ذكر الصقالبة ومساكنها وأخبار ملوكها وتفرق أجناسها

ذكر الصقالبة ومساكنها وأخبار ملوكها وتفرق أجناسها

نسب الصقالبة وأجناسهم

الصقالبة: من ولد مار بن يافث بن نوح، وإليه يرجع سائر أجناس الصقالبة، وبه يلحقون في أنسابهم، هذا قول كثير من أهل الدراية ممن عني بهذا الشأن، ومساكنهم بالجدي إلى أن يتصلوا بالمغرب، وهم أجناس مختلفة وبينهم حروب، ولهم ملوك، ومنهم من ينقاد إلى دين النصرانية إلى رأي اليعقوبية، ومنهم من لا كتاب له ولا ينقاد إلى شريعة، وهم جاهلية لا يعرفون شيئا من الشرائع، وهؤلاء أجناس: فمنهم جنس كان الملك فيهم قديماً في صدر الزمان، وكان ملكهم يدعي ماجك، وهذا الجنس يدعى ولينانا، وكان يتلو هذا الجنس في القديم سائر أجناس الصقالبة، لكون الملك فيهم، وانقياد سائر ملوكهم إليه، ثم يتلو هذا الجنس من أجناس الصقالبة اصطبرانة، وملكهم في هذا الوقت يدعى بصقلائح، وجنس يقال له دلاونة، وملكهم يدعى وانج علاف وجنس يقال لهم نامجين، وملكهم يدعى عزانة، وهذا الجنس أشجع أجناس الصقالبة وأفرس، وجنس يدعى منابن، وملكهم يدعى زنبير، ثم جنس يقال له سرتين وهو جنس عند الصقالبة مهيب لعلل يطول ذكرها وأوصاف يكثر شرحها، ونفرتهم من ملة ينقادون إليها، ثم جنس يقال له صاصين، ثم جنس يقال له جرواتيق، ثم جنس يقال له خشانين، ثم جنس يقال له برانجابين، وما سميناه من أسماء بعض ملوك هذه الأجناس فسمة معروفة لملوكهم، والجنس الذي سميناه المعروف بسرتين يحرقون أنفسهم بالنار إذا مات فيهم الملك والرئيس، ويحرقون دوابه، ولهم أفعال مثل أفعال الهند، وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب طرفاً من ذكرهم عند ذكرنا لجبل القبخ والخزر، وأن في بلاد الخزر مع الخزر خلقاً من الصقالبة والروس، وأنهم يحرقون أنفسهم بالنيران، وهذا الجنس من الصقالبة وغيرهم متصلون بالمشرق، ويعبرون من المغرب.

ملوك الصقالبة

فالأول من ملوك الصقالبة ملك الدير، وله مدن واسعة، وعمائر كثيرة، وتجار المسلمين يقصدون دار ملكه بأنواع التجارات.

ثم يلي هذا الملك من ملوك الصقالبة ملك الأوانج، وله مدن وعمائر واسعة، وجيوش كثيرة، وعدد كثير، ويحارب الروم والإفرنج والنوكبرد، وغير هؤلاء من الأمم، والحرب بينهم سِجَالٌ.

ثم يلي هذا الملك من ملوك الصقالبة ملك الترك، وهذا الجنس أحسن الصقالبة صوراً، وأكثرهم عدداً، وأشدهم بأساً.

أجناس الصقالبة

والصقالبة أجناس كثيرة، وأنواع واسعة، لا يأتي كتابنا هذا على وصف أجناسهم وتفريع أنواعهم، وقد قدمنا الأخبار عن الملك الذي كان ينقاد إليه ملوكهم في قديم الزمان، وهو ماجك ملك ولينان، وهذا الجنس أصل من أصول الصقالبة مُعَظّم في أجناسهم، وله قدم فيهم.

ثم اختلفت الكلمة بين أجناسهم، فزال نظ أمه م، وتحزَّبَت أجناسهم، وملك كل جنس منهم ملكاً على حسب ما ذكرنا من ملوكهم لأمور يطول ذكرها، وقد أتينا على جمل من شرحها وكثير من مبسوطها في كتابنا أخبار الزمان من الأمم الماضية، والأجيال الخالية، والممالك الداثرة.

ذكر الإفرنجة والجلالقة وملوكها وما يتصل بذلك

نسبهم وصفاتهم

الإِفرنجة والصقالبة والنوكبرد والأشبان ويأجوج ومأجوج والترك والخزر وبرجان واللان والجلالقة وغير ذلك ممن ذكرنا ممن حل الجدي، وهو الشمال، لا خلاف بين أهل البحث والنظر من الشرعيين أن جميع من ذكرنا من هؤلاء الأمم من- ولد يافث بن نوح وهو الأصغر من ولد نوح؛ فالإفرنجة أشد هؤلاء الأجناس بأساً، وأمنعهم هيبة، وأكثرهم عُدَة، وأوسعهم ملكا، وأكثرهم مدناً. وأحسنهم نظاماً وانقياداً لملوكهم، وأكثرهم طاعة؛ إلا أن الجلالقة أشد من الإفرنجة بأسا، وأعظم منهم نكاية، والرجل من الجلالقة يقاوم عدة من الإفرنجة، وكلمة الإفرنجة متفقة على ملك واحد، لا تنازع بينهم في ذلك، ولا تحزب، واسم دار مملكتهم في وقتنا هذا بويرة، وهي مدينة عظيمة، ولهم من المدن نحو من خمسين ومائة مدينة غير العمائر والكور.

مساكنهم

وكان أوائل بلاد الإفرنجة قبل ظهور الإسلام في البحر جزيرة رودس، وهي الجزيرة التي ذكرنا أنها مقابلة للإسكندرية، وأن فيها دار صناعة المراكب في وقتنا هذا للروم، ثم جزيرة إقريطش، وقد كانت للإفرنجة أيضاً ففتحها المسلمون ونزلوها إلى هذه الغاية، وكانت بلاد إفريقية وجزيرة صقلية للإفرنجة أيضاً، وقد أتينا على أخبار هذه الجزائر وخبر الجزيرة المعروفة بالبركان، وهي الأطمة التي يخرج منها أجسام من النار كأجساد الناس بلا رؤوس فتعلو في الهواء بالليل، ثم تسقط في البحر فتطفو لحى الماء وهي الحجارة التي يحك بها الكتابة من الدفاتر، وهي خفاف بيض على هيئة الشهد وأكوار الزنابير الصغار، وهي الأطمة المعروفة بأطمة صقلية، وفيها قبر فرفوريس الحكيم الذي صنف كتاب إيساغوجي، وهو المدخل إلى علم المنطق، وهذا الكتاب بهذا الرجل يعرف،. وكذلك أتينا على ذكر آطام الأرض، كأطمة وادي برهوت من بلاد حضر موت وبلاد الشِّحر، وأطمة بلاد الزابج من بحر الصين، وأطمة بلاد أسك، وهي ما بين بلاد فارس وبلاد الأهواز من أعمال مدينة أرجان من بلاد فارس، وهذه النار ترى بالليل من نحو عشرين فرسخاً، وهي مشهورة بأرض الإسلام، وتفسير أطمة هي عين النار التي تنبع من الأرض.

ولم نتعرض في هذا الكتاب لذكر الحمامات الكبريتية والزاجية، ولا الحمامات التي تظهر من مائها النار بالأطمة التي ببلاد ماسبدان من أرض أريوجان والسيروان يقال لها النومان وهي أطمة تظهر من وسط مائها النار وهي أطمة عجيبة تمنع ورود الماء عن إطفائها، وتدفعه بشدة قوتها وسلطان لهبها، وهي إحدى عجائب العالم؛ إذ كنا قد أتينا على علل جميع ذلك فيما سلف من كتبنا.

وقد أتينا على منافع أنواع المياه بجوامع ذكرناها، ولمع لوحنا بها، فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا لأرض الواحات من بلاد مصر، وإن كنا قد أتينا على مبسوط ذلك فيما تقدمَ من كتبنا.

ملوك الإفرنجة

قال المسعودي، ووجدت في كتاب وقع إليَّ بفسطاط مصر سنة ست وثلاثين وثلثمائة أهداه عرماز الأسقف بمدينة جريدة من مدن الإفرنجة في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة إلى الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللّه بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ولي عهد أبيه عبد الرحمن صاحب الأندلس في هذا الوقت في عهده: يا أمير المؤمنين، إن أول ملوك إفرنجة قلودية، وكان مجوسياً فنصَّرتهُ امرأته وكان اسمها غرطلة، ثم ملك بعده ابنه لذريق، ثم ولي بعد لذريق ابنه دقشرت، ثم ولي بعده ابنه لذريق، ثم ولي أبعده قرطان ابن دقشرت، ثم ولي بعده ابنه قارله ثم ولي بعمه ابنه تبين ثم ولي بعده قارلة بن تبين وكانت ولايته ستاً وعشرين سنه، وكان في أيام الحكم صاحب الأندلس، وقد تدافع أولاده ووقع الاختلاف بينهم، حتى تفانت الإفرنجة بسببهم، وصار لفريق بن قارلة صاحب ملكهم، فملك ثمانياً وعشرين سنةً وستة أشهر، وهو الذي أقبل إلى طرطوشة فحاصرها، ثم ولي بعده ابنه قارلة بن لذريق وهو الذي تَهَادَنَ مع محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وكان محمد يخاطب بالإمام، وكانت ولايته تسعاً وثلاثين سنة، وستة أشهر، ولي بعده ابنه لذريق ستة أعوام، ثم وثب عليه قائد الإفرنجة المسمى نوسة، وملك إفرنجة، وأقام في ملكه ثمان سنين، وهو الذي صالح المجوس على بلده سبع سنين بستمائة رطل ذهب وستمائة رطل فضة يؤديها صاحب الإفرنجة إليهم، ثم ولي بعده قارلة بن تقويرة أربع سنين، ثم ملك بعده قارلة أخر، ومكث إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، ثم وليِ بعده لذريق ابن قارلة وهو ملك إفرنجة إلى هذا- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- وقد استوفى في مملكته عشر سنين إلى هذا التاريخ على حسب ما نمي إلينا من خبره.

بين عبد الرحمن والجلالقة

قال المسعودي: وأشد ما على الأندلس من الأمم المحاربة لهم الجلالقة، كما أن الإفرنجة حرب لهم، غير أن الجلالقة أشد بأساً، وقد كان لعبد الرحمن بن محمد صاحب الأندلس في هذا الوقت وزير من ولد أمية يقال له أحمد بن إسحاق فقبض عليه عبد الرحمن لأمر كان منه استحق عليه في الشريعة العقوبة، فقتله عبد الرحمن، وكان للوزير أخ يقال له أمية في مدينة من ثغور الأندلس، يقال لها شنْتَرِين، فلما نمي إليه ما فعل بأخيه عصى على عبد الرحمن؛افصار في حيزرذمير ملك الجلالقة، فأعانه على المسلمين، ودله على عوراتهم، ثم خرج أمية في بعض الأيام من المدينة يتصيد في بعض منتزهاتها، فغلب على المدينة بعض غلمانه ومنعوه من الدخول إليها، وكتبوا إلى عبد الرحمن، ومضى أمية بن إسحاق أخو الوزير المقتول إلى رذمير، فاصطفاه، واستوزره، وصيره في جملته، وغزا عبد الرحمن صاحب الأندلس سمورة مملكة الجلالقة المتقدمة صفة بنيانها وأسوارها في باب جمل الأخبار عن البحار وما فيها وما حولها من العجائب والأمم ومراتب الملوك وأخبار الأندلس وغير ذلك، وكان عبد الرحمن في مائة ألف أو يزيدون، فكانت الواقعة بينه وبين رذمير ملك الجلالقة في شوال سنة سبع وعشرين وثلثمائة بعد الكسوف الذي كان في هذا الشهر بثلائة أيام، وكانت للمسلمين عليهم، ثم أنابوا بعد أن حوصروا وأولجو إلى المدينة فقتلوا من المسلمين- بعد عبورهم الخندق- خمسين ألفاً، وقيل: إن الذي منع رذمير من طلب من نجا من المسلمين أمية بن إسحاق، وخوفه الكمين، ورغبه فيما كان في معسكر المسلمين من الأموال والعدد والخزائن، ولولا ذلك لأتى على جميع المسلمين، ثم إن أمية بعد ذلك استأمن إلى عبد الرحمن، وتخلّص من رذمير، فقبله عبد الرحمن أحسن قبول، وقد كان عبد الرحمن صاحب الأندلس بعد هذه الواقعة تجَهَّزَ عساكر مع عدة من قواده إلى الجلالقة، وكانت لهم معهم حروب هلك فيها من الجلالقة ضعف ما قتل من المسلمين في الوقعة الأولى، وكانت للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية، ورذمير ملك الجلالقة إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- وكان قبله على الملك أردون وكان قبل أردون أذبوشن، والجلالقة والإفرنجة تدين بدين النصرانيةِ على رأى الملكية.

ذكر النوكبرد وملوكها

نسبهم ومساكنهم

وقد تقدم ذكرنا للنوكبرد، وأنهم من ولد يافث بن نوح، وبلادهم متصلة بالمغرب، ومحلهم الجدي، ولهم جزائر كثيرة فيها أمم من الناس، وهم ذوو بأس شديد ومنعة، ولهم مدن كثيرة يجمعهم ملك واحد، وأسماء ملوكهم في سائر الأعصار أدنكبس والمدينة العظمى من مدنهم ودار مملكتهم هي يست، ويخترقها نهر عظيم، وهي جانبان، وهذا النهر أحد أنهار العالم الموصوفة بالكبر والعجائب يقال له سايبط، قد ذكره جماعة ممن عني بهذا المعنى ممن تقدم، وكان المسلمون ممن جاورهم من بلاد الأندلس والمغرب غلبوهم على مدن كثيرة من مدنهم مثل مدينة باري ومدينة طارنيو ومدينة شبرامة وغيرها من مدنهم الكبار.

ثم إن النوكبرد أنابوا ورجعوا على من كان في تلك المدن من المسلمين فأخرجوهم عنها بعد حرب طويل، وما ذكرنا من المدن في وقتنا هذا- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- في أيدي النوكبرد.

قال المسعودي: ومن ذكرنا من الجلالقة والإفرنجة والصقالبة والنوكبرد وغيرها من الأمم فديارهم متقاربة، والأكثر منهم حَرْبٌ لأهل الأندلس، وصاحب الأندلس في هذا الوقت ذومَنَعة وقوة عظيمة على ما قدمنا من نسبه وأخباره، وقد كان عبد الرحمن بن معاوية بن هشام سار إلى الأندلس في أول دولة بني العباس، وله أخبار كثيرة في كيفية وصوله إلى الأندلس، ودار مملكة الأندلس قرطبة على ما ذكرنا، ولهم مدن كثيرة وعمائر متصلة واسعة، وثغور في أطراف أرضهم، وربما يجتمع عليهم من جاورهم من الأمم من ولد يافث من الجلالقة وبرجان والإِفرنجة وغيرها من الألسن وصَاحب الأندلسى في هذا الوقت يركب في مائة ألف، وهو ذو مَنَعَة بالرجال والمال والكُراع والعدد، واللّه أعلم.


ذكر عاد وملوكها

عاد الأولى

ذكَرَ جماعة ذوي العناية بأخبار العالم أن المُلْكَ يُؤثَر من بعد نوح في عاد الأولى التي بأدت قبل سائر ممالك العرب كلها، ومصداق ذلك قوله عز وجل: وأنه أهلك عادأ الأولى فإنه يدل على تقدمهم، وأن هناك عادأ ثانية، وأخبر اللّه عن ملكهم، ونطق بشدة بطشهم، وما بنوه من الأبنية المشيدة التي تدعى على من الدهور العادِئةَ، وقد أخبر اللّه تعالى عن قول نبيه هود- عليه السلام وخطابه إياهم: " أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم جبارين".

عاد أول ملك بعد نوح

وعاد أول من ملك في الأرض في قول هذه الطائفة، بعد أن أهلك الله عز وجل الكفار من قوم نوح، وذلك لقوله تعالى: واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادكم في الخلق بسطة وذلك أن هؤلاء القوم كانوا في هيأت النخل طولا، وكانوا في اتصال الأعمار وطولها بحسب ذلك من القدر، وكانت نفوسهم قوية، وكبادهم غليظة، ولم يكن في الأرض أمة هي أشد بطشا وكثر آثارا وأقوى عقولا وأكثر أحلاماً من قوم عاد، ولم يكن الهلك يعرض في أجس أمه م، لقوة آثار الطبيعة فيها، وما أوتوه من الزيادة في تمام البنية وكمال الهيئة على حسب ما أخبر الله عز وجل.

نسب عاد وعبادته وأولاده

وكان عاد رجلا جباراً عظيم الخلقة، وهو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، وكان عاد يعبد القمر، وذكروا أنه رأى من صلبه أربعة آلاف ولد، وأنه تزوج ألف امرأة، وكانت بلادة متصلة باليمن، وهي بلاد الأحقاف، وبلاد صحاري هي وبلاد عمان إلى حضر موت على حسب ما قدمنا آنفاً فيما سلف من هذا الكتاب وغيره من كتبنا.

وقد ذكَرَ جماعة من الإخباريين- ممن عني بأخبار العرب- أن عادا لما توسط العمر واجتمع له الولد وولد الولد، ورأى البطن العاشر من ولده، وظهور الكثرة مع تشييد الملك واستقامة الأمر، غمر إحسانه الناس، وَقَرَى الضيف، وأحواله منتظمة، والدنيا عليه مقبلة، فعاش ألف سنة ومائتي سنة ثم مات.

وكان الملك بعده في الأكبر من ولده، وهو شديد بن عاد وكان شديد بن عاد ملكه خمسمائة سنة وثمانينَ سنة، وقيل غير ذلك.

ثم ملك بعده أخوه شداد بن عاد وكان ملكه تسعمائة سنة، ويُقال: إنه احتوى على سائر ممالك العالم، وهو الذي بنى مدينة أرم ذات العماد، على حسب ما قدمنا فيما سلف من كتبنا عند إخبارنا عن هذه المدينة وتنازع الناس في كيفتها وماهيتها وفي أي بلاد هي.

وهذه عاد الثانية التي ذكرها اللّه تعالى فقال: "لم تر كيف فعل ربك بعاد أرم ذات العماد" وإلى هذه الأمة انتهى البطش، ولشداد بن عاد مسير في الأرض، وطواف في البلاد وبأس عظيم في ممالك الهند وغيرها من ممالك الشرق والغرب، وحروب كثيرة، أعرضنا عن ذكرها لشرط الاختصار، وَمُعَوّلنا في ذلك على ما بَسَطْناه من أخبارهم في كتاب أخبار الزمان: من الأمم الماضية، والأجيال الخالية، والممالك الداثرة وسنورد فيما يود من هذا الكتاب- عند ذكرنا تفرق الناس ببابل وتشعب الأنساب، وما قالوا في ذلك من الأشعار- جملاً من أخبار عاد ونبيها هود، فأما تنازع الناس ممن سلف وخلف في العلة التي لها عظمت أجسادهم وطالت أعمارهم فقد أتينا على ذكر ذلك في كتابنا المترجم ب الكتاب الرؤوس السبعة من السياسة الملوكية وكذلك في كتابنا المترجم ب- كتاب الزلف.

وذكرنا العلة التي لها من أجلها عدم كون السباع والجمال بأرض الأندلس، وما يتكون في هذه الأرض من الجواهر في نباتها ومعادنها، وما في أرض جليقية، وإلى هذه الأرض أضيفت مملكة الجلالقة المقدم ذكرها فيما سلف من هذا الكتاب، وهم أشد الأمم على أهل الأندلس، وأعظمهم بطشاً ممن جاورهم، ثم يليهم في الناس أمة عظيمة الملك يقال لها الوشكنش، على حسب ما قدمنا من ذكرهم فيما سلف من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا مما تقدم تأليف هذا الكتاب.

ذكر ثمود وملوكها وصالح نبيها

مساكن ثمود

قد ذكرنا فيما سلف من ذكر ثمود ونبيها صالح عليه السلام لمعا، و إن كنا قد بسطنا ذلك في غير هذا الكتاب، وكان ملك ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي، وديارهم بِفَجَ الناقة، وبيوتهم إلى وقتنا هذا أبنية منحوتة في الجبال، ورسمهم باقية وآثارهم بادية، وذلك في طريق الحاج لمن وَرَدَ من الشام بالقرب من وادي القرى، وبيوتهم منحوتة في الصخر بأبواب صغار، ومساكنهم على قدر مساكن أهل عصرنا، وهذا يدل على أن أجس أمه م على قمر أجسامنا، دون ما يخبر به القصاص من بعد أجس أمه م، وليس هؤلاء كعاد؛ إذ كانت آثارهم ومواضع مساكنهم وبنيانهم بأرض الشحر تدل على بعد أجس أمه م.

وكان ملك الملك الأول من ملوكهم مائتي سنة، وهو عابر بن أرم بن ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح.

ثم ملك بعده جندع بن عمروبن الذبيل بن أرم بن ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح، وكان ملكه إلى أن هلك مائتي سنة وتسعين سنة، وهلك جندع هذا بعد أن كان من أمر صالح النبي صلى الله عليه وسلم ما كان على ما ذكرنا أربعين سنة، فجميع ما ملك هذا الملك- وهو جندع- ثلثمائة وسبع وعشرون سنة، فهؤلاء ملوك ثمود.

صالح رسول الله إلى ثمود

وبعث اللّه صالحاً نبياً وهو غلام حَدَث لثمود على حين فترة كانت بينه وبين هود نحو من مائة سنة، فدعاهم إلى الله، وملكهم يومئذ هو جند ابن عمرو على ما ذكرنا، فلم يجب صالحاً من قومه إلا نفر يسير، وكبر صالح، ولم يزد قومه من الإِيمان إلا بُعْداً، فلما تواتر عليهم أعذاره وإنذاره ووعده ساموه المعجزات، وإظهار العلامات، ليمنعوه من دعائهم، وليعجزوه عن خطابهم، فحضر عيداً لهم، وقد أظهروا أوثانهم، وكان القومُ أصحاب إبل، فساموه الآية من جنس أموالهم، وطالبوه بما هو مجإنس لأملاكهم، وذلك من بعد اتَفاق آرائهم فقال له زعيم من زعمائهم: يا صالح، إن كنت صادقاً في قولك، وأنك مُعَبِّر عن ربك، فأظهر لنا من هذه الصخرة ناقة، ولتكن وَبْرَاء سوداء عُشَرَاء نَتُوجاً حالكة صافيه اللون ذات عرف وناصية وشعر ووبر، فاستغاث بربه، فتحركت الصخر وتململت، وبدا منها حَنِين وأنين، ثم انصدعت من بعد تمخض شديد كتمخض المرأة حين الولادة، وظهر منها ناقة على ما طلبوه من الصفة، ثم تلاها من الصخرة سَقْبٌ لها نحوها في الوصف، فأمْعَنَا في رَعْي الكلأ وطلب الماء والمرعى، فآمن خلق ممن حضره، وزعيمهم الذي سأله وهو جندع بن عمرو، وأقامت الناقة يحلبون من لبنها ما يعم شربه ثموداً كلها، وضايقتهم في الكلأ والماء، وكان في ثمود مرآتان ذَوَاتَا حسن وجمال، فزارهما رجلان من ثمود، وهما قدار بن سالف، ومصدع بن مفرج، والمرأتان عنيزة بنت غنم، وصدوف بنت المجبا، فقالت صدوف: لو كان أنا في هذا اليوم ماء لأسقينا كما خمراً، وهذا يوم الناقة ووردها إلى الماء، لا سبيل لنا إلى الشرب، فقالت عنيزة: بلى واللّه لو أن لنا رجالا لكَفَوْنَا إياها، وهل هي إلا بعير من الإبل؛ فقال قدار: ياصدوف، إن أنا كفيتك أمر الناقة فمالي عندك؟؛ فقالت: نفسي، وهل حائل دونها عنك؟. فأجابت الأخرى صاحبها بنحو ذلك، فقالا: مِيلاَ علينا بالخمر، فشربا حتى توسطا السكر، ثم خرجا فاستغويا، تسعة رهط، وهم التسعة الذين أخبر اللّه تعالى عنهم في كتابه بقوله: " وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون " وقصحوا طريق- الناقة في حال صدورها، فضرب قدار عرقوبها بالسيف، فعرقبها، وأتبع صاحبه الأخر العرقوب الأخر بسهمه، فخرت الناقة لوجهها، ووجا قدار لبتَهَا فنحرها، ولاذ السًقْب بصخرة فلحقه بعضهم فعقره وفرقوا لحم الناقة، وورد صالح فنظر إلى ما فعلوه، فوعَدَهم العذاب، و كان ذلك في يوم الأربعاء، فقالوا له مستهزئين: يا صالح، متى يكون ما وعدتنا به من العذاب عن ربك؛ فقال: تصبح وجوهكم يوم مؤنس- وهو يوم الخميس-مصفرة، ويوم العروبة محمرة، ويوم شيار مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم أول، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب أسماء الشهور والأيام بلغتهم، فَهَم التسعة بقتل صالحِ، وقالوا: إن كان صادقاً كنا قد عاجلناه قبل إذ يعاجلنا، وإن كان كاذباَ كنا قد ألحقناه بناقته، فأتوه ليلاً، فحالت الملائكة بينهم وبينه، وأمطرتهم الحجارة، ومنعه اللّه منهم، فلما أصبحوا نظروا إلى وجوههم كما وعدهم صفراء كأنها الوَرْس: قد حالت الألوان، وتغيرت الأجسام، وتيقن القوم صدق الوعيد وأن العذاب واقع بهم، وخرج صالح في ليلة الأحد من بين ظهرانَيْهِمْ مع من خَفّ من المؤمنين، فنزل موضع مدينة الرملة من بلاد فلسطين، وأتاهم العذاب يوم الأحد، وفيهم يقول بعض من آمن بصالح عليه السلام:

أراكم يارجال بنـي عـتـيد

 

كأن وجوهكم طُلِيَتْ بِوَرْس

ويوم عروبة اْحَمرَّتْ وجوه

 

مُصَفرَة، وناثوا يال مـرس

ويوم شيار فاسود تْ وجـوه

 

من الحيين قبل طلوع شمس

فلما كان أول في ضـحـاه

 

أتتهم صَيْحَة عَمِّتْ بتعْـس

وفيهم يقول حباب بن عمرو، وكان ممن اعتزلهم من المؤمنين وبان عن ديارهم:

كانت ثمود ذوي عـزّ ومـكـرمة

 

ما إن يُضام لهم في الناس مِنْ جَارِ

لا يرهبون من الأعداء حـولـهـم

 

وَقْعَ السيوف، ولا نزعاً بـأوتـار

فأهلكوا ناقة كـانـت لـرَبَـهـم

 

قد أنفروها وكانوا غـير أبـرار

ناعوا قداراً ولحم السِّقْبِ بـينـهـم

 

هل للعجول وهل للسقب من ثـار

لم يَرْعَيَا صالحاً في عقر ناقته

 

وأخفروا العهد هَذباً أي إخفار

فصادفوا عنده من ربه حَرَسا

 

فَشدّخوا روسهم شدْخاً بأحجار

وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب- عند ذكرنا لتفرق الناس ببابل- من أخبار ثمود جُمَلاً، وما كان من أمر الناس بأرض بابل وافتراق لغاتهم، وما قاله كل فريق منهم من الشعر، على حسب ما أعطاه اللّه من اللسان، وان كنا قد أتينا على شرح ذلك على الكمال فيما تقدم لنا من كتابنا أخبار الزمان و بالله التوفيق.