ذكر اليمن وأنسابها وما قاله الناس في ذلك

ذكر اليمن وأنسابها وما قاله الناس في ذلك

اختلف الناس في أنساب قحطان؛ فحكى هشام بن الكلبي عن أبيه والشرقي بن القطامي أنهما كانا يذهبان إلى أن قَحْطَانَ بن الهميسع بن نبت- وهو نابت- بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل، ويحتجان لذلك بوجوه من الأخبار. ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه هشام عن أبيه عن ابن عباس، ورواه الهيثم عن الكلبي عن أبي صالح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على فتية من الأنصار يتناضلون، فقال. ارموا يا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميأ، ارموا وأنا مع ابن الأعرع رجل من خزاعة، فرمى القوم نبالهم. وقالوا: يا رسول الله، من كنت معه فقد نَضَلَ !! فقال ارموا وأنا معكم جميعأ.

قال المسعودي: وسائر ولد قحطان من حمير وكهلان يأبى هذا القول وينكره وقد ثبت أن قحطان يقطن، وإنما عُرب فقيل له: قحطان.

وحكي ابن الكلبي، أن اسم يقطن في التوراة الجبار بن عابر بن شالخ بن إرفخشذ بن سام بن نوح، والواضح، من أنساب اليمن، وما تدين به كهلان وحمير ابنا قحطان إلى هذا الوقت قولا وعملا، وينقله الباقي عن الماضي والصغير عن الكبير والذي وجدت عليه التواريخ القديمة للعرب وغيرها من الأمم، وعليه وجدت الأكثر من شيوخ ولد قحطان من حمير وكهلان بأرض اليمن والتهائم والأنجاد وبلاد حَضْرَ مَوْت وَ الأحقاف وبلاد عمان وغيرها من الأمصار أن الصحيح في نسب قحطأن أنه قحطان بن عابر بن شالخ بن سالم- وهو قينان- ابن إرفخشذ بن سام بن نوح، وقد كان لعابر ثلاثة أولاد: فالغ، وقحطان، وملكان، والخضر عليه السلام من ولد ملكان في قول كثير من الناس، وولد لقحطان أحد وثلاثون ذكراً، و أمه م حَيّ بنت روق بن قزارة بن منقذ بن سويد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، فولد قحطان يعرب بن قحطان، وولد يعرب يشجب، وولد يشجب ولدين، أحدهما عبد- وهو سبأ بن يشجب- وإنما سمي سبأ لسبيه السبايا، فولد سبأ حمير وكهلان ابني سبأ، والثاني لم يعقب، وإنما العقب من ولد هذين- وهما حمير وكهلان؛فهذا المتفق عليه عند أهل الخبرة بهما، والمتيقن لديهم.

وكان الهيثم بن عمي الطائي ينكر أيضاً أن يكون قحطان من ولد إسماعيل، وإنما إسماعيل تكلم بلغة جرهم؛ لأن إسماعيل كان سرياني اللسان على لغة أبيه خليل الرحمن حين أسكنه هو و أمه هاجر بمكة على ما ذكرنا، فصاهَرَ جرهم، ونشأ على لغتها، ونطق بكل أمه ا وقَفَا في مُرَاده خطابها. ونزار تأبى أن يكون إسماعيل نشأ على لغة جُرْهم، ويقولون: إن الله عز وجل أعطاه هذه اللغة، وذلك أن إبراهيم خلفه هو و أمه هاجر، وإسماعيل ابن ست عشرة سنة، وقيل: ابن أربع عشرة سنة، في واد غير ذي زرع، ولا أنيس، فحفظها الله تعالى، وأتبع لها زمزم، وعَلّم إسماعيل هذه اللغة العربية.

قالوا: ولغة جرهم غير هذه اللغة، ووجدنا لغة ولد قحطان بخلاف لغة ولد نزار بن معد، فهذا يقضي بإبطال قول من قال: إن إسماعيل أعرب بلغة جرهم، ولو وجب أن يكون إسماعيل إنما كان عربي اللسان لأجل جرهم ونَشْئِه فيها لوجب أن تكون لغته موافقة للغة جرهم، أو لغير ممن نزل مكة، وقد وجدنا قحطان سرياني اللسان، وولده يعرب بخلاف لسانه، وليس منزلة يعرب عند اللّه أعلى من منزلة إسماعيل، ولا منزل قحطان أعلى من منزلة إبراهيم خليل الرحمن فيمنع إسماعيل فضيلة اللسان العربي التي أعطيها يعرب بن قحطان.

ولولد نزار وولد قحطان خَطْب طويل ومناظرات كثيرة لا يأتي علي كتابنا هذا، في التنازع والتفاخر بالأنبياء والملوك، وغير ذلك مما قد أتينا على ذكر جمَل من حِجَاجهم وما أدلى به كل فريق منهم ممن سلف وخلف، وكذلك مناظرات السودان والبيضان والعرب والعجم ومناظرات الشعوبية في كتابنا أخبار الزمان.

وزعم الهيثم بن عدي أن جرهم بن عابر بن سبأ بن يقطن هو قحطان وتأول الهيثم قول النبي صلى الله عليه وسلم - حين قال للرماة من الأنصار، ارموا يا بني إسماعيل- أنه عليه السلام نسبهم إلى إسماعيل من جهة ال أمه ات، وما نالهم من الولادات من ولد إسماعيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيل نسباً قد ثبت، ولا يثبت نسب قوم إلى غير آبائهم، وقد نقلوا ذلك قولا وعملا وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أن سائلا سأله مِنْ مُرَاد عن سَبَأ: أرجلا كان أو امرأة أو واديا أو جبلاً. فقال له: كان رجلاً، ولد له عشرة فتشاءم أربعة وتيامن ستة: فالذين تشاءموا لخم وجذام وعاملة وغَسَّان، والذين تيامنوا حمير والأزد ومَذْحَج وكنانة والأشعريون وأنمار الذين هم بجيلة وخَثْعَم.

وقال أبو المنذر: هو أنمار بن إياد بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.

قال المسعودي: وقد تنوزع في نسب أنمار؛فذهب الأكثر إلى أن أنماراً وإياداً وربيعه ومضر بنو نزار بن معد بن عدنان، وإنما دخلوا في اليمن فأضيفوا إليهم، وما ذكرناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تيامن وتشاءم فمن أخبار الآحاد، وليس مجيئه مجيء الاستفاضة التي يقطع بها العذر ويثبت بها الحكم.

وللناس في هؤلاء كلام كثير، وقد ذكر هشام عن أبيه الكلبي قال: كان يقال لسائر ولد سبأ السَّبَئِيون، ولم تكن لهم قبائل تجمعهم دون سبأ.

وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب خبر عمرو بن عامر مزيقياء، وخبر طريفة الكاهنة، وخبر عمران الكاهن، وهو أخو عمرو بن عامر، وأخبار العَرِم والسيل، وما كان من كهانتهما في أمر السد وسيل العرم، وتفرق القبائل من مأرِبَ، ومن لحق بعُمَان وشَنُوءة والسًراة والشام وغير ذلك من بقاع الأرض.

ذكر اليمن وملوكها ومقدار سنيها

أول من يُعَد من ملوك اليمن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان، واسمه عبد شمس، وقد أخبرنا فما سلف من هذا الكتاب وغيره من كتبنا لأية علة سمي سبأ على ما قيل، والله أعلم، وكان ملكه أربعمائة سنة وأربعاً وثمانين سنة.

حمير

ثم ملك بعده ولده حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب، وكان أشجَعَ الناس في وقته، وأفرسهم، وأكثرهم جمالاً، وكان ملكه خمسين سنة وقيل: أكثر من ذلك، وقيل: أقل وكان يعرف بالمتوج وكان أول من وضع على رأسه تاج الذهب من ملوك اليمن.

كهلان

ثم ملك بعده أخوه كهلان بن سبأ، فطال عمره، وكبر سنه واستقامت له الأمور، وكان ملكه ثلثمائة سنة، وقيل غير ذلك.

ثم عاد الملك بعد أن هلك كهلان إلى ولد حمير؛لأخبار يطول ذكرها، وتنازع في الملك بين ولد حمير. وكهلان.

عمرو بن سبأ

ثم ملك أبو مالك عمرو بن سبأ، واتصل ملكه، وغمر الناس عدله وشملهم إحسانه، وكان ملكه ثلثمائة سنة.

قول آخر

وقيل: إن أول من ملك بعد كهلان الرائش، وهو الحارث بن شداد.

ثم ملك جبار بن غالب بن زيد بن كهلان، فكان ملكه عشرين ومائة سنه. ثم ملك بعده الحارث بن مالك بن إفريقس بن صيفي بن يشجب بن سبأ، وكان ملكه مائة سنة ونحو أربعين سنة، وقيل: إن هذا الملك هو أبرهة بن الرائش المعروف بذي المنار.

جماعة من ملوك اليمن

ثم ملك بعده الرائش بن شداد بن ملظاظ، وكان ملكه مائة وخمساً وعشرين سنة.

ثم ملك بعده أبرهة بن الرائش، وهو ذو المنار، وكان ملكه مائة وثمانين سنة.

ثم ملك بعده أفريقس بن أبرهة، فكان ملكه مائة وأربعاً وستين ثم ملك بعده أخوه العبد بن أبرهة، وهو ذو الأذْعَارِ، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.

ذو الأذعار

ثم ملك بعده الهداهاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش، وقد تنوزع في مقدار ملكه؛فمنهم من رأى أنه عاش عشر سنين، ومنهم من ذكر سبعاً، ومنهم من قال: ستا.

تبع الأول

ثم ملك تبع الأول، وكان ملكه أربعمائة سنة، وذكر كثير من الناس أن بلقيس قتلته، وقيل غير ذلك، والأشهر ما قدمنا.

بلقيس وسليمان

ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد، وكان لمولدها خبر ظريف ذكرته الرواة فميا روي أنه تصور لأبيها في بعض قَنَصِه حَيَّتَان سوداء وبيضاء فأمر بقتل السوداء منهما،؛وما ظهر له بعد ذلك من شيخ وشاب من الجن، وأن الشيخ زوجه بابنته، واشترط عليه شروطاً لها، فعلقت منه ببلقيس، ونقض تلك الشروط المأخوذة عليه لها، فغابت عنه، في خبر ظريف، وهو موجود في كتاب أخبار التبابعة.

وإنما نحكي هذه الأخبار على حسب ما وجدناه في كتب الأخباريين وعلى حسب ما توجبه الشريعة والتسليم لها، وليس. قصدنا من ذلك وصف أقاويل أصحاب القدم، لأنهم ينكرون هذا ويمنعونه، وإنما نحكي في هذا الكتاب أقاويل أصحاب الحديث المنقادين للشرع والمسلِّمين للحق، وأخبار الشياطين على حسب ما نطق به الكتاب المنزل على النبي المرسل، وما قارن ذلك من الدلائل الدالة على صدقه صلى الله علية وسلم، وإعجاز الخليقة أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وكان ملك بلقيس عشرين ومائة سنة، وكان من أمرها مع سليمان عليه السلام ما ذكر اللّه عز وجل في كتابه، وما اقتص من خبر الهدهد، وما اقتص من أمرهما، فملك سليمان اليمن ثلاثاً وعشرين سنة.

بقية ملوك اليمن

ثم عاد بعد ذلك الملك إلى حمير؛فملكهم ناشر النعم بن عمرو بن يعفر وكان ملكه خمساً وثلاثين سنة.

ثم ملك بعده شمر بن إفريقس بن أبرهة، فكان ملكه ثلاثَاَ وخمسين ثم ملك بعده تُبَّع الأقْرَنُ بن شمر، فكان ملكه مائة وثلاثأ وستين سنه.

ثم ملك بعده كليكرب بن تبَّع وكان ملكه مائة سنة وعشرين سنة، وَسَيَّرَ قومه نحو الشرق من بلاد خراسان والتبت والصين وسجستان.

ثم ملك بعده حسان بن تبئع، فاستقام له الأمر، ثم وقع بعد ذلك في ملكه تنازع وخلاف، وكان ملكه إلى أن قتل خمساً وعشرين سنة.

ثم ملك بعده عمرو بن تُبَّع، وهو القاتل لأخيه حسان الملك الماضى، وكان ملكه أربعاً وستين سنة، و لقال: انه عدم النوم، لما كان من فعله من قتل أخيه.

ثم ملك بعده تبع بن حسان بن كليكرب، وهو الملك السائر من اليمن إلى الحجاز، وكانت له مع الأوس والخزرج حروب، وأراد هدم الكعبة فمنعه مَنْ كان معه من أخبار اليهود، فكساها القصب اليماني، وسار نحو اليمن وقد تهوَّدَ وغلبت على اليمن اليهودية، ورجعوا عن عبادة الأصنام، وكان مُلْكه نحو مائة سنة.

ثم ملك عمرو بن تبع بعد تفرق وتنازع كان بينهم في الملك، خلع عن الملك وملكوا عليهم مرثد بن عبد كلال، وكان في اليمن تنازع وحروب، وكان ملكه أربعين سنة.

ثم ملك بعده وليعة بن مرثد، وكان تسعاً وثلاثين سنة.

ثم ملك بعده أبرهة بن الصباح بن وليعة بن مرثد، وهو الذي يدعى شيبة الحمد، وكان ملكه ثلاثاً وتسعين سنة، وقيل: أقل من ذلك، وكان علامة وله سير مُدَوَّنة.

ثم ملك بعده عمرو بن ذي قيفان، وكان ملكه سبع عشرة سنة.

ثم ملك بعده ذو شَنَاتر، ولم يكن من أهل بيت الملك، فغري بالأحداث من أبناء الملوك، وطالبهم بما تُطَالب به النسوان، وأظهر الفسق باليمن واللواط، وعدل مع ذلك في الرعية، وأنصف المظلوم، وكان ملكه ثلاثين سنة، وقيل: تسعا وعشرين سنة، وقتله يوسف ذو نواس، وكان من أبناء الملوك، خوفاً على نفسه، وأنَفَة أن يفسق به. ثم ملك بعده يوسف ذو نواس بن زرعة بن تبع الأصغر بن حسان بن كليكرب، وقد ذكرنا خبره في غير هذا الموضع من كتبنا، وما كان من أمره مع أصحاب الأخدود، وتحريقه إياهم بالنار، وهم الذين خبر الله تعالى عنهم في كتابه فقال: " قتك أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود" و إليه عبرت الحبشة من بلاد ناصع والزيلع، وهو ساحك الحبشة على حسب ما ذكرنا، إلى بلاد غلافقة من ساحل زبيد من أرض اليمن، فغرق يوسف نفسه بعد حروب طويلة خوفاً من العار؛ وكان ملكه مائتي سنة وستين سنة، وقيل أقل من ذلك، وذلك أن النجاشي ملك الحبشة لما بلغه فعل ذي نواس بأتباع المسيح عليه السلام، وما يعذبهم به من أنواع العذاب والتحريق بالنار بعث إليه الحبشة وعليهم أرباط بن أصحمة فملك اليمن عشرين سنة.

أبرهة أبو يكسوم

ثم وثب عليه أبرهة الأشرم أبو يكسوم فقتله وملك اليمن، فلما بلغ ذلك من فعله إلى النجاشي غضب عليه، وحلف بالمسيح أن يجزا ناصيته، ويريق دمه، ويطأ تربته- يعني أرض اليمن- فبلغ ذلك أبرهة فجز ناصيته وجعلها حق من العاج، وجعل من دمه في قارورة، وجعل من تراب اليمن في جراب، وأنفذ ذلك إلى النجاشي ملك الحبشة، وضم إلى ذلك هدايا كثيرة وألطافاً، وكتب إليه يعترف بالعبودية، ويحلف له بدين النصرانية أنه في طاعته، وأنه بلغه أن الملك حلف بالمسيح أن يجز ناصيته ويريق دمه ويطأ أرضه، وقد أنفذت إلى الملك ناصيتي فليجزها بيده، وبدمي في قارورة فليهرقه، وبجراب من تربة بلادى فليطأ بقدميه، وليطفئ الملك عني غضبه، فقد أبررت يمينه، وهو على سرير ملكه، فلما وصل ذلك إلى النجاشي استصوب رأيه، واستحسن عقله، وصفح عنه وكان ذلك في ملك قباذ ملك فارس.

وأبرهة أبو يكسوم هو الذي سار بأصحاب الفيل إلى مكة لإخراب الكعبة، وذلك لأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنو شروان، فعدل إلى الطائف فبعثت معه ثقيف بأبي رُغَال ليدلَّه على الطريق السهل إلى مكة، فهلك أبو رُغَال في الطريق بموضع يقال له المُغَفَس بين الطائف ومكة، فَرُجم قبره بعد ذلك والعرب تتمثل بذلك وفي ذلك يقول جرير بن الخطفي في الفرزدق.

إذا مات الفرز دق فارْجُمُوهُ

 

كما تَرْمُونَ قَبْرَ أبي رُغَال

وقال المسعودي رحمه اللّه، وقيل: إن أبا رُغَال وجَّهَهُ صالح النبي صلى الله علية وسلم على صدقات الأموال، فخالف أمره، وأساء السيرة، فوثب عليه ثقيف - وهو قيس بن منبه- فقتله قتلةً شنيعة لسوء سيرته في أهل الحرم،فقال غيلان بن سلمة وذكر قسوة أبيهم ثقيف على أبي رُغَال نحن قسيِّ وقسا أبونا وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي:

نَفَوْا عن أرضهم عَدْنَانَ طُرًّا

 

وكانوا للقبائل قـاهـرينـا

وهم قتلوا الرئيس أبارُغـال

 

بمكة إذ يسوق بها الوضينا

وفي ذلك يقول عمرو بن دراك العبدي:

تراني إن قطعت حبالَ قـيس

 

وخالفتُ المُرُورَ على تـمـيم

لأعظمُ فَجْرَةً منَ أبي رُغَـال

 

وأجْوَر ُفي الحكُومَةِ منْ سَدُوم

وقال مسكين الدأرمي:

وأرْجُمُ قبرَهُ في كـل عـام

 

كَرَجْم الناس قبر أبي رُغَال

وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب قصه الحبشة وورودهم الحرم وما كان من أمرهم في ذلك.

قال: وفي طريق العراق إلى مكة- وذلك بين الثعلبية والهبير نحو البطان- موضع يعرف بقبر العباعي، تَرْجمه المارة إلى هذه الغاية كما ترجم قبر أبي رُغَال، وللعباعي خبر ظريف قد أتينا على ذكره في كتاب أخبار الزمان وفي كتاب حدائق الأذهان وفي أخبار أهل البيت رضي اللّه عنهم.

فكان ملك أبرهة على اليمن إلى أن هلك بعد أن رجع من الحرم وقد حسقطت أنامله وتقطعت أوصاله حين بعث اللّه عليه الطير الأبابيل ثلاثاً وأربعين سنة.

وكان قدوم أصحاب الفيل مكة يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانمائة واثنتين وثلاثين سنة للاسكندر وست عشرة سنة ومائتين من تاريخ العرب الذي أوله حجة الغدر.

وسنذكر بعد هذا في الموضع المستحق له من هذا الكتاب جملاً من تاريخ العالم وتاريخ الأنبياء والملوك، في باب نُفْرده لذلك إن شاء اللّه تعالى.

ثم ملك اليمن بعد أبرهة الأشرم ولده يكسوم، فعمً أذاه سائر اليمن، وكان ملكه إلى أن هلك عشرين سنة.

مسروق بن أبرهة

ثم ملك بعده مسِروقَ بن أبرهة، فاشتدت وطأته على اليمن، وعم أذاه ساير النأس، وزاد على أبيه وأخيه في الذي، وكانت أمه من آل ذى يَزَن، وكان سيف بن ذي يَزَن قد ركب البحار، ومضى إلى قيصر يستنجلى، فأقام ببابه سبع سنين، فأبى أن يُنْجِد، وقال: أنتم يهود، والحبشة نصارى، وليس في الديانة أن ننصر المخلاف على الموافق، فمضى إلى كسرى أنو شروان فاستنجده ومَتَّ إليه بالقرابة، وسأله النصرة، فقال له كسرى: وما هذه القرابة التي أدْلَيتَ بها إلي؟ّ؛ فقال: أيها الملك الجْبِلة وهي الجلدة البيضاء ؛إذ كنت أقرب إليك منهم، فوعده أنو شروان بالنصرة على السودان وشغل بحرب الروم وغيرها من الأمم، ومات سيف بن ذي يزن، فأتى يعلى معد يكرب بن سيف، فصاح على باب الملك، فلما سئل عن حاله، قال: لي قَبَل الملك ميراثٌ، فوقف بين يدي أنو شروان، فسأله عن ميراثه، فقال: أنا ابن الشيخ الذي وعده الملك بالنصرة على الحبشة، فوجَّهَ معه وَهْرِز إصْبِهْبِذَ الديلم في أهل السجون، فقال " إن فتحوا لنا، وإن هلكوا فلنا، وكلا الوجهين فَتْحٌ، فحملوا في السفن في دجلة ومعهم خيولهم، وعددهم وأموالهم، حتى أتوا أبلّة البصرة- وهي فرج البحر، ولم يكن حينئذ بصرة ولا كوفة، وهذه مدن إسلامية- فركبوا في سفن البحر، وساروا حتى أتوا ساحل حضر موت بموضع يقال له مَثْوَبُ، فخرجوا من السفن، وقد كان أصيب بعضهم في البحر، فأمرهم وَهْرِز أن يحرقوا السفن ليعلموا أنه الموت، ولا وجه يؤملون المَفَرَّ إليه فيجهدون أنفسهم، وفي ذلك يقول رجل من حضر موت:

أصبح في مَثْوَب ألْفٌ في الجُنَـنْ

 

من رهط ساسان ورهط مهرسن

ليخرجوا السودان من أرض اليمن

 

دلهمُ قَصـد الـسـبـيل ذويزَن

في شعر له طويل،، ونما خبرهم إلى ملك اليمن مسروق بن أبرهة، فأتاهم في مائة ألف من الحبشة وغيرهم من حمير-وكهلان ومن سائر من سكن اليمن من الناس وتصافَ القوم، وكان مسروق على فيلَ عظيم، فقال وهرز لمن كان معه من الفرس: اصدقهم الحملة، واستشعروا الصبر، ثم تأمل ملكهم وقد نزل عن الفيل فركب جملاً، ثم نزل عن الجمل فركب فرساً، ثم أنف أن يحارب على فرس فركب حماراً، استصغارأ لأصحاب السفن، فقال وَهْرِزُ " ذهب ملكمه، وتنقل من كبير إلى صغير، وكان بين عيني مسروق ياقوتة حمراء معلقه- في تاجه بمعلاق من الذهب تضيء كالنار، فرمى وَهْرِزُ، ورمى القوم، وقال وهرِز لأصحابه: قد رميت ابن الحمارة، فانظروا إن كان القوم يجتمعون عليه ولا يتفرقون عنه فهو حي، وإن كان أصحابه يجتمعون عليه ويتفرقون عنه فقد هلك، فنظروا إليهم فرأوهم يجتمعون ويتفرقون عنه، فأخبروه بذلك، فقال: احملوا على القوم واصدقوهم فحملوا عليهم وصدقوهم؛ فانكشفت الحبشة وأخذهم السيف، ورفع رأس مسروق ورؤوس خواص الحبشة ورؤسائهم، فقتل منهم نحو ثلاثين ألفاً، وقد كان أنو شروان أتشرط على معد يكرب شروطأ: منها أن الفرس تتزوج باليمن ولا تتزوج اليمن منها وفي ذلك يقول الشاعر:

على أن ينكحوا النسوان منهم

 

ولا ينكحوا في الفارسـينـا

وَخَرَاج يحمله إليه فتَؤجَ وهرز معد يكرب بتاج كان معه وبدنة من الفضة ألبسه إياها، ورتبه في ملكه على اليمن، وكتب إلى أنو شروان بالفتح، وخلف هناك جماعة من أصحابه.

وكان جميع ما ملكتَ الأحابش اليمن اثنتين وسبعين سنة، وكان ملك مسروق بن أبْرَهَة إلى أن قتله وَهْرِزُ ثلاث سنين، وذلك لخمس وأربعين خلت من ملك أنو شروان.

وأتت معدي كرب الوفود من العرب تهنئه بالملك، فأتاه عبد المطلب وجد أمية بن أبي الصَلْت، وقد ذكرنا خبر عبد المطلب ووفادته على ابن ذي يزن في هذا الكتاب فيما بعد، وما قيل من الشعر وفي مسير الفرس إلى اليمن ونصرتهم على الحبشة يقول بعض أولاد فارس:

نَحن خُضنا البحار حتى فككنا

 

حميراً من بَلَيّةٍ الـسـودان

بليوث من آل ساسان شُـوس

 

يمنعون الحريم بالـمـرَّان

وببـيض بـواتـر تـتـلاَلاَ

 

كسَنَا البرقِ في فرى الأبدان

فقتلنا مسروق إذ تاه لـمَّـا

 

أن تداعَتْ قبائل الحبشـان.

وفلقنـا ياقـوتة بـين عـين

 

ه بنُشًابة الفتى الساسـانـي

وَهْرِزُ الديلميئُ لـمَّـا رآهُ

 

رابط الجأش ثابت الأركان

وحوينَا بلاد قحطان قسـراً

 

ثم سرنا إلى فرى غُمْدَان

فنعمنا فيه بكل سـرور و

 

مَنَنَّاعلى بني قـحـطـان

وفي ذلك يقول البحتري يمدح أبناء العجم، ويذكر فضل الفرس على أسلافه لأنه من قطحان:

فكم لكم من يَدٍ يزكو الـثـنـاء بـهـا

 

ونعمة ذكْرُهَا باقٍ عـلـى الـزمـن

إن تفعلوها فليست بِكْـرَ أنـعـمـكـم

 

ولا يد كـأياديكـم عـلـى الـيمـن

أيام جَـلـىَّ أنـو شـروان جـدكــم

 

غيابة الذل عـن سـيف بـن ذي يزن

إذ لا تزال خـيول الـفـرس دافـعة

 

بالضرب والطعن عن صَنْعَا وعن عَدَن

أنتم بنو المنعم المجمـيع وخـن بـنـو

 

من فاز منكم بفضل الطّوْل والمـنَـنِ

وفود العرب تهنئ معد يكرب

قال المسعودي: وأتت معد يكرب الوفود من العرب تهنيه بعَوْدِ الملك إليه وأشراف العرب وزعماؤها، وفيهم عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وخويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وأبو زَمْعَة جَدُّ أمية بن أبي الصَّلْت الثقفي، وقيل: أبو الصلت أبوه، فدخلوا إليه وهو في أعلى قصره بمدينة صنعاء المعروف بغُمْدَان وهو مُضَمَّخ بالعنبر، وسواد المسك يلوح على مَفْرِقه، بين يديه، وعلى يمينه وشماله الملوك وأبناء الملوك وأبناء المَقَاول.

عبد المطلب يهنى الملك

فتكلمت الخطباء، ونطقت الزعماء، وقد تقدمهم عبد المطلب بن هاشم فقال عبد المطلب: إن اللّه جل جلاله قد أحلك- أيها الملك- مَحَلا رفيعاً، صعباً منيعاً، شامخاً، وأنبتك مَنْبتاً طابت أرومته، وعزت جُرْثُومته، وثبت أصله وَبَسَق فرعه، في أَكرم معدن، وأطيب موضع وموطن، فأنت- أبيت اللعن- رأس العرب ورَبيعها الذي تُخْصِب به، وأنت- أيها الملك- ذروة العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومَعْقلها الذي تلتجئ إليه العباد، سَلَفُكَ خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يخمل ذكر من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه، أيها الملك، نحن أهل "حرم الله، وسَدَنَة بيته، أشْخَصَنَا إليك الذي أبهجنا من كشف الكرب الذي فَدَحَنَا، ونحن وفد التهنئة، لا وفد المرزئة فقال له الملك: وأيهم أنت أيها المتكلم. قال: أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فقال الملك معدي كرب بن سيف: ابْنُ أختنا؟؛ قال: نعم، قال: أدْنُوه مني، فادني، "ثم أقبل عليه وعلى الوفد، فقال لهم: مرحبأ وأهلا، ونأقة ورَحَلاً، ومَستناخا سهلاً، وملكأ رِبَحْلاً، يعطي عطاء جزلاً، قد سمع مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأتم أهل الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم.

أبو زمعة يهنئه

ثم قام أبو زَمْعَة جد أمية بن أبي الصلت الثقفي، فأنشأ يقول:

ليطلُب الوتر أمثال ابـن ذي يزن

 

في لجة البحر أحـوالا وأحـوال

حتئ أتنى ببني الأحرار يحملـهـم

 

تخالهم في سواد اللـيل أجـبـال

لله درهم من عصـبة خـرجـوا

 

ما إن رأيت لهم في الناس أمثـال

أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد

 

أمسى شريدهمُ في الأرض فلاّلا

فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقَـاَ

 

في رأس غُمْدَان داراً منك محلالاً

ثم اطْلُ بالمسك إذ شالت نعامتهـم

 

وأسْبِل اليوم في بُرْدَيْكَ إسـبـال

تلك المكأرم لاقَعْبَانِ مـن لـبـن

 

شِيبَا بماء فعـادا بـعـد أبـوالا

ولمعد يكرب بن سيف بن ذي يزن كلام كثير مع عبد المطلب وكوائن أخبره بها في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وبَدْء ظهور، وحَبَا جميع الوفد، وانصرفوا، وقد أتينا على ما كان من أخبارهم في كتابنا أخبار الزمان فأغنى عن إعادته ووصفه.

مقتل معد يكرب

قال المسعودي: وأقام معد يكرب بن سيف بن ذي يزن ملكاً على اليمن، واصطنع عبيداً من الحبشة حرابة يمشون بين يديه بالحراب، فركب في بعض الأيام من باب قصره المعروف بغُمْدَان بمدينهِّ صنعاء، فلما صار إلى رحبتها عطفت عليه الحرابة من الحبشة، فقتلوه بحرابهم، وكان ملكه أربع سنين، وهو آخر ملوك اليمن من قحطان، فعدد ملوكهم سبعة وثلاثون ملكاً وملكوا ثلاثة الاف سنة ومائة وتسعين سنة.

رواية عبيد بن شرية

قال المسعودي: وأما عبيد بن شَرِيَّةَ الجرهمي حين وفد على معاويةْ، وسأله عن أخبار اليمن وملوكها وتواريخ سنيها، فإنه ذكر أن أول ملوك اليمن على حسب ما قدمنا في هذا الباب سبأ بن شجب بن يعرب بن قحطان، ملك مائة سنة وأربعاً وثمانين سنة.

ثم ملك بعده الحارث بن شداد بن ملظاط بن عمرو، مائة وخمساً وعشرين سنة.

ثم ملك بعده أبرهة بن الرائش، وهو أبرهة ذو المنار، مائة وثلاثاً وثلائين سنة.

ثم ملك بعده إفريقس بن أبرهة، مائة وأربعاً وستين سنة. ثم ملك بعده أخوه العبد بن أبرهة، خمساً وأربعين سنة.

ثم ملك بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو، وهو ذو الصرح، سنةً.

ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد، سبع سنين.

ثم ملك سلمان بن داود عليهما السلام، ثلاثاً وعشرين سنة، على حسب ما قدمنا من أمر بلقيس.

ثم ملك بعده رحبعم بن سليمان، سنة.

ثم رجع الملك إلى حمير، فملك من بعد رحبعم بن سليمان ناشر النعم بن يعفر بن عمرو في الأذعار، خمساً وثلاثين سنة، وقد قيل في تسميته ذا الأذعار خبر تأباه العقول، وتنكر النفوس كون مثله في العالم، ويجوز كون ذلك في المقدر وأنه إنما سمن الأذعار لأنه وصل إلى قوم في أقاصي مفاوز اليمن وأرض حضرموت مشوهي الخلقة عجيبي الصورة وجوههم في صدورهم، فلما رأى أهل اليمن ذلك أذْدرهم ما شاهدوا من ذلك، وجزعت منه نفوسهم، فسمي ذا الأذعار، وقيل غير ذلك، والله أعلم بكيفيته.

ثم ملك بعده عمرو بن شمر بن إفريقس، ثلاثاً وخمسين سنة.

ثم ملك بعده تبع الأقران بن عمرو، وهو تبع الأكبر، مائة سنة وثلاثاً وخمسين سنة.

ثم ملك بعده تبع بن ملكيكرب بن تبع خمساً وثلاثين سنة.

ثم ملك بعده تبع بن ملكيكرب بن تبع وهو تبع أبو يكرب أسعد بن ملكيكرب أربعا وثمانين سنة.

ثم ملك بعده كلال بن مثوب، أربعاً وسبعين سنة.

ثم ملك بعده تبع بن حسان بن تبع ثلثمائة سنة وستاً وعشرين سنة.

ثم ملك بعده مرثد، سبعاً وثلاثين سنة.

ثم ملك بعده أبرهة بن الصباح، ثلاثاً وسبعين سنة.

ثم ملك بعده ذو شَنَاتر بن زرعة، ويقال يوسف، ويقال: بلى أسمى عريب بن قطن، تسعاً وثمانين سنة.

ثم ملك بعده لخنيعة، ويعرف بذي الشناتر، أربعاً وثمانين سنة.

فذلك ألف وتسعمائة سنة وسبع وعشرون سنة، وإنما ذكرنا ما حكيناه عن عبيد بن شريةَ في ترتيب ملوكهم، وتباين تواريخ سنيهم، لنأتي على جميع ما قيل في ذلك من التنازع، واللّه ولي التوفيق.

ملك فارس باليمن

ولما قتلت الحبشة معد يكرب بن سيف بن ذي يزن- على حسب ما قدمنا- في الرحبة بحرابهم كان بصنعاء خليفة لوهرز في جماعة من العجم، ممن كان ضمهم وهرز إلى معد يكرب فركب وأتى على من كان هنالك من الحبشة، وضبط البلد، وكتب بذلك إلى وهرز وهو بباب أنو شروان الملك، وذلك بالمدائن من أرض العراق، فأعلم وهرز بذلك الملك، فسيره في البر في أربعة آلاف من الأساورة، وأمره بإصلاح اليمن. وأن لا يبقى على أحد من بقايا الحبشة، ولا على جَعْد قَطَط قد شرك السودان في نسبه، فأتى وهرز اليمن، ونزل صنعاء، فلم يترك بها أحد من السودان ولا من أنسابهم، وملك أنو شروان وهرز على اليمن إلى أن هلك بصنعاء ثم ملك بعده النوشجان بن وهرز إلى أن هلك بها ثم ملك بعده رجل من فارس يقال له سبحان، ثم ملك بعده خرزاد ستَّةَ أشهر، ثم ملك بعده ابن سبحان، ثم ملك بعده المرزبان وكان من أهل بيت مملكة فارس، ثم ملك بعده خرخسرو، وكان مولده باليمن، ثم ملك بعده بآذان ساسان.

ملك اليمن في أبناء إبراهيم

قال المسعودي: فهؤلاء جميع من ملك اليمن من قحطان والحبشة والفرس، وقد ملك اليمن رجلِ من ولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو يعدُ من ملوك اليمن واسمه هنيبة بن أميم بن بدل بن مدين بن إبراهيم لخليل عليه السلام، وكان له شأن عظيم في ملك اليمن؛وطالت أي أمه ، وذكره امرؤ القيس في شعره فقال:

هنيبة الـذي زادت قـواه

 

على زيد أن إذ حان الزول

تمكن قِائما وبنى طـريقـاً

 

إلى زيدان أعيط لا ينـال

ويقَال: إ نِه منتبه بن أميم بن بدل بن لسان بن إبراهيم الخليل.

عاصمة اليمن

وقد كانت ملوك اليمن تنزل بمحينة ظَفَارِ، مثل آل ذي سحر وآل ذي الكلاع وآل ذي أصبح وآل ذي يزن، إلا اليسير منهم فإنهم نزلوا غيرها وكان على باب ظَفَارِ مكتوب بالقلم الأول في حجر أسود:

يوم شيدت ظفار قيل: لمن أنت؟

 

فقالت: لـحـمـير الأخـيار

ثم سيلت: من بعد ذأك؟ فقالت:

 

إن ملكي للأحْبُـش الأشـرار

ثم سيلت مَنْ بعد ذاك؟ فقالـت:

 

إن ملكي لفـارس الأحـرار

ثم سيلت: ما بعد ذاك؟ فقالـت:

 

إن ملكي إلى قريش التـجـار

ثم سيلت: ما بعد ذاك؟ فقالـت:

 

إن ملكي لحمـير وصـحـار

وقليلا ما يلبث القـومُ فـيهـا

 

منذ شيدت مشيدها لـلـبـوار

من أسودٍ يلقيهمُ البحـر فـيهـا

 

تشعل النار في أعالي الـديار

وهذا خبر عن ملوك تداولوها، أخبروا عن ملكهم قبل كونه، فتداولتها هذه الملوك على حسب ما وصفناه، وينتظر في المستقبل من الزمان ما ذكرنا من وقود النيران في أعالي الديار، وعند أهل اليمن ديارهم سيغلب عليها الأحابش في آخر الزمان بعد هَنَات وكوائن وأحداث وبُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اليمن عُمّال كسرى، ثم غلب الإسلام فظفر بحمد اللّه.

وقد أتينا على أخبار من ذكرن من الملوك، وسيرهم، ومطافاتهم في البلاد وحروبهم، وأبنيتهم في سائر مطافاتهم، في الكتاب الأوسط،فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الباب.

مساحة اليمن وحدوده

وبلد اليمن طويل عريض: حده مما يلي مكة إلى الموضع المعروف بطلحة الملك سبع مراحل، ومن صنعاء إلى عدن- وهو أخر عمل اليمن تسع مراحل، والمرحلة من خمسة فراسخ إلى ستة، والحد الثاني من وأدى وحا إلى ما بين مَفَاوز حضرموت وعمان عشرون مرحلة، ويلي الوجه الثالث بحر اليمن على ما ذكرنا أنه بحر القلزم والصين والهند، فجميع ذلك عشرون مرحلة في ست عشرة مرحلة.

وأسماء ملوك اليمن كذي يزن وذي نُوَاس وذي منار وغير ذلك مضافه إلى مواضع وإلى أفعال لهم وسير وحروب وغير ذلك، وهي سِماتٌ لهم تميزهم عن غيرهم، وتبين كل واحد منهم عن غيره من ملوكهم.

وإذِ قد ذكرنا جوامع من أخبار اليمن وملوكها فلنذكر الآن ملوك الحيرة من بني نصر وغيرهم، للحوقهم باليمن، ثم نعقب ذلك بملوك الشام وغيرهم من المَلوك، إن شاء اللّه تعالى.

ذكر ملوك الحيرة من بنى نصر وغيرهم

جذيمة ابوضاح ومقتله

ولما هلك جَذِيمة الوَضاح وأتت عليه الزَبَّاء بنت عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر، وقد كان ملك من مشارق الشام إلى الفرات من قبل الروم، وكانت داره بالموضع المعروف بالمضيق، بين بلاد الخانوقة وقرقيسيا، وقد كانت الزباء تملكت بعد أبيها، وأطمعت جَذِيمة في نفسمها إلى أن قتلته، وأقام جذيمة ملكاً في زمن ملوك الطوائف خمساً وتسعين سنة، وفي ملك أردشير بن بابك وسابور الجنود بن أردشير ثلاثاً وعشرين سنة؛ فكان ملكه مائة وثمان عشرة سنة، وكان يكنى بأبي مالك، وفيه يقول بعض شعراء الجاهلية وهو سُويد بن أبي كاهل اليشكري:

أن أذُقْ حَتْفِي فقبلي ذاقَـهُ

 

طسم عاد وجديس ذوالشنع

وأبو مالكٍ الـقَـيْل ُالـذي

 

قتلته بنت عمرو بالخـدع

مْالك بن فهم

وكان الملك قبل جذيمة أباه، وهو أول من ملك الحيرة، واللّه أعلم، وكان يقال له مالك بن فَهْم بن دوْس بن الأزد بن الغَوْث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكان سار من اليمن مع ولد جَفْنة بن عمرو بن عامر مزَيْقياء، فسار بنو جَفْنة نحو الشام، وانفصل مالك نحو العراق فملك على مضر بن نزار اثنتي عشرة سنة، ثم ملك بعده ابنه جذيمة على ما ذكرنا.

عمرو بن عدي

ثم ملك بعد جذيمة ابن أختِهِ عمر وبن عدي بن نصر بن ربيعه بن الحارث بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم، وهو أول من نزل من الملوك الحيرة واتخذها منزلاً ودار ملكٍ، وإليه تنسب الملوك النصرانية، وهم ملوك الحيرة؛فكان ملك عمرو عدي ابن أخت جذيمة مائة سنة.

قصة عمرة بن عدي

قال المسعودي: وقد ذكر غير واحد ممن عني بأخبار العرب وأي أمه ا أن جَذِيمة أول من ملك من قُضَاعة، وهو جذيمة بن مالك بن فَهْم التَّنُوخي، وأنه قال ذات يوم لندمائه: لقد ذكر لي عن غلام من لخم، في أخواله من إياد، له ظَرْفٌ وأدب، فلو بعثتَ إليه فولَّيته كأسي والقيام على رأسي لكان الرأي، قالوا: الرأي ما رأى الملك، فليبعث إليه، ففعل، فلما قدم عليه قال: من أنت؟ قال: أنا عدي بن نصر بن ربيعه، فولاه مجلسه، فعشقته قاش ابنة مالك أخت الملك، فقالت: يا عدي، إذا سقيت القوم فامْزُج لهم، وَغدق للملك، فإذا أخَذَتَ الخمر منه فاخطبني منه فإنه يزوجك، فأشْهِدِ القوم إن فعل، ففعل الغلام ذلك وخطبها وزوجها به، فأشهد عليه، وانصرف الغلام إليها فأنبأها، فقالت: عَرِّسْ بأهلك، ففعل، فلما أصبح غدا متضرجاً بالخلُوق، فقال !له جَذِيمة: ما هذه الآثار يا عدي؟. قال: اثار العرس، وقال: وأي عرس؟. قال: عرس رقاش فَنَخَرَ وأكبّ على الأرض، ورفع علي جراميزه، وهرب وأسرع جذيمة في طلبه، فلم يجده، وقال بعضهم: بل قتله، وبعث إليها يقول:

حَدِّثيني رَقَاش ل اتكذبيني

 

أبحرِّ زنيت أم بهجـين.

أم بعبدٍ فأنت أهل لعـبـد

 

أم بدون فأنت أهل لدون؟

فأجابته رقاش تقول:

إنْتَ زَوّجتني وَما كُنْتُ أدري

 

وأتاني النسـاء لـلـتـزيين

ذاك من شُرْبِك المدامة صِرْفاً

 

وتماديك في الصبا والمُجُون

فنقلها جَذِيمة إليه، وحَضَنها في قصره، فاشتملت على حمل، وولدت غلاماً فسمته عمراً، ووشحته، حتى إذا ترعرع حَلَّته وعطرته وألبسته كسوة فاخرة، ثم أزارته خاله، وألقيت عليه منه محبة ومودة حتى إذا خرج الملك في سنة مُكْلئة قد أكمأت، فبسط له في رَوضَة، وخرج عمرو في غلمة يجتنون الكمأة، فكانوا إذا أصابوا كمأة طيبة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خَبَأها، ثم أقبلوا يتعادون وعمرو يتقدمهم، ويقول:

هذا جَنَايَ وخياره فـيه

 

إذ كل جانٍ يده! إلى فيه

قصة نديمي جذيمة

فالتزمه جذيمة وحَبَاه، ثم إن الجن استطارته، فضرب له جذيمة في الافاق زمانا، فلم يسمع له بخبر فكف عنه إذ أقبل رجلان يقال لأحدهما: مالك، وللآخر: عقيل، ابنا فالج، وهما يريدان الملك بهدية، فنزلا على ماء، ومعهما قَيْنة يقال لها أم عمرو، فنصبت لهما قدراً، وأصلحت لهما طعاماً، فبينما هما يأكلان إذ أقبل رجل أشعث أغبر الرأس قد طالت أظفاره وساءت حاله، حتى جلس مَزْجَرَ الكلب، ومدَّ يده، فناولته القينة طعاماً، فأكل، فلم يغن عنه شيئَاَ، فمدَ يده، فقالت القينة: إن تعط العبد كُرَاعاً طلب ذراعاً، فأرسلتها مثلاً، ثم ناولت صاحبيها من شرابها، وأوكت زِقَّها، فقال عمرو بن عدى!:

علَت الكأس عنا أم عمـرو

 

وكان الكأْسُ مجراها اليمينا

وما شَرُّ الثلاثة أم عمـرو

 

بصاحبك الذي لاتصبحينـا

فقال له الرجلان: من أنت؟ فقال: إن تنكراني فلن تنكرا حسبي، أنا عمرو بن عدي؛ فقاما إليه فلثماه، وغسلا رأسه، وقلما أظفاره، وقصَّرا من لمتّه، وألبساه من طرائف ثيابهما، وقالا: ما كنا لنهدي إلى الملك هدية هي أنفس عنده ولا هو عليها أحرص من ابن أخته، قدرده اللّه إليه، فخرجا به، حتى إذا وقفا على باب الملك بشَراه به فسر به وصرفه إلى أمه ، وقال لهما: حُكْمَكما، فقالا: حكمنا منادمتك ما بقيت وبقينا، قال: ذلك لكما، فهما نَدْمَانا جَذيمة المعروفان، وإياهما عني متمم بن نويرة اليربوعي في مرثيته لأخيه مالك حين قتله خالد بن الوليد بن المغيرة يوم البطاح:

وكنا كندماني جـذيمة حـقـبةً

 

من الدهر حتى قيل: لن يتصدَّعَا

فلما تفرقنا كـأنـي ومـالـكـا

 

لطول اجتماع لم نبت ليلة معـا

وقال أبو خراش الهذلي:

ألم تعلمي أن قد تَفرَّقَ قبلنا

 

خليلا ًصفاء مالك وعقيل

وإنّ أم عمرو عمدت إليه، فبعثت معه حَفدَة يقومون عليه في الحمام، حتى إذا خرج ألبسته من طرائف ثياب الملوك، وجعلت في عنقه طوقاَ من ذهب لنذر كان عليها، ثم أمرته بزيارة خالة، فالما رأى خاله لحيته والطوق في عنقه قال: شَبّ عمرو عن الطوق، وأقام عمرو مع جذيمة خاله قد حمل عنه عامة أمره.

بين الزباء وجذيمة

وإن الزباء ابنة عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر ملكة الشام والجزيرة من أهل بيت عاملة من العماليق كانوا في سليح، وقال بعضهم: بل كانت رومية، وكانت تتكلم بالعربية، مدائنها على شاطىء الفرات من الجانب الشرقي والغربي، وهي اليوم خراب، وكانت- فيما ذكر- قد سقفت الفرات وجعلت من فوقه أبنية رومية وجعلته أنقابا بين مدائنها، وكانت تغزو بالجنود قبائل فخطبها جذيمة الأبرش، فكتبت إليه: إني فاعلة، ومثلك من يُرْغَبُ فيه، فإذا شئت فاشْخَصْ إلي، وكانت بكرا، فجمع عند ذلك جذيمة أصحابه، فاستشارهم، فأشاروا عليه بالمضيِّ، وخاللهم قصير بن سعد تابع كان له من لَخْم، فأمره أن لا يفعل، ويكتب إليها، فإن كانت صادقة أقبلت إليك، وإلا لم تقع في حِبَالها، فعصاه وأطاعهم وسار حتى إذا كان ببقّة- من دون هَيْتَ إلى الأنبار- جمعهم وشاورهم فأمروه بالشخوص إليها لما علموا من رأيه في ذلك، وقال القصير: تنصرف ودمُكَ في وجهك،، فقال جذيمة ببَقةَ قضي الأمر، فأرسلها مثلا، وقال قصير بن سعد حين رآه قد عزم، لا يطاع لقصير أمر، فأرسلها مثلاً، وظعن جذيمة، حتى إذا عاين مدينتها- وهي بمكان دون الخانوقة- ونظر إلى الكتائب من دونها، فهاله ما رأى، فقال: أي قصير، ما الرأي؟ فقال قصير: إني تركت الرأي ببقة، فقال عند ذلك: أشِرْ علي، فقال: إن لقيتك الكتائب فحيتك بتحية الملك وانصرفوا أمامك فالمرأة صادقة، وإن هم أخذوا بجنبيك ووقفوا دونك فالقوم منعطفون عليك فيما بينهم وبين جنوهم، فاركب العَصا فإنها لا تحرك ولا تسبق، يعني فرساً كانت جنبت معه، فط ستقبله القوم وأحاطوا به، فلم يري العصا، فعدد إليها قصير فركبها وحمل وانطلق، فالتفت جذيمة فإذا هو بالعصا عليها قصير أمام خيلهم حتى توارت به، فقال جذيمة: ما ضل مَنْ تجري به العصا، فأدخل على الزباء فاستقبلته وقد كشفت عن كَبَعْثَاتِهَا أي عفلها وتنظفت باستها، وقالت: يا جذيمة، أيّ متاع عروس ترى؟ قال: أرى مَتَاع امَةٍ غير ذات خَفَرٍ، فقالت: أما واللهّ ما ذاك من عدم مَوَاس، ولا قلة أواس، ولكن شيمة ما أناس، ثم أجلسته على نطَع، ودعت له بطست من عسجد، فقطعت رَوَاهِشه واستنزفته، حتى إذا ضعفت قواه ضرب بيده فقطرت قطرة من دمه على دعامة من زخام، وقد قيل لها: إنه إن وقع من دمه قطرة في غير طَسْت طلب بدمه، فقالت: أي جذيمة؛لا تضيعن من دمك شيئاً، فإني إنما بعثت إليك لأنه بلغني أن لدمك شفاء من الخبل، فقال جذيمة: وما يُحْزنكِ من دم أضاعه أهْلُه إ؛ وفي ذلك يقول البعيث:

من الدأرميين الذين دماؤهـم

واستصفت دمه، وجعلته في برنية، وقال بعضهم: دخل عليها جذيمة في قصر لها ليس فيه إلا الجواري، وهي على سريرها، فقالت للإماء: خُذْنَ بيد سيدكن، ثم دعت بنطع فأجلسته عليه فعرف الشر وكشفت عن عورتها فإذا هي قد عقدت شعر استها من وراء؛فقالت: أشَوَارَ عروس ترى؟ فقال: بل شوار أمه بظراء، فقالت: أما والله ما ذاك من عدم مَوَاس، ولا قلة أواس، ولكنها شيمة ما أناس، ثم أمرت بِرَوَاهشة فقطعت، فجعل دمه يشخب في النِّطع كراهة أن يفسد مقعدها، فقال جذيمة: لا يحزنك دَمٌ أراقه أهله.

عمرو بن عدي يأخذ بثأر خاله

ونجا قصير، فأورد الخبر على عمرو بن عبد الجن التنوخي بالحيرة، فأشفق لذلك، فقال له قصير: اطلب بثأر ابن عمك، وإلا سبَّتْك العرب، فلم يحفِل بذلك، فخرج قصير إلى عمرو بن عدي، فقال له: هل لك في أن أصرف الجنود إليك على أن تطلب ثأر خالك؟. فضمن له ذلك، فصرف وجوه الجنود إليه، ومناهم بالمال والحال، فانصرف إليه منهم بَشَرٌ كثير، فالتقى هو والتنوخي، فلما خافوا الفناء تابعه التنوخي، وتم الأمر لعمرو بن عدى، فقال له قصير: انظر ما وعدتني به في الزباء، فقال عمرو: وكيف لنا بها وهي أمنع من عُقَاب الجو؟؛ فقال: أما إذ أبيت فإني جادع أنفي وأذني ومحتال لقتلها جهدي، فأعِني وَخَلاك ذم، فقال له عمرو: أنت أبصر، وعلئَ مَعُونتك، فجدَعَ أنفه، فقيل: لأمر ما جدع قصير أنفه، ثم انطلق حتى دخل على الزباء، فقالت: من أنت؟ فقال: أنا قصير، لا ورب المشارق ما كَان على وجه الأرض بَشَر كان أنصح لجذيمة ولا أغش لك مني، حتى جدع عمرو بن عدي أنفي وأذني، فعرفْتُ أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه مني معك، فقالت: أي قصير، نقبل منزلتك ونصرفك في بضائعنا، فأعطته مالا للتجارة، فأتى بيت مال الحيرة، فاستخفَّ ما فيه بأمر عمرو بن عدي، وانصرف به إليها، فلما رأت ما جاءها به فرحت بذلك، وزادته ما لا إلى ما جاء به، وقال: إنه ليس من ملك إلا وهم يتخنون في مدائنهم أنقابا تكون لهم عدداً، فقالت له: أما إني قد فعلت ذلك، قد نقبت سَرَباً وبنيته من تحت سريري هذا حتى أخرج من تحت الفرات إلى سرير أختي رحيلة ففرح بذلك قصير، ثم ظعن حتى أتى عمراً، فركب عمرو في الذي رجل على ألف بعير في الصناديق، حتى صار إليها، فتقدم قصير وسبق الأبْعِرَةَ، فقال لها: اصعدي حائط مدينتك. وانظري إلى مالك، وتقدمي إلى بوابك فلا يتعرض لشيء من أموالنا، فإني قد جئت بمال صامت. وكانت قد أمنته، فلم تكن تخافه وصعدت وفعلت ما أمرها، فلمال نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت:

ما للجمال مشيها وئيدا

 

أجَنْدَلا يحملن أم حديدا

أم صَرَفَانأ بارداً شديدا

 

ام الرجالَ جُثَّماَ قعودا

ودخلت الإِبل المدينة، حتى إذا بقي آخرها جملاً عِيلَ صَبْر البواب، فطعن بمنخسة كانت في يدىِ خاصرة رجل فضرط، فقال البواب: بشتابشتا، وهي بالنبطية أي: في الجوالق شر، وثار الرجال من الجوالق ضرباً بأسيافهم، فخرجت الزباء هاربة إلى سَرَبها، فأبصرت قصيراً عند نفقها مُصْلتاً سيفه، فانصرفت راجعة، وتَلَقَاها عمرو بن عدي، فضربها وقال بعضهم: مصت خاتمها، وكان فيه سم ساعة، !وقالت: بيدي لا بيد عمرو، وخربت المدينة، وسبيت الفراري، فقالت الشعراء في أمرها وأمر قصير فأكثرت ؛ فمن ذلك قول المتلمس:

ومن طَلَب الأوْتَار ماحـزَ أنـفـه

 

قصير، ورام الموت بالسيف بَيْهَس

نَعَامَةً لما صَرَّع القـوم رهـطـه

 

تبين في أثوابـه كـيف يلـبـس

ومن ذلك قول عدي بن زيد التميمي يصف ذلك من أمرهم:

ألا يأيهـا الملك المرجَّىِ

 

ألم تسـمع بخطب الأولينا

دعا بالـبقَة الأمراء يوماَ

 

جذيمةُ عام ينجـوهم ثُـبِبنَـا

وطاوع أمرهم، وعصا قصيراً

 

وكان يقول لو وقع اليقينا

لخطبته التي غدرت وخانت

 

وهُنً فوات غائلة، لُحِينَـا

مع أشعار كثيرة قيلت في ذلك.

وكانت الزباء لا تأتي حصناً إلا ضفرت شعر استها من خلفه، ثم تقاعست فتقلعه، حتى فعلت ذلك بمارد- حصن دُومِة الجندل- وبالأبلق- حصن تيماء- حصنين منيعين، فقالت: تمرد مارد وعز الأبلق فذهب مثلا، وهما الحصنان اللذان تذكرهما العرب في أشعارها كثيراً، قال الأعشى في ذلك:

بالأبلق الفرد من تيماء منزلُـه

 

حصنٌ حَصِين وجار غير غَدًار

وجذيمة الوضاح الذي يقول فيه:

ماست مودعة الحديث فمنجِدٌ منهمْ وغائما

 

أن تاه إحدى ُذو رعين لنا وأحوى ذو أباعر

 

والملك كان لذي نَوَا

 

س حـولـه مـن ذي بـــحـــائر

بالـسـابـغـات وبـالْـقَـنَـا

 

والـبـيض تـبـرق والـمـغـافــر

أزمان عملاق وفيهم

 

منهمُ بادٍ وحاضـر

وإنما سمي جذيمة الأبرش الوضاح لأنه كان به بَرَصٌ، فكنى عنه إعظاماً له قال المسعودي: هذا بدء خبر بني عدي، وقد قدمنا أن مدة ملكه كانت مائة سنة.

بقية ملوك الحيرة

وملك بعده ولده امرؤالقيس بن عمروبن عدي ستين سنة.

وملك بعده عمر وبن أمرىء القيس، وهو محرق العرب خمساً وعشرين سنة، وكانت أمه مارية البرية أخت ثعلبة بن عمرو من ملوك غسان.

وملك النعمان بن أمرىء القيس قاتل الفرس خمساً وستين سنة، وكانت أمه الهيجمانة بنت سلول من مراد، ويُقال: من إياد.

وملك المنزر بن النعمان ابن أمرىء القيس خمسأ وعشرين سنة، وكانت أمه الفراسية بنت مالك بن المنزر، من آل نصر.

وملك النعمان بن المنزر فارس حليمة، وهو الذي بنى الخَوَرْنَقَ وكَرْعَسَ الكراديس خمساً وثلاثين سنة، وكانت أمه هند بنت زيد مَنَاةَ من ال غسان.

وملك الأسود بن النعمان؛ عشرين سنة، وكانت أمه هند بنت الهيجمانة، من آلى نصر.

وملك المنزر بن الأسود بن النعمان بن المنزر أربعاً وثلاثين سنة، وكانت أمه ماء السماء بنت عوف بن النمر بن قاسط بن هيت بن أفصى بن دعمى بن جَدِيلة بن أسد بن ربيعه بن نزار، وإنما سميت ماء السماء لحسنها وجمالها.

ثم ملك بعده عمرو بن المنزر، أربعاً وعشرين سنة، وكانت أمه حليمة بنت الحارث من آل معد يكرب.

وملك المنزر بن عمرو بن المنزر، ستين سنة، وكانت أمه أخت عمرو بن قابوس من آل نصر.

ثم ملك قابوس بن المنزر ثلاثين سنة، وكانت أمه هند بنت الحارث، من آل معاوية بن معد يكرب.

وملك النعمان بن المنزر، وهو الذي يقال له: أبيت اللعين! اثنتين وعشرين سنة، وكانت أمه سلمى بنت وائل بن عطية من كلب.

بين النابغة والنعمان

وذكر عدة من الأخباريين أن النابغة استأذن على النعمان يوماً، فقال له الحاجب: إن الملك على شَرَابه، قال النابغة: فهو وقت المَلَقِ، تقبله الأفئدة، وهو جَذِل للرحيق والسماع، فإن تلج تلق المجد عن غرر مواهبه، فأنت قسيم ما أفدت، قال له الحاجب: ما تفي عنايتي بدون شكرك، فكيف أرغب فيما وصفت وعون ما طلبت رهبة التعدي؟. فهل من سبب؟ قال النابغة: ومن عندي؟ قال الحاجب: خالد بن جعفر الكلابي نديمُهُ، فقال النابغة: هل لك إلى أن تؤدي إلى خالد عني ما أقول لك؟؛ قال: وما هو؟ قال: تقول إن من قدرك وفاء الدرك بك وناحيتي من الشكر ما قد علمت، فلما صار خالد إلى بعض ما تبعثه موارد الشراب عليه نهض، فاعترضه الحاجب، فقال: ليهنك أبا البَسّام حادث النعيم، قال: وما ذاك؟ فأخبره الخبر، وكان خالد رفيقاً، يأتي الأشياء بلطف وحسن بصيرة، فدخل مبتسماً، وهو يقول:

إلا لمثلك أو من أنـت سـابـقـه

 

سَبْق الجواد إذا استولى على الأمد

واللات لكأني أنظر إلى أملاك ذي رُعَيْنِ، وقد مدت لهم قضبان المجد إلى معالم أحسابكم، ومناقب أنسابكَم، في حَلْبة أنت- أبيت اللعن!- غُرَّتها فجئت سابقا متمهلأ، وجاءوا لم يلم لهم سعي، قال النعمان: لأنت في وصفك أبلغ إحساناً من النابغة في نظام قافيته، فقال خالد: ما أبلغ فيك حسنأ إلا وهو دون قدرك استحقاقاً للشرف الباهر، ولو كان النابغة حاضرأ لقال وقلنا، فأمر النعمان بإدخاله، فخرج إليه الحاجب، فقال النابغة: ما وراءك فقال: قد أذنت بفتح الباب، رفع الحجاب، ادخل، فدخل ثم انتصب بين يديه، وحياه بتحية الملك، وقال: أبيت اللعن! أتفاخَرُ وأنت سائس العرب، وغرة الحسب، واللاتِ لأمسُك أيْمنُ من يومه، ولَقَفَاكَ أحسن من وجهه، ولَيَسَارك أسمع من يمينه، ولَوَ عدُك أصلح من رِفدِه، ولعبيدك أكثر من قومه، ولأسْمُك أشهر من قدره، ولنفسك أكبر من جده، وليومك أشرف من دهره، ثم قال:

أخلاق مجدك جلت ما لها خطـر

 

في الجود والبأس بين العلم والخبر

مُتَؤج بالمعالـي فـوقَ مَـفْـرِقِـهِ

 

وفي الوَغَى ضَيْغئم في صورة القمر

فتهلل وجه النعمان بالسرور، ثم أمر فحشي فُوهُ جوهراً، ثم قال: بمثل هذا فلتمدح الملوٍك.

بين النعمان وزيد بن عدي وكسرى

وقد كان النعمان قَتَلَ عدي بن زيد العباعي، وكان يكتب لكسري أبرويز بالعربية، ويترجم له إذا وفد عليه زعماء العرب؛لموجدة وجدها عليه النعمان، في خبر طويل الشرح، فلما قتل صار زيد بن عدي ابُنه مكان أبيه، فذكر لأبرويز جمال نساء آل المنزر، ووصفَهن له، فكتب إلى النعمان يأمره أن يبعث إليه بأخته، فلما قرأ النعمان كتابه، قال للرسول- وهو زيد بن عدي-: يا زيد، أما لكسرى فيمَهَا السواد كفاية حتى يتخطى إلى العربيات؟ فقال زيد: إنما أراد الملك إكرامك- أبيت اللعن!- بصهرك، ولو علم أن ذلك يشق عليك لما فعله، وسأحسن ذلك عنده، وأعذرك بما يقبله، فقال له النعمان: فافعل، فقد تعرف ما على العرب في تزويج العجم من الغضاضة والشناعة، فلما انصرف إلى كسرى أخبره أنه رغب عنه فأدى إليه قوله في مَهَا السواد على أقبح الوجوه، وَأوْجدَهُ عليه، وقال: المها؟ فقال: البقر، فأخذ عليه وقال: رب عبد قد صار في الطغيان إلى أكثر من هذا، فلما بلغت كلمته إلى النعمان تخوفه، فخرج هارباً حتى صار إلى طيىء، لصهر كان له فيهم، ثم خرج من عنهم حتى أتى بني رَوَاحَة بن ربيعه بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس، فقالوا له: أقم معنا فأنا مانعوك مما نمنع منه أنفسنا، فجزَاهم الخير، ورحل عنهم يريد كسرى ليرى فيه رأيه، وذلك قول زهير بن أبي سُلْمى:

ألم ترَ للنعمان كَانَ بِـنَـجْـوَة

 

من الدهر لو أن امرأً كَانَ نَاجِيَا

فغير عنه ملك عشـرين حـجة

 

من الدهر يَومٍ واحد كان غَاوِيَا

فلم أرمسلوباً له مثل مـلـكـه

 

أقَل صديقا معطياً أو مُوَاسِـيَا

خَلاَ أن حياً من رَوَاحَة حافظوا

 

وكانوا أنَاساً يَتَقُونَ المَـخَـازِيا

يسيرون حتى جَيّشوا عند ثَـارِهِ

 

هِجَانَ المطايا و العتاق المَذَاكِيَا

فَجَازَاهُمُ خيرأ وأثنى علـيهِـمُ

 

وودَّعهم توديع أنْ لاَ تَـلاقِـيا

وأقبل النعمان حتى أتى المدائن، فَصًص له كسرى ثمانية آلاف جارية عليهن المصبغات صفين، فلما صار النعمان بينهن قلن له: أما فينا للمك غِنًى عن بقر السواد ا؛ فعلم النعمان أنه غير ناج منه، ولقيه زيد بن عدي، فقال له النعمان: أنت فعلت هذا بي، لئن تخلصت لأسقينك بكأس أبيك، فقال له زيد: امض نُعَيْمُ، فقد أخيْتُ لك أخِيَّةً لا يقطعا المهر الأرِنُ، وأمر كسرى بالنعمان، فحبس بساباط المدائن، ثم أمر به فرمي تحت أرْجُل الفِيَلَةِ، وقال بعضهم: بل مات في محبسه بساباط، وقد ذكرت ذلك الشعراء فأكثرت؛ فمن ذلك قول الأعشى وأجاد:

ولا الملك النعمان يَوْمَ لـقـيتـه

 

بغبطته يعطي الصكاك ويرفـق

ويجبى إليه المسلمون، وعـنـده

 

صريعون في أنهارها وَالْخَوَرْنَق

ويقسم أمر النـاس يَوْمـأ ولـيلة

 

وهم ساكتون والمَنِيَّة تـنـطـق

فذاك، وما أنجى من الموت ربه

 

بساباط حتى مات وهو محزرق

وقال هانىء بن مسعود الشيباني:

إن ذا الـتاج، لا أباً لـك، أضحى

 

في الورى رأسه تـخوت الفيول

إن كسرى عَدَا على الملك

 

النعمان حتى سقاه من البليل

ومما رثى به النعمان:

لم تبكه هند ولا أختهـا

 

خرقاء، واستعجم ناعيه

بين فيول الهند تخبطْنَهُ

 

مختبطاً تَدْمى نواحـيه

وقد كان النعمان حين أراد المضي إلى كسرى مستسلماً مر على بني شيبان فأودعهم سلاحه وعياله عند هانى بن مسعود بن هانى السيباني، فلما أتى كسرى على النعمان بعث إلى هانى بن مسعود، وطالبه بتركته، فامتنع، وأبى أن يخفر الذمة، فكان ذلك السبب الذي أهاج حرب في قار، وقد أتينا على ذلك في الكتاب الأوسط فأغنى عن إعادته هنا.

بنت ألنعمان عند سعد بن أبي وقاص

وقد كانت حرقة بنت النعمان بن المنزر إذا خرجت إلى بِيعَتِهَا يفرش لها طريقها بالحرير والديباج، مغشى بالخز والوشي، ثم تقبل في جواريها حتى تصل إلى بيعتها، ويرجع إلى منزلها، فلما هلك النعمان نكبها الزمان، فأنزلها من الرفعة إلى الذلة، ولما وفد سعد بن أبي وَقَاصٍ القادسية أميراً عليها لما هزم اللّه الفرس وقتل رُسْتُم، فأتت حرقة بنت النعمان في حفدة من قومها وجواريها وهن في زيها عليهن المسوح والمقطعات السود، مترهبات تطلب صلته، فلما وقفن بين يديه أنكرهن سعد، فقال: أفيكن حرقة؟. قالت: ها أنا ذِهِ، قال: أنت حرقة؟. قالت: نعم، فما تكرارك في استفهامي؟ ثم قالت: إن الدنيا دار زول. ولا تدوم على حال، تنتقل بأهلها انتقالا، وتُعْقِبهم بعد حال حالاً، كنا ملوك هذا المصر يُجْبَى لنا خراجه، ويطيعنا أهله مدى المدة زمان الدولة، فلما أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا وشَتَّت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد، إنه ليس يأتي قوماً بمسرة إلا ويعقبهم بحسرة، ثم أنشأت تقول:

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا

 

إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف

فأف لدنيا لا يدوم نـعـيمـهـا

 

تقلب تاراتٍ بنـا وتـصـرف

فقال سعد: قاتله الله عدي بن زيد، كأنه ينظر إليها حيث يقول:

إن للدهر صولة فَاحْنَرَنْهَا

 

لا تبيتنَ قد أمنت الدهـور

قد يبيت الفتى مُعَافىً فيرى

 

ولقد كان آمناً مسـرورإ

قال: فبينا هي واقفة بين يدي سعد إذ دخل عمرو بن مص يكرب، وكان زَؤَاراً لأبيها في الجاهلية، فلما نظر إليها قال: أنت حرقة؟ قالت: نعم، قال: فما دَهَمَكِ فأذهب محمودات شيمك، وأين تتابع نعمتك وسطوات نقمتك؟ فقالت: يا عمرو، إن للدهر لسطوات وعثرات وعبرات، تعثر بالملوك وأبنائهم، فتخفضهم بعد رفعة، وتفردهم بعد منعة، وتذلهم بعد عزة، إن هذا لأمر كنا ننتظره، فلما حل بنا لم ننكره. قال: فأكرمها سعد، وأحسن جائزتها، قلما أرادت فراقه قالت: حتى أحييك بتحيه ملوكنا بعضهم لبعض، لا نَزَعَ اللّه من عبد صالح نعمة إلا جعلك سبباً لردها عليه! ثم خرجت من عنده فلقيها نساء المدينة، فقلن لها: ما فعل بك الأمير؟ قالت: حاط لي ذمتي، وأكرم وجهي، إنما يكرم الكريمَ الكريمُ.

وسنذكر خبر هند بنت النعمان مع المغيرة بن شعبة أيام إمرته على الكوفة، فيما يرد من هذا الكتاب، عند ذكرنا لأخبار معاوية بن أبي سفيان.

قال أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي: فهؤلاء ملوك الحيرة إلى أن ظهر الإِسلام، فأظهره الله، وأذل الكافرين، فجميع من سَمَّيْنا من هؤلاء الملوك من ولد عمرو بن عدي بن أخت جذيمة الأبرش، على حسب ما قدمنا آنفاً في صدر هذا الباب، ثم جاء الإسلام وملكُ الفرس وكسرى أبرويز بن هرمز، فمّلكَ على العرب بالحيرة إياسَ بن قَبيصة الطائي، فكان ملكه تسع سنين، ولثمانية أشهر، مَضَتْ من ملك إياس، كان مبعث رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، ثم ملك الحيرة جماعة من الفرس، وقد كان قبل عمرو بن عدي ملوك على الحيرة على حسب ما ذكرنا، وكان عدة الملوك بالحيرة ثلاثة وعشرين ملكاً من بني نصر وغيرهم من العرب والفرس؛وكان عدة ملكهم ستمائة سنة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر، وقد قيل: إن عُمْرَان الحيرة وبدوه إلى أن خرجت في وقت بناء الكوفة، كان خمسمائة سنة وبضعاً وثلاثين سنة. 

خراب الحيرة

قال المسعودي: ولم يزل عُمْرانها يتناقص من الوقت الذي ذكرنا إلى صدر من أيام المعتضد، فإنه استولى عليها الخراب، وقد كان جماعة من خلفاء بني العباس- كالسفاح، والمنصور، والرشيد، وغيرهم- ينزلونها يَصِلُون المقام بها لطيب هوائها، وصفاء جوهرها، وصحة تربتها، وصلابتها، وقرب الخورنق، والنجف منها، وقد كان فيها ديارات كثيرة فيها رهبان، فلحقوا بغيرها من البلاد، لتداعي الخراب إليها، وأقفرت من كل أنيس في هذا الوقت ليس بها إلى الصدَى والبُوم، وعند كثير من أهل الدراية التامة بما يحدث في المستقبل من الزمان: أن سَعدها سيعود بالعمران، وأن هذا النحس عنها سيزول؛ وكذلك الكوفة. قال المسعودي: ولمن سمّينا من ملوك الحيرة أخبار وسير وحروب قد أتينا على ذكرها وَالغُرَورِ من مبسوطها في كتابنا أخبار الزمان، وفيما بعد من هذا الكتاب فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الباب.

ذكر ملؤك الشام من اليمن من غسان وغيرهم من الملوك

أول ملوك الشام

كان أول من ملك الشام من اليمن فالغ بن يغور.

ثم ملك بعده يوتاب، وهو أيوب بن رزاح، وقد ذكر الله عز وجّل في كتابه ما كان من خبره على لسان نبيه، وما اقتص من أمره، ثم غلبت الروم على ديارها، فتفرقوا في البلاد، وكانت قُضَاعة بن مالك بن حمير أول مي نزل الشام، وانضافوا إلى ملوك الروم، فملكوهم بعد أن دخلوا في النصراينة على من حوى الشام من العرب.

تنوخ ونسبها

وكان أول من ملك من تَنُوخَ النعمان بن عمرو بن مالك، ثم ملك بعده عمرو بن النعمان بن عمرو، ثمِ ملك بعده الحواري بن النعمان، ولم يملك من تَنُوخَ إلا من ذكرنا، وهو تنوخُ بن مالك بن فَهْم بن تَيْم اللات بن الأزد بن وَبْرة بن ثعلبة بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير.

وقد تنوزع في قضاعة: أمن معد كان أم من قحطان؟ فقضاعة تأبى أن تكون من معد، وتزعم أنها من قَحْطَان، على ما ذكرنا.

وقد قيل في نسب قضاعة واتصالها بحمير غير ما ذكرنا من النسب.

سليح ونسبها

ثم وردت سليح الشام فغلبت على تَنُوخَ، وتنصرت فملَكتها الروم على العرب الذين بالشام، وهم ولد سليح بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، فاستقام ملك سليح بالشام، وتفرقت قبائل العرب لما كان بمارب وقصة عمرو بن عامر مزيقياء؛فسارت غسان إلى الشام وهم من ولد مازن، وذلك أن الأزد بن الغَوْث بن نَبْت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ولد مازن، وإليه ترجع جميع قبائل غسان، وإنما غسان ماء شربوا منه فسموا بذلك وهو ما بين زبيد ورمع، وادي الأشعريين بأرض اليمن وفي ذلك يقول حسان بن ثابت الأنصاري:

إمَا سألتِ فإنَا معشر نُجُب

 

الأزد نسبَتُنَا، وَالمَاءُ غسان

وسنذكر بعد هذا الموضع خبر عمرو بن عامر مزيقياء، وخبر سيل العَرِم، وتفرقهم في البلاد، وخبر الماء المعروف بغَسَّان، وقد ذكر أن عمرو بن عامر حين خرج من مأرب لم يزل مقيماً على هذا الماء إلى أن أدركه الموت، وكان عمره ثمانمائة سنة: أربعمائة سوقةً، وأربعمائة ملكاً.

ملوك غسان على الشام

وغلبت غسان على من بالشام من العرب، فملكها الرومُ على العرب، فكان أول من ملك من ملوك غسان بالشام: الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن أمرىء القيس بن ثعلبة بن مازن، وهو غسان بن الأزد بن الغوث.

ثم ملك بعده الحارث بن ثعلبة بن جَفْنَة بن عمرو بن عامر بن حارثة و أمه مارية ذات القرْطَين بنت أرقم بن ثعلبة بن جَفْنَة بن عمرو، وذكر أنها مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية بن ثور وهو كندة، وهي التي ذكرتها الشعراء في أشعارها، وتنسب جماعة من ملوك غسان إليها.

وملك بعده النعمان بن الحارث بن جَبَلَة بن الحارث بن ثعلبة بن جَفْنَة بن عمرو.

ثم ملك بعده المنزر أبو شمر بن الحارث بن جَبَلَة بن ثعلبة بن جَفْنَة بن عمرو.

ثم ملك بعده عوف بن أبي شمر.

ثم ملك بعده الحارث بن أبي شمر فكان ملكه حين بعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حسان والحارث الغساني

وذكر عدة من الإخباريين أن حسان بن ثابت الأنصاري زار الحارث بن، أبي شمر الغساني بالشام- وكان النعمان بن المنزر اللخمي ملك الحيرة يُسَاميه- فقال له وهو عنده: يابن الْفُرَيْعة، لقد نبئت أنك تفضل النعمان عليَ، فقال: وكيف أفضله عليك!! فواللّه لقفاك أحْسَنُ من وجهه، ولامك أشرف من أبيه، ولأبوك أشرف من جميع قومه، ولَشِمَالُكَ أجود من يمينه، ولحرمانك أنفع من نَدَاه، ولقليلك أكثر من كثيره، ولثمادك أمْرَع من غديره، ولكرسيك أرفع من سريره، ولَجَدَاوِلُكَ أغور من بحره، وليومك أطول من شهره، ولشهدك أمدة من حوله، ولحولُكَ خير من حِقَبِه،ولزندك أورى من زنده، ولجندك أعز من جنده، وإنك من غسان وإنه من لَخم، فكيف أفضله عليك أو أعدله بك فقال: يابن الفُرَيْعة، هذا لا يسمع إلا في شعر، فقال:

ونبـئت أن أبـا مـنـذر

 

يساميك للحارث الأصغر

قفاؤك أحسن من وجهـه

 

وامك خير من المنـزر

وَيُسْرَى يديك على عُسْرِهَا

 

كيمنى يديه على المعسر

جبلة بن الأيهم

ثم ملك بعده جَبَلَة بن الأيهم بن جَبَلَة بن الحارث بن ثعلبة بن جَفْنَة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن أمرىء القيس بن ثعلبة بن مازن، وهو غسان بن الأزد بن الغوث، وهو الملك الذي امتدحه حسان بن ثابت الأنصاري، حيث يقول في شعر طويل:

أشْهِرَنْهَا فإنَ ملكك بالـشـا

 

م إلى الروم فخر كل يماني

وفيه يقول أيضاً:

لمـن الـدار أقـفــرت بــمعـان

 

بين أعلـى الـيرمـوك وَالصَّـمَّـان

من قـريات مـــن ثــلاثين عدت

 

ناسكـاً مـنه بـالقـصـور الـدوانـي

قد دَنَا الفِصْحُ والولائد

 

ينظمنَّ سراعاً ألكلَة المرجان

ذاك مغنى لآل جَفْنَة في الد

 

ر، وحقــاً تـصـرف الأزمــان

صَلَواتُ المـسـيح فـي ذلك الـدب

 

ر دعـاء الـقـسـيس والـرهـبـان

وهذه مواضع وقرى من غوطَة دمشق وأعمالها بين الجولان واليرموك.

منازل غسان

وكانت ديار ملوك غسان باليرموك والجولان وغيرهما، من غُوطَة دمشق وعمالها، ومنهم من نزل الأردن من أرض الشام.

وَجَبَلَة بن الأيهم هوالذي أسلم وارتد عن دينه خاف إلعار وَالقَوَدِ من اللَّطْمَة، وخبره واضحِ مشهور، قد أتينا على ذكره فيما سلف من كتبنا، وسائر أخبار ملوك تنوخ وسليح وغسان وغيرهم ممن ملك الشام، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن أبي شمر الغساني إلى الإسلام وترغيبه في الإيمان، وقد أتينا على خبره وما كان من أمر أسل أمه وأخباره مع النبي صلى الله عليه وسلم في كِتابنا أخبار الزمان، وفي أبيه يقول النابغة:

هذا غُلام حـسن وَجْـهُهُ

 

مسـتـقبل الخير سريع التَّمَام

للحارث الأكبر والحارث

 

الأصغر، والحارث خير الأنام

ثم لهند ولهند، وقد

 

أسرع في الخيرات مـنـه أمام

وخمـسة آباؤهم مـا هم

 

أكرم مَـنْ يشـرب صَوْبَ الغمام

فجميع من ملك من ملوك غسان بالشام أحد عشر ملك، وقد كان بالشام ملوك ببلاد مأرب من أرض البلقاء من بلاد دمشق، وكعذلك مدائن قوم لوط من أرض الأردن وبلاد فلسطين، وكانت خمس مدن، وكانت دار المملكة منها، والمدينة العظمى مدينة سَدُوم، وكانت سمة كل ملك يملكها بارعاً، وكذلك ذكر في التوراة، وذكرت أسماء هذه المدن، أعرضنا عنه؛إذ كان فيه خروج عن شرط الاختصار.

وقد كان لكندة وغيرها من العرب من قحطان وَمَعَدٍّ ملوك كثيرة لم نتعرض لذكرها؛ إذ كان لا أسماء لهم تعمهم وتشهرهم، كقولنا الخليفة وقيصر وكسرى والنجاشي، ولئلا يطول الكتاب بذكرهم.


وقد أتينا على سائر ملوك العرب من معد وقحطان وغيرهم ممن وسم بالملك في بعض الممالك في سائر الأمم الخالية، والممالك الباقية، من البيضان والسودان، ممن أمكن ذكره وتأتّى لنا الإِخبار عنه، وإنما ذكرنا في هذا الكتاب من الملوك من اشتهر ملكه، وعرفت مملكته ميلاً إلى الاختصار، وطلباً للإِيجاز، وتنبيهاً على ما سلف من أخبارهم. في كتبنا المتقدم ذكرها من تصنيفنا، واللّه الموفق.

ذكر البوادي من العرب وغيرها من الأمم

وعلة سكناها الْبدو وجمل من أخبار العرب وغير ذلك مما اتصل بهذا المعنى

قد تقدم ذكرنا لولد قَحْطَان، وأن مَنْ عداهم من العرب العاربة دَثَرَت من عاد وطسم وجديس وعملاق وجرهم وثمود وعبيل ووبار، وسائر من سمينا، وأن مَنْ بقي ممن ذكرنا دخلوا في العرب الباقية إلى هذا الوقت، وهم قحطان، ومعد، ولا نعلم أن قبيلاً بقي يِشار إليه في الأرض من العرب الأولى غير معد وقحطان، وذكرنا مَنْ طاف البلاد من ملوكهم، مثل التبابعة والذواء، ومن شَيَّد البنيان في الشرق والغرب، ومصَّرَ الأمصار، وبنى المدن الكبار، كإفريقس بن أبرهة، وما بنى بالمغرب من المدن كمدينة إفريقية وصقلية، وما كَوَّر من الكُورَ هنالك، وما اتخذ من العمائر، وكمسير شمر إلى أرض المشرق، وبنيانه سمرقند، ومن خلف هنالك من حمير بها، وببلاد التبت والصين، وقد ذكر ذلك جماعة من شعرائهم ممن سلف وخلف.

بين دعبل والكميت

وقد أفتخر دِعْبِل بن علي الخزاعي في قصيدته التي يردُ فيها على الكُمَيْت، وفخر دِعْبِل بمن سلف من ملوكهم ومسيرهم في الأرض، وأن لهم من الفضل ما ليس لمعد بن عدنان، فقال في شعره:

هُمُو كتبوا الكتاب بباب مَـر

 

وباب الصين كانوا الكاتبينـا

وهم جمعوا الجموع بسمرقند

 

وهم غرسوا هناك التبتينـا

وقد كان لليمن ملوك لا يدعون بالتبابعة، ممن تقدم وتأخَّر منهم، حتىِ ينقاد إلى مكة أهل الشِّحْر وحضرموت، فحينئذ يستحق أن يسمى تبعاَ، ومن تخلف عن ملكه من ذكرنا سمي ملكاً، ولم يطلق عليه اسم تبع، وقد قال اللّه عز وجل في قصة قريش وتفاخرها بقوتها وعددها: "أهم خير أم قوم تبع " الآية حين دخل الحرمَ فبعث الله عليه الظلة، وإنما سمي تبعاً بمن تبعه، وكذلك حكي عن عبد اللّه بن العباس.

بين تبع وقباد ملك الطوائف

وقد كان تبع أبو كرب سار في الأرض، ووطىء الممالك وذللها، ووطىء أرض العراق في مُلك الطوائف، وعديد الطوائف حينئذ جوذر بن سابور، فلقي أبوكرب ملكاً من الطوائف يقال له قناد، وليس بقباد بن فيروز من الساسانية، فانهزم قباد، وأتى تبع أبو كرب على ملكه، وملك العراق والشام والحجاز وكثيراً من الشرق. وفي ذلك يقول تبع ويذكرما صنع:

وَرَد الـمـلـك تــبـع وبـنـوه

 

ورَثُـوهم جـدودهــم والـــجـدودا

إذجَـنَـبْـنَـا جـيادنـا مـن ظفـار

 

ثم سـرنـا بـهـا مســيراً بـعــيدا

فاسـتـبـحـنـا بالـخيل مـلك قباد

 

وابـن أقـلـود قـائمـاً مـصـفــودا

فكسونا البيت الذي حرم

 

اللًه مُلاءً مُقَصَّباً وَبُرُودا

وأقمنا به من الشهر عشرا

 

وجعلـنـا لـبــابـــه إقـلـــيدا

ثم طفـنـا بـالـبـيت سـبعـا ًو سبعا

 

وسجدنـا عـنـد الـمـقـام سـجـودا

وقال أيضاً فيه:

لسْتُ بالتُبع اليمـانـيئَ إن لـم

 

تركُض الخيل في سَوَاد العراق

وتؤدِّي ربيعه الخَرْج قَـسْـرا

 

أو تعقني عـوائق الـعـواق

وقد كانت لنزار بن معد معه وقائع وحروب كثيرة، واجتمعت عليه معد بن ربيعه ومضر وإياد وأنمار، وتداعت بجدها نزار، وتواهبت ما كان بينها من الدماء والثأر، فكانت لهم عليه؛ ففي ذلك يقول أبوعُوَاد ا لأيادي:

ضَرَبْنَا على تُبَّـع جـزية

 

جياد البرود وخَرْجَ الذهب

وولي أبوكـرب هـاربـا

 

وكان جباناً كثيرا لرهـب

وأتبعه فَهَوَى للـجـبـين

 

وكان العزيز بها مَنْ غلب

وقد ذكرنا في الكتاب الأوسط بدء النسب من إبراهيم عليه الصلاة والسلام وولد إسماعيل وتفرق النسب إلى نزار بن معد وتشعب الناس من نزار بن معد بن عدنان، فلنذكر الآن في هذا الموضع خبر ولد نزار الأربعة مع الأفعى بن الأفعى الجرهمي، ثم نعقب ذلك بما إليه قصدنا في هذا الباب من هذا الكتاب، من علة سكنى البوادي من العرب البدو وغيرهم ممن سكن الجبال والأودية وسائر البراري والقِفَار.

أولاد نزار بن معد وقصتهم مع الأفعى الجرهمي

ذكَرَ عدة من رواة أخبار العرب أن نزار بن معد ولد أربعة أولاد: إيادا، وبه كان يكنى، وأنمارا- وبَجِيلة وخَثعَم من ولده على ما قيل، إذ كان فيما ذكرنا تنازع لأن من الناس من ألحقهم باليمن، ومن الناس من ذكر فيهم ما وصفنا أنهم من ولد أنمار بن نزار- وربيعه، ومُضَر، فلما حضرت نزاراً الوفاة دعا بنيه ودعا بجارية له شَمْطاء، فقال لإِياد: هذه الجارية وما أشبهها من مالي ذلك، ثم أخذ بيد مُضَر فأدخله قبة له حمراء من أدَم، ثم قال: هذه القبة وما أشبهها من مالي ذلك، ثم أخذ بيد ربيعه وَقال له: هذا الفرس الأدْهَمُ والخِبَاء الأسود وما أشبهها من مالي ذلك،. ثم أخذ بيد أنمار وقال له: هذه البَحْرَة والمجلس وما أشبهها من مالي ذلك، فإن أشكلت عليكم هذه القسمة فأتُوا الأفعى بن الأفعى الجرهمي- وكان ملك نَجْران- حتى يقسم بينكم وتراضوا بقسمته، فلم يلبث نزار إلا قليلأ حتى هلك، وأشكلت القسمة على ولده، فركبوا رواحلهم ثم قصدوا نحو الأفعى، حتى إذا كانوا منه على يوم وليلة من أرض نجران، وهم في مَفَازة، إذا هم بأثر بعير فقال إياد، إن هذا البعير الذي تَرَوْنَ أثره أعور، فقال أنمار: وإنه لأبتر، قال ربيعه: وإنه لأزْوَرُ، قال مضر: وإنه لشَرود، فلم يِلبثوا أن رفع إليهم راكب تُوضِعُ به راحلته، فلما غشيهم قال لهم: هل رأيتم من بعير ضال في وجوهكم، قال إياد أكان بعيرك أعور؟ قال: فإنه لأعور، قال أنمار: أكان بعيرك أبتر؟ قال: فإنه لأبتر، قال ربيعه: أكان بعيرك أزور؟ قال: فإنه لأزور، قال مضر: أكان بعيرك شرودا؟، قال: إنه لشرود، ثم قال لهم: فأين بعيري؟ دلوني عليه، قالوا: واللهّ ما أحسسنا لك ببعير ولا رأيناه، قال: - أنتم أصحاب بعيري وما أخطأتَم من نعته شيئاً، قالوا: ما رأينا لك بعيراً، فتبعهم حتى قدموا نجران، فلما أناخوا بباب الأفعى أستأذنوا عليه، فأذن لهم، فدخلوا، وصاح الرجل من وراء الباب: أيها الملك، هؤلاء أخذوا بعيري ثم حلفوا أنهم ما رأوه، فدعا به الأفعى فقال: ما تقول؟ فقال: أيها الملك، هؤلاء ذهبوا ببعيري وهم أصحابه، فقال لهم الأفعى: ما تقولون؟ قالوا: رأينا في سفرنا هذا إليك أثَرَ بعير، فقال إياد: إنه لأعور، قال: وما يمريك أنه أعور؛ قال: رأيته مجتهداً في رَعْي الكلأ من شق قد لحسه والشق الأخر وارافٍ كثير الإلتفاف لم يمسه فقلت: إنه أعور، وقال أنمار: رأيته يرمى ببعره مجتمعاً ولو كان أهلب لَمصَعَ به فعلمت أنه أبتر، وقال ربيعه: رأيت أثر إحدى يديه ثابتاً والأخر فاسداً فعلمت أنه أزْوَر، وقال مضر: رأيته يرعى الشقة من الأرض ثم يتعدّاها فيمر بالكلأ الملتفّ الغض فلا ينهش منه حتى يأتي ما هو أرق منه، فيرعى فيه، فعلمت أنه شَرُود، فقال الأفعى: صدقوا، قد أصابوا أثر بعيِرك وليسوا بأصحابه، التمس بعيرك ثم قال الأفعى للقوم: من أنتم؟ فأخبروه بحالهم، وانتسبوا إليه فرحَّبَ بهم وحياهم ثم قال: ما خطبكم؟ فقصوا عليه قصة أبيهم، قال الأفعى: وكيف تحتاجون إلي وأنتم على ما أرى. قالوا: أمرنا بذلك أبونا، ثم أمر بهم فأنزلوا، وأمر خادماً له على دارالضيافة أن يحسن إليهم ويكرم مَثْوَأهم وإلطافهم بأفضل ما يقدر عليه أمر وصيفاً له من بعض خدمه ظريفاً أديباً، فقال له: أنظر كل كلمة تخرج من أفواهم فأتِنِي بها، فلما نزلوا بيت الضيافة أتاهم القَهْرَمَانُ بقرص من شهد فأكلوا وقالوا: ما رأينا شهداً أعذب ولا أحسن ولا أشد حلاوة منه، فقال إياد: صدقتم لولا أن نحله ألقاهُ في هامة جبار، فوعاها الغلام، فلما حضر غداؤهم وجيء بالشواء فإذا بشاة مَشْوِية فأكلوها وقالوا: ما رأينا شواء أجود شَئا ولا أرخص لحماً ولا أسمن منه، فقال إنمار: صدقتم لولا أنه غنِي بلبن كلبة. ثم جاءهم بالشراب فلما شربوا قالوا: ما رأينا خمراً أرق ولا أعنب ولا أصفى ولا أطيب رائحة منه، فقال ربيعه: صدقتم لولا أن كرمها نَبَتَ على قبر. ثم قالوا: مارأينا منزلاً أكرم قرى ولا أخصب رَحْلا من هذا الملك. قال مضر: صدقتم لولا أنه لغير أبيه. فذهب الغلام إلى الأفعى فأخبره بما كان منهم، فدخل الأفعى على أمه ، فقال: أقسمت عليك إلا ما أخبرتني من أنا ومن أبي، فقالت: يا بني، وما دعاك إلى هذا؟ أنت ابن الأفعى الملك الأكبر، قال: حقاً لتصدقني، فلما ألحّ عليها قالت: يا بني إن أباك الأفعى الذي تُدْعَى له شيخاً قد أثقل، فخشيت أن يخرج هذا الملك عنا أهل البيت، وقد كان قدم إلينا شاباً من أبناء الملوك، فدعوته إلى نفسي، فعلقْتُ بك منه، ثم بعث إلى القهرمان، فقال: أخبرني عن الشهد الذي بعثت به إلى هؤلاء النفر ما خطبه؟ قال: أنا أخبرنا بدَيْر في طف. فبعثت إليه من يَشُورُه،، فأخبروني أنهم هجموا على عظام نخرة منكرة في ذلك الطف، فإذا النحل قد عسلت في جمجمة من تلك العظام، فأتوا بعسل لم أرمثله فقدمته إلي القوم لجودته، ثم بعث إلى صاحب مائدته فقال: ما هذه الشاة التي شَويتها لهؤلاء القوم؟ قال: أنى بعثت إلى الراعي أن ابعث إلي بأحسن شاة عندك، فبعثَ بها إلي، وما سألته عنها، فبعث إلى الراعي أن أعلمني خبر هذه الشاة، قال: إنها أول ما ولدت من غنمي عام أول، فماتت أمه ا، فبقيت، وكانت كلبة لي قد وضعت فأنست السَّخْلة بِجِرَاء الكلبة، فكانت ترضع من الكلبة مع جِرَائها، فلم أجد في غنمي مثلها، فبعثت بها إِليك، ثم بعث إلى صاحب الشراب، فقال: ما هذا الخمر الذي سقيت لهؤلاء القوم. قال: من حبة كَرْم نبتت غرستها على قبر أبيك، فليس في العرب مثل شرابها، فقال الأفعى: ما هؤلاء القوم؟ إنْ هُم إلا شياطين، ثم أحضرهم فقال: ما خطبكم؟ قُصُّوا علي قصّتكم، فقال إياد: الله أبي جعل لي خادمة شمطاء وما أشبهها من ماله، فقال: إن أباك ترك غنماً بَرْشاء فهي لك ورعاؤها مع الخادم قال أنمار: إن أبي جعل لي بدرة ومجلسه وما أشبهها من ماله، قال: ذلك ما ترك أبوك من الرقَةِ والحرث والأرض، فقال ربيعه: إن أبي جعل لي فرساً أدهم وبيتأ أسود وما أشبهها من ماله، قال: فإن أباك ترك خيلا دُهْماً وسلاحاً فهي لك وما فيها من عبيد، فسمي ربيعه الفرس، فقال مضر: إن أبي جعل لي قبة حمراء من أدم وما أشبهها من ماله، فقال: إن أباك ترك إبلأ حمراء فهي لك وما أشبهها من ماله، فصارت لمضر الإِبل والقبة الحمراء، والذهب، فسمي مضر الحمراء، وكانوا على ذلك مع أخوالهم جرهم بمكة فأصابتهم سنة أهلكت الشاء وعامة الإِبل، وبقيت الخيل، وكان ربيعه يغزو عليها ويَصِلُ أخوته، وذهب ما كان لأنمار من شاء في تلك السنين، ثم عاود الناس الخصب والغيث، فرجعت الإِبل وثابت إليها أنفسها ومشت، فتناسلت وكثرت وقام مضر بأمر أخوته، فبينما هم كذلك وقد قدم الرعاءُ بابلهم فتعشوا ليلاً وعشوا رعاءهم فقام مضر يوصي الرعاء وفي يد أنمار عظم يتعًرقهُ فرمى به في ظلمة الليل وهو لا يبصر فأوتد في عين مضر وفقأه فتأوه مضر وصاح: عيني، عيني، وتشاغل به أخوته، فركب أنمار بعيراً من كرائم إبله، فلحق بديار اليمن، وكان بين أخوته ما ذكرنا من التنازع.

فهؤلاء ولد نزار الأربعة: إليهم يرجع سائر ولد نزار على حسب ما قدَمنا أن مضر الحمراء لما ذكرنا من أمر القبة، وبذلك تفتخر مضرة كل أمه ا من المنثور والمنظوم، وربيعه الفرس وربيعه القشعم من الفروسية والشجاعة والنجدة والعز وشن الغارات لما ذكرنا من أمر الفَرَس، وإياد و ذكرنا ما لحق عقبه، وأنمار وقد بينا الخلاف في تفرع نسله، وما قاله النسابون في عقبه. ولكل واحد من هؤلاء ومن أعقب أخبار كثيرة يطول ذكرها، ويتسع شرحها: من ذكر ما حلوا به من الديار، وتشعب أنسابهم وتسلسلها، أتى الناس على ذكرها، وقد قدمنا فيما سلف من كتبنا اليسير مبسوطها؛فمنعنا ذلك من إعادته في هذا الكتاب.

فلنذكر الآن الغرض من هذا الباب الذي به ترجم، وإليه نسب، من سكنى مَنْ حل البدْوَ من العرب وغيرها من الأمم المتوحشة كالترك والكرد والبِجَةِ والبربر، ومن تقطن بالبراري وقَطَنَ الجبال، والعلة الموجبة لذلك من فعلهم.

علة سكنى البدو

تباين الناس في السبب الموجب لما وصفنا، فذهب كثير من الناس إلى أن الجيل الأول من سكن الأرض مكثوا حيناً من الزمان لم يبنوا بناء ولا شيدوا مُدُناً، وكان سكناهم في شبه الأكواخ والمظال، ثم إن نفراً منها أخذوا في أبناء المساكن، وَخَلَفَ من بعدهم خلف فابتنوا الأبنية، وثبت فرقة منهم على سجيتها؛ ولى في البيوت والإظلال ينتجعون الأماكن الرفهة الخصبة، وينتقلون عنها إذا أجدبت، فمضت هذه الطائفة على نهج الأقدمين.

وذكرت طائفة أن أول ذلك أن الناس لما نضبَ عنهم الطوفان الذي أهلك الله به الأرض في زمن نوح على نبينا وعليه السلام تفرق من نجا في طلب البقاع الخصبة المتخيرة، وانفرد من انفرد بانتجاع الأرضين وحلول البيداء، واستوطن آخرون بقاعاً تخيروها، كمن ابتنى إقليم بأبل من النبط، ومن حله من ولد حام بن نوح عليه السلام مع نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ الأول بن كوش بن حام بن نوح، وذلك حين تملك على إقليم بابل من قبل الضحاك، وهو بيوراسف وكمن حًل بلاد مصر من ولد حام على حسب ما ذكرنا في باب مصر وأخبارها في هذا الكتاب وكمن عمر الشام من الكنعانيين، وكمن حَل بوادي البربر وهم هوارة وزناتة وضريسة ومغيلة وورفجومة ونفزة وكتامة ولواتة ومزانة ونفوسة ولفظه وصدينة ومصمودة وزنارة وغمارة وقالمة ووارقة وأتيته وبابه وبنو سبخون وأركنة وهي من زناتة وبنو كلان وبنو مصدريان وبنو أفباس وزبحن وبنو منهوسا وصنهاجة، ومن سكن من أنواع الأحابيش وغيرهم الغابة المعروفة بغابة العافريم سون ورعوين والعورفة ويكسوم، ومنهم من سكن غير الغابة واتسع في هذه البلاد من المغرب.

وقد ذكرنا أن أرض البربر خاصة كانت أرض فلسطين من بلاد الشام، وأن ملكهم كان جالوت، وهذا الاسم سَمةٌ لسائر ملوكهم، إلى أن قتل داود عليه الصلاة والسلام ملكهم جالوت، فلم يتملك عليهم بعده ملك، وأنهم انتهوا إلى ديار المغرب إلى موضع يعرف بلوبية ومرافية، فانتشروا هنالك، فنزل منهم زنانة ومغيلة وضريسة الجبال من تلك الديار وتبطنوا الأودية، ونزلوا أرض بَرقة، ونزلت هَؤارة بلاد إياس وهي بلاد طرابس المغرب أي الثلاث المدن، وقد كانت هذه الديار للافرنجة والروم قانجلوا عن البربر حين أوطنوا أرضهم إلى جزائر البحر الرومي فسكن الأكثر منهم جزيرة صقلية، وتفرقت البربر ببلاد إفريقية وأقاصي بلاد المغرب نحو من مسافة الذي ميل، وانتهوا إلى موضع يعرف بقبوسة، على أكثر آلفي ميل من بلاد القيروان، وتراجعت الروم والإفرنجة إلى مدنهم وعمائرهم وذلك على موادعة وصلح من البربر، واختارت البربر سكنى الجبال والأودية والرمال والدِّهَاس وأطراف البراري والقفار.

ومن بحر إفريقية وصقلية يخرج المرجان، وهو المتصل ببحر الظلمات المعروف ببحر أقيانس، وغير هؤلاء ممن ذكرنا من الأمم من سكن قطع الأرض وابتنى المدائن شرقأ وغرباً.

ورأت العرب أن جولان الأرض وتخير بقاعها على الأيام أشبه بأولى العز وأليق بذوي الأنفة، وقالوا: لنكون محكمين في الأرض ونسكن نشاء أصلح من غير ذلك، فاختاروا سكنى البدو، من أجل ذلك. وذكر آخرون أن القدماء من العرب لما ركبهم اللّه من سموّ الأخطار ونبل الهمم والأقدار، وشدة الأنَقَة، والحمية من المعرة، والهرب من العار، بدأت بالتفغير في المنازل، والتقدير للمواطن، فتاملُوا شان المدن والأبنية، فوجدوا فيها معرة ونقصا، وقال ذو المعرفة والتمييز منهم: أن الأرضين تمرض كما تمرض الأجسام، ولحقها الآفات. والواجب تخير المواضع بحسب أحوالها من الصلاح. إذا الهواء ربما قوي فأضر بأجسام م سكانه، وأحال أمزجة قطَانة، وقال ذوى الآراء منهم: إن الأبنية والتحويط حَصْر عن التصرف في الأرض، ومَقْطعة عن الجوَلان، وتقييد للهمم، وحبس لما في الغرائز من المسابقة إلى الشرف، ولا خير في اللبث على هذه الحالة. وزعموا أيضاًً أن الأبنية والأطلال تحصر الغذاء وتمنع اتساع الهواء، وتسد سروحه عن المرور وقذاه عن السلوك، فسكنوا البر الأفَيحَ الذيلا يخافون فيه من حصر ومنازلة ضر، هذا مع ارتفاع الأقذاء، وسماحة الأهواء، واعتزال الوباء، ومع تهذيب الأحلام في هذه المواطن، ونقاء القرائح في التنقل في المساكن، مع صحة الأمزجة، وقوة الفطنة، وصفاء الألوان وصيانة الأجسام. فإن العقول والاراء تتولد من حيث تولد الهواء، وطبع الهواء الفضاء وفي هذا الأمن من العاهات والأسقام والعلل والآلام، فآثرت العرب سكنىِ البوادي والحلول في البيداء، فهم أقوى الناس همماً، وأشدهتم أحلاماَ، وأصحهم أجساماً، وأعزهم جاراً، وأحماهم ذمارا، وأفضلهم جواراً، وأجودهم فطناً؛لما أكسبهم إياه صفاء الجو ونقاء الفضاء،لأن الأبدان تحتوي أجزاؤها على متكاثف الأكدار وعناء الأقذار مما يرتفع أليه، ويتلاطم في عرصاته وأفقه من جميع المستحيلات، والمستنقعات من المياه، ففي أكنافه جميع ما يتصعد إليه، ولذلك تراكبت الأقذاء والأعواء والعاهات في أهل المدن، وتركبت في أجس أمه م، وتضاعفت في أشعارهم وأبصارهم، ففضلت العرب على سائر مَنْ عداها من بوادي الأمم المتفرقة لما ذكرنا من تخيرها الأماكنَ وارتيادها المواطن.

قال المسعودي: ولذلك جانبوا فظاظة الأكراد وسكان الجبال من الأجيال الجافية وغيرهم الذين مساكنهم حُزُونُ الأرض ودهاسُها، وذلك أن هذه الأمم الساكنة هذه الجبال والأودية تناسب أخلاقها مساكنها في انخفاضها وارتفاعها؛ لعدم استقامة الاعتدال في أرضها، فلذلك أخْلاقُ قطَانها على ما هي عليه من الجفاء والغلظ.

خطيب العرب عند كسرى يعلل اختيار قومه البداوة

وذكر الهيثم بن عدي والشَرَقي بن القطامي وغيرهما من الأخباريين أنه وفد على كسرى أنو شروان بعض خطباء العرب، فسأله كسرى عن شأن العرب وسكناها البر واختيارها البدو، فقال: أيها الملك، ملكوا الأرض ولم تملكهم، وأمِنُوا عن التحصن بالأسوار، واعتمدوا على المرهفات الباترة، والرماح الشارعة جُنَناً وحصوناً، فمن ملك قطعة من الأرض فكأنها كلها له، يَرِعُون منها خيارها، ويقصدون ألطافها، قال: فأين حظوظهم من الفلك؟ قال: من تحت الفرقدين ورأس البحرة وسعد الجدي مشرقين في البر بحسب ذلك، قال: فما رياحها؟ قال: أكثرها النَّكْباء بالليل والصِّبَا عند انقلاب الشمس، قال: فكم الرياح؟ قال: أربع، فإذا انحرفت واحدة منهن قيل: نَكْبَاء، وما بين سُهَيْل إلى طرف بياض الفجر جَنُوب، وما بإزائهما مما يستقبلهما من المغرب شمال، وما جاء من وراء الكعبة فهي دَبُور، وماجاء من قبل ذلك فهي صَباً، قال؛فما أكثر غذاءهم. قال: اللحم واللبن والنبيذ والتمر، قال: فما خلائقهم؟ قال: العز، وا لشرف، والمكأرم، وقرى ا لضيف، وإذمام الجار، وإجارة الخائف، وأداء الحمالات ، وبذل المهج في المكرمات، وهم سُرَاة. وليوث الغِيل، وعمار البر، وأنس القفر، ألفوا القناعة، وَشَنِفُوا الضراعة،. لهم الأخذ بالثار، والأنَفَة من العار، والحماية للذمار، قال كسرى: لقد وصفت عن هذا الجيل كرماً ونبلاً؛ وما أولانا بإنجاح وفادتك فيهم. فتخيرت العرب في البر إنزالا منها مَشَاتٍ ومنها مصايف؛ فمنهم المُنْجِد والمُتْهِم فالمنجد منهم هم الذين سكنوا أرض نجد والمتهم هم الذين سكنوا أرض تهامة، ومنهم من سكن أغوار الأرض كغور بيسان وغور غزة من أرض الشام من بلاد فلسطين والأردن ومن سكنه من لخم وجُذَام، ولجميع العرب مياه يجتمعون عليها وملكية يعرجون إليها، كالدهناء والسماوة والتائم وأنجاد الأرض والبقاع والقِيعَان والوهاد، ولست تكاد ترى قبيلاً من العرب توغل من الأماكن المعروفة لهم والمياه المشهورة بهم، كماء ضارج وماء لعقيق والهَبَاءة وما أشبه ذلك من المياه.

الاكراد ونسبهم ومساكنهم

وأما أجناس الأكراد وأنواعهم فقد تنازع الناس في بدئهم؛ فمنهم من رأى أنهم من ربيعه بن نزار بن معد بن عدنان، انفردوا في قديم الزمان، وانضافوا إلى الجبال والأودية، دعتهم إلى ذلك الأنفة، وجاوروا من هنالك من الامم الساكنة المدن والعمائر من الأعاجم والفرس، فحالوا عن لسانهم، وصارت لغتهم أعجمية،ولكلِ نوع من الأكراد لغة لهم بالكردية، ومن الناس من رأى أنهم من مضر بن نزار، وأنهم من ولد كرد بن صعصعة بن هوازن، وأنهم انفردُوا في قديم الزمان لوقائع ودماء كانت بينهم وبين غسان، ومنهم من رأى أنهم من ربيعه ومضر، وقد اعتصموا في الجبال طلباً للمياه والمرادى فحالوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الأمم.
ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود عليهما السلام حين سلب ملكه ووقع على إمائه المنافقات الشيطانُ المعروف بالجسد، وعصم الله منه المؤمنات أن يقع عليهن، فعلق منه المنافقات، فلما رَدَّ اللهّ على سليمان مُلْكه ووضع تلك الإماء الحوامل من الشيطان قال: أكردوهن إلى الجبال والأودية، فربتهم أمه اتهم، وتناكحوا، وتناسلوا، فذلك بدء نسب ا لأكرا د.

ومن الناس من رأى أن الضحاك ذا الأفواه المقدَّم ذكره في هذا الكتاب الذي تنازعت فيه الفرس والعرب من أي الفريقين هو، أنه خرج بكتفيه حَيتَانِ فكانتا لا تُغَذَيان إلا بألدمغة الناس، فأفنى خلقاً كثيراً من فارس، واجتمعت إلى حربه جماعة كثيرة وافاه أفريدون بهم وقد شالوا راية من الجلود تسميها الفرس درفش كاوَان، فأخذ أفريدون الضحاك وقيدهُ في جبل دنباوند على ما ذكرنا، وقد كان وزير الضحاك في كل يوم يذبح كبشاً ورجلاً ويخلط أدمغتهما، ويطعم تينك الحيتين اللتين كانتا في كتفي الضحاك، ويطرد من تخلَّص إلى الجبال، فتوحشوا وتناسلوا في تلك الجبال فهم بدء الأكراد، وَهؤلاء من نسلهم، وتشعبوا أفخادْاً، وما ذكرنا من خبر الضحاك فالفُرْسُ لايتنا كرونه، ولا أصحاب التواريخ القديمة ولا الحديثة.

وللفرس في أخبار الضحاك مع إبليس أخبار عجيبة، وهي موجودة في كتبهم، وتزعم الفرسُ أن طهومرث المقدم ذكره في ملوك لفرس الأولى هو نوح النبي عليه السلام، وتفسير درفيش بالفارسية اللهلوية- وهي الأولى- الراية والمطرد والعلم.

وأما الترك وأجناسها فقد قدمنا كثيرأ من أخبارها، وقد غلط قوم فزعموا أن الترك من ولد طوح بن أفريدون، وهذا غلط بَيِّن؛لأن طوح وَلأَه أفريدون على الترك وسلم على الروم، وكيف توليه عليهم وهم ولده؛ وما قلنا يدل على أن الترك من غير ولد طوم بن أفريدون، بل لطوح في الترك عقب مشهور، والمعظم في أجناس الترك هم التبت، وهم من حمير على حسب ما ذكرنا أن بعض التبابعة ربتهم هناك.

وما قلنا من الأكراد فالأشهر عند الناس؛والأصح من أنسابهم؛ أنهم من ولد ربيعه بن نزار، فأما نوع من الأكراد- وهم الشوهجان ببلاد ما بين الكوفة والبصرة، وهي أرض الدينور وهمذان- فلا تناكما بينهم أنهم من ولد ربيعه بن نزار بن معد، والماجردان- وهم من الكنكور ببلاد أذر والهلبانية والسراة وما حوى بلاد الجبال من الشادنجان والمادنجان والمزدنكان والبارسان والخالية والجابارقية والجاوانية والمستكان ومن حًلّ بلاد الشام من الدبابلة وغيرهم- فالمشهور فيهم أنهم من مضر بن نزار، ومنهم اليعقوبية والجورقان وهم نصارى، وديارهم مما يلي بلاد الموصل وجبل الجودي.

وفي الأكراد مَنْ رأيهم رأي الخوارج والبراءة من عثمان وعلي رضي الله عنهما. فهذه جمل من أخبار بوادي العالم، وقد أعرضنا عن ذكر الغوز والخرلج وهم أنواع من الترك نحو بلاد غرش وبسطام وبُسْت مما يلي بلاد سجستان وكذلك من ببلاد كرمان من أرض القفص والبلوج والجت.

بعض أيام العرب

قال المسعودي: فأما أيام العرب وَوَقائعها وحروبها فقد ذكرناهأ فيما سلف من كتبنا، وما كان منها في الجاهلية والإِسلام، كيوم الهَبَاءة، وحروب ذبيان وغطفان، وما كان بين عبس وسائر العرب من نزار واليمن. وحرب داحس والغَبْراء، ؤحرب بكربن وائل وتغلب، وهي حرب البَسوس، ويوم الكُلاب، ويوم خزاز، ومقتل شاس بن زهير، ويوم في قار، ويوم شِعْب جَبَلَة، وما كان من بني عامر وغيرهم، وحرب الأوس والخزرج، وما كان بين غَسَّان وعَك.

وسنورد بعد هذا الباب جملأ من أخبار العرب الداثرة وغيرها وتفرقها في البلاد، ونذكر جملاً من آرائها ودياناتها في الجاهلية، وما ذهبت إليه في الغيلان والهَوَاتف والقِيَافة والكَهَانة والتفرس والصدى والهام، وغير ذلك من شيمها، وباللّه التوفيق.