنحن كذلك، فلما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك أتوا بهذا الكلام للحاكم أو نحوه مما وقفوا عليه من هذا المعنى، فمضى البيع لعدم إِقرارهم بالرق لملكهم إلى هذا الوقت، وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوبة من بلاد مريس، وصار النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين: نوع ممن وصفنا أحرأر غير عبيد، والنوع الأخر من أهل مملكته عبيد، وهم من سكن النوبة في غير هذه البلأد المجاورة لأسوان، وهي بلاد مريس.

معدن الزمرد وأنواعه

ومعدن الزمرد في عمل الصعيد الأعلى من أعمال مدينة قفط، ومنها يخرج إلى هذا المعدن، والموضع الذي فيه الزمرد يعرف بالخربة مفاوز و جبال، والبجة تحمي هذا المجان المعروف بالخربة، إليها يؤدي الخفارات من يرد إلى حفر الزمرد، والزمرد الذي يقتلع من هذا المكان يتنوع أربعة أنواع: النوع الأول منها يعرف بالمر، وهو أجودها وأغلاها ثمنا، وهو شديد الخضرة كثير الماء، يشبه خضرته بأشد ما يكون من السلق خضرة، وهذا اللون غير كدر ولا ضارب إلى السواد، والنوع الثاني يدعى بالبحري، ومعناهم في هذه التسمية هو أن ملوك البحر من السند والهند والزنج والصين ترغب في هذا النوع من الزمرد، وتباهي في استعماله ولباسه في تيجانها وأكاليلها وخواتيمها وأسورتها، فسمي البحري لما ذكرنا، وهو ثاني المر في الجودة وتشبه خضرته بالأول والماء كفراخ ورق الأس الذي يظهر في أوائل أغصان الآس وأطرافه، والنوع الثالث يعرف بالمغربي، ومعناهم في هذه التسمية وإضافتهم إياه إلى المغرب هو أن ملوك المغرب من الإفرنجة والنوكبرد والأندلس والجلالقة والوشكند والصقالبة والروس، وإن كان أكثر هؤلاء الأمم متصلين بالجدي وهو ما بين المشرق والمغرب على حسب ما ذكرنا من ديار ولد بافث بن نوح يتنافسون في هذا النوع من الزمرد كتنافس من ذكرنا من ملوك الهند والصين في النوع المعروف بالبحري، والنوع الرابع هو المسمى بالأصم، وهو أدنى الأنواع وأقلها ثمناً؛ لقلة مائه وخُضرته، وهذا النوع يتفاوت في اللون من الخضرة في القلة والكثرة، وجملة الوصف لهذه الأنواع الأربعة في الجودة والمبالغة في الثمن هو أكثرها ماء وأصفاها وأكثرها خضرة وأنقاها من السواد والصفرة، وغير ذلك من الألوان، مع تعري هذا الجوهر من النموشة، فإذا سلم مما ذكرنا كان في نوعه غايةً في الجودة ونهاية في الوصف، وفىِ حجارته ما يبلغ الخمسة المثاقيل من الوزن، إلى أن ينتهي إلى حد العدسة في المقدار، فيدخل ذلك في النظم من المخانق وغيرها.

وافات هذا الجوهر كثيرة، منها الريم، والحجارة، والعروق البيض التي تشوب هذا الجوهر وتوجد فيه، ولا تناكر بين ذوي الدراية بهذا الجوهر ومن عني بمعرفته أن الحيات والأفاعي وسائر أنواع الحيات من الثعابين وغيرها إذا أبصرت الزمرد الخالص سالت أحداقها، وأن الملسوع إذا سقي من الزمرد الخالص، وزن دانقين على الفور أمن على نفسه من أن يسري السم في جسده، ولا يوجد شيء من أنواع الحيات يقرب من معدنه وأرضه، وهوحجر لين رخو، يتكلس إذا ورد على الناس. وقد كانت ملوك اليونانيين ومن تلاهم من ملوك الروم تعظم شأن هذا الجوهر، وتفضله على غيره من سائر الجواهر؛ لما اجتمع فيه من الخواص العجيبة، والمنافع الكثيرة، ولخفته في الوزن دون سائر الجواهر المعدنية. وأكثر ما يوجد من هذه الأنواع الأربعة العروق في الأرض، وهو المتَنافس فيه، إذا سلم من الاعوجاج والثقب، واستقام سلكه، واستطال ما استدار، وأدناه ما ينحل في معدنه من التراب ويلتقط من الطين، وقد يوجد على ظهر الأرض في هذا المعدن في وهاده وجباله وما انخفض وارتفع من أرضه نوعان منه وهما المغربي والأصم المقدم ذكرهما.

وقد يحمل من أرض الهند من بلاد سندان، ونحو كنباية من مملكة البلهر اصاحب المانغير المقدم ذكره فيما سلف من هذا الكتاب نوع من الزمرد يلحق بما وصفناه من النور والخضرة والشعاع، إلا أنه حجر صلب مما وصفنا، وأثقل مما ذكرنا، ولا يفرِّق بين هذا النوم المحمول من أرض الهند وبين الأنواع الأربعة المقدم ذكرها، إلا ذو دراية فطن أو ماهر فيه، وهذا النوع الهندي يعرفه أصحاب الجوهر بالملكيَ، لأنه يحمل من أرض الهند إلى بلاد عدن وغيرها من سواحل اليمن، ويؤتى به مكَة، فاشتهر بهذا الاسم لما وصفنا، وبان بهذا النعت بعض ذكرنا.

وقد أتينا على مبسوط أخبار الجواهر الشفافة وغيرها ووصف معادنها على الشرح والإيضاح في كتبنا أخبار الزمان ووجت جماعة بصعيد مصر،من ذوي الدراية- ممن اتصلت معرفته بهذا المعدن، وعرف هذا النوع من الجوهر الذي هو الزمرد- يخبرون أن هذأ الزمرد يكثر ويقل في فصول من السنة، وفي قوة من مواد الهواء، وهبوب نوع من الرياح الأربع، وتقوى الخضرة فيه والشعاع النوري في أوائل الشهر و الزيادة في نور القمر، وكذلك وجدت في أخبار من عني بمعرفة أكثرّ المعادن من الجوهرية وغيرها،أن الكبريت الأبيض والأصفر وغيرها من أنواع الكبريت يكثر في معدنه في السنة التي يكثر برقها، وتشتد صواعقها، على حسب ما أخبرنا به فيما سلف من هذا الكتاب عن الكفور في بلاد منصورة، من أرض الهند أنه يكثر في السنة التي تكثر فيها الصواعق و الرعود وألبرق، و لأ أن المكَثار كحاطب ليل، والإيجاز لمحة دالة، وحيٌ صرح عن ضمير، والبلاغة إيضاح بإيجاز لأسهبت في هذا الباب.

قوص ولْفط من بلاد مصر

وبين هذا الموضع المعروف بالخربة الذي فيه معدن هذأ النوع من الجوهر، وهو الزمرد، وبين ما اتصل به من العمارة وقرب منه من الديار، مسيرة سبعة أيام وهي قفط وقوص وغيرهما من صعيد مصر، وقوص راكبة للنيل، وبين النيل وقفط نحو من ميلين، ولمدينتي قفط وقوص أخبار عجيبة في أيام عمرانهما وما كان في أيام الأقباط من أخبارهما إلا أن مدينة قفط في هذا الوقت متداعية للخراب، وقوص أعمر، والناس فيها أكثر.

وَبَوَادي البجة المالكة لهذا المعدن تتصل ديارها بالعلاقي، وهي معدن الذهب على حسب ما قدمنا في هذا الباب، وبين العلاقي والنيل خمس عشرة مرحلة، وماء أهل العلاقي ما انْهَلَّ من السماء، ولهم ماء من عين يسيل في وسط العلاقي، وأقرب العمارة إليه مدينة أسوان، ومنها يسمّى العلاقي، والنوبة متصلة بتجارتها وقوافلها بمدينة أسوان، وأهل أسوان مختلطون بالنوبة.

الواحات

قال المسعودي: وأما بلاد الواحات- وهي بين بلاد مصر والإسكندرية وصعيد مصر والمغرب وأرض الأحابش من النوبة وغيرهم- فقد ذكرنا جملأ من أخبارها، وكيفية العمران بها، والخواص في أرضها، فيما سلف من كتبنا، وبها أرض شَبِّية وزاجية وعيون حامضة وغير ذلك من الطعوم: وصاحب الواحات في وقتنا هذا- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- عبد الملك بن مروان، وهو رجل من لَوَاتة، إلا أنه مرواني المذهب، ويركب في ألوف من الناس خيلاً ورجلاً ونجبا، وبينه وبين الأحابش نحو من ستة أيام، وكذلك بينه وبين سائر ما ذكرنا من العمائر هذا المقدار من المسافة، وفي أرضه خواص وعجائب، وهو بلد قائم بنفسه، غير متصل بغيره، ولا مفتقر إليه، ويحمل من أرضه التمر والزبيب والأعناب، وقد رأيت صاحب هذا الرجل المقيم بالواحات بباب الإِخشيد محمد بن طغج، وذلك سنة ثلاثين وثلثمائة، وسألته عن كثير من أخبار بلدهم، واحتجت أن أعلمه من خواص أرضهم، وكذلك كان فعلي مع غيره في سائر الأوقات ممن لم أصل إلى بلادهم، وأخبرني هذا الرجل عما بأرضهم من الشًب وأنواع الزاج، وما يحمل من بلادهم، وما بأرضهم من أنواع العيون الحامضة، وغير ذلك من المياه المختلفة الطعوم.

وقد ذكر صاحب المنطق أن ببعض المواضع عيوناً حامضة يستعمل ماؤها كاستعمال الخل، وذكر المواضع التي تنبع منها العيون المرة، وأن قوة مائها في المرارة لا يخالط شيئاً إلا مرره، وأن العلة في اختلاف هذه الطعوم في المياه أن الأرضين مختلفة مثل مواضع الشب "والمواضع النارية والرمادية، وذكر الأطعمة التي ببلاد صقلية المقدم ذكرها إذا خالطت الماء أفادته طعوماً مختلفة على قدر اختلافها وأعداد طعومها.

أعداد الطعوم وخواصها

وأعداد الطعوم ثمانية: فأولها العذب، والملح، والدسم، والحلو، والحامض، والمر، والقابض، والحِرِّيف، وقد تنازع الناس فيما ذكرنا؛فمنهم من رأى أن أعدادها سبعة، ومنهم من ذهب إلى أنها ستة، وأكثر من قال في أعدادها هو ما ذكرنا آنفاً من أنها ثمانية؛ وقد قال من سلف في قوى المياه أقاويل مختلفة: فمن ذلك أن العذب مُغَذ وإن كان سخنا، فإن استعمل من داخل أو من خارج بقدر الحاجة إليه فإنه ينقَي الجسد، وإن استعمل أكثر مما يحتاج إليه فإنه يرخي الأعضاء ويضعفها، وأن الماء البارد يشدًّ الأعضاء، ويقطع العطش، وأن الزيادة منه تخدر الجسد وتميته، وأن الماء الأجاج ينفع من سدد العبد والطحال، وأن الماء الكبريتي ينفع الجراح والقروح العتيقة والحكة؛ والبورقي نافع للحكة والجرب، وأما القاري فإنه نافع من أوجاع الصلب والعصب، وماء الحديد نافع من الاسترخاء في الأحشاء وما بطن من الأوعية، وماء النحاس نافع من الرطوبة والبلة الكائنة في الجسد والرأس، وماء الجص يشنج المعدة ويقبضها ويكرشها، وماء الزاج يحبس الدم، وماء البحر نافع من البرص، وقد ذكر جماعة أنه ينفع من الأخلاط الفاسدة إذا شرب منه اليسر مع دهن اللوز، وله في البصر أتعاب فظيع، وأن أصح المياه للأجساد الأبيض البراق الذي يخرج من جبال الطين من مشرق الشمس نحو مغربها، القابل بسرعة ما يرد إليه من الحر والبرد، وللناس فيما ذكرنا كلام كثير في أنواع المياه وأوصافها ومنافعها ومضارها، وليس كتابنا هذا موضعاً له، وإنما تغلغل بنا الكلام إلى ذكرها، وتشعب بنا القول إلى وصفها.

وصف بلاد الأحابش وحاصلاتها

وكُلُّ ما ذكرنا من بلاد الأحابش ما كان من غربي اليمن وجدة والحجاز مما يلي بحر القلزم، فبلاد قشفة لا خير في أرضها، ولا شيء يحمل من ساحلها إلا ما وصفنا من الذبل والنمور وغيرهما، وكذلك ما عليه من ساحل الشحر وبلاد الأحقاف من ساحل حضر موت إلى عدن، فبلدٌ لا خصب لأهله فيه، ولا يحمل من أرضهم في وقتنا إلا اللبان ويسمى الكندر، وهذا البحر اتصاله بالقلزم وهو عن يمين بحر الهند وإن كان الماء متصلاً، وليس في البحار، وما ذكرنا من الخلجان مما احتوى عليه البحر الحبشي، أصعب ولا أكثر حيالاً، ولا أسهك رائحة، ولا أقحط، ولا أقل خيراً في بطنه وظهره من بحر القلزم، وسائر البحر الحبشي تقطعهالمراكب في إبان سيرها فيه بالليل والنهار، إلا بحر القلزم، فإن المراكب تسير فيه بالنهار، فإذا جَنً الليل أرست في مواضع معروفة كالمراحل المشهورة، والمنازل المعروفة، لكثرة جباله وظلمته ووحشته، وليس هذا البحر مما اتصل به من بحر الهند والصين وغيره في شيء، وهو بالضد من ذلك، لأن بحر الهند والصين في قعره اللؤلؤ، وفي جباله الجواهر، ومعادن الذهب والفضة والرصاص القلعي، وفي أفواه دوابه العاج، وفي منابته الآبنوس، والخيزران، والقَنَا، والبّقم، والساج، والعود، وأشجار الكافور، والجوز، والقرنفل، والصندل، والأفاويه، والطيب، والعبر، وطيوره البباغي البيض والخضر، واحدها ببغة، ثم الطواويس وأنواعها في صورها واختلافها في الصغر والكبر ومنها ما يكون كالنعامة كبراً، وحشرات أرض الهند الزباد كالسنانير بأرض الإسلام كثيرة متَخَذة كالسنور، وأكثر ما يخرج من ضروعها الطيب المعروف بلبن الزباد، وهو نوع من الطيب عجيب، ثم ما يظهر في وقت من السنة من جباه الفيلة بأرض الهند ورؤوسها من العرق الذي هو كالمسك، والهند تراعي ظهور هذا الطيب في الفصل من الزمان الذي يكون فيه، فتأخذه وتجعله على بعض أدهانها الطيبة، فيكون أغلى طيبها والمستطرف عندها، والذي تستعمله ملوكها وخواصها لضروب من المنافع منها طيب الرائحة والتجمر الذي قد فاق على سائر الطيب عندهم، وما يؤثر في الإنسان عند شمه إياه واستعماله من ظهور الشَّبَق من الرجال والنساء والطلب للباه والاغتلام والطرب و، النشاط والأريحية، وكثير من فُتَّاك الهند وشجعانهم يستعمل هذا الدهن عند اللقاء والحرب، لأن ذلك عندهم مما يشجع القلب، ويقوي النفس، ببعثها على الإقدام، وأكثر ما يظهر هذا النوع من العرق في جباه الفيلة في ذلك الفصل من السنة في حال اغتل أمه ا وهيجانها؛ وإذا كان ذلك منها هرب عنها سو أسها ورُعَاتها، ولا تَفرق بين من تعرف وغيره من الناس، وإذا وجد الفيل ما وصفنا سلك الأودية والجبل والغياض، ونَد عن بلده، وغاب عن وطنه؛ فإذا قدم على النوشان الذي هو الكركدن هرب حينئذ من الفيل، ولا يقيم في الموضع الذي هو فيه لأن الفيل عند ذلك بحال السكران لا يعقل ولا يميز بين الكركدن الذي كان يخافه قبل ذلك وغيره، فإذا خرج عنه ذلك الفصل من السنة واسترجع عاد إلى بلدة على مسيرة شهر وأكثر من ذلك، وهو في بقيةٍ من سكَره، فيبقى نحو ذلك المقدار الذي كان هيجانه فيه عليلاً، ولا يكون ذلك إلا في الفحول من الفيلة ذوى الجراءة منها والإقدام، وما ذكرنا من ظباء المسك وغير ذلك مما عنه أمسكنا من عجائبه وخيراته وفيما ذكرنا تنبيه على غيره.

وللهند خَطْب طويل في ظهور هذا النوع من الطيب في هذه الحالة من الفيلة، والفرق بينه وبين سائر أنواع الدواب وما يظهر من الفيل من الجزع عند ورود المياه من الغدران والأنهار للشرب إذا كان الماء صافيً، فإنه يثيره ويكدره ويمتنع من شربه حين صفائه، وإن ذلك يوجد في أكثر الخيل إذا وردت الماء وكان صافياً ضربته بأيديها فكدَّرته فتشرب حينئذ، وتوافق الخيل الفيلة في المعنى دون سائر الحيوان، وإن ذلك لمشاهدة صورها في الماء لصقالته وصفائه، ولعلها تقصد زول ذلك عند كدر ما تضربه بأيديها؛ لعدم ظهور الصور فيه في حال الكدر، وإن الإبل الأغلب فنها يفعل ذلك، ولمعان غير ذلك مما وصفنا من أن ما عظم من الحيوان إذا رأى صورته منعكسة على صفاء الماء أعْجَبَتْهُ لعظمها وحسنها وما بان به من حسن الهيئة عما دونه- من أنواع الحيوان، وليس شيء يفعل ذلك من الحيوان غير ما ذكرنا من الخيل والإِبل والفيلة، وإن الفيل- مع عظم جسمه ولطافة نفسه وخفة روحه وحسن تمييزه والتفرقة بين وليه وعدوُّه من الناطقين وغيرهم وقبوله الرياضة- يمتنع من الأنثى كما تمتنع النوق إذا لقحت، وليس شيء من الدواب يمتنع من السِّفَاد من الإناث عند حملها إلا الفيلة والإبل، وهذا باب إن نحن تَقَصيْنَاه وذكرنا ما فيه طال به الكتاب، وخرج عن حد الاختصار والإيجاز. وقد أتينا على وصف جميع ذلك في كتاب أخبار الزمان وغيره من كتبنا، فلنذكر الآن أنواعاً من ولد يافث بن نوح ؛ إذ كان قد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب كثيراً من ذكر الأمم مع اختلاف ألوانهم، وتباينهم في ديارهم، واختلافهم في أحوالهم، إن شاء اللهّ تعالى.