ولما أسكن إبراهيم ولده إسماعيل مكة مع أمه هَاجَر، واستودعهما خالقَهُ على حسب ما أخبر اللّه عنه أنه أسكنه بواد غير في زرٍع، وكان موضع البيت رَبْوَةٌ حمراء- أمر إبراهيم هاجر أن تتخذ عليها عريشا يكون لها مسكنأ، وكان من ظمأ إسماعيل وخبر هاجر ما كان إلى أن أنبع اللًه لهما زمزم، وأقحط الشحر واليمن، فتفرق العماليقُ وجرهم في البلاد وَمَنْ مناك من بقايا عاد.
فيممت العماليق نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى والدار الخصيبة، عليهم السميدع بن هوبر بن لاوى بن قيطوربن كركر بن حيدان، فلما أمعنت بنو كركر في المسير- وقد عدمت الماء والمرعى، واشتد بها الجهد- أقبل السميدع بن هوبر يحثهم على السير في شعرٍ له ويشجعهم بما قد نزل بهم، وهو:
سيروا بني الكركر في البلاد |
|
إني أرى ذا الدَهْرَ في فسـاد |
قد سأر من قَحْطان في الرشاد |
|
خرْهُمُ لمَّا هَدَّها التـعـادي |
فأشرف رُوَّادهم- وهم المتقدمون منهم لطلب الماء- على الوادي، فنظروا الطير ترتفع وتنخفض، فهبطوا الوادي ونظروا إلى العريش على الرَّبْوَة الحمراء، وفيها هاجر وإسماعيل، وقد زَمَتْ حول الماء بالأحجار ومنعته من الجريان، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رحمَ اللّه أمنا هاجر، لولا أنها بخلت ومنعت ماء زمزم من أن يجري بما حَؤَطَتْ حوله من الأحجار لجري الماء على وجه الأرض. فسلم الرؤَاد عنيها، واستأذنوها في نزولهم وشربهم من الماء، فأنِسَتْ إليهم، وأذنت لهم في النزول، فتلقوا مَنْ كان وراءهم من أهليهم، وأخبروهم خبر الماء، فنزلوا الوادي مطمئنين، مستبشرين بالماء، وبما أضاء الوادى من نور النبوة وموضع البيت الحرام، فرحين، وَعَيَّل إسماعيل، وتكلم إسماعيلُ بالعربية خلاف لغة أبيه.
وقد ذكرنا في هذا الكتاب وغيره ما قاله الناس في ذلك من قَحْطَان ونزار وتزَوُج إسماعيل بالجداء بنت سعدٍ العملاقي.
وقد كان إبراهيم استأذن سارة في زيارة إسماعيل، فأذنت له، فوافى مكة وإسماعيل في الصيد والرعي ومعه أمه هاجر، فسلم على الجداء بنت سعد زوجة إسماعيل، فلم تردَّ عليه السلام، فقال: هل من منزل؟ فقالت: لا ها اللّه، قال: فما يفعل رب البيت؛ قالت: هو غائب، فقال لها: إذا ورد فأخبريه أن إبراهيم يقول لك بعد مسألته عنك وعن أمك: استبدل بعتبة بيتك غيرها، وانصرف إبراهيم من فَوْره نحو الشام، وراح إسماعيل وهاجر، فنظر إلى الوادي قد أشرق وأنار، والغنام تتنسم الآثار، فقال لزوجته الجداء: هل كان لك بعدي من خبر؛ قالت: نعم، شيخ وَرَدَ علي، وأخبرتْهُ بالقصة، فقال: ذاك أبي خليل الرحمن، وقد أمرني بتخليك، فالحْقِي بأهلك، فلا خير فيك.
وتسامعت جرهم ببني كركر ونزولهم الوادي، وما هم فيه من الخصب وإدرار الضِّرع، وهم في حال القَحْطِ، فبادروا نحو مكة، وعليهم الحارث بن مُضَاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن ظالم بن هيني بن نبت بن جُرْهم، حتى أتوا الواعي، ونزلوا مكة، واستوطنوها مع إسماعيل ومن تقدمهم من العماليقه من بني كركر، وقد قيل في بني كركر: إنهم من العماليق، وقيل: انهم من جرهم، والأشهر أنهم من العماليق، وتزوج إسماعيل زوجته الثانية، وهي سامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف بن هيني بن نبت.
واستأذن إبراهيم سارة في زيارة إسماعيل، فاستحلفته غيرة عليه أنه إذا أتى الموضع لا ينزل من ركابه، وقد تنازع الناس على أي شيء كان ركوبه: فمنهم من قال: إنه كان راكباً على البُرَاق، ومنهم من قال: على أتَانٍ، وقيل غير ذلك من الحيوان، فلما أتى إبراهيم الوادي سلم على زوجة إسماعيل الجرهمية، فسلمت عليه، ورحبتْ به وتَلَقته بأحسن لقاء، وسألها عن إسماعيل وهاجر، فأخبرته بخبرهما، وأنهما في رَعْيهما، وعرضت عليه النزول، فأبى، وقيل: إن هاجر كانت قد ماتت ولها من السن تسعون سنة، وألحت الجرهمية على إبراهيم في النزول، فأبى، فقدمت إليه لبناً وشرائح من لحم الصيد، فدعا فيه بالبركة، وجاءته بحجر كان في البيت، فمال عن ركابه، وجعلته تحت قدمه اليمنى، ثم رَجلَتْ شعره ودهنته، ثم حَوَّلت الحجر إلى شماله، فوضع رجله اليسرى عليه أيضا، ومال برأسه نحوها، فرَجَّلته ودهنته، فأثرت قدماه في الحجر على ما وصفنا من ترتيب اليمين والشمال، فلما رأت الجرهمية ذلك أكْبَرَتْ ما شاهدته، وهذا الحجر هو مقام إبراهيم، فقال لها إبراهيم: ارفعيه، فسيكون له شأن ونبأ بعد حين، ثم قال لها: إذا جاءك إسماعيل فقولي له: إن إبراهيم يقرأ عليك السلامٍ ويقول لك: احتفظ بعتبة بيِتك، فنعم العتبةُ هي، وسار إبراهيم راجعا نحو الشام.
وقيل: إنما سمي إسماعيل لأن اللّه سمع دعاء هاجر ورحمها حين هَرَبَتْ من سيدتها سارة أم إسحاق، وقيل: إن اللّه سمع دعاء إبراهيم.
وقبض إسماعيل وله مائة وسبع وثلاثون سنة ؛ فدفن في المسجد الحرام حِيَال
الموضع الذي كان فيه الحجر الأسود.
وولد لإِسماعيل اثنا عشر ولداً ذكراً، وهم نابت، وقيدار، وأدبيل، ومبسم، وٍ مشمع، ودوما، وعوام، ومسا، وحداد، وثيما، ويطور، ونافش وكل هؤلاء قد أنْسَلَ.
وقد كان إبراهيم قدم إلى مكة ولإسماعيل ثلاثون سنة، حين أمره اللّه تعالى ببناء البيت، فبناه، وكان إسماعيل يأتي بالحجر من عدة جبال ذكرت، وطوله ثلاثون ذراعا، والحجر فيه وهو سبعة أفرع، وعرضه اثنان وعشرون ذراعا، وسمكه سبعة أفرع، وجعل له باباً، ولم يسقف، ووضعِ الركن موضعه، وألصق المقام بالبيت، وذلك قوله عز وجل: "وَإِذْ يَرْفعُ إبرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسماعِيل"ُ الآية، وأمر اللّه تعالى إبراهيم أن يؤذِّنَ في الناس بالحج.
ولما قُبض إسماعيل قام بالبيت بعده نابت بن إسماعيل، ثم قام من بعده أناس من جُرْهم، لغلبة جرهم على ولد إسماعيل، وكان ملك جُرْهم يومئذ الحارث بن مُضَاض، وهو أول من ولي البيت، وكان ينزل هناك في الموضع المعروف بقُعَيْقعَان في هذا الوقت، وكان كل من دخل مكة بتجارة عَشَّرَها عليه وذلك في أعلى مكة، وملك العماليق السَّمَيْدَع بن هو بن لاوى بن قبطور بن كركر بن حيد وكان ينزل أجيادا من أسفل مكة، وكان يُعَشَرُ من دخل مكة من ناحيته، وكانت بينهم حروب، فخرج الحارث بن مُضَاض ملك جرهم تتقعقع معه الرماح والدرق، فسمى الموضع بقعيقعان لما ذكرنا، وخرج السميدع ملك العماليق ومعه الجياد من الخيل فعرف الموضع بأجياد إلى هذا الوقت، فكانت على الجرهميين وافتضحوا، فسمى الموضع فاضحاً إلى هذا الوقت، ثم اصطلحوا ونجروا الجُزُرَ وطبخوا فسمي الموضع بطابخ إلى الآن، وصارت ولاية البيت إلى العماليق، ثم كانت لجرهم عليهم، وأقاموا ولاة البيت نحو ثلثمائة سنة، وكان آخر ملوكهم الحارث بن مُضَاض الأصغر بن عمرو بن الحارث بن مُضَاض الأكبر، وزاعوا فيِ بناء البيت، ورفعته على ما كان عليه من بناء إبراهيم عليه السلام، وبغتْ جرهم في الحرام وطَغَتْ، حتى فسق رجل منهم في الحرم بامرأة، وكان الرجل يدعى بإساف والمرأة نائلة، فمسخهما اللّه عز وجل حجرين صُيِّرا بعد ذلك وثنين وعُبِدَا تقربا بهما إلى الله تعالى، وقيل: بل هما حجران نحتا ومُثِّلا بمن ذكرنا وسميا بأسمائهما، فبعث اللّه على جرهم الرُّعَاف والنمل وغير ذلك من الآفات فهلك كثير منهم، وكثر ولد إسماعيل وصاروا ذوي قوة ومَنَعَة فَغَلَبوا على أخوالهم جرهم وأخرجوهم من مكة، فلحقوا بجُهينة، فأتاهم في بعض الليالي السيل فذهب بهم، وكان الموضع يعرف بإضم، وقد ذكر ذلك أمية بن أبي الصَّلت الثققي في شعر له فقال:
وجرهم دمنوا تهامة في الد |
|
هر فسالت بجمعهم إضَم |
وفي ذلك يقول الحارث بن مُضَاض الأصغر الجرهمي:
كأنْ لم يكن بين الحَجُون إلى الصفا |
|
أنيس، ولم يسمر بمكة سـامـر |
بلى نحن كنا أهلهـا، فـأبـادَنَـا |
|
صروف الليالي والجدود العوائر |
وكنا لإسماعيل صهـراً ووصـلة |
|
ولمَّا تَدُرْ فيها علـينـا الـدوائرِ |
وكنا ولاة البيت من بعـد نـابـت |
|
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر |
فَبَدَّلَنَـا ربـي بـهـا دار غـربة |
|
بها الذئب يعوي والعدو المحاصر |
وفيما ذكرنا من أخبارهم يقول عمرو بن الحارث بن مضاض الأصغر الجرهمي:
وكنا ولاة البيت والقـاطِـن َالـذي |
|
إلـيه يؤدي نـذرَهُ كـل مـحـرم |
سكنَّا بها قـبـل الـظـبـاء وراثة |
|
لها عن بني هَيْني بن نبتّ بن جُرْهُم |
وفي ذلك يقول:
كهفنا جرهـم، وأية كـهـفٍ |
|
وولاة لبيتـه والـحـجـاب |
فَسَقُوا في الحرام بعدد تقَاهـم |
|
واستعاضوا العقاب بعد الثواب |
ثم صارت ولاية البيت في ولد أياد بن نزار بن معد، وكانت حروب كثيرة بين مضر وأياد، وكانت لمضر على إياد، فانجلوا عن مكة إلى العراق.
وسنورد بعد هذا جملاً من أخبار مكة وولد نزار وخُزاعة وغيرهم.
قال المسعودي: وقد أتينا على جمل من الأخبار في هذا الباب من أخبار جرهم وغيرها، ووجدت في وجه آخر من الروايات أن أول من ملك من ملوك جرهم بمكة مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هيني بن نبت بن جرهم بن قحطان مائة سنة، ثم ملك بعمده ابنه عمرو بن مضاض مائة وعشرين سنة، ثم ملك بعد الحارث بن عمرو مائتي سنة، وقيل دون. ذلك، ثم ملك بعده عمرو بن الحارث مائتي سنة وقيل دون ذلك ثم ملك مضاض بن عمرو الأصغر بن الحارث بن عمرو بن مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هيني بن نبت بن جرهم بن قحطان أربعين سنة. وانقرضت العرب العاربة من عاد وثمود وعبيد وطسم وجديس والعماليق ووبار وجرهم، ولم يبق من العرب إلا من كان من عدنان وقحطان، ودخل من بقي ممن ذكرنا من العرب البائدة في عدد قحطان وعدنان، فانمحت أنسابهم وزالت آثارهم.
وقد كانت العماليق بَغَتْ في الأرض، فسلط اللّه عليهم ملوك الأرض فأفنتها، وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا للروم وأنسابها مَنْ ألحق ولد عملاق وغيرهم، ممن ذكرنا، بولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، وأن علماء العرب تنسبهم إلى غير هذا النسب، وهو الأشهر في الناس؛وقد رثتهم الشعراء: فقال بعض من رثاهم:
مضى آل عملاق فلم يبق منهـم |
|
خطير، ولافو نخوة متـشـاوس |
عَتَوْا فأدال اللّه منهم، وحكـمـه |
|
على الناس هذا وعده وهو سائس |
وأما طسم وجديس فتفانت في نحو من سبعين سنة في البراري، بما كان بينهم من الشَّحْناء، وطلب الرياسة، فدثروا، ولم يبق لهم باقية، فضربت بهم العرب المثل، وضربت بهم الشعراء المقال فمن ذلك ما قاله بعض الشعراء ممن رثاهم في قوله:
ذويلي من جَوَى هم رسيس |
|
من الأول لطَسْمٍ أو جديس |
بنو عم تفانوا بالمـذاكـي |
|
وباليوم الأحَمِّ العيطمـوس |
أما الرسُّ وأصحابه فقد قدمنا ذكرهم فيما سلف من كتبنا، وهم قوم حَنْظَلة بن صفوان العبسي، بعثه اللّه إليهم فكذبوه، وقد ذكرنا من خبره لمعا، وقد قيل في أصحاب الرس أوجُهٌ كثيرة غير ما ذكرنا في هذا الكتاب، وقد ذكرت هذه القبائل في التوراة، وكل يرجع إلى ولد سام بن نوح. من بني أرم بن سام وهو من ولده عوص بن أرم، ومن ولده عابر بن أرم، ومن ولده ماش بن أرم.
فولد عوص عاد بن عوص، وولد عابر ثمود بن عابر، وولد ماش بن أرم نبيط بن ماش؛فسائر النبط وملوكها ترجع في أنسابها إلى نبيط بن ماش.
فحلَّ عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح وولده الأحقاف من بلاد حضرموت، وحل ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح وولده أكناف الحجاز، وحل جديس بن عابر بلاد جوٍّ، وهي بلاد اليمامة ما بين البحرين والحجاز، وهذا البلد في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- بيد ولد الأخيضر العلوي، وهو من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، وهو مجاور للبحرين، ومن فيها إلى هذا الوقت، وحل طسْم بن لود بن سام بن نوح وولده اليمامة مع بني جديس، وحل عمليق بن لود بن سام بن نوح الحجاز، وقد ذكرنا ولد عيلام فيما سلف من هذا الكتاب أنهم حلوا الأهواز وفارس، وهو عيلام بن سام بن نوح، وحل نبيط بن ماش بن أرم بن سام بن نوح بابل، فغلبوا على العراق، وهم النبط، ومنهم ملوك بابل الذين قدمنا ذكرهم، وأنهم الملوك الذين عمروا الأرض، ومهدوا البلاد، وكانوا أشر ملوك الأرض، فأدال منهم الدهر، وسلبهم الملك والعزَّ، فصاروا على ما هم عليه من الذل في هذا الوقت بالعراق وغيرها.
وقد زعم جماعه من المتكلمين- منهم ضرار بن عمرو وثمامة بن الأشرس وعمرو بن بحر الجاحظ- أن النبط خير من العرب،لأن من جعل اللّه تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم منهم لم يَدَعْ أكبر شرف في الدنيا إلا وقد أعطاهم إياه، ومَنْ لم يجعله منهم فلم ياع أكبر شرف في الدنيا إلا وقد أعراهم منه وسلبهم إياه، ولا نعمة على من جعل اللّه تعالى النبي عليه السلام منهم أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بَلْوَى على من لم يجعل اللّه عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم منهم أكبر من خروج النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، إلا أنهم مع هذا كله لهم عند اللّه فضل ما بين النعمة والبلاء.
قال المسعودي: ولما لم يبال من قدمنا ذكره تشريف النبط وتفضيلهمعلى ولد قحطان وعدنان وفيهم الفضل والشرف من النبوة والملك والعزة قال لهم المحتج عن قحطان ونزار: إذا كان النبط قد صاروا أفضل من العرب لما امتحن اللّه به النبط من سَلْبه النبوة منهم وأنعم على العرب بكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فللعرب أيضاً التعلق بهذه العلة التي اعتل بها النبط، فتقول: قد صرنا بعدُ أفضل من النبط، لما امتحنَّا به من سلب ما جعل اللّه للنبط من الفضل في شدة امتحانهم بسلب النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، والنبط أيضاً قد صاروا دون العرب، إذ للعرب من فضل النبي صلى الله عليه وسلم مما جعله الله لهم بتعريتهم من فضل النبط على شدة امتحانهم بتعرية اللّه إياهم من النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس للنبط، فتصير العرب أيضاً خيراً من النبط، وهذا لا يصح لهم إلا كما يصح عليهم، والكلام متوتجَهٌ عليهم فيما قالوه، ومكافئ لعلتهم فيما أوردوه: من تفضيل النبط على العرب.
وقد ذكرنا تنازع الناس في الأنساب والفضل بها وبالأعمال دون الأنساب ومن قال العمل والنسب ومن قال العمل دون النسب، وما قالته الشعوبية وغيرها في كتابنا المقالات، في أصول الديانات.
وقد ذكر أبو الحسن أحمد بن يحيى في كتابه في الرد على الشعوبية عِلَلاً كثيرة، وذكر أن من اختصه اللّه تعالى من عباده، واصطفاه من خلقه، أذَاك على طريق الثواب أم على طريق التفضيل؛ قال: إًن زعم زاعم أن ذلك ثواب خرج من معقول كلام العرب ومفهوم خطابها؛لأنه لا يقال لمن أعطى الأجير أجرته ووفّى العامل ثوابه: قد اختص فلان فلانا بعطيته، وإنما يقال ذلك إذا تطوع عليه بالعطية بغير عمل ومنعها غيره بغير جرم، وإن زعموا أنه تفضُّلٌ قلنا لهم: فإذا جاز أن يصرف اللّه عز وجل رحمته إلى بعض خلقه بغير عمل استحقوها به، فَلِمَ لا يجوز أن يشرفهم بأنسابهم، وإن لم تكن الأنساب من أعمالهم. فإن قالوا: ليس من العدل أن يشرفهم بغير أعمالهم، قلنا لهم: رأيتكم إن عارضكم مُعَارض؛فزعم أنه ليس من العدل أن يمن عليهم برحمته دون غيرهم بغير عمل كان منهم، وبغير معصية كانت من غيرهم، ماذا يكون الفصل بينكم معاشر الشعوبية وبينه، وقد أخبر اللّه عمن اصطفاه من خلقه فقال: "إن اللّه اصطفى آدم ونوحاً وال إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض، واللّه سميع عليم" .
والواجب على في النسب الشريف، والمجد الرفيع، أن لا يجعل ذلك سلماً إلى التراخي عن الأعمال الموافقة لنسبه، والاتكال على آبائه؛فإن شرف الأنساب يحضر على شرف الأعمال، والشريف بهذا أولى؛إذ كان الشرف يدعو إلى الشرف ولا يثبط عنه كما أن الحسن يدعو إلى الحسن ويحرك عليه وأكثر الممدوحين إنما مدحوا بأعمالهم دون أنسابهم، وهذا كثير في أشعار الناس ومنثور كل أمه م، وقد قال الشاعر في هاشم بن عبد مناف وهو إمام ذوي الأنساب:
عمر والذي هَشَمَ إلثريد لقومه |
|
ورجال مكة مُسْنِتُونَ عِجَافُ |
فمدحه بعمله، ولم يذكر نسبه، وإن كان شريفأ رفيعاً، وإنما ينبغي لذي الأنساب أن يكونوا كما قال أخوهم وشريكهم في النسب عامر بن الطفيل:
وإني وإن كُنْتُ ابْنَ سيد عـامـر |
|
وفي السر منها والضرِيح المُهَذَّب |
فما سَوَّدَتنِي عـامـر عـن وراثة |
|
أبى الله أن أسْـمُـو بـأم ولا أب |
ولكننني أحمي حماهـا، وأتـقـي |
|
أذاها، وأرمي مَنْ رماها بمقنـب |
وكما قال الأخر:
لسنا وإن كرمت أوائلنـا |
|
يوماً على الأحْسَاب نتكل |
نبني كما كانت أوائلـنـا |
|
تبني، ونفعل كالذي فعلوا |
قال المسعودي: ولما خرج عمرو بن عامر وولده من مأرب انخزع بنو ربيعه، فنزلوا تهامة، فسمُوا خزَاعَة لانخزاعهم، ولما ثارت الحرب بين أياد ومضر ابني نزار، وكانت على إياد قلعت الحجر الأسود ودفنته في بعض المواضع، فرأت ذلك امرأة من خُزَاعة، فأخبرت قومها، فاشترطوا على مضر أنهم إن رَفُوا الحجر جعلوا ولاية البيت فيهم، فوفوا لهم بذلك، ووليت خُزَاعة أمر البيت، وكان أول من وليه منهم عمرو بن لُحَيً، واسم لحي حارثة بن عامر، فغير دين إبراهيم وبدَّله، وبعث العرب على عبادة التماثيل؛ لخبر قد ذكرناه في هذا الكتاب وغيره، حين خرج إلى الشام ورأى قوماً يعبدون الأصنام، فأعطوه منها صنمأ فنصبه على الكعبة، وقويت خُزَاعة، وَعَمَّ الناس ظلم عمرو بن لحي، وفي ذلك يقول رجل من جُرْهُم كان على دين الحنيفية:
يا عمرو لا تظلم بمكة |
|
؛إنها بَـلَـدٌ حـرام |
سائل بعَـادٍ أين هُـم |
|
وكذاك تُخَترم الأنـام |
بني العاملـيق الـذين |
|
لهم بها كان السـوَام |
ولما أكثر عمرو بن لحي من نَصْب الأصنام حول الكعبة وغلب على العرب عبادتها، وانمحت الحنيفية منهم إلا لمعاً، قال في ذلك شحنة بن خلف الجرهمي:
يا عمرو، إنك قد أحدثت الهة |
|
شتى بمكة حول البيت أنصابا |
وكان للبيت رَبٌّ واحـد أبـدا |
|
فقد جعلت له في الناس أربابا |
لتعرفنَّ بأن اللّه في مَـهَـل |
|
سيصطفي دونكم للبيت حجابا |
وعمر عمرو بن لحي ثلثمائة سنه وخمساً وأربعين سنة.
وكانت ولاية البيت في خُزَاعة وفي مضر ثلاث خصال: الإجازة بالناس من عَرَفَةَ، والإفاضة بالناس غَدَاةَ النحر إلى منى، فانتهى ذلك منهما إلى أبي سَيَّارة، فدفع أبو سَيَّارة من مزدلفة إلى مِنى أربعين سنة على حمار له، ولم يعتل في ذلك، حتى أدركه الإسلام، فكانت العرب تتمثل به فتقول أصَحُّ من عَيْرِ أبي سيارة.
وفي أبي سيارة يقول قائلهم:
نحن دفعنا عن أبي سَـيَّارة |
|
حتى أفاض مُحْرِماً حماره |
مستقبل القبلة يدعو جاره |
|
|
والنسء للشهور الحُرْمُ،، وكانت النسَأة في بني مالك بن كنانة، وكان أولهم أبو القلمس حذيفة بن عبد، ثم ولده قلع بن حذيفة وورد الإسلام وآخرهم أبو ثمامة، وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وأرادت الصدر اجتمعت إليه، فيقوم فيهم، فيقول: اللهم إني ؤ أحللت أحد الضفَرَيْنِ الصفر الأول، وأنسأت الأخر للعام المقبل، وظهر الإسلام وقد عادت الشهور الحرم إلى بَدْئِهَا على ما كانت عليه في أصلها، وذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وما ذكر عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث إلي آخره، فأخبر الله عز وجل عنهم بذلك بقوله تعالى: "إنمَا النسِىء زِيَادَ في الكفر- الآية"، وقد فَخَر بذلك عمير بن قيس بن جِذْل الطعَان فقال:
ألسنا الناسئين على مـعـد |
|
شهور الحل نجعلها حراما؟ |
وقد كان قصى بن كلاب بن مرة تزوج ابنة حليل، وحليل هو آخر من ولي البيت من خُزَاعة، وقد كان عمرو بن لحي- حين عُمِّر ما ذكرنا من السنين- مات وله من الولد وولد الولد ألف، ولما حضرت حليلا الوفاة - وهو آخر من ولي البيت من خُزَاعة- وقد كان عمرو على ما ذكرنا جعل ولاية البيت إلى- ابنته زوج قصى بن كلاب، فقيل له: إنها لا تقوم بفتح الباب وَغَلْقِهِ، فجعل ولاية البيت إليها، وَفَتْح الباب وغَلْقه إلى رجل من خُزاعة يعرف بأبي غَبْشَان الخزاعي، فباعه أبو غبشان إلى قصي ببعير وزق خمرة فأرسلت العرب ذلك مثلاً، فقالت أخْسَرُ من صفقة غَبْشَان وفي بيعه لولاية البيت ببعير وزق من الخمر وَنَقْله ولاية البيت من قومة من خُزَاعة إلى قصي بن كلاب، يقول الشاعر:
أبو غَبْشَان أظلم من قصـي |
|
وأظلم من بني فِهْرٍ خُزَاعَه |
فلا تلحوا قصيا في شـراه |
|
وَلُومُوا شيخكم إذ كَانَ بَاعَه |
وقال في ذلك آخر:
إذا افتخرت خُزَاعة في قديم |
|
وجدنا فَخْرَهَا شرب الخمور |
وباعت كعبة الرحمن جهراَ |
|
بزقٍّ، بئس مُفْتَخَرُ الفخور |
وقد كانت ولاية البيت في خزاعة ثلثمائة سنة، واستقام أمر قصي، وعَشَّرا على مَنْ دخل مكة من غير قريش، وبني الكعبة، ورتب قريشاً على منازلها في النسب بمكة وَبَيَّنَ الأبطحيئَ من قريش، وهم الأباطح، وجعل الظاهري ظاهرياً.
وقريش البطاح: هي قبائل عبد مناف، وبني عبد الدار، وبني عبد العُزَي بن قصي، وزُهْرة، ومخزوم، وتَيْم بن مرة، وجُمَح، وسَهْم.، وعليَّ، وهم لَعَقَة الدم، وبنو عتيك بن عامر بن لُؤي.
وقريش الظواهر: بنو محارب، والحارث بن فهر، وبنو الأعرم بن غالب بن فهر، وبنو هصيص بن عامر بن لؤي، وفي ذلك يقول ذكوان مولي عبد الدار للضَحَّاك بن قيس الفهرى:
تطاوَلْتُ للضحاك حتى رَرَرْتُـه |
|
إلى نسب في قومه متقـاصـر |
فلو شاهَدَتْني من قريش عصـابة |
|
قريش البطاح لا قريش الظواهر |
ولكنهم غابوا وأصبحْتُ شـاهـدا |
|
فقبحت من حامي فمار وناصـر |
فريقان منهم سكن بطـن يثـرب |
|
ومنهم فريق ساكن بالمشـاعـر |
والأحلاف من قريش: بنو عبد الدار بن قصي، وسهم، وجُمَح، وعلي، ومخزوم.
والمُطَيِّبون: بنو عبد مناف، وبنو أسد بن عبد العُزَى، وزُهْرة، وتيم، وبنو الحارث بن لؤي.
وفي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعه المخزومي في امرأة:
ولها في المطيبـين جـدود |
|
ثم نالت فوائب الأحـلاف |
إنها بين عامر بـن لـؤي |
|
حين تُدْعى وبين عبد مناف |
وأخذت قريش الإيلاف من الملوك، وتفسير ذلك الأمن، وتَقَرشت، والتقرش: الجمع، ومنه قول ابن حِلِّزة اليشكري:
أخوة قَرشُوا الذنُوب علينـا |
|
في حديث مِنْ دهرِنَا و قديم |
رحلت قريش- حين أخذ لها الإِيلاف من الملوك- إلى الشام والحبشة واليمن والعراق، وفي ذلك يقول مَطْرود الخزاعي:
يا أيها الرجل المُحَؤَل رَحْله |
|
هلاَ نزَلْتَ بآل عبد منـاف |
الآخِذِينَ العَهْدَ من آنافـنـا |
|
والراحِلِينَ بِرِحْلَة الإيلاف |
ولقريش أخبار كثيرة، وكذلك لجرهم وخزاعة وغيرهما من معد، وقد أتينا على جميعها فيما سلف من كتبنا، وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعاً.
تنبيهاً بها على ما سلف، وسنورد عند ذكرنا تفرق الناس من بابل جملاً من أخبار مكة وعبد المطلب والحبشة، وغير ذلك مما لحق بهذا المعنى، إن شاء اللهّ.
ذكر ذوو الدراية أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه- حين فتح اللّه البلاد على المسلمين من العراق والشام ومصر، وغير ذلك من الأرض- كتب إلى حكيم من حكماء العصر: آنا أناس عرب، وقد فتح اللّه علينا البلاد، ونريد أن نتبوأ الأرض، ونسكن البلاد والأمصار، فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها، وما تؤثِّرُه التربة والأهوية في سكانها.
فكتب إليه ذلك الحكيم: اعلم يا أمير المؤمنين أن اللّه تعالى قد قسم الأرض أقساماً: شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فما تناهى في التشريق وَلَججَ في المطلع السانح منه النور فهو مكروه لاحتراقه وناريته وحِدَته وإحراقه لمن دخل فيه، وما تناهي مغرباً أيضاً أضَر سكانه، لموازاته ما أوغل في التشريق، وهكذا ما تناهى في الشمال أضَرّ ببرده وقره وثلوجه وآفاته الأجسام فأورثها الآلام، وما اتصل بالجنوب وأوغل فيه أحرق باريته ما اتصل به من الحيوان؛ ولذلك صار المسكون من الأرض جزءًا يسيراً، ناسَبَ الاعتدال، وأخذ بحظه من حسن القسمة، وسأصف لك- يا أمير المؤمنين- القطع المسكونة من الأرض.
أما الشام فسُحُبٌ وآكام، وريح وغمام، وغدق ورُكام، ترطب الأجسام، وتولد الأحلام، وتصفي الألوان، لا سيما أرض حِمْص فإن تحسن الجسم، وتصفي اللون، وتبلد اللهم، وتنزح غوره، وتجفي الطبع، وتذهب بماء القريحة، وتنصب العقول، والشام- يا أمير المؤمنين، وإن كانت على ما وصفت لك- فهي مَسْرَح خصب، ووابل سَكْب، كثرت أشجاره، واطَّرَدت أنهاره، وغمرت أعشاره، وبه منازل الأنبياء، والقدس المجتبى، وفيه حَلَّ أشراف خلق اللّه تعالى من الصالحين والمتعبدين، وجباله مساكن المجتهدين والمنفردين.
وأما أرض مصر فأرض قَوْرَاء غَوْرَاء، ديار الذراعنة، ومنازل الجبابرة، تحمد بفضل نيلها، وذَمّها أكثر من حمدها، هواؤها راكد، وحرها زائد، وشرها وارد، تكدر الألوان، وتخبب الفطن وتكثر الإِحن وهي معدن الذهب والجوهر والزمرد والأموال، ومغارس الغَلاَّت، غير أنها تسمن الأبدان وتسود الأبشار، وتنمو فيها الأعمار، وفي أهلها مكر ورياء، وخبث ودهاء وخديعة، إلا أنها بلد مكسب لا بلد مسكن؛ لترادف فتنها، واتصال شرورها.
وأما اليمن فيضعف الأجسام، ويذهب الأحلام، ويذهب بالرطوبة، في أهله همم كبار، ولهم أحساب وأخطار، مَغَايضه حِصْبَة، وأطرافه جَدْبة، وفي هوائه انقلاب، وفي سكانه اغتيال، وبهم قطعة من الحسن، وشعبة من الترفه و فقرة من الفصاحة.
وأما الحجاز فحاجز بين الشام واليمن والتهائم، هواؤه حَرور، وليله بهفور، ينحف الأجسام، ويُجفَف الأدمغة، ويشجع القلوب، ويبسط الهم، ويبعث على الإِحن وهو بلد مَحْل قَحْط جَدب ضَنْك.
وأما المغرب فيُقسِّي القلب، ويوحش الطبع، ويُطِيش اللُّبَّ ويذهب بالرحمة، ويكسب الشجاعة، ويقشع الضراعة، وفي أهله غدمْر، ولهم خبث ومكر، ديارهم مختلفة، وهممهم غير مؤتلفة، ولديارهم في آخر الزمان نبأ عظيم، وخطب جسيم، من أمر يظهر، وأحوال تبهر.
وأما العراق فمنار الشرق، وسُرة الأرض وقلبها، إليه تحادرت المياه، وبه اتصلت النضارة، وعنده وقف الاعتدال، فَصَفت أمزجة أهله، ولطفت أذهانهم، واحتَدَت خواطرهم، واتصلت مسراتهم، فظهر منهم الدهاء، وقويت عقولهم، وثبتت بصائرهم، وقَلْبُ الأرض العراق وهو المجتبى من قديم الزمان وهو مفتاح الشرق، ومسلك النور ومسرح العينين، ومدنه المدائن وما والاها ولأهله أعدل الألوان، وأنقى الروائح، وأفضل الأمزجة، وأطوع القرائح، وفيهم جوامع الفضائل، وفوائد المبرات، وفضائله كثيرة؛لصفاء جوهره، وطيب نسيمه، واعتدال تربته، وإغداق الماء عليه، ورفاهية العيش به.
وأما الجبال فتخشن الأجسام وتغلظها، وتبلد الأفهام وتقطعها، وتفسد الأحلام، وتميت الهمم؛لما هي عليه من غلظ التربة، ومتانة الهواء، وتكاثفه، واختلاف مَهَابه، وسوء متصرفاته.
والأخلاق والصور- يا أمير المؤمنين- تناسب البلد وتحاذيه، وتقاربه، وتوافقه وتضاهيه، وكل بلد اعتدل هواؤه، وخف ماؤه، ولطف غذاؤه - كانت صور أهله وخلائقهم تناسب البلد وتحاذيه، وتشاكل ما عليه أركانه، وما أسِّسَ عليه بنيانه وكل بلد يزول عن الاعتدال، انتسب أهله إلى سوء الحال.
وأما خراسان فتكبر الهام؛ وتعظم الأجسام؛ وتلطف الأحلام، ولأهلها عقول وهمم طامحة؛ وفيهم غَوْص وتفكير؛ ورأي وتقدير.
وأما بلد فارس فخصب الفضاء، رقيق الهواء، متراكم الماء، مُعْتَمّ بالأشجار، كثير الثمار، وفي أهله شح، ولهم خب ؛ وغرائزهم سيئة، وهمهم دنيئة، وفيهم مكر وخداع.
وأما بلاد خوزستان فهي كَدِرَة الأهواء، تفسد الأحلام، وتبلد الإفهام، وتخبث الهمم، وتستأصل الكرم، يساق أهله سَوْقَ الأنعم، وهم الهَمَجُ الطَّغَام.
وأما أرض الجزيرة فتناسب البر بالهواء اللطيف، وفيها خصب وسَرْجٌ، ولأهلها بأس ومراس.
والبر- يا أمير المؤمنين- أفضل قطع الأرض وأسناها، وأشرفها وأعلاها، نحو الأنجاد والتهائم، لحماية الهواء الأقذاء عن سكانه، ودفعه الآفات عن قُطَّانه، وسماحة المثْوَى، وتهذيب الماء، وصحة المُتَنَسم، وارتفاع الأكدار، وذهاب الأضرار. واعلم- يا أمير المؤمنين- أن اللّه تبارك وتعالى قسم الأرض أقساما فَضَّل بعضها على بعض، فأفْضَلُ أقس أمه ا العراق، فهو سيد الآفاق، وقد سكنه أجيال وأمم ذوو كمال.
وأما الهند والصين وبلاد الروم فلا حاجة بي إلى وصفها لك، لأنها منازل شاسعة، وبلدان نائية، كافرة طاغية.
وفي الذي ذكرته لك ما أشفى بك إلى ما شَفَرتَ إلى علمه، وكل ما وصفته في هذه البلدان فهو الأعم من أمور أهلها، والأغلب على أحوالهم، فإن وجد فيهم أحد بخلاف ذلك فهو النادر يا أمير المؤمنين، والحكم في ذلك للأغلب.
قال المسعودي: وذكر جماعة من أهل العلم بالسير والأخبار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد الشخوص إلى العراق- حين بلغه ما عليه الأعاجم من الجمع ببلادهم- سأل كعب الأحبار عن العراق، فقال: يا أمير المؤمنين، إن اللّه لما خلق الأشياء ألحق كل شيء بشيء، فقال العقل: أنا لا حق بالعراق، فقال العلم: وأنا معك، فقال المال: وأنا لاحق بالشام، فقالت الفتن: وأنا معك، فقال الخصب: وأنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك، فقال الفقر: وأنا لاحق بالحجاز فقالت القناعة: وأنا معك فقال الشقاء: وأنا لاحق بالبوادي، فقالت الصحة: وأنا معك.
قال المسعودي: وأوسط الأقاليم الإقليم الذي و لدنا به، وإن كانت الأيام أنأت بيننا وبينه، وساحَقَتْ مسافتنا عنه، وولدت في قلوبنا الحنين إليه، إذ كان وطننا ومسقطنا، وهو إقليم بابل، وقد كان هذا الإِقليم عند ملوك الفرس جليلاً، وقدره عظيماً، وكانت عنايتهم إليه مصروفة، وكانوا يشتون بالعراق، وأكثرهم يصيفون بالجبال، وينتقلون في الفصول إلى الصرود من الأرض والحرور، وقد كان أهل المروءات في الإسلام كأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي وغيره يشتون في الحرور، وهو العراق، ويصيفون في الصرود، وهي الجبال، وفي ذلك يقول أبو دلف:
وإني امرؤ كِسْرَويُّ الفعـال |
|
أصِيفُ الجبالَ وَأشْتُو العراقا |
وذلك لما خص به هذا الإقليم من كثرة مرافقه، واعتدال أرضه، وغضارة عيشه، ومادة الوافدين إليه، وهما دجلة والفرات، وعموم الأمن فيه، وبعد الخوف عنه، وتوسطه الأقاليم السبعة، وقد كانت الأوائل تشبهه من العالم بالقلب من الجسد؛لأن أرضه من إقليم بابل الذي تشعبت الآراء عن أهله بحكمة الأمور كما يقع ذلك عن القلب، وبذلك اعتدلت ألوان أهله واقتدرت أجس أمه م، فسلموا من شُقْرة الروم والصقالبة، وسواد الحبشة، وغلظ البربر، ومن جَفَا من الأمم، واجتمعت فيهم محاسن جميع الأقطار، وكما اعتدلوا في الجِبِلة وكذلك لطفوا في الفطنة، والتمسك بمحاسن اللأمور، وأشرف هذا الإقليم مدينة السلام، ويعز عليَّ ما أصارتني إليه الأقدار من فراق هذا المصر الذي عن بقعته فصلنا، وفي قاعته تجمعنا، لكنه الزمن الذي شيمته التشتيت، والدهر الذي من شروطه الإبانة ولقد أحسن أبو دلف العجلي حيث يقول:
أيا نكْبَةَ الدهر التي طَوَّحَتْ بنـا |
|
أيادي سَبَا في شرقها والمغارب |
قِفِي بالتي نَهْوَى فقد طِرْت بالتي |
|
إليها تناهت رَاجِعَات المصائب |
وقد ذكر الحكماء- فيما خرجنا إليه من هذا المعنى- أن من علامة وفاء المرء ودوا أم عهده حنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه، وبكاءه على ما مضى من زمانه، وأن من علامة الرشد أن تكون النفوس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تَؤاقة، وللإلف والعادة قَطَع الرجل نفسه لصلة وطنه.
وقال ابن الزبير: ليس الناس بشيء من أقس أمه م أقنع منهم بأوطانهم، وقاد بعض حكماء العرب: عمر الله البلدان بحب الأوطان، وقالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة والديك؛ لأن غذاعك منهما، وغذاءهما منه، وقال آخر: أولى البلدان بصيانتك بلد رضعت ماءه، وطعمت غذاعه، وقال آخر: ميلك إلى موضع مولدك من كرم مَحْتدِك، وقال بقراط: يداوي كل عليل بعقاقير أرضه؛ فإن الطبيعة تتطلع إلى هوائها، وتنزع إلى غذائها، وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنفع أدويتها، وقال جالينوس: يتروح العليل بنسيم أرضه كما تنبت الحبة ببلل الأرض. وللنفوس في علة حنينها إلى الأوطان كلام ليس هذا موضعه، وقد ذكرناه في كتابنا المترجم بسر الحياة وفي كتاب طب النفوس.
ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر لبطل أول العلم، وضاع آخره؛ إذ كان كل علم من الأخبار يستخرج وكل حكمة منها تستنبط والفقه منها يستثار والفصاحة منها تستفاد، وأصحاب القياس عليها يبنون، وأهل المقالات بها يحتجون ومعرفة الناس منها تؤخذ، وأمثال الحكماء فيها توجد، ومكأرم الأخلاق ومعاليها منها تقتبس، وآداب سياسة الملك والحزم منها تلتمس، وكل غريبة منها تعرف، وكل عجيبة منها تستطرف، وهو علم يستمتع بسماعه العالم والجاهل، ويسعذب موقعه الحمق والعاقل، ويأنس بمكانه وينزع إليه الخاصىِ والعامي، ويميل إلى رواياته العربي والعجمي.
وبعد؛فإنه يوصل به كل كلام، ويتزين به في كل مقام، ويتجمل به في كل مشهد، ويحتاج إليه في كل محفل، ففضيلة علم الأخبار بينة على كل علم، وشرف منزلته صحيح في كل فهم، فلا يصبر على فهمه وتيقن ما فيه، وإيراده وإصداره إلا إنسان قد تجرد له، وفهم معناه، وذاق ثمرته، واستسفر من غرره ونال من سروره، وقد قالت الحكماء: الكتاب نعم الجليس، ونعم الذخر، إن شئت ألهتك نواد رده، وأضحكتك بوادره، وإن شئت أشْجَتْكَ مواعظه، وإن شئت تعجبت من غرائب فوائدة، وهو يجمع لك الأول والأخر والغائب والحاضر والناقص والوافر والشاهد والغائب والبادي والحاضر، والشكل وخلافه، والجنس وضده، وهو ميت ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء وهو مؤنس يَنْشَطُ بنشاطك، وينامِ بنومك، ولا ينطق معك إلا بما تهوى، ولا نعلم جارأ أبر، ولا خليطاَ أنْصَفَ، ولا رفيقاً أطوع، ولا معلماً أخضع، ولا صاحباً اظهر كفاية، وأقل خيانة، ولا أجدَى نفعاً، ولا أحمد أخلاقَاَ ولا أقل خِلافأ ولا أعوم سروراً، ولا أسكت غيبة، ولا أحسن موافاة ولا أعجل مكافأة، ولا أخف مؤنه منه إن نظرت إليه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وأيد فهمك، وأكثر علمك، وتَعْرِف منه في شهر، ما لا تأخذه من أفواه الرجال في دهر،. ويغنيك عن كد الطلب، وعن الخضوع لمن أنت أثبت منه أصلاً، وأسمح فرعاً، وهو المعلم الذي لا يجفوك، وإن قطعت عنه المائدة، لم يقطع عنك الفائدة، وهو الذي يطيعك بِالليل طاعته لك بالنهار، ويطيعك في السفر كطاعته لك في الحضر، وقد قال الله تبارك وتعالى: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم،الذي عًلّمَ بالقَلَم، عَلّم الإِنسان ما لم يَعْلَم" فوصف عن نفسه أنه علم بالقلم كإخباره عن نفسه بالكرم، وفي ذلك يقول بعض أهل الأدب:
لًمّا عَلِمْتُ بأني لست أعـجـزهـمِ |
|
فَوْتاً ولا هرباً قدمتُ أحـتـجـب |
فصرت بالبيت مسروراً بـه جـذل |
|
اَ حاوي البراءة لا شكوى ولا شغب |
فردا ًيحدثني حقًّا و ينـطـق لـي |
|
عن علم ماغاب عني منهُمُ الكتـب |
المؤنسون هُمُ اللائي عُنِـيتُ بـهـم |
|
فليس لي في جليس غيرهِـم أرَبُ |
للّه در جلـيسـي اجـلـيسـهـم |
|
فذا عشيرهم للـسـوء يرتـقـبُ |
وقد كان عبد اللّه بن عبد- العزيز بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس، ونزل مقبرة، وكان لا يُرَى إلا وفي يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك، فقال: لم أرَ واعظاً أوعظ من قبر، ولا ممتعاً أمتع من كتاب، ولا شيئَاَ أسلم من الوحدة، فقيل له: قد جاء في الوحدة ما جاء،فقال: ما أفسدها للجاهل وقد قال بعض الشعراء فيمن يجمع الكتب ولا يعلم ما فيها:
زَوَامِلُ للأسفار لا علم عنـدم |
|
بجَيدِها إلا كعلـم الأبـاعـر |
لَعَمْرُكَ ما يمري البعيرُ إذا غدا |
|
بأحمله أو راح ما في الغَرَائرِ |
تنازع الناس في اليمن وتسميته؛ فمنهم من زعم أنه إنما سمي يمناً لأنه عن يمين الكعبة وهو التيمن وسمي الشام شامأ لأنه عن شمال الكعبة، وسمي الحجاز حجازاً لأنه بين اليمن والشام، نحو ما أخبر اللّه عز وجل عن البرزخ الذي بين بحر القلزم وبحر الروم بقوله عز وجل: "وَجَعَلَ بين البحرين حاجزاً" وإنما سمي العراق عراقأ لمصب المياه إليه كالدجلة والفرات وغيرهما من الأنهار، وأظنه مأخوذاً من عراقي الدلو وعراقي القربة.
ومنهم من زعم أن اليمن يم إنما سمي يمناً ليمنه، والشام شاماً لشؤمه ة وهذا قول يُعزى إلى قُطْرب النحوي في آخرين من الناس.
ومنهم من رأى أنه إنما سمي اليمن يمناً لأن الناس حين تفرقت لغاتهم ببابل تَيَامَنَ بعضهم يمين الشمس وهو اليمن، وبعضهم تشاءهم فوسم له هذا الاسم، وسنذكر تفرق هذه القبائل من أرض بابل بعد هذا الموضع، وبعض ما قالوه في ذلك من الشعر، عند مسيرهم في الأرض واختيارهم البقاع.
وقيل: إنما سمي الشام شاماً لشامات في أرضه بيض وسرد، وذلك في التراب والبقاع والحجر وأنواع النبات والأشجار، وهذا قول الكلبي.
وقال الشرقي بن القطامي: إنما سمي الشام شاماً بسام بن نوح، لأنة أول من نزله وقَطَن فيه، فلما سكنته العرب تطيّرت من أن تقول سام، فقالت: شام.
وقيل: إن سَامَرا إنما سميت بذلك إضافة إلى سام.
وقيل: إن أول من سكنها من خلفاء بني العباس سماها بهذا الاسم، وإنها سرور لمن رآها.
وقد ذكر في أسماء هذه المعاقل و البقاع والأمصار. وجوه غير ما ذكرت قد أتينا عليها فيما سلف من كتبنا.