ذكر ديانات العرب وآرائها في الجاهلية وتفرقها في البلاد وخبر أصحاب الفيل وعبد المطلب وغير ذلك مما لحق بهذا الباب

ذكر ديانات العرب وآرائها في الجاهلية وتفرقها في البلاد وخبر أصحاب الفيل وعبد المطلب

وغير ذلك مما لحق بهذا الباب

ديانات العرب في الجاهلية

قال المسعودي: كانت العرب في جاهليتها فرقاً: منهم الموحد المقر بخالقه، المصدق بالبعث والنشور، موقناً بأن اللّه يثيب المطيع، ويعاقب العاصي، وقد تقدم ذكرنا في هذا الكتاب وغيره من كتبنا مَنْ دعا إلى اللّه عزوجلا ونبًه أقو أمه على آياته في الفترة، كقُيسِّ بن ساعدة الإياثي ورِئاب الشَنَيئَ، وَبَحِيرا الراهب، وكانا من عبد القيس.

وكان من العرب من أقر بالخالق، وأثبت حدوث العالم وأقر بالبعث والإِعادة، وأنكر الرسل، وعكف على عبادة الأصنام، وهم الذين حكى اللّه عز وجل قولهم: " ما نَعْبُدُهُمْ إلّاَ لِيُقَربُونَا إلى اللّهِ زُلْفَى" الآية وهذا الصنف هم الذين حجوا إلى الأصنام وقصدوها، ونحروا لها البُدْنَ، ونسكوا لها النسائك، وأحلوا لها وحرموا.

ومنهم من أقر بالخالق، وكَذَب بالرسل والبعث، ومال إلى قول أهل الدهر، وهؤلاء الذين حكى اللّه تعالى إلحادهم، وخَبَّرَ عن كفرهم، بقوله تعالى: وقالوا: " ما هي إلا حَيَاتُنَا الدنْيَا نموتُ وَنحْيَا، وَمَا يًهْلِكُنَا إلا الدَّهْر" فردَّ اللّه عليهم بقوله: " ما لهم بذلك مِنْ عِلْم، إن هُمْ إلاَّ يَظُنُّون ".

ومنهم من مال إلى اليهودية والنصرانية.

ومنهم المارُّ على عَنْجَهِيَّتِهِ، الرَّاكب لِهَجْمَته.

وقد كان صنف من العرب يعبدون الملائكة، ويزعمون أنها بنات اللّه؛فكانوا يعبدونها لتشفع لهم إلى اللهّ، وهم الذين أخبر اللّه عزوجل عنهم بقوله تعالى: " ويجعلونَ للّهِ البَنَاتِ، سبحانه، ولهم ما يشتهون " وقوله تعالى: " أفَرَأْيْتُمُ اللاَّتَ والعُزَّى، وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى؛ ألكم الذكر وله الأنثى؛ تلك إذاً قِسْمَة ضِيزَى".

عبد المطلب بن هاشم

فممن كان مقراً بالتوحيد، مئبتاً للوعيد، تاركاً للتقليد: عبدُ المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وقد كان حفر بئر زمزم، وكانت مَطْوِية، وذلك في ملك كسرى قباذ، فاستخرج منها غزالتي ذهب عليهما الدر والجوهر، وغير ذلك من الحلي، وسبعة أسياف قلعية، وسبعة أدرع سوابغ؛ فضرب من الأسياف باباً للكعبة، وجعل إحدى الغزالتين صفائح ذهب في الباب، وجعل الأخرى في الكعبة، وكان عبد المطلب أول من اقام الرفاعة والسِّقاية للحاج، وكان أول من سقي الماء بمكة عَذْباً، ؛جعل باب الكعبة مذهباً، وفي ذلك يقول عبد المطلب:

أعطى بلا شُحٍّ ولامشـاحـح

 

سقياً على رغم العدو الكاشح

بعد كنوز الحلى والصفـائح

 

حلياً لبيت الله في المسـارح

وكان قد نذر إنْ رزقه اللّه عز وجل عشرة أولاد ذكور أن يقرب أحدهم لله تعالى فكان أمره- حين رزقه اللّه إياهم- أن قرب أحبهم إليه وهو عبد اللّه أبو النبي صلى الله عليه وسلم، فضرب عليه بالقِدَاح حتى افتداه بمائة من الإبل، في خبر طويل.

أصحاب الفيل

وقد كان أبرهة حين سار بالحبشة وأتى أنصاب الحرم، فنزل بالموضع المعروف بحب المحصب، فأتى بعبد المطلب بن هاشم فأخبر أنه سَيِّدُ مكة، فعظمه وهابه لاستدراة نور النبي صلى الله عليه وسلم في جبينه، فقال له: سَلْنِي يا عبد المطلب فأبى أن يسأله إلا إبلا له، فأمر بردها عليه وقال له: ألا تسألني الرجوع؛ فقال: أنا رب هذه الإِبل، وللبيت رب سيمنعه منك وانصرف عبد المطلب إلى مكة وهو يقول:

يا أهل مكة قد وافاكُمُ ملـك

 

مع الفيول على أنيابها الزَّرَد

هذا النجاشيُّ قد سارت كتائبه

 

مع الليوث عليها البيض تتقد

يريد كعبتكم، والله مانـعـه

 

كمنع تبع لما جاءها حـرد

وأمر قريشآَ أن تلحق ببطون الأودية ورؤوس الجبال من مَعَرًة الحبشة، وقَلّدَ الإِبل النعال وخلاها في الحرم ووقف بباب الكعبة وهويقول:

يارب لا أرجولهم سواكا

 

يارب فامنع منهمُ حماكا

إن عدؤَالبيت مَنْ عاداكـا

 

فامنعهمُ أن يخربوا قراكا

ولقول:

يا رب إن العبد يمنع رَحْلَهُ فامنعِ رحالك

لايغلبنَّ صليبهم ومَحِالهم أبدا َمِحَالك

فأرسل اللّه عليهم الطير الأبابيل، أشباه اليعاسيب، ترميهم بحجارة من سجيل، وهوطين خلط بحجارة خرجت من البحر، مع كل طير ثلاثة أحجار فأهلكهم اللّه عز وجل.

وقد ذكرنا خبر أبي رُغَال فيما سلف من هذا الكتاب حين دلهم على الطريق، وهلاكه في الطريق، وجعلت الحبشة يومئذ تسأل عن نُفَيْل بن حبيب الخثعمي يدلها على الطريق، ونفيل يسمع كلام الحبشة وسؤالها عنه وقد رِبعَ لما عمهم من البلاء، وانفرد، من جملتهم يؤمل الخلاص، وقد تاهوا، فأنشأ يقول:

ألا ردى جمَـالَـكِ يارُدَيْنَـا

 

نعمناكم مع الإِصباح عينـا

فإنك لو رأيت ولـن تـريه

 

لوى جنب المحصب مارأينا

وكل القوم يسأل عن. نفيل كأن عليَّ للحبْشَان دَيْنَا وقد ذكرنا ما كان منهم في هلك عديدهم فيما سلف من هذا الكتاب، فلما صًدّهم اللّه عزّ وجلّ عن الكعبة أنشأ عبد المطلب يقول: أيها الداعي لقدأسمعتني ثم ما بي عن نِدَاكم من صَمَمْ إن للبيت لربّاً مانعاً مَنْ يُرِعْ! بأثام يُصْطَلم ر أمه تبع فيمن جَنَدَتْ حِمْيروالحي من آل قدم فانثنى عنه وفي أوداجه جارحٌ أمسك منه بالكَظَمْ قلت والأشرم ترس خيله: إن ذا الأشرم غربالحرم نحن آل اللَّه فيما قدمضى لم يزل ذاك على عهد إلرَهَمْ نحن عَفَرنا ثمودأعَنْوة ثم عاداً قبلها ذات الأرم نعبد الله وفينا سُنَة صِلَةُ القربى وإيفاء. النِّمم لم تزل للَّه فيناحجة يدفع اللَّه بهاعنا النِّقَمْ

القول بتناسخ الأرواح

قال المسعودي: وقد استدل قوم ممن ذهب إلى الغلو في بعض المذاهب والخروج عما أوجبته قضية العقل وضرورات الحواس بهذا الشعر وقول عبد المطلب فيما كان منهم في قديم الزمان، وأيدوا ذلك الشعر بشعر العباس بن عبد المطلب في مدحه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما ذكره قريم بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي أنه هاجر إلى رسول اللّه فقدم عليه مُنْصَرَفَة من تَبُوك فأسلم، قال: سمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يا رسول اللّه، إني أريد أن أمتدحك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل لا يَفْضُض اللّه فاك يا عدي، فأنشأ يقول:

من قبلها طِبْتَ في الظلال وفي

 

مستودع حيث يُخْصَفُ الوَرَق

ثم هبطت الـبـلاد، لابـشـر

 

أنت، ولامضـغة، ولاعـلـق

بل حجة تركب السفـين، وقـد

 

ألجم نْسْرأوأهـلَـهُ الـغـرق

تنقل من صالـب إلـى رحـم

 

إذا مضى عالم بـدا طَـبَـق

وأنت لما وُلدْت أشـرقـت ال

 

أرض، وضاءت بنورك الأفق

حتى احتوى بيتك المهيمن مـن

 

خندق علياء تحتها الـنـطـق

فنحن في ذلك الضياء وفي الن

 

ور و سبل الرشاد نخـتـرق

قالوا: وهذا الخبر قد ذكره أصحاب السير والأخبار والمغازي، ونقلوا هذا المديح من قول العباس، وما كان من سرور النبي صلى الله عليه وسلم بذلك واستبشاره به فجعلت هذه الطائفة من الغُلاة ما ذكرنا من الشعرين- شعر عبد المطلب، وشعر- العباس- دلالة لهم على مواطن ادعوها، وتغلغلوا إلى شبه بعيدة استخرجوها، يمنع منها ما تقدم من أوائل العقول، وموجبات الفحص، ذكرَ ذلك جماعة من مصنفي كتبهم، ومن حذاق مبرزيهم، من فرق المحمدية والعلبانية، وغيرهم من فرق الغلاة: منهم إسحإق بن محمد النخعي المعروف بالأحمر في كتابه المعروف بكتاب الصراط، وقد ذكر ذلك الفياض بن علي بن محمد بن الفياض في كتابه المعروف بالقسطاس في نقضة لكتاب الصَراط وذكره المعروف بالنهكني في نقضه هذا الكتاب المترجم بالصراط، وهؤلاء محمدية نقضوا هذا الكتاب، وهو على مذهب العلبانية، وقد أتينا على ذكر هؤلاء المحمدية والعلبانية والمغيرية والقمرية وسائر فرق الغُلاَة وأصحاب التذويض والوسائط، واستقصينا النقض عليهم وعلى سائر من ذهب إلى القول بتناسخ الأرواح في أنواع أشلاء الحيوان ممن ادعى الإسلام وغيرهم ممن سلف من اليونانيين والهند والثنوية والمجوس واليهود والنصارى، وذكرنا قول أحمد بن حائط وابن يافوس جعفر القاضي، إلى مَنْ نجمَ في وقتنا ممن تقدم وتأخر إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- ممن أحدث قولاً تفريعاً على ما سلف من أصولهم وأبور شبهاً أيَّدَ بها ما تقدم من مذاهبهم، مثل الحسين بن منصور المعروف بالحلاج، وأصحاب أبي يعقوب المزايلي، ثم أصحاب السم ومن تأخر عنه وفارقهم في أصولهم، مثل أبي جعفر محمد بن على الشلمغاني المعروف بابن أبي الغرائر وغيرهم ممن أمَّم نهجهم، وذكر الفرق بينهم وبين غيرهم من أصحاب الدور في هذا الوقت ممن يراء وقت الظهور، وأصحاب حجج الليل والنهارث إذ كان هؤلاء قد أثبتوا القول بالتناسخ، وأن الأرواح تنتقل في شيء من الأجسام الحيوانية، وأحالوا على القديم عز وجل أن يجوز عليه شيء مما تقدم، فلنرجع الآن إلى ما كنا ا آنفاً، وما تغلغل بنا الكرم عنه من ذكرعبد المطلب.

الاختلاف في إيمان عبد المطلب

تنازع الناس في عبد المطلب: فمنهم من رأى أنه كان مؤمناً موحداً وأنه لم يشرك باللّه عزّوجلّ، ولا أحد من آباء النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نقلفيالأصلاب الطاهرة، وأنه أخبر أنه ولد من نكاح لا من سفاح، ومنهم،رأى أن عبد المطلب كان مشركاً، وغيره من آباء النبي صلى الله عليه وسلم ألا من صح إيمانه، وهذا موضع فيه تنازع بين الإمامية والمعتزلة والخوارج والمرجئة وغيرهم من الفرق في النص والاختيار، وليس كتابنا هذا موسوماً للحِجَاج فنذكرحجاج كل فريق منهم.

وقد أتينا على قول كل فريق منهم وما أيد به قوله في كتابنا المقالات في أصول الديانات وفي كتاب الاستبصار ووصف أقاويل الناس في الإم أمه وفي كتاب الصفوة أيضاً.

أبو طالب

وكان عبد المطلب يوصي ولده بصلة الأرحامٍ، وإطعام الطعام، ويرغبهم ويرهبهم فعل من يراعي في المتعف معادا وبعثاً ونشوراً، وجعل السقاية والرفاعة إلى ابنه عبد مناف- وهو أبو طالب- وأوصاه بالنبي صلى الله عليه وسلم.


وقد تنوزع في اسم أبي طالب: فمنهم من رأى أن اسمه عبد مناف، على ما وصفنا، ومنهم من رأس أن كنيته اسمه، وأن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه كتب في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم وكتب علي بن أبي طالب بإسقاط الألف وقد ذكر عبد المطلب في شعر له وصية أبي طالب بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:

أوصيت مَنْ كنيته بطـالـب

 

بابن الذي قد غاب ليس بآئب

اختلاط الألسنة

وقد كان أكثر العرب ممن بقي ودثَرَيقر بالصانع، ويستدل على الخالق. وقد كان في ملك النمروذ بن كوش بن حام بن نوح هيجانُ الريح التي نسفت صرح النمروذ ببابل من أرض العراق، فبات الناس ولسانهم سرياني، وأصبحوا وقد تفرقت لغاتهم على اثنين وسبعين لساناً، فسمى الموضع من ذلك الوقت بابل، فصار من ذلك في ولد سام بن نوح تسعة عشر لساناً وفي ولد حام بن توح ستة عشر لساناً وفي ولد يافث بن نوح سبعة وثلاثون لسانَاَ على حسب ما ذكرنا في صدر هذا الكتاب، وكان من تكلم بالعربية يعرب وجرهم وعاد وعبيل وجديس وثمود وعملاق وطسم ووبار وعبد ضخم، فسار يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن إرفخشذ بن سام بن نوح بمن تبعه من ولده وغيرهم وهويقول:

أنا ابن قحطان الهمام الأفضل

 

الأيمن المعرب في المـهـل

يا قوم سيروا في الرعيل الأول

 

أنا الْبدِيئُ باللسان المسـهـل

الأبين المنطق غير المشـكـل

 

حثوت والامة في تبـلـبـل

يا قوم سيروا في الرعيل الأول

 

نحو يمين الشمس في تمهـل

فحل باليمين على ما وصفنا آنفَاَ من هذا الكتاب.

مسير عاد الى الأحقاف

وسار بعده عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه و يقول:

إني أنا عاد الطويل البالدي

 

وسام جدي ابن نوح الهادى

فقد رأيتم يعرب الـزيادي

 

وسَوْقَه الطارف والتـلاد

أرم ذات العماد

فحل بالأحقاف وأداني الرمل بين عمان وحضرموت واليمن وتفرق هؤلاء في الأرض، فانتشر منهم ناس كثير: منهم جيرون بن سعدي بن عاد حَل بدمشق فمصَرمصرها، وجمع عدد الرخام والمرمر إليهأ؛ وشيد بنيانها، وسماها أرم ذات العماد، وقد روى عن كعب الأحبار في أرم ذات العماد غير هذا، وهذا الموضع بدمشق في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- سوق من أسواقها عند باب المسجد الجامع، يعرف بجيرون، وجيرون: هو بنيان عظيم، كان قصر هذا الملك، عليه أبواب من نحاس عجيبة: بعضها على ما كانت عليه، والبعض من مسجد الجامع، وقد ذكرنا فيما من خبر نبي اللّه هود.

نزول ثمود الحجر

وسار بعد عاد بن عوص ثمود بن عابربن أرم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه وهو يقول:

أنا الفتى الذيي دعا ثـمـودا

 

يا قوم سيروا ودَعُوا الترديدا

لعلنا أن نـدرك الـوفـودا

 

فنلحق البادي لنا الـعـديدا

إنا أبينا اليعرب الـحـمـيدا

 

وعاد ما عاد الفتى الجلـيدا


فنزلى هؤلاء الحَجْرَ إلى فرع، وقد تقدم ذكرهم فيما سلف من هذا الكتاب، وخبر نبيهم صالح عليه السلام، وأنهم نحو وادي القرَف، بين الشام والحجاز.

مسير جديس إلى اليمامة

وسار بعد ثمود جديس بن عابربن أرم بن سام بن نوح بولده، ومن تبعه وهو يقول:

أنا جديس والمسير المسـلـكـا

 

فَدَتْكَ نفسي يا ثمود المهلـكـا

دعوتني فقد قصدت نـحـوكـا

 

إذ سارت العيس وأبدت شخصكا

كعب الأحبار: هو كعب بن مانع، أبو اسحاق، تابعي. كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن، وأسلم في زمن أبي بكر، وقدم المدينة في دولة عمر. توفي في حمص عن مئة وأربع سنين سنة.

وقد قلنا فيما سلف: إن هؤلاء الذين نزلوا اليمامة.

مسير عملاق إلى مواضع "مختلفه

وسار بعد جديس عملاق بن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه: وهو يقول:

لمارأيت الناس ذا تبلـبـل

 

وسار منا ذواللّسان الأولى

وحدثتنا في اللحاق الأولـى

 

فسرت حثاً بالسوام المهمل

فنزل هؤلاء أكناف الحرم والتهائم، ومنهم من سار إلى بلاد مصر والمغرب، وقيل: إن هؤلاء بعض ذراعنة مصر، وقد ذكرنا قول من الحق العماليق وغيرهم ممن ذكرنا بعيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وزعم أنهم من ولد العيص على حسب ما ذكرنا فيما تقدم. وقد كانت للعماليق ملوك كثيرة سلفت في مواضع من الأرض بالشام وغيره، وقد أتينا على أخبارهم وذكر ممالكهم وحروبهم في كتابنا أخبار الزمان، وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب قصة يوشع بن نون مع ملك العماليق ببلاد أيلة، وهو السميدع بن هوبر، وقد كان من بقي من العماليق انضافوا إلى ملوك الروم؛ فملكتهم الروم على مشارق الشام والغرب والجزيرة من ثغور الشام فيما بينهم وبين فارس.

أذينة بن السميدع العملاقي

فممن ملك الروم من العماليق: أذينة بن السميدع، الذي ذكره الأعشى في قوله:

أزال أذينة عن مـلـكـه

 

وأخرج عن ملكه ذا يزن

وقد كان ملك بعد العماليق حسان بن أذينة بن طرب بن حساز ويقال: هوالذي يعرف ب أمه زباء.

ثم ملك عمروبن طرب، ويقال: هوالذي كان يعرف ب أمه زباء، وقد كان بينه وبين جذيمة الأبرش الأزْدِي أبي مالك حروب كثيرة، فقتله جذيَمة على ما ذكرنا، وما كان من قتل الزباء لجذيمة وقول الشاعر:

كأن عمرو بن زباا لم يعش ملكا

 

ولم يكن حوله الرايات تختفـق

لاءم جذيمة من ضرساء مشعلة

 

فيها خراشف بالنيران ترتشـق

مسير طسم إلى البحرين

ثم سارطسم بن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح بعد عملاق بن لاوذ بولده،ومن تبعه وهويقول:

إني أنا طسم وجـدي سـام

 

سام بن نوح وهـو الإِمـام

لما رأيت الأخ والأعـلامـا

 

قلت لنفسي: االْحَقِي السواما

أخاك عملاقـاً وذا الإِقـدام

 

يافث لا كان ولـيي حـام

فنزل هؤلاء البحرين.

وقد كان جميع من ذكرنا بدواًً، وانتشروا في الأرض، على حسب ما ذكرنا من مساكنهم، وكثرت جديس، فملكت عليهاالأسود بن غفار، وكثرت طسم، فملكت عليها عملوق بن جديس، وقد ذكرعبيد بن شَرِيَّةَ الجرهمي حين وفد على معاوية وأخبره أن طسم بن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح، وجديس بن عابر بن سام بن نوح، هم العرب العاربة، وقد كان منزلمهم جميعأ باليمامة، واسمها إذ ذاك جَؤ.

عملوق الظالم ملك طسم

وكان لطسم ملك يقال له عملوق، وكان ظلوماً غشوماً، لاينهاه شيء عن هواه، مع إصراره وإقد أمه على جديس، وتعدِّيه عليهم، وقهره إياهم، فلبثوا في ذلك دهراً، وهم أهل مظالم، قد غمطوا النعمة وانتهكوا الحرمة، وبلادهم أفضل البلاد، وأكثرها خيراً، فيها صنوف الشجر والأعناب، وهي حدائق ملتفة، وقصور مصطفة، فلم يزل على ذلك حتى أتته امرأة من جديس، يُقال لها هُزَيلة بنت مازن، وزوج لها فارقها، يقال له ماشق، فأراد قبض ولده منها، فأبت عليه، فارتفعا إلى إلى ملك عملوق ليحكم بينهما، فقالت المرأة: أيها الملك، هذا الذي حملته تسعاً، ووضعته دفعاً، وأرضعته شفعاً، ولم أنل منه نفعاً، حتى إذا تمت أوصاله، واستوفت خصاله، أراد أن يأخذه قسراً، ويسلبنيه قهراً ويتركني منه صِفْراً، قال زوجها: قد أخذت المهر كاملاً، ولم أنل منه نائلا، إلا ولداً خاملا، فافعل ما كنت فاعلاً. فأمر الملك أن يؤخذ الولد منهما ويجعل في غلمانه، فقالت هُزَيلة في ذلك:

أتينا أخا طسمِ ليحكـم بـينـنـا

 

فأبرم حكماً في هُزَيْلَة ظالـمـا

لعمري لقد حُكَمْتَ لا متـورعـا

 

ولافَهِماً عند الحكومة عالـمـا

ندمتُ فلم أقدرعلى متـزحـزح

 

وأصبح زوجي حائر الرأي نادما

فبلغ المَلِكَ قول هُزَيلة، فغضب، وأمر أن لا تتزوج امرأة،جديس فتزف إلى زوجها حتى تحمل إليه، فيفترعها قبل زوجها، فلقوآ من ذلك ذلاً طويلا، ولم تزل تلك حالتهم حتى تزوجت عفيرة، وقيل الشموس، بنت غفار الجديسي أخت الأسود بن غفار، فلما كانت لي هَدْيِهَا إلى زوجها انطلق بها إلى عملوق الملك ليطأها على عادته، ومعها القَيْنَات يغنينه ويقلنا فيغنائهن:

إبدِي بعملوق وَقُومِي فاركبي

 

وَبَادرِي الصبح بأمر معجب

فَمَا لِبِكْرٍ بَعدكُمْ مِنْ مذهب

 

 

فلما دخلت عفيرة على عملوق افترعها وخلى سبيلها، فخرَجَتْ عفيرة على قومها في عمادها شَاقةً جيبها عن قبلها ودبرها، وهي تقول:

لا أحد أفل منها جَدِيس

 

أهكذا يفعل بالعروس؟

وقالت أيضاً تحرض قومها جديس على طسم، وأبت أن تمضي إلى زوجها من كلمة:

أيَصْلُح ما يؤتى إلى فـتـياتـكـم

 

وأنتم رجال فيكم عـدد الـرمـل

أيَصْلُح تمشي في الدما فتـياتـكـم

 

صبيحة زُفَّت في النساء إلى البعل

فإن أنتم لاتغضبـوا بـعـد هـذه

 

فكونوا نساء لا تفروا من الكحـل

ودونكمٍ طيبَ العـروس؛فـإنـمـا

 

خلقتم لأثواب العروس وللغـسـل

فقبحا و شيكأ للذى لـيس دافـعـاً

 

ويختال يمشي بيننا مشية الفـحـل

فلو أننا كنا الـرجـال وكـنـتـم

 

نساء لكنا لا نقـر عـلـى الـذل

فموتوا كرامأ، واصبروا لعـدوكـم

 

بحرب تَلظى في القرام من الجزل

ولاتجزعوا للحرب يا قوم، إنـمـا

 

تقوم بأقوام كرام عـلـى رِجْـل

فيهلك فيها كل نِـكْـسٍ مـواكـل

 

ويسلم فيها ذو النجابة والفـضـل

وفي ذلك يقول أخوها:

جَاءَتْ تَمَشَّى طَسْمُ في خميس

 

كالريح في هشهشة اليبـيس

يا طَسْم مالقيت مـن جـديس

 

حَقّا ًلك الويل فهيسي هيسي

التفكر في الانتقام

قال: فلما سمعت جديس بذلك وغيره من قولها اجتمعت غضباً لذلك، فقال لهم الأسود بن غفار- وكان فيهم سيداً مطاعاً- يا جديس، أطيعوني فيما امركم به، وأدعوكم إليه، ففي ذلك عز الدهر، وذهااب الذل، قالوا: وما ذلك؛ قال: قد علمتم أن هؤلاء- يعني طسماً- ليسو بأعز منكم، ولكن مُلْكَ صاحبهم عليكم وعليهم وهو الذي يُذْعِننا إليه بالطاعة، ولولا ذلك ما كان له علينا من فضل، ولو امتنعنا منه لكان لنا النصف، فقالوا: قد قبلنا قولك، ولكن القوم أقراننا، وأكثر عمداً وَعدداً مِنَا، فنخاف إن ظفروا بنا أن لا يقيلونا، فقال: واللّه يا جديس لتطيعنني فيما آمركم به وأدعوكم إليه أو لأتكئن على سيفي فأقتل به نفسي، قالوا: فإنا نطيعك فيما قد عزمت عليه، قال: إني صانع لعملوق وقومه من طسا طعاماً وداعيهم إليه، فإذا جاءوا إليه متفضلين في الحلل والنعال نهضنا إليهم بأسيافنا، فانفردت أنا بالملك، وانفرد كل رجل منكم برجل منهم، قالوا له: فافعل ما بدا لك، واجتمع رأيهم عليه، فقالت عفيرة لأخيها الأسود: لا تفعل هذا؛ فإن الغدر فيه ذلة وعار، ولكن كابدوا القوم في ديارهم تظفروا أو تموتوا كراماً، قال: لا، ولكن نمكر بهم، فيكون ذلك أمْكَنَ لنا من نواصيهم، وأبلغ في الانتقام منهم، فقالت عفيرة في ذلك أسعاراً قد ذكرناها فيما سلف من كتبنا.

ثم إن الأسود صنع طعاماً كثيراً، وأمر قومه فاخترطوا سيوفهم ودفنوها في الرمل حيث أعَدُوا الطعام، ثم قال لهم: إذا أتاكم القوم يرفلون في حليهم فخذوا أسيافكم ثم شدوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم وابدوا بالرؤساء؛ فإنكم إذا قتلتموهم لم تبالوا بالسَّفِلة، ولم تكُن بعد ذلك منهم حال تكْرهونها، قالوا: نفعل ما قلت.

ثم دعا الأسود بعملوق الطسمى ومن معه من رؤساء طسم باليمامة فأسرعوا إجابة دعوة الأسود، فلما توافوا إلى المَدْعَاة وَثَبَتْ جديس، فاستثإروا سيوفهم من الرمل، وشدوا على عملوق وأصحابه فقتلوهم حتى أفنوهم عن اخرهم، ومضوا إلى ديارهم فانتهبوها، وقال الأسود بن غفار في ذلك أشعاراً يرثي بها طسماً، ويذكر بغيها وفعل عملوق بأخته، يطول بذكرها الكتاب، وقد تقدمت فيما سلف من كتبنا.

رباح الطسمي يستنجد حمير على جديس

قال: وهرب رجل من طسم، وكان أسمه رباح بن مرة الطسمي، فأتى إلى حسان بن تبع الحميري ملك اليمن يومئذ فاستغاث به، وقد كان عمد إلى جريمة نخل رطبة فجعل عليهاطيناً رطباً، وحملها معه وأخرج معه كلبة، فلما ورد على حسان كسر يَدَ كلبته، ونزع الطين عن الجريدة فخرجت خضراء ودخل إلى حسان واستعاذ به، وأخبره بالذي صنعت جديس بقومه، فقال له الملك: لله أبوك، فمن أين مَبْدَاك؟ قال: جئتك، أبيت اللعن من أرض قريبة وقوم انتهك منهم ما لم ينتهك من أحد، أنا رباح بن مرة الطَّسْمي، دعتنا جديس إلى مَدْعَاة لهم فأجبناهم متفضلين في الحلل وقد أعدوا لنا السلاح عند جِفَانهم، فما ذُقْنَا الطعام حتى صرنا حُطَاماً، بلا طلب دم ولا تِرَةٍ سلفت، فدونك- أبيت اللعن!- قومأ قطعوا أرحامنا- وسفكوا دماءنا، قال الملك حسان: أمعك خرجت هذه الجريدة وهذه الكلبة؟ قال: نعم، فقال الملك: إن كنت صادقاً لقد خرجت من أرض قريبة، ووَعَدده بالنصرة، ثم نادى في حمير بالمسير، وأعلمهم بما فعل بطسم، قالوا: مَنْ فعلَ هذا أبيت اللعن؟ قال: عبيدهم، قالوا: ما لنا في هذا من أرَبٍ، هم إخواننا فلا نعين بعضنا على بعض، وهم عبيدك أيها الملك فدعهم، فقال حسان: ما هذا بحسن، أرأيتم لوكان هذا فيكم كان حسناً لملككم أن يهدر دماءكم؛ وما علينا في الحكم إلا أننا ننصف بعضنا من بعض.

زرقاء اليمامة

فقام فرسانهم فقالوا: أبيت اللعن الأمر أمرك، فمرنا بما أحببت، فأمرهم بالمسير، فساروا وسار بهم رباح بن مرة حتى إذا صاروا من اليمامة على ثلاث قال رباح بن مرة للملك حسان: أبيت اللعن إن لي أختاً متزوجة في جديس ليس في الأرض أبصر منها، إنها تبصر الراكب على مسيرة ثلاث ليال، وأنا أخاف أن تنذر القوم بك، فتأمر كل واحد من أصحابك أن يقتلع شجرة من الأرض فيجعلها أم أمه ثم يسير، فأمرهم حسان بذلك، ففعلوا ثم ساروا، وكان اسم أخت رباح يمامة بنت مرة فأشرفت من منظرها فقالت: يا جديس، لقد سارت أليكم الشجر، قالوا لها: وما ذاك؟ قالت: أرى أشجاراً تسير ووراءها شيء، وإني لأرى رجلاً من وراء شجرة ينهش كتفاً أو يخصف نعلا، فكذبوها، وكان ذلك كما ذكرت فغفلوا عن أخذ أهبة الحرب، ففي ذلك تقول اليمامة لجديس تحفذهم:

إني أرى شجراً من خلفها بشـر

 

فكَيْفَ تجتمع الأشجار و البشر؟

ثورُوا بأجمعكمْ في وجه أولهـم

 

فإن ذلك منكُمْ فاعلموا ظَـفَـر

وأقبل الملك حسان بحمير، حتى إذا كان من جَؤ على مسيرة ليلة عبأ جيشه ثم صًبَحهَا فاستباح أهلها من جديس قتلاً، فأفناهم وسبى نساءهم وصبيانهم، وهرب الأسود بن غفار ملكها حتى نزل بدار طيىء فأجاروه من الملك وغيره،- من غير أن يعرفوه؛فيذكرأن نسله اليوم في طيىء مذكور.

فلما فرغ حسان من جديس دعا باليمامة بنت مرة، وكانت امرأة زرقاء، فأمر فنزعت عيناها فإذا في داخلها عروق سود، فسألها عن ذلك، فقالت: حجر أسود يقال له الإثمد كنت أكتحل به فنشب إلى بصري وكانت هي أول من أكتحل به، فاتخذوه بعد ذلك كحلاً، وأمر املك باليمامة، فصلبت على باب جو، وقال سموا جواً باليمامة؛فسميت بها إلى اليوم.

مسير وبار بن أميم

قال المسعودي: ثم سار- بعد طسم بن لاوذ- وَبَارُ بن أميم بن لاوذ ابن أرم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه من قومه، فنزل بأرض وَبَارِ بالأرض المعروفة برمل عالج، فأصابهم نقمة من الله فهلكوا لما كان من بغيهم في الأرض، وقد قدمنا فصلا من ذلك فيما سلف من هذا الكتاب على ما زعم الأخباريون من العرب، وخروجهم بذلك عن حد المعقول والمعتاد من الأمر المفهوم، بذعمهم أن اللّه عز وجل حين أهلك هذه الامة العظيمة، المعروفة بوبار، كما أهلك طسماً وجديساً وداسماً، وكانت ديار داسم بأرض السماوة فأهلكُوا بالريح السوداء الحارة، وداسم كانت ديارهم بالجولان وجازر من أرض نوى من بلاد حُورَان والبثنية، وذلك بين دمشق وطبرية من أرض الشام، وعملاق وعاد وثمود، وأن الجن كانت تسكُن في ديار وبار، وحمتها من كل من أرادها وقَصَد إليها من الإِنس، وأنها كانت أخصب بلاد الله عز وجل وأكثرها شجراً وأطيبها ثمراً وعنباً ونخَلاًَ وموزاً، وإن دنا أحد من الناس إلى تلك البلاد غالطاً أو متعمداً حَثَتِ الجن في وجهه التراب، وسفت عليه سَوَافي الرمل، وأثارت عليه الزوابع، فإن أراد الرجوع عنها خبلوه - وتيهوه، وربما قتلوه، وهذا الموضع عند كثير من ذوي الحجا باطل، فإذا قيل لهم: دلونا على جهته، وقِفونَا على حده، زعموا أنها من أرادها ألقى على قلبه الصَرْفة، حتى كأنهم بنو إسرائيل الذين كانوا مع موسى في التيه فصدهم الله تعالى عن الخروج، ولم يجعل لهم سبيلا إلى أن تم فيهم مراده، وانتهى فيهم حكمه، وقد قال في ذلك شاعرهم يخبر بمثل ما وصفنا من قولهم في هذه الأرض المجهولة.

دعا جحفلا لا يهتدي لمقيلـه

 

من اللؤم حتى يهتدي لوبـار

وَدَاع دعا والليل مُرْخٍ سدوله

 

رجاء القرى يامسلم بن جبار

وأقوالهم في مثل هذا كثيرة.

والعرب ممن سلف وخلف في الجاهلية والإسلام يخبرون عن هذه الأرض كإخبارهم عن وداي القُرَى وَالصَّمَان وَالدهنَاء والرمل الذي بيبرين وغيرها من الأرضين التي نزلوا فيها، ويخيمون عليها طلبَاَ للماء والكلأ، وزعموا أنه ليس بهذه الأرض اليوم أحد إلا الجن والإبل الوحشية، وهي عندهم من الإبل التي قد ضربت فيها فحول الجن، فالوحشية من نسل إبل الجن، والعبدية والعسجدية والعمانية قد ضربت فيها الوَحْشِية، وفي ذلك يقول أبو هريم:

كأني عَلَى وَحْشِية أونَـعَـامة

 

لها نسب في الطير وَهْو ظَليم

والأشعار في ذلك كثيرة.

وفي بسطنا لجوامع أخبار العرب فيما نقلته عن أسلافها- مما أمكن كونه وخرج عن حد الوجوب والجواز- خروج عن حد الإيجاز والاختصار، وقد أتينا على ذلك فيما سلف من كتبنا.

مسير عبد ضخم للطائف

وسار بعد وبار بن أميم عبدُ ضجم بن أرم بن نوح بولده ومن تبعه فنزلوا الطائف، فهلك هؤلاء ببعض غوائل الدهر، فدثروا وذكرتهم الشعراء، وفيهم يقول الأزْدِي:

وعبد ضخم إذا نسبتـهـم

 

ابيضَّ أهل الحي بالنسب

ابتدعوا منطقا ًيجمعهـم

 

فبين الخط قحة العرب

بدء الكتابة بالعربية

وذكروا أن هؤلاء أول من كتب بالعربية، ووضع حروف المعجم وهي حروف أب ت ث، وهي التسعة والعشرون حرفاً، وقد قيل غير ذلك، على حسب تنازع الناس في بدء الكتابة.

مسير جرهم إلى مكة

وسار بعد عبد ضجم بن أرم ض هُم بن قحطان بولده ومن تبعه، وطافوا البلاد، حتى أتوا مكة فنزلوها وفي ذلك يقول مُضَاض بن عمرو الجرهمي:

هذا سبيل كسـبـيل يعـرب

 

البادى القول المبين المعـرب

يا قوم سيروا عن فعال الأجنب

 

جرهم جدي وقحطـان أبـي

مسير أميم إلى فارس

وسار أميم بن لاوذ بن أرم بعد جرهم بن قحطان فحل بأرض فارس؛ فالفرس- على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب، في باب تنازع الناس في أنساب فارس- من ولد كيومرث بن أميم بن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح،- وفي ذلك يقول بعض مَنْ تقدم من أهل الحكمة من شعراء فارس في الإسلام:

أبونا أميم الخير من قبـل فـارس

 

وفارس أرباب الملوك؛ بهم فخري

وما عد قوم من حـديث وحـادث

 

من المجد إلا ذِكْرُنَا أفضل الذكـر

أول امرىء بنى البيوت أميم بن لاوذ

وقد ذكر جماعة من أهل السير والأخبار أن جميع من ذكرنا من هذه القبائل كانوا أهل خيم وبدوأ مجتمعين في مساكنهم من الأرض، وأن أميماً أول من ابتنى البنيان، ورفع الحيطان، وقطع الأشجار، وسقف السقوف، واتخذ السطوح، وأن ولد حام بن نوح حلوا ببلاد الجنوب، وأن ولد كوش بن كنعان خاصة هم النوبة، على حسب ما قدمنا آنفاً في باب السودان من هذا الكتاب، وأن فخذا من ولد كنعان بن حام ساروا نحو بلاد إفريقية وطنجة من أرض المغرب، فنزلوها، وزعم هذا القائل أن البربر من ولد كنعان بن حام.

أنساب البربر

وقد تنازع الناس في بدء أنساب البربر، فمنهم من رأى أنهم من غسان وغيرهم من اليمن، وأنهم تفرقوا حول تلك الديار حين تفرق الناس من بلاد مأرب عندما كان من سيل العَرِم ومنهم من رأى أنهم من قيس عيلان، ومنهم من رأى غير ذلك، وقد ذكرناه فيما سلف من كتبنا.

ونزل ولد كنعان بن حام- وهم الأغلب من ولد كنعان- بلاد الشام، فهم الكنعانيون، وبهم تعرف تلك الديار، فقيل: بلاد كنعان.

وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب أخبار مصربن حام وبيصر والأ نباط.

مسير نوفير إلى الهند

وسار نوفير بن فوط بن حام بولده ومن تبعه إلى أرض الهند والسند، وبالسند اُّمم لهم أجسام طوال، وهم على بلاد المنصورة من أرض السند؛ فعلى هذا القول أن الهند والسند من ولد نوفير بن فوط بن حام بن نوح، فولد حام في الجنوب من الأرض الأكثر منهم، وولد يافث في الشمال فيما بين الشرق والمغرب على حسب ما ذكرنا من الأمم وتفرقها في الشرق وغيره مما يلي جبل القبخ والباب والأبواب.

عبادة عاد، وبغيهم

وبَغَتْ عاد في الأرض وملكها الخلجان بن الوهم؛فكانوا يعبدون ثلاثة أصنام، وهي: صمود، وصداء، والهباء، فبعث الله إليهم هوداً على حسِب ما قدمنا، فكذبوه، وهو هود بن عبد اللّه بن رياح بن خالد بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، وقد قدمنا أن قوم عاد كانوا عشرة قبائل، وقد تقدم ذكر أسمائهم، فدعا عليهم هود، فمنعوا المطرثلاث سنين، وأجدبت الأرض فلم يدِرّ عليهم ضَرْعٌ.

أصل الشرك ووفود عاد على مكة

وقد كان من ذكرنا من الأمم لا يجحد الصانع جل وعز، ويعلمون أن نوحاً عليه السلام كان نبياً، وفيّ لقومه بما وعدهم من العذاب، إلا أن القوم دخلت عليهم شُبَه بعد ذلك لتركهم البحث واستعمال النظر، ومالت نفوسهم إلى الدَّعَة، وما تدعو إليه الطبائع من المَلاَذِّ والتقليد، وكان في نفوسهم هيبة الصانع، والتقرب إليه بالتماثيل وعبادتها، لظنهم أنها مقربة لهم إليه، وكانوا مع ذلك يعظمون موضع الكعبة، وكان موضع على ما ذكرنا ربوة حمراء، فوفدت عاد إلى مكة يستسقون لهم، وكان بمكة يومئذ العماليق، فأتى الوفد مكة، فأقبلوا علي الشرب واللهو، حتى غَنتهم الجرادتان قَيْنَتَا معاوية بن بكر بشعر فيه حَث لهم على ما وردوا من أجله، وهو:

ألا يا قَيْل وَيْحَـكَ قـم فَـهَـيْنِـم

 

لعلً الله يمـطـرنـا غـمـامـا

فيســقـــي أرض عـــادٍ،

 

إنَ عادا قَدَ امْسَوْا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نـرجـو

 

به الشيخ الكبير ولا الـغـلامـا

وإن الوحش تـأتـي أرض عـاد

 

فلا تخشى لراميهـم سـهـامـا

وأنتم ههنا فـيمـا اشـتـهـيتـم

 

نهارَكُمُ وليلـكُـمُ الـتـمـامـا

فَقبح وفـدكـم مـن وفـد قـوم

 

ولا لُقُّوا التـحـية والـسـلامـا

ثم إن معاوية بن بكر دعا إحدى الجرادتين فغنت:

ألا يا قَيْلُ من عُوصٍ

 

ومن عاد بن سـام

وعاد كالشـمـاريخ

 

من الطول الكـرام

سقى الله بني عـاد

 

مَعاً صَوْبَ الغمـام

فاستيقظ القوم من غفلتهم، وباثروا إلى الاستسقاء لقومهم؛ فكان من أمرهم في مجيء السحاب واختيارهم لما اختاروه منها ما قد اتضح وفيهم يقول مَرْثد بن سعد من كلمة:

عَصَتْ عاد رسولَهُمُ فأمسوا

 

عِطَاشا لا تَبُلّهم السـمـاء

ألا قَبَحَ الإِلهُ حُلُـومَ عـاد

 

فإن قلوبهم قَفْـرٌ هـواء

لهم صنم يقال له صـمـود

 

يقابله صـداء والـهـبـاء

فبصَرنا النبي سبـيل رشـد

 

فأبصرنا الهدى ونأى العَمَاء

وإني موقن فاستـيقـنـوه

 

بأن إله هود هو الـعـلاء

وأن إله هود هـو إلـهِـي

 

على الله التوكل والرجـاء

وأني لاحق بالأمس هـوداً

 

وإخوته إذا حق المـسـاء

مهلك عاد

فأرسل الله عز وجل على عاد الريح العقيم، فخرجت الريح عليهم من وادٍ لهم، فلما رأوا ذلك قالوا:" هذا عارضٌ ممطرناط وتباشروا بذلك، فلمّا سمع هود ذلك من قولهم قال: " بل هو ما استعجلتم به، ريح فيها عذاب أليم" الاية فأتتَهم الريح يوم الأربعاء، فلم تأت الأربعاء الثانية ومنهم حَيٌّ، فمن أجل ذلك كره الناس يوم الأربعاء.

وقد بينا فيما يرد من هذا الكتاب كيفية ذلك، وكيف وقوعه من أيام الشهر في باب ذكر الشعور، فلما شاهد هود النبي صلى الله عليه وسلم ما نالَ قومه انفرد هو ومن معه من المؤمنين، وفي ذلك يقول الهيل بن الخليل:

لو أن عاداً سَمِعَتْ من هـود

 

واتبدت طـريقة الـرشـيد

وقد أتى بالوعـد والـوعـيد

 

عاداً وبالتقريب والتـبـعـيد

ما أصبحت عاثرة الـجـدود

 

صَرْعَى على الآناف والخدود

ساقطة الأجساد بـالـوصـيد

 

ماذا جنى الوفد من الوفـود

أحـــداثة فـــــــي

 

الأبـــد الأبــــــيد

وقال مهد بن سعد في شعرله:

دعاهم خيفة للَّـه هـود

 

فما نفع النذير ولا أجابوا

فلما أن أبوا إلا عـتـواً

 

أصابهمُ ببغيهم العـذابُ

وقد كان الأخر من ملوكهم الخلجان، وقد تقدم ذكرنا في هذا الباب لملك عاد وثمود وغيرهم، وقيل: إن أول من ملك عادأ من الملوك عاد بن عوص ثلثمائة سنة، ثم ملك ابن عاد بن عوص.

الجحفة

قال: ولما دثرت هذه الأمم من العرب والقبائل خلت منهم الديار فسكنها غيرهم من الناس، فنزل قوم من بني حنيفة اليمامة واستوطنوها وقد كانوا نزلوا بلاد االْجًحْفَة بين مكة والمدينة وقطنوها؛ فقال شاعرهم يدثى من كان في تلك الديار:

إن طَسْماً وجُرْهُماً وجـديسـا

 

والعماليق في السنين الخوالى

عمروا البيت حِقْبَة ثـم ولـئوْا

 

واستمرت بهم صروف الليالي

وأراك الزمان منهم، وأضحى

 

غيرهم ساكنأ بتلك الخوالـى

ورماهم رَيْبُ الزمان فأمسـوا

 

درهم بلقع لَمِـرالـشـمـال

وقد كان نزل بلاد الجحفة بين مكة والمدينة عبيل بن عوص بن أرم بن سام بن نوح هو وولدة ومن تبعه، فهلكوا بالسيل، فسمي ذلك الموف بالْجُحْفة لإجحافها عليهم.

يثرب

وكان يثرب بن قاتية بن مهليل بن أرم بن عبيل نزل بالمدينة هو وولده ومن تبعه فسميت به يثرب، فهلك هؤلاء أيضاً ببعض غوائل الدهر و افاته، فقال شاعرهم:

عَيْنُ جودي على عبيلٍ، وهل ير

 

جع مافات فَـيضُها بالسـجام

عَمرُوا يثرباً وليس بها

 

سَفْر ولا صارخ ولا ذوسَنَام

غرَسوا لِينَها بمجرى معين

 

ثم حـفوا الفَســيلَ يالاجام

وقد أخبر اللهّ جلت قدرته عنه، فقال: " كذبت ثمود وعاد بالقارعة، فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريح صَرصرٍ عاتية".

قوم شعيب

وقد تنازع أهل الشرائع في قوم شعيب بن نويل بن رعويل بن مربن عنقاء بن مَدْين بن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم وكان لسانه العربية: فمنهم من رأى أنهم من العرب الداثرة، والأمم البائدة، وبعض من ذكرنا من الأجيال الخالية، ومنهم من رأى أنهم من ولد المحض بن جندل بن لِعصب بن مدين بن إبراهيم، وأن شعيباً أخوهم في النسب، وقد كانوا عدة ملوك تفرقوا في ممالك متصلة ومنفصلة فمنهم المسمى بأبي جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، وهم على ما ذكرنا بنو المحض بن جنمل.

حروف الجمل

وأحرف الجمل على أسماء هؤلاء الملوك، وهي التسعة والعشرون. حرفاً التي يدور عليها حساب الجمل، وقد قيل في هذه الأحرف غيرما ذكرنا من الوجوه، على حسب ما قدمنا في هذا الكتاب، وليس كتابنا، موضعاً لما قاله الناس فيها، وتنازعوا في تأويلها والمراد بها، وكان أبجد ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكان هوز و حطي ملكين ببلاد وَجّ، وهي أرض الطائف وما اتصل بذلك من أرض نجد، وكلمن وسعفص وقرش ملوكاً بمَدْيَن، وقيل: ببلاد مصر، وكان كلمن على ملك مدين، ومن الناس مَنْ رأى أنه كان ملكاً على جميع من سمينا مشاعاً متصلأ على ما ذكرنا.

عذاب يوم الظلة

وإن عذاب يوم الظُّلة كان في ملك كلمن منهم، وأنَ شعيباً دعاهم فكذبوه، فوعدهم بعذاب يوم الظلة، ففتح عليهم باب من السماء من نار، وانحاز شعيب بمن آمن معه إلى الموضع المعروف بالأيْكَة، نحو مدين، فلما أحس القوم بالبلاء واشتد عليهم الحر وأيقنوا بالهلاك طلبوا شعيبأ ومن آمن معه وقد أظلتهم سحابة بيضاء طيبة النسيم والهواء لا يجدون فيها ألم العذاب، فأخرجوا شعيباً ومن آمن معه من موضعهم وأزالوهم عنِ أماكنهم وتوهموا أن ذلك ينجيهم مما نزل بهم فجعلها اللّه عليهم ناراَ، فأتت عليهم فرثت حارثة بنت كلمن أباها فقال وكانت بالحجاز:

كلـمـن هَــدَّم ركـني

 

هُلْـكـه وَسْـطَ الـمـحـلّـــهْ

سيد القوم أتاه الحَتْفُ

 

ناراً تحت ظُلهْ

كونت ناراً، وأضحت

 

دار قـومـي مـضـمـحـلّــهْ

وفي ذلك يقول المنتصر بن المنذر المديني:

ألا يا شعيب قد نَـطَـقْـتَ مـقـالة

 

أتيت بها عمراً وحَيَّ بني عـمـرو

وهم ملكوا أرض الحجاز و أوجَهَـا

 

كمثل شعاع الشمس في صورة البدر

ملوك بني حُطَي وَسَعْفصَ ذي الندى

 

وهَوَّز َأرباب البَنـية والـحـجـر

وهم قطنوا البيت الحـرام ورتّـبـوا

 

خطوراً وساموا في المكأرم والفخر

ولهؤلاء الملوك أخبار عجيبة من حروب وسير، وكيفية تغلبهم على هذه الممالك وتملكهم عليها، وإبادتهم من كان فيها وعليها قبلهم من الأمم، قد أتينا على ذكرها فيما تقدم من كتبنا في هذا المعنى مما كتابُنَا هذا منبه عليها وباعث على درسها.

حضورا وتنازع الناس في أنسابهم

وأما بنو حضورا وكانت أمة عظيمة ذات بطش وشدة، فغلبت على كثير من الأرض والممالك، وقد تنازع الناس فيهم: فمنهم من ألحقهم بمن ذكرنا من العرب البائدة ممن سمينا، ومنهم من رأى أنهم من ولد يافث بن نوح، وقيل في أنسابهم غير ما ذكرنا من الوجوه، وقد كان اللّه عز وجل بعث إليهم شعيب بن مهدم بن حضورا بن عدي نبياً ناهياً عما كانوا عليه، وهذا غير شعيب بن نويل بن رعويل بن مر بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم الخليل صاحب مدين المتزوج ابنَتَه موسى بن عمران المقدم ذكره، وبينهما مئون من السنين، وقد كان بين موسى بن عمران وبين المسيح ألف نبي، ولما بُعِثَ إلى حضورا، واشتد كفرهم جدَ نبيهم شعيب بن مهدم في دعائهم وخَوَّفهم وتوعدهم، فقتلوه من بعد ظهور معجزات كانت له ودلائل أظهرها اللّه على يديه تدل على صدقة وتثبت حجته على قومه، فلم يضيع الله دمه، ولم يكذب وعيده، فأوحى اللّه تعالى إلى نبي كان في عصره- وهو برخيا بن أخبيا بن زنائيل بن شالتان- وكان من سبط يهوذا بن إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام- أن يأتي بختنصر- وكان بالشام- وقيل: غيره من الملوك، فيأمره أن يغزو العرب الذين لا أغْلاق، لبيوتهم، فلما أتى برخيا ذلك الملك قال له الملك: صدقت، لي سب ليال أومَرُ في نومي بما ذكرت، وأنَادي بمجيئك إلي، وأبشر بخطابك ويُقال لي ما أمرتني به، وأن أنتصر للنبي المقتول الفديد المظلوم فسار إليهم في جنوده وغشي دارهم في عساكره، وصاح بهم صائح من السماء وقد استعدوا لحربه من حيث عَمَّ الصوت جميعهم، وهو يقول:

سَيُغْلَبُ قوم غالبوا اللَّه جـهـرة

 

وإن كايدوه كان أقْوَى وأكـيدا

كذاك يضل الله من كان قلـبـه

 

مريضاً وَمَنْ وَالَى النفاق وألحدا

فلما سمعوا ذلك علموا أن الأمر قد نزل بهم، فانفضت جنودهم وتفرقت جموعهم، وولَّتْ كتائبهم يتراكضون، وأخذهم السيف، فَحُصِدا أجمعين. وقد ذكر أن في قصة هلكهم قال اللّه عز وجل من قائل: " فَما أحَسُّوا بأسنا إذا هم منها يركضون ".

منازل حضورا

وقد تنوزع في ديارهم والموضع الذي كانوا فيه: فمن الناس مم رأى أنهم كانوا بأرض السماوة، وأنها كانت عمائر متصلة ذات جنان ومياه متدفقة، وذلك بين العراق والشام إلى حد الحجاز، وهي الآن ديار خراب براري وقفار، ومنهم من رأى أن ديارهم كانت بلاد جند قنسرين إلى تل ماسح إلى خناصرة إلى بلاد سورية، وهذه المدن في هذا الوقت مضاف إلى أعمال حلب من بلاد قنسرين من أرض الشام.

قال المسعودي: وقد أتينا على جمل من أخبار العرب الماضيه والباقية، وقد كان قبل ظهور الإسلام للباقى منهم مذاهب وآراء في النفوس وتغول الغيلان والهواتف والجن، وسنورد جملاً منها منفرعة على حسب ما يقتضيه شرط الاختصار في هذا الكتاب، وعلى حسب ما نمي إلينا من أخبارهم، واتصل بنا من آثارهم، وذكره الناس من آرائهم، عن الفاني والباقي منه، إن شاء الله تعالى.

ذكر ما ذهب إليه العرب في النفوس والهام والصفر وغير ذلك من مذاهب الجاهلية في النفوس والمرء

الاختلاف في النفس

كانت للعرب مذاهب في الجاهلية في النفوس، وآراء ينازعون في كيفياتها: فمنهم من زعم أن النفس هي الدم لا غير وأن الروح الهواء الذئ في باطن جسم المرء منه نفسه، ولذلك سموا المرأة منه نفَسَاء، لما يخرج منها من الدم، ومن أجل ذلك تنازع فقهاء الأمصار فيما له نَفْسُ سائلة إذا سقط في الماء: هل ينجسه لم لا؛ وقال تأبط شرأ لخاله الشنفرى الأكبر وقد سأله عن قتيل قتله- كيف كانت قصته؛ فقال: ألجمته عضباً فسالت نفسه سكباً، وقالوا: إن الميت لا ينبعث منه الدم ولا يوجد فيه، بدأ في حال الحياة، وطبيعته طبيعة الحياة والنماء مع الحرارة والرطوبة؛لأن كل حي فيه حرارة و رطوبة، فإذا مات بقي اليبس والبرد، ونفيت الحرارة، وقال ابن براق من كلمة:

وكم لاقيت ذا نـجـب شـديد

 

تسيل به النفوس على الصدور

إذا الحرب العوان به استهامت

 

وحال، فذاك يوم قمـطـرير

وطائفة منهم تزعمِ أنه- النفس طائر ينبسط في جسم الإِنسان، فإذا مات أو قتل لم ينزل مطيفاَ به متصوراً إليه في صورة طائر يصرخ على قبره مستوحشاً، وفي ذلك يقول بعض الشعراء وذكر أصحاب الفيل:

سلط الطير و المنون عليهم

 

فلهم في صدَىَ المقابر هَام

لأن هذا الطائر يسمونه الهام، والواحدةِ هامة، وجاء الإسلام وهم على ذلك حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا هَاَمَ ولا صَفَر".

ويزعمون أنَّ هذا الطائر يكون صغيراً، ثم يكبر حتى يصير كضرب من البوم وهي أبداً تتوحش وتَصْدَع، وتوجد أبداً في الديار المعطلة والنواويس، وحيث مصارع القتلى وأجداث الموتى.

ويزعمون أن الهامة لا تزال على ذلك عند ولد الميت في محلته بفنائهم،لتعلم ما يكون بعده فتخبره به، حتى قال الصلت بن أمية لبنيه:

هامِي تخِّبرني بما تستشعروا

 

فتجنبوا الشنعاء والمكروها

وفي ذلك يقول في الإِسلام توبة في ليلى الأخلية:

ولو أن ليلى الأخيلية سَـلّـمـت

 

عليَّ ودوني جنـدل وصـفـائح

سلمت تسليم البـشـاشة، أوزقـا

 

إليها صدى من جانب القبر صائح

وهذا من قولهم يدل على أن الصدَى قد ينزل إلى قبورهم ويصعد ومن ذلك ماروي عن حاتم طيىء مما سنورد خبره في هذا الكتاب.

أتيت لصحبك تبغي القرى

 

لدى حُفر صدحَتْ ه أمه ا

وسنذكر هذا الشعر في أخبار الحجاج بن يوسف مع ليلى الأخيلية من هذا الكتاب، وقد قيل: إن هذه الأبيات لغير توبة في غير ليلى، وهذا كثير في أشعارهم ومنثور كل أمه م وسَجْعهم وخطبهم، وغير ذلك من محاورا تهم.

تنقل الأرواح

وللعرب وغيرهم من أهل الملل ممن سلف وخَلَفَ كلام كثير في تنقل الأرواح وقد أتينا على مبسوط ذلك في كتابنا المترجم بسر الحياة وكتاب الدعاوى وبالله التوفيق.

ذكر أقاويل العرب في الغيلان والتغول وما لحق بهذا الباب

رأيهم في الغول

للعرب في الغيلان وتغولها أخبار طريفة. العرب يزعمون أن الغول يتغول لهم فيِ الخلوات، ويظهر لخواصهم في أنواع من الصور، فيخاطبونها، وربما ضيَّفوها، وقد أكثروا من ذلك في أشعارهم: فمنها قول تأبط شرأ:

وأدهم قد جُبْت جلـبـابـه

 

كما آجتابت الكاعب الخيعلا

على إثر نارٍ يَنُـور بـهـا

 

فبتُّ لها مدبِرا ًمـقـبـلا

فأصبحْتُ والغول لي جارة

 

فياجارتي أنت مـا أهْـوَل

وطالبتها بُضَعهَا فالـتـوت

 

بوجه تغول فاسـتـغـولا

فمن كان يسأل عن جَارتـي

 

فإن لها باللِّـوَى مـنـزلا

ويزعمون أن رجليها رجلا عنز، وكانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي يرتجزون ويقولون:

يارجل عنز آنْهَقِي نـيقـا

 

لن نترك السبسب والطريقا

الغول تتلون وتضلل

وذلك أنها كانت تتراءى لهم في الليالي وأوقات الخلوات، فيتوهمون أنها إنسان فيتبعونها، فتزيلهم عن الطريق التي هم عليها، وتتيههم. وكان ذلك قد اشتهر عندهم وعرفوه، فلم يكونوا يزولون عما كانوا عليه من القَصْد فإذا صيح بها على ما وصفنا شردت عنهم في بطون الأودية ورؤوس الجبال.

وقد ذكر جماعة من الصحابة ذلك: منهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه أنه شاهد ذلك في بعض أسفاره إلى الشام، وأن الغول كانت تتغول له، وأنه ضر بها بسيفه، وذلك قبل ظهور الإسلام، وهذا مشهور عندهم في أخبارهم.

رأي الفلاسفة

وقد حكي عن بعض المتفلسفين أن الغول حيوان شاذ من جنس الحيوان مُشَوّهً لم تحكمه الطبيعة، وأنه لما خرج منفرداً في نفسه وهيئته توحَش من مسكنه، فطلب القفار، وهو يناسب الإِنسان والحيوان البهيمي في الشكل، وقد ذهبت طائفة من الهند إلى أن ذلك إنما يظهر من فعل ما كان غائباً من الكواكب عند طلوعها، مثل الكوكب المعروف بكلب الجبار، وهي: الشَعْرَى االْعَبُور، وأن ذلك يحدث داء في الكلاب، وسهيل في الحمل والذئب في الدب وحامل رأس الغول يحدث عند طلوعه تماثيل وأشخاص تظهر في الصحاري، وغيرها من العامر والخرائب، فتسمية عوام الناس غولاً، وهي ثمانية وأربعون كوكباً، وقد ذكرها بطليموس وغيره ممن تقدم وتأخر، وقد وصف ذلك أبو معشر في كتابه المعروف بالمدخل الكبير إلى علم النجوم وذكر كيفية صورة كل كوكب عند ظهوره في أنواع مختلفة.

وزعمت طائفة من الناس أن الغول اسم لكل شيء يعرض للسُّفَار، ويتمثل في ضروب من الصور، ذكراً كان أو أنثى، إلا أن اكثر هم كل أمه م على أنه أنثى، وقد قال أبو المطراب، عبيد بن أيوب العنبري:

وحالفني الوحوش على الوفاء

 

وتحت عهودهن وَبَا البعـاد

وغولا قفرة ذكراً وأنـثـى

 

كأن عليهما قطع النـجـاد

وقال آخر وهو كعب بن زهير الصحابي:

فما تَحُومُ على حال تكون بها

 

كما تَلًؤنُ في أثوابها الغولُ

وقد قدمنا ذكر ذلك فيما سلف من كتبنا في هذا المعنى، وأن كل كوكب من هذه يظهر في صورة مخالفة لما تقدمه من الصور يحدث في هذا العالم نوعاً من الأفعال لم ينفرد يفعله غيره من الكواكب.

وكانت العرب قبل الإسلام تزعم أن الغيلان توقد بالليل النيران للعبث والتخيل، واختلال السا بلة، قال أبو المطراب:

فللَّه در الـغـول، أي رفـيقةٍ

 

لصاحب قفر حالف وهو معبر

أرنَتْ بلحن بعد لحن وَأوقـدت

 

حواليً نيرانا تلوح وتـزهـر

قولهم في السعلاة

وقد فرقوا بين السِّعْلاَة والغول، قال عبيد بن أيوب:

وساخرة مني، ولـو أن عـينـهـا

 

رأت مارأت عيني من الهول جُنَت

أبيت بسعـلاة وغـول بـقـفـرة

 

إذا الليل وارى الجَنّ فـيه أرَنَّـت

ِ وقد وصفها بعضهم، فقال:

وَحافِرُ العنز في سَاقٍ مدَمْلَـجة

 

وَجفن عين خِلاف الإنس بِالطول

قولهم في الشياطين ونحوهم

وللناس كلام كثير في- الغيلان، والشياطين، والمردة، والجن، والقطرب، والغدار، وهو نوع من الأنواع المتشيطنة، يعرف بهذا الاسم، يظهر في أكناف اليمن والتهائم، وأعالي صعيد مصر، وأنه ربما يلحق الإنسان فينكحه فيتدود دبره فيموت،وربما يتوارى للإنسان فيذعره، فإذا أصاب الإنسان ذلك منه يقول له أهل تلك النواحي التي سمّينا: أمنكوح هو أم مذعور؟ فإن قالوا منكوح يُئسَ منه، وإن كان مذعوراً أسكن روعه، وشجع مما ناله، وذلك أن الإنسان إذا عَايَنَ ذلك سقط مغشياً عليه، ومنهم من يظهر له ذلك فلا يكترث به لشهامة قلبه، وشجاعة نفسه، وما ذكرنا مشهور في البلاد التي سمينا، ويمكن جميعُ ما قلنا مما حكيناه عما ذكرنا من أهل هذه البقاع أن يكون ضرباً من السوانح الفاسدة والخوأطر الرديئة، أو غير ذلك من الآفات والأدواء المعترضة لجنس الحيوان من الناطقين وغيرهم، والله أعلم بكيفية ذلك.

ولم نذكر في هذا الكتاب ما ذكره أهل الشرائع، وما ذكره أهل التواريخ والمصنفون لكتب البدو، كوهب بن منبه، وابن إسحاق، وغيرهما أن الله تعالى خلق الجان من نار السموم، وخلق منه زوجته، كما خلق حواء من آدم وأن بيضة من تلك البيض تفلقت عن قطربة، وهي: أم القطارب،وأن القطربة على صورة الهرة، وأن الأبالس من بيضة أخرى منهم الحارث أبو مرة، وأن مسكنهم البحور، وأن االْمَردة من بيضة أخري مسكنهم الجزائر، وأن الغيلان من بيضة أخري، مسكنهم الخلوات والفلوات، وأن السعالي من بيضة أخري، سكنوا الحمامات والمزابل، وأن الهوام من بيضة أخري، سكنوا الهواء في صورة الحيات ذوات أجنحة يطيرون هنالك، وأن من بيضة أخرى الدواسق، وأن من بيضة أخرى الحماميص- لأنا قد ذكرنا ذلك فيما سلف من كتبنا، وتقدم من تصنيفنا، وأتينا على ذكر ما تشعب من أنسابهم والمشهور من أسمائهم ومساكنهم من الأرض والبحار، وإن كان ما ذكره أهل الشرع مما وصفنا ممكناً غير ممتنع ولا واجب، وإن كان أهل النظر والبحث والمستعملون لقضية العقل أو الفحص يمتنعون مما ذكرناه، ويأبون ما وصفنا، والمصنف حاصِبُ ليل، فأوردنا ما أقاله الناس من أهل الشرائع وغيرهم؛ إذ كان الواجب على كل في تصنيف أن يورد جميع ما قاله أهل الفرق في معنى ما ذكرناه، وأتينا أيضاً على سائر ما خبرنا من الأشخاص التي هي غير مرئية من الجن والشياطين وما قالوه في سلوك الجن في الناس في كتابنا المترجم بكتاب المقالات، في أصول الديانات بالله التوفيق.

ذكر قول العرب في الهواتف والجان

قال المسعودي: فأما الهواتف فقد كانت كثرت في العرب، واتصلت بديارهم، وكان كثرها أيام مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أولية مبعثه، ومن حكم الهواتف أن تهتف بصوت مسموع وجسم غير مرئي.

قولهم في الهواتف والجان

قال المسعودي: وقد تنازع الناس في الهواتف والجان: فذكر فريق منهم أن ما تذكره العرب وتُنْبىء به من ذلك إنما يعرض لها من قبل التوحد في القفار، والتفرد في الأودية، والسلوك في المهامة والمَرَوْرَاة الموحِشة؛ لأن الإنسان إذا صار في مثل هذه الأماكن وتوحًد تفكر، وإذا هو تفكر وجِلَ وَجَبُنَ، وإذا هو جبن داخلته الظنون الكاذبة، والأوهام المؤذية، والسوداوية الفاسدة، فصورت الأصوات، ومثلت له الأشخاص، وأوهمته المحال، بنحو ما يعرض لنوي الوسواس، وقُطْبُ ذلك وأسُه سوء التفغير، وخروجه على غير نظام قوي، أو طريق مستقيم سليم؛ لأن المتفرد في القفار والمتوحد في المَرَوْرَاة مستشعر للمخاوف، متوهم للمتالف، متوقع للحُتُوف ؛ لقوة الظنون الفاسدة على فكره، وانغراسها في نفسه، فيتوهم ما يحكيه من هَتْف الهواتف به واعتراض الجان له.

بين شق وعلقمة بن صفوان

وقد كانت العرب قبل ظهور الإسلام تقول: إن من الجن مَنْ هو على صورة نصف الإنسان، وأنه كان يظهر لها في أسفارها وحين خلواتها وتسمية شِقاً.

وذكروا عن علقمة بن صفوان بن أمية بن محرب الكناني جد مروان بن الحكم ل أمه أنه خرج في بعض الليالي يريد مالاً له بمكة، فانتهى إلى الموضع المعروف إلى هذا الوقت بحائط حرمان؛ فإذا هو بشق قد ظهر له في أوصاف ذكرها فقال شق:

علقم إني مـقـتـول

 

وإن لحمي مأكـول

أضربهم بالمسـلـول

 

ضَرْبَ غلام مشمول

رَحْب ِالزراع بهلول

 

 

فقال علقمة:

شِق، مالـي ولـك

 

اغمد عني مُنْصُلَكْ

تقتل من لا يقتلك؟

 

 

فقال شق:

عَلْقَم، غـنـيت لـك

 

كيما أبيح معقـلـك

فاصبر لما قد حم لك

 

 

فضرب كل منهما صاحبه، فخرا ميتين، وهذا مشهور عندهم، وأن علقمة بن صفوان قتلته الجن.

الجن تقتل حرب بن أمية

وذكروا عن الجن بيتين من الشعر قالتهما في حرب بن أمية حين قتلته الجن وهما:

وقبر بـمـكـان قـفـر

 

وليس قرب قبر حرب قبر

واستدلوا على أن هذا الشعر من قول الجن بأن أحداً من الناس لا يتأتى له أن ينشد هذين البيتين ثلاث مرات متواليات لا يتتعتع في إنشادهما؛ لأن الإنسان قد ينشد العشرين بيتاً والأكثر والأقل أشد من هذا الشعر وأثقل منه ولا يتتعتع فيه.

ممن قتلته الجن

وممن قتلته الجن مرداس بن أبي عامر السُّلَمي، وهو أبو عباس بن مرداس السُّلَمي، ومنهم الغريض المغني، بعد أن ظهر غناؤه وحمل عنه، وقد كانت الجن نهته أن يغني بأبيات من الشعر، فغناها فقتلته.

قبر حاتم طي يقري الضيف

وحدث يحيى بن عقاب، عن علي بن حرب، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عن منصور بن يزيد الطائي ثم الصامتي قال: رأيت قبر حاتم طي ببقة، وهو أعلى جبل له واد يُقال له الخابل، وإذا قدْرٌ عظيمة من بقايا قدور حجر مكفأة في ناحية من القبر من القدور التي كان يطعم فيها الناس، وعن يمين قبره أربعِ جوار من حجارة، وعلى يساره أربع جوار من حجارة، كلهن صاحبة شعْر منشور محتجرات على قبره كالنائحات عليه، لم ير مثل بياض أجس أمه ن وجمال وجوهن، مَثَّلهن الجن على قبره، ولم يكنَ قبل ذلك، والجواري بالنهار كما وصفنا، فإذا هدأت العيون أرتفعت أصوات الجن بالنياحة عليه، ونحن في منازلنا نسمع ذلك، إلى أن يطلع الفجر فإذا طلع الفجر سكتن وهدأن، وربما مر المار فيراهن فيفتتن بهن فيميل إليهن عجباً بهنَ؛فإذا دنا منهن وجدهن حجارة.
وحدث يحيى بن عقاب الجوهري قال: حدثنا علي قال: أنبأني عبد الرحمن بن يحيى المنذري، عن أبي المنزر هشام الكلبي، قال: حدثنا أبو مسكين بن جعفر بن محرز بن الوليد، عن أبيه، وكان مولى لأبي هريرة قال: سمعت محمد بن أبي هريرة يحدث قال: كان رجل يكنى أبا البختري مر في نفر من قومه بقبر حاتم طييء، فنزلوا قريباً منه، فبات أبوٍ البختري يناديه: يا أبا الجعد، أقرنا، فقال قومه له: مهلاً ما تكلم رمة بالية؟ قال: إن طيئاً تزعم أنه لم ينزل به أحد قط إلا قَرَاه، وناموا، فلما أن كان في آخر الليل قام أبو البختري مذعوراً فزعاً ينادي: وراحلتاه، فقال له أصحابه: ما بدا لك؟ قال: خرج حاتم من قبره بالسيف، وأنا أنظر، حتى عقر ناقتي، قالوا له: كذبت، ثم نظروا إلى ناقته بين نوقهم مُجَدَّلة لا تنبعث، فقالوا له: قَدْ والله قَرَاك، فظلوا يكلون من لحمها شواء وطبيخاً حتى أصبحوا، ثم أردفوه، وانطلقوا سائرين، فإذا راكب بعيرٍ يعود آخر قد لحقهم فقال: آيكم أبو البختري؛ فقال أبو البختري: أنا ذلك، قال: أنا عدي بن حاتم، وإن حاتماً جاءني الليلة في النوم ونحن نزول وراء هذا الجبل، فذكر شَتْمك إياه، وأنه قَرَى أصحابك براحلتك، وأنشدني يقول في شعره:

أبا البختري، لأنـت امـرؤ

 

ظلومُ العشيرة شَت أمـه

ا أتَيْتَ بصحبك تبغي القِرَى

 

لدى حفرة صدحَتْ ه أمه ا

أتبغى ليَ الذم عند المبـيت

 

وحَوْلكَ طي وأنع أمـه ا؟

فإنا سنشبـع أضـيافـنـا

 

ونأتي فـنـعـت أمـه ا

وقد أمرني أن أحملك على بعير مكان راحلتك، فدونك.

وقد ذكر هذا سالم بن زرارة الغطفاني في مدحه عدي بن حاتم حيث يقول:-

أبوك أبوسَفَـانَة الـخـير لـم يزل

 

لحن شَبَّ حتى مات في الخير رغبا

به تضرب الأمثال في الشعر ميتـا

 

وكان لَهُ إذ ذاك حيا مصـاحـبـا

قَرَى قبره الأضياف إذ نزلـوا بـه

 

ولم يقر قبر قبله الدَّهْـر َراكـب

وحدث أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاز السجستاني، عن أبي عبيدة مَعْمر بن المثنى، قال: سمعت شيخاًه العرب قد أناف على المائة يقول: إنه خرج وافداً على بعض ملوك بئ أمية، قال: فسرت في ليلة صِهَاكية حالكة كأن السماء قد برقعت نجومها بطرائق السحاب، وضللت الطريق، فتولجت واديأ لا أعرفه فأهمتني نفسي بطرحها حتى الصباح فلم آمن عزيف الجن، فقلت: أعوز برب هذا الوادي من شره، وأستجيره في طريقي هذا، وأسترشده، فسمعت قائلاً يقول من بطن الوادي:

تيامن تجاهك تلق الْكَلا

 

تسير وتأمن في المسلك

قال: فتوجهت حيث أشار إلي وقد أمنت بعض الأمن فإذا أنا بأقباس نار تلمع أمامي في خللها كالوجوه على قامات كالنخيل السحيقة، فسرر وأصبحت بأوشال- وهو ماء لكلب- بقرب برية دمشق.

وقد ذكر اللّه عز وجل ذلك من فعلهم في كتابه فقال: " وَانَهُ كَان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزاثوهم رَهَقا".

ذكر ما ذهبت إليه العرب من القيَافة والزجر والعيافة والسانح والبارح وغير ذلك

الخلاف في القيافة وجوازها

تنازع الناس في العيافة والقيافة وغيرها مما ذكر: فذهبت طائفة إلى تحقيق القيافة والأخذ بها؛لأن الأشباه تنزع، وغير جائز أن يكون الولد غير مشبه لأبيه، أو أحد من أهله من جهة من الجهات، ومنهم من ذهب إلى أن في الولد مواضع تلحقها القيافة دون غيرها من الأعضاء مما لم يحلها الشبه، ولا توافق بينهما بحد مشترك، وأبى آخرون ما وصفنا؛إذ كان الناس قد يتشابهون في حد الإِنسانية وغير ذلك من الحدود، ويفترقون في غيرها من الصور، وليس وجود الأغلب من الأشباه مما يوجب إلحاق الشبه بشبهه، دون أن يخالف من حيث أوجبت قضية العقل الاختلاف بالتباين.

اختصاص العرب بذلك

وهذه المعاني من خواص ما للعرب، وما تفردت به، دون سائر الأمم في الأغلب منها، وإن كانت الكهانة قد وجدت في غيرها، فإن القيافة والزجر والتفاؤل والتطير ليس لغيرها في الأغلب من الأمور، وليس هو موجودأ في سائر العرب، وإنما هو للخاص منها الفطن والمتدرب الطنِنِ، وإن وجد ذلك في بعض الأمم، كوجود ذلك في الإفرنجة، وما جانسها ممن هنالك من الأمم، فيمكن أن يكون ذلك موروثاً عن العرب، ومأخوذاً منها في سالف الدهر، لأن العرب قد تنقلت في البلاد، وتغيرت لغاتها، فنسب ذلك إلى الجنس الذي قطنت بينهم العرب، ويمكن أن تكون الإفرنجة، ومن وجد فيها ذلك من الأمم، وأخذوه بعد ظهور الإسلام عمن جاورهم من أمم العرب، ممن سكن بلاد الأندلس من الأرض الكبيرة، وإن كان ذلك قبل ظهور الإِسلام فهو ما ذكرنا آنفاً، ويمكن أن يكون الله عز وجل خص بذلك أمما غير العرب كما خص العرب به؛إذ كان ذلك داخلاً في الإمكان، خارجَاَ من باب الممتنع والواجب، فيكون الزجر والفأل شاملاً لبعض العرب وغيرها من خواص الأمم كوجود النقد للبربر، والنظر في الكتف، وغير ذلك مما خص به كل جنس من الناس.

منشأ القيافة

وقد ذهبت طائفة ممن سلف، من أهل البحث والتنقير إلى أن القيافة: اسم مشتق من القَفْوِ، وهو معنى استدلاليٌّ، وأصل ذلك: أن الأشكال انفصلت في صورة أنسابها بأشياء تخص الأنواع بالتشكيل وخواصم وجدت لما به ضربت الفواصل إضرابها في وحيدات الأشخاص، وكان التناسل على وساعة وقدر من الغير لما توجبه الطبيعة من اتفاق كل شيء في حوزته، وصرفه إلى وجهه، كما خصت الطبيعة كل نوع من الجنس بفصل أبانته من أغياره، وفرقت بينه وبين أشكاله، فكذلك أيضاً خصت أوحد الأشخاص المنفصلة في الهيئة، بتغير الغير من أغياره. وكذلك لا تكاد فنون الصور تتراءى في المرائي لغير من أغياره،وكذلك لا تكاد وإن ضمها النوع وشملتها المادة فالقائف يقارب بين الهيات، فيحكم للأقرب صورة لأن تشبيه النسل أقرب من تشبيه النوع. وكذلك تشبيه الشخص إلى النوع أقرب منه إلى الجنس،لأن النوع والشخص ضمهما حدان مشتركان وإنما ضم الجنس واحد فهو أصل القيافة عند هذه الطائفة، وهو ضرب من ضروب البحث، وإلحاق النظير في الأغلب بنظيره، ومن حيث تساويهما من حيث ذكرنا في قضية العقل، وهو القياس بعينه، وليس هذا الاستدلال من كلام أحد من فقهاء القائسين ولا غيرهم من المسلمين، وإنما هذا الكلام انتزعناه من كلام طائفة من الفلاسفة المتقدمين؛فيجب أن يكون نظر القائف على قول هذه الطائفة إلى القَدَم؛ لأنها نهاية الشكل وغاية الهيئة، والولد لو خالف صورة أبيه في كنه أفعاله، و باينه في سائر شكله في الأغلب يوافقه في القدَمَ؛ لأن النسل لا بد له من تخصيص قوته بشيء يميزه عن غيره ويُبينه من سواه، ولذلك وجدوا الطول في أزدشَنُوأة، ولذلك صار الجفاء والغلظ في الروم، وأصحاب الأجبال، والأكثر من أهل الشام وأوباش مصر، واللؤم في الخزر وأهل حران من بلاد ديار بكر، والشح بفارس، واللؤم على الطعام بأصفهان، وصار تفرطح الرجلين وفَطَس ! الأنوف في السودان، والطرب في الزنج خاصة.

وهذا الذي وصفنا عند هذه الطائفة من أسرار الطبيعة، وخواص تأثير الأشخاص العلوية، والأجسام السماوية، وقد تقصينا هذا الشأن على كماله في كتابنا في الأسرار الطبيعية وخواص تأثير الأشخاص العلوية والغرائب الفلسفية في كتابنا في الرؤوس السبعية في أنواع السياسات المدنية وملكها الطبيعية وفي كتاب الاسترجاع في الكرم على من زعم أن العالم متغير جوهره إلى الظلمة، وأن النور فيه غريب مختار، وأن ستة أنفس كانوا نورأ بلا أجساد: شيث بن أدم وزرادشت، والمسيح، ويونس، واثنان لا يمكن ذكرهما، وأن النور والظلمة قديمان، وأنهما لا يُرَيَانِ إلا غير ممتزجين وأن الأشياء لا تعمل إلا في جوهرهما ثم امتزجا من تلقاء أنفسهما، من غير داخل عليهما ولا مكره أكرههما، وهذا الخلف من الكلام والفاسد من المقال، وأعجب من هذا القول قول زردشت نبي المجوس: أن القديم تعالى ذكره طالت وَحْدَته فطالت فكرته، فلما أن طالت فكرته، واشتدت وَحْشَته، توالد الهَئُم منه، وهو الشيطان، من تلك الوحشة التي ولدتها تلك الفكرة، ونتجتها الوحدة، وأن الله عز وجل لو كان قادراً على إفناء ألهم منه لما ضرب له أجلا، ولا أخلَ له أمراً يغوي عبادة، ويفسد بلاده. وهذا هو المُحَال بعينه، والتناقض بنفسه، وعجب آخر من الأراء من قول بولص: إن المسيح عليه السلام هو الذي أرسله، وإن المسيح إنسان وإله؛ لأنه إله صار إنساناً، إنسان صار إلهاً، وقد أتينا على جمل من متناقضات أهل الآراء، في أثناء ما تقدم من كتبنا، وإنما تشعب بت الكلام إلى هذا النوع، وتغلغل بنا القول إلى هذا المعنى، لأنه من جنس ما كنا فيه، لكن عند ذكرنا لما أودعناه كتاب الاسترجاع والإبانة عن غرض فيه.

الزجر

فلنرجع الآن إلى ما كنا فيه من هذا الكتاب: وحدث المنقري عن العتبي، قال: وقف عبَيدْ الراعي ذات يوم مع ركب بفَيْفَاء قَفْر، وكانوا يريدون استقصاد رجل من تميم؛ إذ سنحت ظباء سود منكرة، ثم اعترضت الركب مقصرة في حُضْرِها، واقفة على شأنها، فأنكر ذلك عُبَيدْ الراعي، ولم ينتبه له أصحابه، فقال عبيد:

ألم تدرِ ما قال الظباء السـوانـح؟

 

أطَفْنَ أمام الركب والركب رائح؟

فكر الذي لم يعرف الزًجْر َمنهـمُ

 

وأيقن قلـبـي أنـهـن نـوائح

ثم شارفوا مقصدهم، فألْفَوُا الرئيس قد نهشته أفعى، فأتت عليه.

قال أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى: وهذا من غريب الزجر، وذلك أن السانح مَرْجُو عند العرب، والبارح: هو المخوف ، وأظن عُبَيْداً إنما زجر الظباء في حالة رجوعها، ووصف الحال الأول في شعره، كما أن من شرط الواصف أن يبدأ بهوادي الأسباب فيوضح عنها، فهذا وجه زجر عبيد الراعي في شعره.

اختصاص بعض العرب ببعض هذه الأمور

ويُقال: إن الكهانة لليمن، والزجر لبني أسد، والقيافة لبني مُدْلج وأحياء مضر بن نزار بن مَعَدّ، لما كان من فعل بني نزار الأربعة في مسيرهم نحو الأفعى الجرهمي، ووصفهم الجمل الشارد، على ما ذكرنا، أو ذلك منهم قيافة؛فمن هنالك تفرقت القيافة من أحياء مضر على حسب ما تغلغل في العروق ونزع، وأهل المياه أكْهَنُ، وأهل البر الفائح أقْوَفُ، وبأرض الجفار- وهي بلاد الرمل بين بلاد مصر وأرض الشام- أناس من العرب في تلك الجفار يتناول الإِنسان من تمر نخلهم فيغيب عنهم السنين ولم يروه ولا شاهدوه، فإن رأوه بعد مدة علموا أنه الآخذ لتمرهم، ولا يكادون يخطئون وهذا من فعلهم مشهور، ولا يكاد تخفى عليهم أقدام أي الناس هم.

ورأيت بهذه الأرض أناسا قد رتَّبهم وُلاة المنازل يطوفون في هذا الرمل، يُعرفون بالقُصَاص، يقصون آثار الناس وغيرهم، فيخبرون ولاة المنازل أي الناس هم ممن طرق تلك البلاد، وهم لم يروهم، بل رأوا اثر أقد أمه م، وهذا معنى لطيف وحس دقيق.

القيافة

وقد قَفَتْ القَافَةُ بقريش حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار، حتى أتت باب الغار على حجر صلد وصخر صم وجبال لا رمل عليها ولا طين ولا تراب تتبين عليه الأقدام، فحجبهم اللّه تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم بما كان من نَسْج العنكبوت، وما سَفَتْ عليه الرياح، وما لحق القائف من الحيرة، وقوله: إلى هنا انتهت الأقدام، ومعه الجماعة من قريش، لا يرون على الصلد ما يرى ولا على الضَفْوَان ما يشاهد، وأبصارهم سليمة، والآفات عنها مرتفعة، والموانع زائلة، ولولا أن هنالك لطيفة لا يتساوى الناس في علمها، ولا يتفقون بالأبصار إحصاء إدراكها، لَمَا استأثر بذلك طائفة دون أخرى، وأهل الجبال والقفار والدِّهَاس أزْجَرُ وأعرف.

القيافة عند أهل الشرع

وقد ذهب قوم من أهل الشريعة، من فقهاء الأمصار وغيرهم ممن سلف، إلى الحكم بالقيافة؛ استدلالاً على شرف القيافة، وعظم خطرها وكبر محلها، وتحقيق فضلها؛لتعجب النبي صلى الله عليه وسلم منها، وتصديقه مُحْرِز المدْلجي.

وقد أنكر جماعة من فقهاء الأمصار، ممن سلف وخلف، الحكم بالقيافة، والدليل على فساد الحكم بها إلحاق النبي صلى الله عليه وسلم الوَلَدَ بأبيه حين شك فيه لعدم التشابه، فقال: يا رسول اللّه، إن امرأتي وضعت غلاماً وإنه لأسود فقال النبي صلى الله عليه وسلم مقرباً إلى فهمه وقصداً منه لفساد علته التي قصدها وشك من أجلها في ولده فهل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حُمْر، قال: فهل فيها من أوَرْق؟ قال: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن أين ذلك؟ لعل عرقا نزع "ا وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة شريك بن سَحْماء لا إن جاءت به على النعت المكروه، فهو للذي رميت به لما فلما جاءت به على النعت المكروه وَجَدَ التشابه بينه وبين من رميت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا حكم اللّه لكان لي ولك شأن " فألحق الولد مع عدم الشبه هنالك، ولم يلحق بالشبه ههنا، ولم يجعله حكماً، وقضى بوجود الفراش وثبوت النص على فساد الحكم بالتشابه.
وهذا باب قَصَدْنَا فيه هذا الكلام، وإنما ذكرنا هذا الفصل لنذكر الحكم بضده من القيافة، وهذا باب يطول فيه الخطب، ويكثر في معانيه الشرح؛لغموضه ولُطْفه، وقد ذكرنا وجه الكلام في ذلك وما ذهبت إليه كل فرقة من الناس ممن سلف وخلف في كتابنا المترجم بكتاب الرؤوس السبعة في الإحاطة بسياسة العالم وأسراره وهو كتاب مشهور مستوعب.

ذكر الكهانة وما قيل في ذلك وما اتصل بهذا الباب مما يراه الناس وحدّ النفس الناطقة

أصل ادعاء علم الغيب

تنازع الناس في الكَهَانة: فذهبت طائفة من حكماء اليونانيين والروم إلى التكهن، وكانوا يدعون العلوم من الغيوب، فادعى صنف منهم أن نفوسهم قد صَفَتْ فهي مطلعة على أسرار الطبيعة، وعلى ما تريد أن يكون منها؛لأن صور الأشياء عندهم في النفس الكلية، وصنف منهم ادعى أن الأرواح المنفردة- وهي الجن- تخبرهم بالأشياء قبل كونها، وأن أرواحهم كانت قد صَفَت، حتى صارت لتلك الأرواح من الجن متفقة.

وذهب قوم من النصارى أن السيد المسيح إنما كان يعلم الغائبات من الأمور، ويخبر عن الأشياء قبل كونها؛ لأنه كانت فيه نفس عالمة بالغيب، ولم كانت تلك النفس في غيره من أشخاص الناطقين لكان يعلم الغيب، ولا أمة خلت إلا وقد كان فيها كَهَانة، ولم يكن الأوائل من الفلاسفة إليونانية يدفعون الكهانات، وشُهِرَ فيهم أن فيثاغورس كان يعلم علومأ من الغيب وضروباً من الوحي؛لصفاء نفسه وتجردها من أدران هذا العالم، والصابئة تذهب إلى أن أوريايس الأول وأوريايس الثاني- وهما: هُرمس!، وأغاثيمون- كانوا يعلمون الغيب، ولذلك كانوا أنبياء عند الصابئة، ومنعوا أن تكون الجن أخبرت مَنْ ذكرنا بشيء من ضروب الغيب، لكن صفت نفوسهم حتى اطلعوا على ما استتر عن غيرهم من جنسهم.

وطائفة ذهبت إلى أن التكهن سبب نفساني لطيف يتولد من صفاء مزاج الطباع، وقوة النفس،. ولطافة الحس.

وذكر كثير من الناس أن الكهانة تكون من قبل شيطان يكون مع الكاهن يخبره بما غاب عنه، وأن الشياطين كانت تسترق السمع وتلقيه على ألسنة الكهان فيؤدون إلى الناسَ الأخبار، بحسب ما يرد إليهم، وقد أخبر اللّه عز وجل بذلك في كتابه فقال: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حَرَساً شديداً وشبها " و إلى آخر القصة، وقوله تعالى: "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا" وقوله تعالى: "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم" الآية والشياطين والجن لا تعلم الغيب، وإنما ذلك لاستراقها السمع مما تسمع من الملائكة بظاهر قوله عز وجل: "فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين".

وطائفة ذهبت إلى أن وجه سبب الكهانة من الوحي الفلكى، وأن ذلك يكون في المولد عند ثبوت عطارد على شرفه، وأما ما عداه من الكواكب المدبَرَات من النيرين والخمسة إذا كانت في عقد متساوية وأرباع. متكافئة ومناظر متوازية وجب لصاحب المولد التكهن والإِخبار بالكائنات قبل حدوثها؛ لإِشراق هذه الأشراق الكوكبية، ومن هؤلاء من أوجب كون ذلك في القرانات الكبار.

وذهب كثير ممن تقدم وتأخِّر أن علة ذلك علل نفسانية، وأن النفس إذا قويت وزادت قهرت الطبيعة، وأبانت للإنسان كل سر لطيف، وخبرته بكل معنى شريف، وغاصت بلطافتها في انتخاب المعاني اللطيفة البديعة فاقتنصتها وأبرزتها على الكمال، وكشفت هذه الطائفة وجه اعتلالها فيما ذكرنا؛ فإنهم قالوا: رأينا الإنسان ينسب إلى قسمين، وهما النفس والجسد، ووجدنا الجسد مَوَاتا لا حركة له ولا حس إلا بالنفس، وكان الميت لا يعلم شيئاً ولا يؤذَيه؛ فوجب أن يكون العلم للنفس، والنفوس طبقات: منها الصافي وهي النفس الناطقة، ومنها الكدِرُ، وهي النفس الحسية والنفس النزاعية والنفس المتخيلة، ومنها ما قوته في الإنسان أزيد من قوة الجسم، ومنها ما قوة الجسم أزيد منه، فلما كانت النسبة النورية للإنسان إلى النفس كانت تهدي الإنسان إلى استخراج الغيب وعلم الآتي، وكانت فطنته وظنونه أبعث وأعم؛فإذا كانت النفس في غاية البرور ونهاية الخلوص وكانت تامة النور وكاملة الشعاع كان تولجها في دراية الغائب بحسب ما عليه نفوس الكهنة، وبهذا وجد الكهان على هذه السبيل من نقصا في الأجسام وتشويه الخلق، كما اتصل بنا عن شق وسطيح وسملقة وزوبعة وسديف بن هوماس وطريفة الكاهنة وعمران أخى مُزَيقياء وحارثة وجهينة وكاهنُة باهِلَهَ وأشباهه من الكهان.

العرافة وبعض العرافين

وأما العراف- وهو دون الكاهن- فمثل الأبلق الأزْدِي، والأجْلَح الدهري، وعروة بن زيد الأزْدِي،ورباح بن عجلة عراف اليمامة الذي قال فيه عُرْوَةُ:

جعْلتُ لِعَرافِ اليمامة حكمه

 

وعَراف نجد إن هما شَفَيَانِي

وكهند صاحب المسننبرن وكان في نهاية التقدم في العرافة.

الكهانة في العرب

والكهانة أصلها نفسيئ؛ لأنها لطيفة باقية ومقارنة لأعجاز باهرة، وهي تكون في العرب على الأكثر وفي غيرهم على وجه الندرة؛ لأنه شيء يتولد على صفاء المزاج الطبيعي، وقوة مادة نور النفس، وإذا أنت اعتبرت أوطانها رأيتها متعلقة بعفة النفس وقمع شرها بكثرة الوحدة وإدمان التفرد وشدة الوحشة من الناس وقلة الأنس بهم، وذلك أن النفس إذا هي تفردت فكرت، وإذا هي فكرت تعدت وإذا تعدت هَطَلَ عليها سُحُبُ العلم النفسي، فنظرت بالعين النورية، ولحظت بالنور الثاقب، ومضت على الشريعة المستوية، فأخبرت عن الأشياء على ما هي به وعليه وربما قويت النفس في الإنسان فأشرفت به على لراية الغائبات قبل ورودها.

وكان كبراء اليونانيين ينعتون هذه الطائفة بالروحانية، ويقولون: إن النفس إذا هي زادت وكانت كبر جزء في الإنسان تهدت إلى استخراج البدائع والأخبار المستترات، واستدلوا على ذلك أن الإنسان إذا قوي فكره من وذادت مواد نفسه وخأطره فكر في الطارىء قبل وروده فعلم صورته فيكون وروثه إلى حال على ما تصوره وهكذا النفس أيضاً إذا تهذبت كانت الرؤيا في النوم صادقة وفي الزمان موجودة.

الرؤيا وأسبابها

وقد تنازع الناس في الرؤيا، والسبب الموقع لها وماهيتها وكيفية وقوعها، فقال فريق: إن النوم هو اشتغال النفس عن الأمور الظاهرة بملاقاة حوادث باطنة فيها، وذلك على وجهين: أحدهما معروف بالعين،قائم بالصفة في خواطر تحدث في النفس معاني تعبرها وتفرق بينها، فتشغل به عن استعمال الظاهر، والباطن فيه يؤعي إليه الحواس الخمس فتبطل الحواس عن الإدراك إلى الحاس أعني الروح لاشتغال الروح عن استعمالها، وإذا وجب بطلانها سمي نوماً عرضياً، لأنه ليس النوم الكلي الذي يعم الأطفال والعجائز والشيوخ الذين خرجوا من موقع السرور أو مخافة الشر. وكذلك نوم الليل على ما وصفنا، والوجه الأخر- وهو النوم الكلي الذي يعم الأطفال والعجائز والطبقات الحيوانية فوات الفكر وغيرها- وهي طبيعة توجبها الخلقة في وقته ضرورة كما يوجب الجوع في وقته ضرورة؛ لأن الجوع عند أهل صناعة الطب علة، وهي الموجبة تحديد الكبد من الفراغ من الأغذية.

ومنهم من رأى أن النفس تحرك صورة الأشياء على ضربين: أحدهما حس والأخر فكر؛ فالصورة المحسوسة لا تحركها إلا في هيئتها؛ فإذا تخلص علمها عندها كان إدراكها مفرداً من طبعها؛ فيكون فكر الإنسان ما لم يتم تابعاً للحس، حتى إذا نام فعدمت النفس الحواس كلها كانت تلك الصورة التي أخذتها من أعيان الأشياء فيها قائمة كأنها محسوسة؛لأن الحس بها في أعيانها كان قبل استيلائها بالفكر ضعيفاً، فلما ارتفع الحس قوي الفكر فصار يُصَوِّر الأشياء كأنها محسوسة يخطر على بال النائم منها كما يخطر على باله إذا كان يَقْظَان الشيء الذي قد كان أنيسه، وليس لذلك نظام، وإنما هو ما اتفق؛ فلذلك يرى الإنسان كأنه يطير وليس بطائر، وإنما يرى صورة الطيران مفردة كما يعلمها إذ غابت؛ ولكن فكرته فيها تقوى حتى كأنها معاينة له، فأما ما يراه النائم من الأشياء التي تدل على ما يريد فإنما ذلك لأن النفس عالمة بالصور، فإذا خلصتفى المنام من شوائب الأجسام أشرفت على ما تريد أن ينالها، وهي عالمة أنها في حال اليقظة لا يمكنها معرفة ذلك فتتخيل خيالات تدل بها على تلك الأشياء التي تريد أن تكون، حتى إذا أنتبهت تذكرت تلك الخيالات وتلك الأشياء؛ فمن كانت نفسه صافية لم تَكَدْ رؤياه تكذب ومن كانت نفسه كدرة كانت تكذب كثيراً، ثم ما بين الكدرة والصافية وسائط على حسب مَرَاتبها من الصفاء والكدَر يكون صدق ما تخيلته وكذبه.

وقال فريق آخر: إذا بطل استعمال النفس للحواس ظاهراً لم يبطل استعمالها في نفسها، ولم يبطل استعمال قواها، فتنتقل في الأماكن، وتشاهد الأشخاص بالقوة الروحانية التي ليست بجسم، لا بالقوة الجسمانية الغليظة، وذلك أن القوة الجسدانية لا تدرك إلا بمشاركة وملامسة الأشياء: إما باتصال كاتصال اللون من الملون وإما بانفصال كانفصال الجسم من الأماكن، والروح تحرك المتصل والمنفصل جميعاً، لا بمشاركة الجسد الذي يوجب الحاجة إلى قرب المدرك.

ومنهم من رأى أن النوم هو اجتماع الدم وجريانه إلى الكبد.

ومنهم من رأى أن ذلك هو سكون النفس وهدوء الروح. ومنهم من زعم أن ما يجلى الإِنسان في نومه من الخواطر إنما هو من عمل الأغذية والأطعمة والطبائع.

ومنهم من رأى أن بعض الرؤيا من المَلك وبعضها من الشيطان،واعْتَلّ هؤلاء بقوله تعالى: "إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا".

ومنهم من رأى أنها جزء من إحدى وستين وجزأ من النبوة، وتنازع هؤلاء في كيفية ذلك الجزء وماهيته.

ومنهم من ذهب إلى أن الإنسان الحساس هو غير هذا الجسم المرئي وأنه يخرج عن البدن في حال النوم فيشاهد العالم ويرى الملكوت، على حسب صفائه، واعْتلَّ هؤلاء وغيرهم- ممن ذهب إلى نحو هذا المعنى- بقوله عز وجلّ: " اللّه يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في من أمه ا" إلى قوله: "إلى أجل مسمى".

وذهب الجمهور من المتطببين في ذلك إلى آلي الأحلام من الأخلاط، وترى بقدر مزاج كل واحد منها وقوته، وذلك أن الذين تشتغل أجسادهم من المرة الصفراء يَرَوْنَ في من أمه م النيران والنواويس ودخانأ ومصابيح وبيوتاً تحترق ومدائن تلتهب بالنار ونحو ذلك وما أشبهه، والغالب على من كان مزاجه البَلْغَم أن يرى بحوراً وأنهاراً وعيوناً وأحواضاً وغُمْرَاناً ومياهأ كثيرة وأمواجاً، ويرى كأنه يسبح أو يصيد سمكاً ونحو ذلك وما قاربه، والغالب على من كان مزاجه السوداء أن يرى في من أمه أجداثاً وقبوراً وأمواتاً مكفنين بسواد وبكاء ونوحاً ورنينأ وصراخأ وأشياء مفزعة واموراً مفظعة وفيلة وأسوداً، والغالب على من كان مزاجه الدم أن يرى خمراً ونبيذاً ورياحين ولعباً وقَصْفاً وعَزْفاً وأنواع الملاهي والرقص والسكر والفرح والسرور والثياب المُصَبغَات من الحمرة وغيرها وما لحق بهذا الباب مما وصفنا من أنواع السرور.

ولا خلاف بين المتطببين في أن الضحك واللعب- على ما ذكرناه- من أنواع السرور من الدم، وأن كل حزن وخوف وإن اختلفت معانيه فإن ذلك من المرة السوداء، واحتجوا بضروب من الاحتجاجات؛ فهذه جملتها، وقد أوضحنا هذا في كتابنا الرؤيا والكمال وفي كتاب طب النفوس فلا وجه لإطنابنا في هذا الموضع من كتابنا هذا؛ إذ كان هذا الكتاب ?كتاب خبر لا كتاب بحثٍ ونظر.

وإنما تغلغل بنا الكلام- لما تشعب من مذاهبهم في إخبارنا عنهم، ولم نعرض في هذا الكتاب لما ذهبت إليه الناس في تحديد النفس، وما قاله أفلاطون في تحديد النفس إن النفس جوهر محرك للبدن، وما حده صاحب المنطق أن حد النفس كمال الجسم الطبيعي، وحدها من وجه اخر أنه حَيُّ بالقوة، ولا للفرق بين النفس والروح؛لأن الفرق بينهما أن الروح جسم والنفس لا جسم، وأن الروح يحويه البدن، وأن النفس لا يحويها البدن، وأن الروح إذا فارق البدن بطل والنفس تبطل أفعالها في البدن، ولا تبطل هي في ذاتها، والنفس تحرك البدن وتنيله الحس، وقد ذكر أفلاطون في كتاب السياسة المدنية نهر البستان وما يلحق الإنسان من صفات النفس الداخلة على النفس الناطقة، وذكر أفلاطون في كتابه إلى طيماوس، وفي كتاب فاردون، وكيفية مقتل سُقْراط الحكيم وما تكلم في ذلك في النفس والصورة.

وقد تكلم الناس في طبقات النفوس وصفاتها من أصحاب الأثنين وغيرهم من الفلاسفة، ثم تنازع أهل الإِسلام في ماهية الإنسان الحساس الدرَّاك المأمور المنهى، وما قالته المتصوفة وأصحاب المعارف والدعاوي في طبقات النفوس من النفس المطمئنة، والنفس اللوامة، والنفس الأمارة بالسوء، وغير ذلك مما ذهب إليه اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، وغير ذلك مما قد أتينا على إيضاحه في كتاب سر الحياة وغيره من كتبنا.

سطيح وشق الكاهنان

وقد كان سَطِيحٌ الكاهن- وهو ربيع بن ربيعه بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان- يدرج سائر جسده كما يدرج الثوب، لا عظم فيه إلا جمجمة الرأس، وكانت إذا لمست باليد يلين عظمها، وكان شق بن مصعب بن شكران بن أترك بين قيس بن عنقر بن أنمار بن ربيعه بن نزار معه في عصر واحد، وكان فيهما جمرة الكهانة، وكذلك سملقة وزوبعة كانا في عصر واحد، والله أعلم.

ذكر جمل من أخبار الكهان وسيل العرم وتفرق الأزد في البلدان

السد وبانيه ومكانه

قال المسعودي: قد ذكرنا جملأ من الكهانة والقيافة والزًجْر والبارح والسانح فلنذكر الآن لمعاً من أخبار الكهان، وتفرق ولد سبأ في البلدان. ولم يزل ولد قحطان في أطيب عيش إلى أن هلك سبأ، وكان القوم بعد مضي سبأ تداولتهم الأعصار قرناً بعد قرن إلى أن أرسل الله عليهم سيل العرم وذلك أن الرياسة انتهت فيهم إلى عمرو بن عمرو مزيقياءو- وهو عمرو بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس، بن مازن بن الأزد بن الغوث بن كهلان بن سبأ- وذلك ببلاد مازن إن أرض اليمن، وهي بلاد سبأ التي ذكر الله في القران أنه أرسل على أهلها سيل العرم، وهو السد، وكان فرسخأ في فرسخ، بناه لقمان الأكبر العادي- وهو لقمان بن عاد بن عاد- وقد ذكرنا خبره وخبر غيره ممن كان عمر منهم عمر النسور، وهذا السد هو الذي كان يرد عنهم السيل فيما سلف من الدهر إذا حان أن يغشى أموالهم، فمزقهم الله كل ممزق، وباعد بين أسفارهم، والناس في قصة هلكهم يختلفون، وفي سياقه أخبارهم يتباينون.

وصف بلاد سبأ

وذكر أصحاب التاريخ القديم أن أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن، وأثْرَاها وأغْدَقها، وأكثرها جنانا وغيطانا، وأفسحها مُرُوجأ، مع بنيان حسن وشجر مصفوف، ومساكب للماء متكاثفة، وأنهار وأزهار متفرقة، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجدِّ على هذه الحالة، وفي العرض مثل ذلك، وأن الراكب والمار كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها تواجهه الشمس ولا تعارضه؛لاستتار الأرض بالعمارة الشجرية، واستايلائها عليها، وإحاطتها بها، وكان أهلها في أطيب عيش وأرْفَهِهِ، وأهنأ حال، وأرغد قرى، وفي نهاية الخصب، وطيب الهواء، وصفاء الفضاء، وتدفق الماء، وقوة الشوكة، واجتماع الكلمة، ونهاية المملكة وكانت بلادهم في الأرض مثلاً، وكانوا على طريقة حسنة من أتباع شريف الأخلاق، وطلاب الأفضال على القاصد والسفر بحسب الإمكان وما توجبه القدرة من الحال؛ فمكثوا على ذلك ما شاء الله من الأعصار، لا يعاندهم ملك إلا قَصَموه، ولا يوافيهم جَئار في جيش إلا كسروه، فذلت لهم البلاد. وأذْعَنَ لطاعتهم العباد، فصاروا تاج الأرض، وكانت المياه التي هي أكثر ما يرد إلى أرض سبأ تظهر من مخراق من الحجر الصلْد والحديد من ذلك السد والجبال، طول المخراق فيما وصفنا فرسخ، وكانوراء السد والجبال أنهار عظام، وكان في هذا المخراق الأخذ منا تلك الأنهار ثلاثون نقباً مستديرة في، استدارة الفراء طولأ وعرضاً مدورة على أحسن هندسة وأكمل تقدير، وكانت المياه تخرج من تلك الأنقاب في مجاريها حتى تأتي الجنان فترويها سَقْيا، وتعدم شرب القوم، وقد كانت أرض سبأ قبل ما وصفنا من العمارة والخصب يركبها السيل من تلك المياه، وكان ملك القوم في ذلك الزمان يقرب الحكماء، ويدنيهم، وُيؤْثرهم، ويحسن إليهم، فجمعهم من أقطار الأرض للإلتجاء إلى رأيهم، والأخذ من محصن عقولهم، فشارهم في دفع ذلك السيل وحصره، وذلك أنه كان ينحدر من أعالي الجبل هابطاً على رأسه حتى يهلك الزرع ويسوق من حملته البناء، فأجمع القوم رأيهم على عمل مصارف له إلى براري تقذف به إلى البحر، وأخبروا الملك أن الماء إذا حفرت المصارف الهابطة طلبها، وانحدر فيها، ولم يتراكم حتى يعلو الجبال؛لأن في طباع الماء طلاب الخفض فحفر الملك المصارف حتى انحدر الماء وانصرف وتدافع إلى تلك الجهة واتخذوا السد في الموضع الذي كان فيه بدء جريان الماء من الجبل ألى الجبل، وجعلوا فيه المخراق على ما وصفنا آنفاً، ثم اجتذبوا من تلك المياه نهراً مرسلاً ومقداراً معلوماً ينتهي في جريانه إلىِ المخراق، ثم ينبعث الماء منه إلي تلك الأنقاب، وهي الثلاثون ومخرافاَ الصغار التي قلمنا ذكرها، وكانت البلاد عامرة على ما وصفنا آنفأ.

مبدأ التهدم

ثم إن تلك الأمم بأدت ومرت عليها السنون، وضربها الدهر بضرباته وطَحَنَها بكَلْكله، وعمل الماء في أصول ذلك المخراق، وأضعفه مَمَر السنين عليه وتدافع الماء حوله، وقد قيل في المثل: إذا أثر تواتر الماء طى الحجر الصلد فما ظنك بسيل يتدافع على حديد وحجرمصنوع؟.فلما سكنت أبناء قحطان ما وصفنا من هذه الدياروتغلبت على من كان فيها السد والبنيان في الضعف عنه على السد والمخراق والبنيان، فقنف به جَرْيه ورمى به في تياره، وذلك إبًان زياعة الماء، واستولى الماء على تلك الديار والجنان والعمائر والبنيان، حتى انقرض سكان تلك الأرض، وزالوا عن تلك المواطن، فهقه جملة من أخبار سيل العرم وبلاد سبأ.

العرم

ولا خلاف بين ذوي الدراية منهم أن العرم هو المسناة التي قد أحكموا عملها لتكون حاجزأ بين ضياعهم وبين السيل، ففجرته فأرة، ليكون ذلك أظهر في الأعجوبة، كما أفار الله تعالى ماء الطوفان من جوف تَنور ليكون أثبت في العبرة وأوْكَدَ في الحجة، ولايتنا كر أحلاف قحطان من أهل تلك الديار إلى هذا الوقت ما كان من العرم؛ لاستفاضته فيهم، وشهرته عندهم.

مفاخرة عند السفاح بين قحطاني وعدناني

وقد فخر بعض أولاد قحطان في مجلس السفاح بمناقب قَحْطَان من حمير وكهلان على ولد نزار، وخالد بن صفوان وغيره من نزار بن معد منصتون هيبة للسفاح؛ لأن أخواله من قحطان، فقال السفاح لخالد بن صفوان: ألا تنطق وقد غمرتكم قحطان بشرفها وعلت عليكم بقديم مناقبها؟ فقال خالد: ماذا أقول لقوم ليس فيهم إلا دابغ جلد، أو ناسج برد، أو سائس قرد، أو راكب عَرْد، أغرقتهم فأرة، وملكتهم امرأة، ودل عليهم هدهد، ثم من مر في ذمهم إلى أن انتهى إلى ما كان من قصتهم وتملك الحبشة وما كان من استنقاذ الفرس إياهم على حسب ما قدمنا آنفاً.

العرم في شعر العرب

فى بد ذكروا في أشعارهم العرم، وما كان لسبأ وأرض مأرب، وأن مأرب سِمَةٌ للملك الذي كان يتملك على هذه البلدة، وأن هذا الاسم وقع على هذا البلد فاشتهر به وصار سِمَةً له، وقال الشاعر:

من سبأ الحاضرين مأرب إذ

 

يبنون من دون سيله العَرما

وقد قيل: إن مأرب سِمَةٌ لقصر هذا الملك في صدر الزمن، قال أبو الطلمَحَان في ذلك:

ألم تروا مأربا ما كان أحْصَنَهُ

 

وما حواليه من سور وبنيان؟

ظل العبادئ يسقي فوق قلًتـه

 

ولم يهب رَيْبَ دهر جد َخَؤان

حتى تناوله من بعد ما هجعوا

 

يرقى إليه على أسباب كتـان

وقد ذكر الأعشى في شعره ما وصفناه حيث يقول في كلمته:

ففي ذاك للمؤتسـي أسْـوَةٌ

 

بمأرب عَفىَّ عليها الْعَـرِمْ

رخام بناه لـهـم حـمـير

 

إذا جاء فأغنى ماؤُهُم لم يَرِم

فأغنى الحروث وأغن أمـه

 

على ساعة ماؤهم قد قسـم

فطار الفـيولُ وفـئالـهـا

 

بها في فيافي سَرَابٌ يطـم

وكانوا بـذلـكُـم حـقـبةً

 

فمال بهم جارف منـهـدم

فطاروا سراعاً ومـا يقـدو

 

ن منه لشرب صبي فطـم

طول العمر وعمر النسور

وقد ذكرنا في كتابنا أخبار الزمان الملك الذي طال عمره وحسنت سيرته؛ وأنه بنى هذا السد الذي هو المسناة، وأن عمره انتهى على عمر النسور، عند ذكرنا لطول الأعمار، وقد أكثرت العرب في صفه طول عمر النسر، وضربت به الأمثال، وبِلبَدٍ، وبصحة بدن الغراب؛ فمن ذلك ما ذكره الخزرجي في شعره عند ذكره لطول عمرمُعَاذ بن مسلم بن رجاء مولى القَعْقَاع بن حكيم من قوله فيه عند ذكره سنة وهرمه، وهو:

إن مـعـاذ بـن مـســـلـم رجل

 

قد ضَـجً من طول عـمـره الأبَـد

قد شاب رأس الزمان واختضب

 

الحصر وأثوابُ عمره جدد

يانسر لقمان كم تعيش؟ وكم

 

تلبـس ثـوب الـحـياة يالُــبــد

قد أصـبحَــتْ دار حمـير خَـرِبـت

 

وأنـت فـيهـا كـأنـك الـوَتــد

نسـأل غـربـانـهـا إذا حجـلـت

 

كيف يكون الصُدَاع والـرمــد

علة طول الأعمار ونقصها

وقد قدمنا فيما سلف في مواضع من هذا الكتاب ما قالت الأوائل في علة طول الأعمار وقصرها، وعظم الأجسام في بَدء الأمر، وتناقضها على مرور الأعصار وَمُضِيئ الدهور، وأن الله تبارك وتعالى لما بدآ الخلق كانت الطبيعة التي جعلها الله جبلة للأجسام في تمام " الكثرة ونهاية القوة والكمال، والطبيعة إذا كانت تامة القوة كانت الأعمار أطول، والأجسام أقوى؛لأن طرق الموت الطارئ يكون بانحلال قوى الطبيعة، فلما كانت القوة أتم كانت الأعمار أَزيد، وكان العالم أو أولية شأنه تامَّ العمر، ثم لم يزل ينقص أولاً فأولا لنقصان المادة فتنقص الأجسام والأعمار مع نقصان المادة حتى يكون آخر مائية الطبيعة في تناهي النقص في الأجسام والأ عمار.

وقد أبى ما ذكرنا من عظم أجسام الناطقين في صدور الزمان كثير من أهل النظر والبحث ممن تأخر، وزعموا أن تأثيرهم في بنيانهم وما ظهر في الأرض من أعمالهم يدل على صغر أجس أمه م، وأنها كانت كأجسامنا، لما شاهدوه من مساكنهم وأبوابهم وممراتهم فيما أحدثوه من البنيان والهياكل والديار والمساكن في سائر الأرض، كديار ثمود ونَحْتها المساكن في الجبال وحَفْرها في الصخر الصلد بيوتاً صغاراً وأبوابأ د لطافاً، وكذلك أرض عاد ومصر والشام وسائر بقاع الأرض في الشرق والغرب، وهذا باب إن أكثرنا القول فيه طال، وإن أطْنبنا في صفته كثر، فلنرجع الآن إلى ما عنه عَدَلْنَا ومن صفته خرجنا من ذكر سبأ ومأرب، وما كان من الملك في ذلك الوقت وهو عمرو بن عامر.

عود لذكر سبأ

وكان للملك عمرو بن عامر المقدم ذكره في هذا الباب أخ كاهن عقيم، يقال له عمران، وكان لعمرو كاهنة من أهله من حمير يُقال لها طريفة الخير فكان أول شيء وقع بمأرب وعرف من سيل العرم أن عمران الكاهن أخا عمرو رأى في كهانته أن قومه سوف يمزقون كل ممزق ويباعد بين أسفارهم، فذكر ذلك لأخيه عمرو، وهو الملك مزيقياء الذي كانت محنة القوم في أيام ملكه، والله أعلم بكيفية ذلك.

ظريفة الكاهنة

وبينا طريفة الكاهنة ذات يوم نائمة إذ رأت فيما يرى النائم أن سحابة غشيت أرضهم وأرعدت وأبرقت ثم صعقت فما حرقت ما وقعت عليه، ووقعت إلى الأرض، فلم تقعِ على شيء إلا حرقته، ففزعت طريفة لذلك، وذعرت ذعراً شديداَ، وانتبهت وهي تقول: ما رأيت مثل اليوم، قد أذهب عني النوم، رأيت غيماً أبرق، وأرعد طويلا ثم أصعق، فما وقع على شيء إلا أحرق، فما بعد هذا إلا الغرق، فلما رأوا ما داخلها من الرعب خفضوها وسكنوا من جأشها حتى سكنت، ثم إن عمرو بن عامر دخل حديقة من حدائقه ومعه جاريتان له فبلغ ذلك طريفة، فأسرعت نحوه، وأمرت وصيفاً لها يُقال له سنان أن يتبعها، فلما برزت من باب بيتها عارضها ثلاث مَنَاجدَ منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن، وهي دواب تشبه اليرابيع يكنَّ بأرض اليمن، فلما رأتهن طريفة وضعت يدها على عينها وقعدت، وقالت لوصيفها: إذا ذهبت هذه المناجد عنَّا فأعلمني، فلما ذهبت أعلمها، فانطلقت مسرعة، فلما عارضها خليج الحديقة التي فيها عمرو وثَبَتْ من الماء سُلَحْفاة، فوقعت على الطريق على ظهرها وجعلت تريد الإنقلاب فلا تستطيع، فتستعين بذنبها وتحثو التراب على بطنها وجنبها وتقذف بالبول، فلما رأتها طريفة جلست إلى الأرض، فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت طريفة إلى أن دخلت على عمرو الحديقة حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها، فإذا الشجر يتكفأ من غير ريح، فنفذت حتى دخلت على عمرو ومعه جاريتان له على الفراش، فلما رآها استحيا منها، وأمر الجاريتين فنزلتا عن الفراش، ثم قال لها: هلمي يا طريفة إلى الفراش، فتكهنت، وقالت: والنور والظلماء، والأرض والسماء، إن الشجر لتالف، وسيعود الماء لما كان في الدهر السالف، قال عمرو: مَنْ خبَّرك بهذا؟ قالت: أخبرني المَنَاجد، بسنتينشدائد، يقطعِ فيها الولد والوالد، قال: ما تقولين؟ قالت: أقول: قول الندْمَان لهفاَ، قد رأيت سُلَحْفَاً، تجرف التراب جَرْفأ، وتقذف بالبول قذفأ، فدخلتُ الحديقة فإذا الشجر يتكفَّا، قال عمرو: وما ترين ذلك؛ قالت: هي داهية ركيمة، ومصائب عظيمة، لأمور جسيمة، قال: وما هي؟ ويلك؟ قالت: أجل إن لي الويل، ومالك فيها من نيل، فلي ولك الويل، مما يجي به السيْل، فألقى عمرو نفسه على الفراش وقال: ما هذا يا طريفة؟ قالت: هو خطب جليل، وحزن طويل، وخلف قليل، والقليل خير من تركه، قال عمرو: وما علامة ذلك؟ قالت: تذهب إلى السد فإذا رأيت جُرَذاً يكثر بيديه في السد الحفر، ويقلب برجليه من الجبل الصخرة فاعلم أن النقر عقر، وأنه وقع الأمر، قال: وما هذا الأمر الذي يقع؟ قالت: وعد من الله نزل، وباطل بطل، ونكال بنا نزل، فبغيرك يا عمرو فليكن الثكل، فانطلق عمرو إلى السد يحرسه، فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون رجلا فرجع إلى طريفة فأخبرها وهو يقول:

أبصرت أمراً عادني منـه ألـم

 

وهاج لي من هَوْله بَرْحُ السّقَم

من جُرَذٍ كفَحْل خنزير الأجَـمْ

 

أو تَيْس مرم من أفاريق الْغَنَـم

يسحب صخراً من جلاميد العَرِمْ

 

له مخاليبُ وأنـياب قـضـم

مافاته سحلا من الصخر قصـم

 

كأنما يرعى حظيرا ًمن سَلَـم

فقالت له طريفة: إن من علامة ما ذكرت لك أن تجلس في مجلسك بين الجنتين، ثم تأمر بزجاجة فتوضع بين يديك، فإنها ستمتلئ بين يديك من تراب البَطْحاء من سَهْلة الوادي ورملة، وقد علمت أن الجنان مُظلمة ما يدخلها شمس ولا ريح، فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه، فلم يمكث إلا قليلاً حتى امتلأت من تراب البطحاء، فذهب عمرو إلى طريفة فأخبرها بذلك، وقال: متى ترين هلاك السد. قالت: فيما بينك وبين السبع السنين، قال: ففي أيها يكون؛ قالت: لا يعلم ذلك إلا الله تعالى، ولو علمه أحد لعلمته، ولا يأتي عليك ليلة فيما بينك وبين السبع السنين إلا ظننت هلاكه في غدها أوفي تلك الليلة.

عمرو بن عامر يتحيل للخروج من بلاده

ورأى عمرو في النوم سيل العرم، وقيل له: إن آية ذلك أن ترى الحصباء قد ظهرت في سعفٍ النخل، فذهب إلى كَرَب النخل وسعفه فوجد الحصباء قد ظهرت فيها، فعلم أن ذلك واقع بهم، وأن بلادهم ستخرب، فكتم ذلك وأخفاه، وأجمع أن يبيع كل شيء له بأرض سبأ، ويخرج منها هو وولده، ثم خشي أن يستنكر الناس ذلك، فصنع طعاماً وأمر بإبل فنحرت، وبغنم فذبحت، وصنع طعاماً واسعاً، ثم بعث إلى أهل مأرب أن عمراً صنع يوم مجد وذكرٍ فاحضُرُوا طع أمه ، ثم دعا ابناً له يُقال له مالك، ويُقال: بل كان يتيماً في حجره، فقال: إذا جلستُ أطعم الطعام الناس ففجلس عندي ونازعني الحديث، واردده علي، وافعل بي مثل ما أفعله بك، وجاء أهل مأرب، فلما جلسوا أطعم الناس وجلس عنده الذي أمره بما أمره به، فجعل ينازعه الحديث، ويرذُ عليه، فضرب عمرو وجهه وشَتَمه، فصنع الصبي بعمرو مثل ما صنع به فقام عمرو وصاح: واذلأه يوم فخر عمرو ومجده يضربُ وجْهَه صبي، وحلف ليقتلَنَه، فلم يزالوا بعمرو حتى تركه ففي ذلك قال حاجز الأزْدِيى:

يارب لطمة غَدْرٍ قد سخنت بـهـا

 

بكف عمرو التي بالغمر قد غرقت

ثم قال: والله لا أقيم ببلد صنع هذا بي فيه، ولأبيعن عقاري فيه وأموالي، فقال الناس بعضهم لبعض: اغتنموا غضبة عمرو، واشتروا منه أمواله قبل أن يرضى، فابتاع الناس منه جميع ماله بأرض مأرب، وفشا بعض حديثه فيما بلغه من شأن سيل العَرِم، فخرج ناس من الأزد وباعوا أموالهم، فلما أكثروا البيع استنكر ذلك الناس، فأمسكوا بأيديهم عن الشراء، فلما اجتمعت إلى عمرو بن عامر أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم، فقال أخوه عمران الكاهن: قد رأيت أنكم ستمزقون كل مُمَزَّق، ويباعَدُ بين أسفاركم، وإني أصف لكم البلدان فاختاروا أيها شئتم، فمن أعجبه منكم صفة بلد فليصر إليها، من كان منكم ذاهَم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد، فكان الذين نزلوهُ أزد عمان قال: ومن كان منكم ذاهم غير بعيد، وجمل غير شديد ومزاد غير جديد فليلحق بالشعب من كرود، قال: وهي أرض همدان، فلحق به وادعة بن عمرو، فانتسبوا فيهم، وقال الكاهن، ومن كان منكم ذا حاجة ووطر وسياسة ونظر، وصبر على أزمات الدهر، فليلْحَقْ ببطن مَرً، وكان الذين سكنوه خزاعة سميت بذلك لانخزاعها في ذلك الموضع عمن كان معها من الناس، وهم بنو عمرو بن لَحي، فتخزعت هنالك إلى هذه الغاية، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:

ولَمّا هَبَطْنَا بطنَ مَر تَخَزعَتْ

 

خزاعة منا في ملوك كراكر

في شعرٍ له طويل ومالك وأسلم ومَلْكان بنو قصى بن حارثة بن عمرو مزيقياء، وقال الكاهن: ومن كان يريد الراسيات في الرحل، المطعمات في المَحْل ، فليلحق بيثرب ذات النخل، وهي المدينة، وكان الذين سكنوها الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء، قال الكاهن: ومن كان يريد منكم الخمر والخمير، والديباج والحرير، والأمر والتدبير، فليلحق ببصرى وحفير، وهي أرض الشام فكان الذين سكنوها غسان قال الكاهن: ومن كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيول العتاق، والكنوز والأرزاق، فليلحق بالعراق، وكان الذين لحقوا بالعراق منهم مالك بن فهم الأزْدِي وولده، ومَنْ كان بالحيرة من غسان، على حسب ما قدمنا آنفاً فيما سلف من هذا الكتاب.

وقال هشام بن الكلبي: وأما أبي فكان يقول: إنما نزل بالحيرة من غسان مع تبع بعد هذا بزمان.

ثم خرج عمرو بن عامر مزيقياء وولده، من مأرب، وخرج من كان بمأرب من الأزد يريدون أرضا تجمعهم يقيمون بها، ففارقهم وادعة بن عمرو بن عامر مُزَيقياء فسكنوا همدان، وتخلف مالك بن اليمان بن فهم بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد، وكان بعدهم بمأرب ملكاً إلى أن كان من أمرهم ما كان في الهلاك، ثم ساروا حتى إذا كانوا بنَجْرَان تخلف أبو حارثة بن عمرو بن عامر مُزَيْقياء ودعبل بن كعب بن أبي حارثة فانتسبوا في مذحج، قال أبو المنزر: ويقال: إن أبا حارثة هو جد الحارث بن كعب بن أبي حذيفة الذي بنجران، واللّه أعلم.

ثم سار عمرو بن عامر حتى إذا كان بين السراة ومكة أقام هنالك أناس من بني نصر من الأزد، وأقام معهم عمران بن عامر الكاهن أخو عمرو بن عامر مُزَيقياء، وعدي بن حارثة بن عمرو مزيقياء، وسار عمرو بن عامر وبنو مازن حتى نزلوا بين بلاد الأشعريين وعكٍّ على ماء يُقال له غسان بين واديين، يقال لهما زبيد ورمع، وهما مما يلي صدورهما بين صعيد يُقال له: صعيد الحسك، وبين الجبال التي تدفع به في زبيد ورمع، فأقاموا على غسان، وشربوا منه، فسموا غسان، وغلب على أسمائهم، فلا يعرفون إلا به، قال شاعرهم:

إما سألت فإنا معشرنجب

 

الأزْدُ نسبتنا والماء غسان

والذين سموا غسان من بني مازن الأوسُ والخزرج، ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مُزَيقياء، وجَفْنة بن عمرو مُزَيْقياء، والحارث وعوف وكعب ومالك بنو عمرو مزيقيا، والوم وعدي ابنا حارثة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن مازن بن الأزد. وللقوم أخبار في تفرقهم، ومن دخل منهم في معد بن عدنان وما كان بينهم من الحروب إلى أن ظفرت بهم بنو معد، فأخرجتهم إلى أن لحقوا بالسراة- والسراة جبل الأزد الذي هم به يقال له السراة، ويقال له: الحجاز، وإنما سمي السراة من هذا الجبل ظهره، فيقال لظهره السراة كما يقال لظهر الدابة السراة، فأقاموا به وكانوا في سهله وجبله وما قاربه، وهو جبل على تخوم الشام، وفرز بينه وبين الحجاز مما يلي أعمال دمشق والأردن وبلاد فلسطين ويلاقي جبل موسى.

عبادة أهل مارب وصنعهم مع رسلهم

وقد كان أهل مأرب يعبدون الشمس، فبعث الله إليهم رُسُلاً يدعونهم إلى الله، ويزجرونهم عما هم عليه، ويذكرونهم آلاء اللّه ونعمته عليهم، فجحدوا قولهم،وردوا كل أمه م، وأنكَرُوا أن يكون لله عليهم نعمة، وقالوا لهم: إن كنتم رُسُلأ فادعوا الله أن يسلبنا ما أنعم علينا، ويذهب عنا ما أعطانا، وفي ذلك تقول امرأة منهم كافرة:

إن كان ما نُصْبِحُ في ظلاله

 

من ربكم فلينطلق بمالـه

إليه عنا وإلى عـيالـه،

 

 

فأجابتها امرأة مؤمنة، فقالت:

لولا الإلهُ لم يكن عيالنـا

 

ولم يَسَعْ عيالنا أموالنـا

هوالذي يجيبنا سؤالَـنَـا

 

ويكشف الغم إذا ما هالَنَا

فدعت عليهم الرسل فأرسل الله عليهم سيل العرم، فهدم سدهم وغشي الماء أرضهم، فأهلك شجرهم وأباد خَضْراءهم، وأزال أموالهم وانع أمه م، فأتوا رسلهم فقالوا: أدْعُوا اللّه أن يخلف علينا نعمتنا، ويُخْصِب بلادنا، ويرد علينا ما شرد من أنعامنا، ونعطيكم مَوْثقا أن لا نشرك بالله شيئاً، فسألت الرسل ربها، فأجابهم إلى ذلك، وأعْطاهم ما سألوا، فأخصبت بلادهم، واتسعت عمائرهم إلى أرض فلسطين والشام: قُرًى ومنازل وأسواقاً، فأتتهم رسلهم، فقالوا: موعدكم أن تؤمنوا باللّه، فأبوا إلا طغياناً وكفرأ، فمزقهم اللّه كل ممزق، وباعد بين أسفارهم.

قال المسعودي: وإذ قد ذكرنا جملأ من أخبار السد وبلاد مأرب، وعمرو بن عامر، وغير ذلك مما تقدم ذكره في هذا الباب، فلنرجع الآن إلى أخبار الكهان.

أول كهانة سطيح الغساني

وكان أول ما تكهن به سطَيح الغساني أنه كان نائماً في ليلة صُهَاكية مظلمة مع إخوله في لحاف، والحي خُلُوف، إذ زعق من بينهم ورنَّ وتأوه، وقال: والضياء والشفق، والظلام والغسق، ليطرقنكم ما طرق، قالوا: ما طرق يا سطيح؟ قال: ما طرق إلا الأجْلَحُ، حين سرى الليل البهيم الأفلح، وولاهم بسردح، قالوا: وما علامة ذلك يا سطيح؟ قال: أمر يسد النقرة، فوحبسة في الوجرة. وحرة بعد حرة، في ليلة قرة، فانصرفوا عن قوله، واستهانوا بأمره، وتعاصفت مرود من أودية هناك، ففاجأتهم في ليلة بارعة قرة كما ذكر، فساقت الأنعام والمواشي، وكادت أن تذهب بعامتهم.

ولسطيح الكاهن ولشق بن صعب أخبار كثيرة عجيبة: منها رؤيا تبَّع الحميري في أن جَمْرة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تُهَمَة، أكلت منها كل ذات جمجمة، وما فسَّرَاه له في ذلك، وكذلك خبرسطيح، وعبد المسيح في رؤيا الموبذان، وارتجاج الإيوان، وخبر سملقة وزوبعة، وما كان من أمرهما، وخبر شأن الظليم والشجرة، وما كان بين عك وغسان من الحرب في رقة اللبن وحلاوته وثخنه، ونزول غسان أعلى الوادي، وعك في أسفله، وما كان في ذلك من القيافة بينهم في طلوع الشمس وغروبها على إبلهم، وخبر السموال بن حسان بن عادياء، وما كان من أمره، وأمر خازن الكاهن، وما قاله حين طَرَقَه ليلاً، وانقياده إلى ذمته، وما كان من العير الأقمر، والظليم الأحمر، والفرس الأشقر، والجمل الأزور، والشيخ الأحقر، وغير ذلك مما ذكرناه فيما سلف من كتبنا، في أخبار الزمان والكتاب الأوسط، والله أعلم.

ذكر سني العرب والعجم وشهورها

وما اتفق منها وما اختلف

قال المسعودي:عدة الشهور عند العرب وسائر العجم اثنا عشر شهرأ. فلنذكر الآن سِنِي وشهور وأيام ما أشتهر أهله من جل الامم، وهم العرب والفرس والروم والسريانيون والقبط؛ إذ كان قول اليونانيين في ذلك هو ما ذهبت إليه الروم، ولم نعرض لوصف قول الهند في السنين والشهور والأيام وما ذهبوا إليه في ذلك من حسابهم، ومن تبعهم على ذلك من أهل الصين وكثير من الممالك والامم؛إذ كان في ذلك خروج عما عليه الجمهور والمعهود بين الناس، ونجعل المبتدأ بذكر سني وشهور القبط؛ لموافقتها السريانيين ثم نعقب بعد ذلك بذكر شهور السريانيين وموافقتها لشهور الروم. ثم نتبع ذلك بذكر سني العرب وشهورها وأي أمه ا، ثم نعقب بعد ذلك بذكر سِنِي الفرس وشهورها وأي أمه ا ولأية علة استحق عندها تسمية كل شهر منها، وكل يوم، وما قالته العرب في تسمية الليالي، وجمل من ذكر أفعال الشمس والقمر وتأثيرهما في هذا العالم في الجماد والنبات والحيوان، وغير ذلك مما يقف عليه المتأمل عند قراءته- إن شاء الله تعالى- على ما يريد، والله تعالى ولي التوفيق.