ذكر البيوت المعظمة والهياكل المشرفة وبيوت النيران والأصنام وذكر الكواكب وغير ذلك من عجائب العالم

ذكر البيوت المعظمة والهياكل المشرفة وبيوت النيران والأصنام وذكر الكواكب وغير ذلك من عجائب العالم

عبادة الهند واتخاذهم الأصنام

قال المسعودي: كان كثير من أهل الهند والصين وغيرهم من الطوائف يعتقدون أن اللهّ عز وجل جسم، وأن الملائكة أجسام لها أقدار، وأن اللهّ تعالى وملائكته احتجبوا بالسماء، فدعاهم ذلك إلى أن اتخذوا تماثيل وأصناماً على صورة الباري عز وجل، وبعضها على صورة الملائكة: مختلفة القدود والأشكال، ومنها على صورة الإنسان وعلى خلافها من الصور، يعبدونها، وقربوا القرابين، ونفروا لها النذور، لشبهها عندهم بالباري وقربها منه، فأقاموا على ذلك برهة من الزمان وجملة من الأعصار.

عبادتهم الكواكب واتخاذهم أصناماً لها

حتى نبههم بعض حكمائهم على أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى اللهّ تعالى، وأنها حية ناطقة، وأن الملائكة تختلف فيما بينها وبين اللهّ، وأن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر اللّه، فعظموها وقربوا لها القرابين لتنفعهم، فمكثوا على ذلك دهراً، فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار وفي بعض أوقات الليل لما يعرض في الجو من السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناماً وتماثيل على صورها وأشكالها، فجعلوا لها أصناماً وتماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة، وكل صنف منهم يعظم كوكباً منها، ويقرب لها نوعاً من ا لقربان خلاف ما للآخر، على أنهم إذا عظموا ما صوروا من الأصنإم تحركت لهم الأجسام العلوية من السبعة بكل ما يريدون، وبنوا لكل صنم بيتاً وهيكلاً مفرداً، وسموا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب.

وقد ذهب قوم إلى أن البيت الحرام هو بيت زُحَلَ، وإنما طال عندهم بقاء هذا البيت على مرور الدهور معظماً في سائر الأعصار لأنه بيت زُحَلَ، وأن زحل تولاه، لأن زحل من شأنه البقاء والثبوت، فما كان له فغير زائل ولا داثر، وعن التعظيم غير حائل، وذكروا أمورا أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها.

بودابسف أول الصابئة

ولما طال عليهم العهد عبدوا الأصنام على أنها تقربهم إلى اللّه، وألفوا عبادة الكواكب، فلم يزالوا على ذلك حتى ظهر بوداسف بأرض الهند، وكان هندياً وقد كان بوداسف خرج من أرض الهند إلى السند، ثم سار إلى بلاد سجستان وبلاد زابلستان، وهي بلاد فيروز بن كبك، ثم دخل السند ثم إلى كرمان، فتنبأ وزعم أنه رسول اللّه، وأنه واسطة بين اللهّ وبين خلقه، وأتى أرض فارس، وذلك في أوائل ملك طهمورث ملك فارس، وقيل: ذلك في مبك جَمَّ، وهو أول من أظهر مذاهب الصابئة على حسب ما قدمنا انفاً فيما سلف من هذا الكتاب، وقد كان بوداسف أمر الناس بالزهد في هذا العالم والاشتغال بما على من العوالم؛إذ كان من هنالك بدء النفوس، وإليها يقع الصدر من هذا العالم.

وجدا بوداسف عند الناس عبادة الأصنام، والسجود لها، لشُبَهٍ ذكرها، وقرَّبَ لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل والخداع.

جم أول من دعا إلى عبادة النار

وذكر ذوو الخبرة بشأن هذا العالم وأخبار ملوكهم أن جَمَّ الملك أول من عظم النار، ودعا الناس إلى تعظيمها، وقال: إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب؛لأن النور عنده أفضل من الظلمة!، وجعل للنور مراتب.

ثم تنازع هؤلاء بعده، فعظم كل فريق منهم ما يرون تعظيمه من الأسماء تقرباً إلى الله بذلك ثم تنازعوا برهة من الزمان.

عمرو بن لحى أظهر الأصنام بمكة

ونشأ عمر وبن لحى فساد قومه بمكة واستولى على أمر البيت، ثم سار إلى مدينة البلقاء من عمل دمشق من أرض الشام، فرأى قوماً يعبدون الأصنام، فسألهم عنها، فقالوا: هذه أرباب نتخذها: نستنصر بها فننصر، ونستسقي بها فنسقى، وكل ما نسألهم نعطى، فطلب منهم صنماً يدعونه هُبَلَ، فسار به إلى مكة، ونصبه على الكعبة ومعه إساف ونائلة، ودعا الناس إلى تعظيمها وعبادتها، ففعلوا ذلك، إلى أن أظهر اللّه الإسلام وبعث محمداً عليه الصلاة السلام؛ فطهر البلاد، وأنقذ العباد. 

البيت الحرام

وقد قال هؤلاء: إن البيت الحرام من البيوت السبعة المعظمة المتخذة على أسماء الكواكب من النيرين والخمسة.

بيت للمجوس بأصبهان

وبيت ثان معظم على رأس جبل بأصبهان يُقال له مارس، وكانت فيه أصنام، إلى أن أخرجها منه يستاسف الملك لما تَمجسَ وجعله بيت ناره، وذلك على ثلاثة فراسخ من أصبهان، وهذا البيت معظم عند المجوس إلى هذه الغاية.

بيت بالهند

والبيت الثالث يدعى مندوسان ببلاد الهند وهذا البيت تعظمه الهند ولى قرابين تقرب، وفيه أحجار المغناطيس الجاذبة والدافعة والمنزرة من أوصاف لا يسعنا الإخبار عنها؛ فمن أراد أن يبحث عن ذكرها فليبحث، فإنه بيتَ مشهور ببلاد الهند.

بيت البرامكة ببلخ

والبيت الرابع هو النوبهار الذي بناه من وشهر بمدينة بَلْخَ من خراسان على اسم القمر، وكان من يلي كسِدَانته تعظمه الملوك في ذلك الصقع وتنقاد إلى أمره وترجع إلى حكمه، وتحمل إليه الأموال، وكانت عليه وقوف، وكان الموكل بسدانته يدعي البرمك، وهو سمة عامة لكل من يلي سدانته، ومن أجل ذلك سميت البرامكة؛لأن خالد بن بَرْمَك كان من ول مَنْ كان على هذا البيت، وكان بنيان هذا البيت من أعلى البنيان تشييداً وكان تنصب على أعلاه الرماح عليها شقاق الحرير الأخضر طولُ الشقة مات ذراع فما دونها قد نصب لذلك رماح وخشب تدفعِ قوة الريح بما عليها من الحرير، فيقال واللهّ أعلم: إن الريح خطفت يوماَ بعض تلك الشقاق ورمت به، فأصيب على مسافة خمسين فرسخاً، وقيل: أكثر من تلك المسافة وهذا يدل على زيادته في إلجو وتشييد بنيانه، وكان الحيز المحيط بهذ البنيان أميالاً لم نذكزها، إذ كان أمر ذلك مشهوراً من وصف علوّ السور وعرضه.

قال المسعودي: وقد ذكر بعض أهل الرواية والتنقير أنه قرأ على باب النوبهار ببلخ كتاباً بالفارسية ترجمته: قال بوداسف: أبوابُ الملوكِ تحتاج إلى شلاث خصال: عقل، وصبر، ومال وإذا تحته بالعربية: كذب بوداسف الواجب على الحر إذا كان معه واحدة من هذه الثلاث الخصال أن لا يلزم باب السلطان.

غمدان بصنعاء

والبيت الخامس بيت غمْدَان َالذي بمدينة صنعاء من بلاد اليمن، وكان الضحاك بناه على اسم الزهرة، وخربه عثمان بن عفان رضي اللّه عنه؛فهو في وقتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- خراب قد هدم فصار تلا عظيماً، وقد كان الوزير علي بنِ عيسى بن الجراح- حين نفي إلى اليمن وصار إلى صنعاء- بَنَى فيه سقاية وحَفرَ فيه بئراً.

ورأيت غُمْدَان رثمإً وتلا عظيماً قد انهدم بنيانه، وصار جبل تراب كأنه لم يكن، وقد كان أسعد بن يعفر صاحب قلعة كحلان النازل بها وصاحب مخاليف اليمن في هذا الوقت، وهو المعظم في اليمن، أراد أن يبني غمدان، فأشار عليه يحيى بن الحسين الحسني أن لا يتعرض لشيء من ذلك؛إذ كان بناؤه على يدي غلام يخرج من أرض سبأ وأرض مأرب يؤثر في صقع من هذا العالم تأثيراً عظيماً.

وقد ذكر هذا البيت جد أمية بن أبي الصلت وقيل: هو أبو الصلت أمية، واسمه ربيعه في مدحه لسيف بن ذي يزن، وقيل: إن الممدوح بهذا الشعر معد يكرب بن سيف حيث يقول:

اشْرَب هنيئاً عليك التاجُ مُرْتَفِقاً

 

برأس غُمَدَانَ داراً منك مِحْلاَلاَ

وكان أبو أمية جاهلياً، وهو القائل في أصحاب الفيل:

إن آيات رَبِّنا بــينـاتٌ

 

ما يُمَـارِي بهـنَّ إلاكَفُــور

غلب الفـيل بالمُـغَمِّـس

 

حتى ظلًّ يحبو كأنه معقــور

حوله من شباب كِنَْةَ فتيا

 

ن ملاوِيث في الحروب صُقـور

واضعاً خلفه الجرار كما

 

قُطر صخْرٌ من جانب محدُورُ

وقد قيل: إن ملوك اليمن كانوا إذا قعدوا في أعلى هذا البنيان بالليل واشتعلت الشموع رأى الناس ذلك من مسيرة ثلاثة أيام.

بيت بفرغانة بخراسان

والبيت السادس كاوسان، بناه كاوس الملك بناءً عجيباً على اسم المدبر الأعظم من الأجسام السماوية وهو الشمس، بمدينة فرغانة من مدائن خراسان، وخربه المعتصم باللّه، ولهدمه هذا البيتَ خبرٌ طريف قد أتينا على ذكره في كتاب أخبار الزمانَ.

بيت بالصين

والبيت السابع بأعالي بلاد الصين، بناه ولد عامور بن سوبل بن يافث ابن نوح، وأفرده للعلة الأولى؛إذ كان منشأ هذا الملك ومبدأه وباعث الأنوار إليه، وقيل: إنما بناه بعض ملوك الترك في قديم الزمان وجعله سبعة أبيات في كل بيت منها سبع كُوًى يقابل كل كوة صورة منصوبة على صورة كوكب من الخمسة والنيرين من أنواع الجواهر المضافة إلى تأثير تلك الكواكب، من ياقوت أو عقيق أو زمرد على اختلاف ألوان الجواهر، ولهم في هذا الهيكل سِرٌّ يسرونه في بلاد الصين، بما قد زَخرَفَ لهم فيه القول وزينه لهم الشيطان، ولهم في هذا الهيكل علوم في اتصال الأجسام السماوية وأفعالها بعالم الكون الذي تحدثه، وما يحدث فيه من الحركات والأفعال عند تحرك الأجسام السماوية؛ وقد قرب ذلك إلى عقولهم: بأن جعل لهم مثالاً من الشاهد يدل على ما غاب عنهم من فعل الأجسام السماوية في هذا العالم، وهو خشب الديباج الذي ينسج به؛فبضرب من حركات الصانع بذلك الخشب والخيوط إلإبريسم تحدث ضروب من الحركات، فإذا اتصلت أفعاله وتواترت حركاته من النسج للثوب الديباج تحت الصورة فيه؛فبضرب من الحركات يظهر جناح طائر، وبآخر رأسه، وبآخر رجلاه،فلا يزال كذلك حتى تتم الصورة على حسب مراد الصانع لها؛فجعلوا هذا المثال واتصال الإِبريسم بآلة النسج وما يدحثه الصانع في ذلك من الأفعال مثالاً لما ذكرنا من الكواكب العلوية، وهي الأجسام السماوية، فبضرب من الحركات ظهر في العالم الطائر وبضرب آخر بيضة وبضرب آخر فرخ، وكذلك سائر ما يحدث في العالم، ويسكن ويتحرك ويوجد ويعدم، ويتصل وينفصل، ويجتمع ويفترق، ويزيد وينقص، من جماد أو نبات أو حيوان ناطق أو غير ناطق، فإنما يحدث عن حركات الكواكب على حسب ما وصفنا من نسج الديباج وغيره من الصنائع، وأهل صناعة النجوم لا يتناكرون أن يقولوا: أعطته الزهرة كذا، وأعطاه المريخ كذا، كالشُّقْرة وصُهُوبة الشعر وأعطاه زُحَلُ خفة العارضين وجُحُوظَ العينين وأعطاه عُطَارد الصنعة وأعطاه المشتري الحياء والعلم والدين، وأعطته الشمس كذا، وأعطاه القمر كذا، وهذا باب يكثر القول فيه ويتسع وصف مذاهب الناس فيه، وما قالوه في بابه.

ذكر البيوت المعظمة عند اليونانيين

بيت إنطاكية

البيوت المضاف بناؤها إلى مَنْ سلف من اليونانيين ثلاثة بيوت: فبيت منها كان بإنطاكية من أرض الشام، على جبل بها داكأ المدينة، والسور محيط بها، وقد جعل المسلمون في موضعه مَرْقَبا ا ليُنْنِرهم مَنْ قد رُتَبَ فيه من الرجال بالروم إذا وردوا من البر والبحر، وكان يعظمونه، ويقربون فيه القرابين،فخرب عند مجيء الإِسلام، وقد قيل إن قسطنطين الأكبر بن هيلاني الملكة المُظْهِرة لدين النصرانية هو المخرب لهذا البيت، وكانت فيه الأصنام والتماثيل من الذهب والفضة وأنواع الجواهر، وقد قيل: إن هذا البيت هو بيت بمدينة إنطاكية على يَسره الجامع اليوم، وكان هيكلا عظيماً، والصابئة تزعم أن الذي بناه سقلابيوس، وهو في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- سوق بسوق الجزارين، وقد كان ثابت بن قرة بن كراني الصابئ الحراني- حين وافى المعتضد بالله في سنة تسع وثمانين ومائتين في طلب وصيف الخادم- أتى هذا الهيكل وعًظمه، وأخبر من شأنه ما وصفنا.

الأهرام بمصر وبيت المقدس

والبيت الثاني من بيوت اليونانيين هو بعض تلك الأهرام التي بمصر وهو يرى من الفُسْطاط على أميال منها.
والبيت الثالث هو بيت المقدس، على مازعم القوم، وأهل الشر إنما تخبر أن داود عليه السلام بناه وأتمه سليمان بعد وفاة أبيه، والمجوس تزعم أن الذي بناه الضحاك؛وأنه سيكون له في المستقبل من الزمان خطب طويل، ويقعد فيه ملك عظيم، وذلك عند ظهور شوبين على بقرة من صفتها كذا، ومعه من الناس كذا من العدد، وأقاصيص تدعيها المجوس في هذا المعنى، واختلاط طويل ننزّه كتابنا عن ذكره، واللّه تعالى ولي التوفيق.

ذكر البيوت المعظمة عند أوائل الروم

كانت البيوت المعظمة عند أوائل الروم قبل ظهور دين النصرانية بيت ببلاد المغرب بمدينة قَرْطَاجنة- وهي تونس- من وراء بلاد القيروان، وهي من أرض الإفرنجة، وبني على اسم الزهرة بأنواع من الرخام.

والبيت الثاني بإفرنجة، وهو بيت عظيم عندهم. والبيت الثالث عندهم بمقدونية، وأمره مشهور في التشييد، وما كان من خبره بمقدونية، وقد أتينا على أخباره وأخبار غيره فيما سلف من كتبنا، واللّه تعالى أعلم.

ذكر البيوت المعظمة عند الصقالبة

كانت في ديار الصقالبة بيوت تعظمها: منها بيت كان لهم في الجبل الذي ذكرت الفلاسفة أنه أحد جبال العالم العالية، وهذا البيت له خبر في كيفية بنائه، وترتيب أنواع أحجاره، واختلاف ألوانه، والمخاريق المصنوعة له، فيه على أعلاه، وما من مطلع الشمس في تلك المخاريق المصنوعة وما أودع فيه من الجواهر والآثار المرسومة فيه الدالة على الكائنات المستقبلة، وما تُنذِر به تلك الجواهر من الأحداث قبل كونها، وظهور أصوات من أعاليه لهم، وما كان يلحقهم عند سمأع ذلك.

وبيت اتخذه بعض ملوكهم على الجبل الأسود، تحيط به مياه عجيبة ذوات ألوان وطعوم مختلفة عامة المنافع، وكان لهم فيه صنم عظيم على صورة رجل قد انحنى على نفسه، وهو شيخ بيده عصا يحرك به عظام الموتى من النواويس، وتحت رجله اليمنى صُوَر أنواع من النمل، وتحت الأخرى غرابيب سود من صور الغُدَاف وغيرها، وصور عجيبة لأنواع، الأحابيش والزنج.

وبيت أخر على تجبل لهم يحيط به خليج من البحر قد بني بأحب المرجان الأحمر، وأحجار الزمرد الأخضر، في وسطه قبة عظيمة، تحتها صنم عظيم أعضاؤه من جواهر أربعة: زمرد أخضر، وياقوت أحمر وعقيق أصفر، وبلور أبيض، ورأسه من الذهب الأحمر، فإزائه صنم آخر على صورة جارية، وكان يقرب له قرابين ودخن، وكان ينسب هذا البيت إلى حكيم كان لهم في قديم الزمان، وقد أتينا على خبره، وما كان من أمره بأرض الصقالبة، وما أحدث فيهم من الدكوك والحيل والمخاريق المصطنعة التي اجتذب بها قُلُوبَهُمْ وملك نفوسهم واسترق بها عقولهم مع شراسة أخلاق الصقالبة واختلاف طبائعهم، فيما سلف من كتبنا، والله تعالى وليّ التوفيق. 

ذكر البيوت المعظمة والهياكل المشرفة للصابئة

وغيرها وغير ذلك مما لحق بهذا الباب واتصل بهذا المعنى

هيكل العقل والعلة الأولى

للصابئة من الحَرانيين هياكل على أسماء الجواهر العقلية والكواكب فمن ذلك هيكل العلة الأولى، وهيكل العقل، وما أثري أ أشاروا إلى العقل الأول أما الثاني، وقد ذكر صاحب المنطق في كتابه في المقالة الثالثة من كتاب النفس العقل الأول الفعَّال، والعقل الثاني، وذكر ذلك تامسطيس في كتابه في شرح كتاب النفس الذي عمله صاحب المنطق، وقد ذكر العقل الأول والثاني الإسكندر الأفرودوسي في مقالة أفْرَدها في ذلك قد ترجمها إسحاق بن حُنَين.

جملة من هياكلهم

ومن هياكل الصابئة هيكل السلسلة، وهيكل الصورة، وهيكل النفس، وهذه مُدَوَّرات الشكل، وهيكل زُحَل مسدس، وهيكل المشتري مثلث، وهيكل المريخ مربع مستطيل، وهيكل الشمس مربع، وهيكل عطارد مثلث الشكل، وهيكل الزهرة مثلث في جوف مربع مستطيل،وهيكل القمر مثمن الشكل وللصابئة فيما ذكرنا رموز وأسرار يخفونها.

وقد حكى رجل من ملكية النصارى من حًرّان يعرف بالحارث بن شباط للصابئة الحرانيين أشياء ذكرها من قرابين يقربونها من الحيوان ودخن للكواكب يبخرون بها وغير ذلك مما امتنعنا عن ذكره مخافة التطويل. والذي بقي من هياكلهم المعظمة في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين -ثلاثين وثلثمائة بيت لهم بمدينة حَران في باب الرقة يعرف بمغليتيا، وهو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليل عليه السلام عندهم، وللقوم في آزر وابنه إبراهيم كلام كثير ليس كتابنا هذا موضعاً له، ولابن عيشون الْحَرًاني لقاضي- وكان ذا فَهْم ومعرفة، وتوفي بعد الثلثمائة- قصيدة طويلة يذكر فيها مذاهب الحرانيين المعروفين بالصابئة، ذكر فيها هذا البيت وما تحته من السراديب الأربعة المختلفة لأنواع صور الأصنام التي جعلت مثالاً للأجسام السماوية وما ارتفع من ذلك من الأشخاص العلوية، وأسرار هذه الأصنام، وكيفية إيرادهم لأطفالهم إلى هذه السراديب وعرضهم لهم على هذه الأصنام، وما يُحْدِث ذلك في ألوان صبيانهم من الاستحالة إلى الصُّفْرة وغيرها لما يسمون من ظهور أنواع الأصوات وفنون اللغات من تلك الأصنام والأشخاص، بِحِيل قد اتخذت ومنافيخ قد عملت: تقف السدَنة من وراء جُمُرٍ فتتكلم بأنواع من الكلام، فتجري الأصوات في تلك المنافيخ والمخاريق والمنافذ إلى تلك الصور المجوفة والأصنام المشخصة، فيظهر منها نطق على حسب ما قد عمل في قديم الزمان، فيصطادون به العقول، وتسترقُّ بها الرقاب، ويقام بها الملك والممالك ومما ذكر في هذه القصيدة قوله:

إن نفيس الـعـجـائب

 

بيت لهم في سـرادب

تعبد فيه الـكـواكـب

 

أصن أمه م خلف غائب

ولهذه الطائفة المعروفة بالحرانيين والصابئة فلاسفة، إلا أنهم من حشوية الفلاسفة، وعوأمه م مباينون لخواص حكمائهم في مذاهبهم، وإنما أضفناهم إلى الفلاسفة إضافة سبب لا إضافة حكمة، لأنهم يونانية، وليس كل اليونانيين فلاسفة، إنما الفلاسفة حكماؤهم.

ورأيت على باب مجمع الصابئة بمدينة حران مكتوباً على مدقة الباب بالسريانية قولا لأفلاطون فسره مالك بن عقبون وغيره منهم وهو من عرف ذاته تالهَ وقد قال أفلاطون الإنسان نبات سماوي، والدليل على هذا أنه شبيه شجرة منكوسة أصلها إلى السماء وفروعها في الأرض ولأفلاطون وغيره ممن سلك طريقه في النفس الناطقة كلام كثير في هل النفس في البدن أو البدن في النفس، كالشمس أهي في الدار أو الدار في الشمس، وهذا قول يتغلغل بنا الكلام فيه إلى الكلام في تنقل الأرواح في أنواع الصور.

القول في تنقل الأرواح

وقد تنازع أهل هذه الآراء ممن قصد هذه المقالة في النقلة علىِ وجهين، فطائفة من الفلاسفة القدماء اليونانين والهند- ممن لم يثبت كلاماَ منزلاً ولا نبياً مرسلاً منهم أفلاطون ومن يمم طريقهم- حكى عنهم أنهم زعموا أن النفس جوهر ليست بجسم، وأنها حية عالمة مميزة لأجل ذاتها وجوهرها، وأنها هي المدبرة للأجسام المركبة من طبائع الأرض المتضادة، وعرضها في ذلك أن تقيمها على العدل وما تتم به السياسة المستقيمة والنظام المتسق وتردَّها من الحركة المضطربة إلى المنتظمة.

وزعموا أنها تلذُّ وتألم وتموت، وموتها عندهم انتقالها من جسد إلى جسد بتدبير، وبطلان ذلك الشخص الذي فسد ووصف بالموت، لأن شخصها يفسد، ولأن جوهرها ينتقل.

وزعموا أنها عالمة بذاتها وجوهرها عالمة بالمعقولات من ذاتها وجوهرها وفيها قبول علم المحسوسات من جهة الحس.

المقولأت

ولأفلاطون وغيره في هذه المعاني كلام يطول ذكره، ويعجز عن وصفه وإظهاره لاعتياصه وغموضه، وكذلك صاحب المنطق وفيثاغورس وغيرهما من الفلاسفة ممن تقدم وتأخر، لأن الطالب لعلم هذه الأشياء والإحاطة بفهمها وبلوغ غايتها لا يحرك ذلك لما نصبوا من الكتب، ورتبوا من التصنيف للعلوم المؤدية إلى معرفة علومهم وأغراضهم التي إليها قصدوا في كتبهم وهي معرفة الألفاظ الخمس، وهي: الجنس. والفصل، والنوع، والخاصة، والعرض، ثم معرفة المقولات، وهي عشرة: الجوهر، والكمية، والكيفية، والإضافة- وهي النسبة- وهذه أربع بسائط، والست الأخر مركبات، وهي: الزمان، والمكان، والجِدة- وهي المِلْكُ- والوضع، والفاعل، والمنفعل، ثم ما بعد ذلك مما يترقى فيا الطالب إلى أن ينتهي إلى علم ما بعد الطبيعة من معرفة الأول والثاني.

عود إلى الكلام عن الصابئة

ثم رجع بنا الإخبار عن مذاهب الصابئة من الحرانيين، وذكر مَنْ أخبر عن مذاهبهم وكشف عن أحوالهم. فمن ذلك كتاب رأيته لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي الفيلسوف صاحب كتاب المنصوري في الطب وغيره، ذكر فيه مذاهب الصابف الحرانيين منهم، دون من خالفهم من الصابئة، وهم الكيماريون، وذكر أشياء يطول ذكرها ويقبح عند كثير من الناس وصفها، أعرضنا عن حكايتها، إذ كان في ذلك خروج عن حد الغرض من كتابنا إلى وصف الآراء والديانات.

وقد خاطبت مالك بن عقبون وغيره منهم بشيء مما ذكرنا وغيره عنه كتبنا، فمنهم من اعترف ببعضه، وأنكر بعضاً من ذكر القرابين وغيرا من الآراء، مثل فعلهم بالثور الأسود، فإنه يضرب وجهه بالملح إذا شدت عيناه ثم يذبح، وبُرَاعى كل عضو من أعضائه وما يظهر منه من الحركات والأختلاج على ما يدل ذلك من أحوال السنة وغير ذلك من أسرارهم

ومحالاتهم وأحوال قرابينهم.

قال المسعودي: وقد ذكر جماعة- ممن له تأمل بشأن أمور هذا العالم والبحث عن أخباره- أن بأقصى بلاد الصين هيكلاً مدوراً له سبعة أبواب، في داخله قبة و مسبعة عظيمة الشأن عالية السمك، في أعالي القبة شبه الجوهرة يزيد على رأس العجل تضيء منه جميع أقطار ذلك الهيكل، وأن جماعة من الملوك حاولوا أخذ تلك الجوهرة فلم يَدْنُ أحد منها على مقدار عشرة أفرع إلا خَرَّ ميتاً وإن حاول أحد منهم أخذ هذه الجوهرة بشيء من الآلات الطوال كالرماح وغيرها وانتهتَ إلى هذا المقدار من الذَّرْع انعكست وعطلت، وإن رميت بشيء كان كذلك، فليس شيء من الحيل يؤدي إلى تناولها بوجه ولا بسبب، وإن تعرض لشيء من هَدْم هذا الهيكل مات مَنْ يروم ذلك وهذا عند جماعة من أهل الخبرة لقوةٍ دافعةٍ منفردةٍ قد عملت من أنواع الأحجار المغناطيسية، وفي هذا الهيكل بئر مسبعة الرأس متى أكَبَّ الإنسان على رأس البئر إكباباً متمكناً تهؤَر في البئر فصار في أسفلها على أم رأسه، وعلى رأس هذه البئر شبه الطوق مكتوب عليه بقلم قديم أراه بقلم المسند هذه بئر تؤدي إلى مخزن الكتب وتاريخ الدنيا وعلوم السماء وما كان فيما مضى من الدهر وما يكون فيما يأتي منه، وتؤدي هذه البئر أيضاً إلى خزائن وغائب هذا العالم، لا يعمل إلى الوصول إليها والاقتباس منها إلا من وازت قدرته قدرتنا، واتصل علمه بعلمنا، وصارت حكمته كحكمتنا، فمن قدر على الوصول إلى هذا المخزن فليعلم أنه قد وازانا، ومن عجز عن الوصول إلى ما وصفنا فليعلم أنا أشد منه بأساً، وأقوى حكمة، وأكثر علماً، وأثقب راية، وأتم عناية، والأرض التي عليها هذا الهيكل والقبة وفيها البئر أرض حجرية صلبة عالية من الأرض كالجبل الشامخ لا تُرَام قلعته ولا يتأتى نقب ما تحته، فإذا أدرك البصر ذلك الهيكل والقبة والبئر وقع للرائي عند رؤيته ذلك جَزَع وحزن واجتذاب للقلب إليه وحنين على إفساده وتأسف على إفساد شيء منه أو هدمه، واللهّ أعلم بذلك. 

ذكر الأخبار عن بيوت النيران وغيرها

رأيهم في النار والنور

فأما بيوت النيران ومن رسمها من ملوك الفرس الأولى والثانية فأول ما يحكى ذلك عنه أفريحون الملك، وذلك أنه وجد ناراً يعظمها أهلها، وهم معتكفون على عبادتها، فسألهم عن خبرها ووجه الحكمة منهم في عبادتها، فأخبروه بأشياء اجتذبت نفسه إلى عبادتها، وأنها واسطة بين اللهّ ؤبين خلقه، وأنها من جنس الآلهة النورية، وأشياء ذكروها أعرضنا عن ذكرها لاعتياصها، وذلك أنهم جعلوا للنور مراتب، وفرقوا بين طبع النار والنور، وأن الحيوان يجتذب فيحَرق نفسه كالفَرَاش الطائر بالليل، فما لطف يطرح نفسه في السراج فيحرقها، وغير ذلك مما يقع في صيد الليالي من الغزلان والطير والوحوش، وكظهور الحيتان من الماء إذا قربت من السراج في الزوارق، كما يصطاد ببلاد البصرة السمك في الليل يظهر من الماء طافياً حتى يقع في جوف المركب والسرج قد جعمن حواليه، وأن النور صلاح هذا العالم، وشرف النار على الظلمة ومضادته لها، ومرتبة الماء وزيادته على النار بإطفائه ومضادته لها وأنه أصل لكل حي ومبدأ لكل نام.

أماكن بيوت النيران

فلما أخبر أفريدون بما ذكرنا أمر بحمل جزء منها إلى خراسان، فاتخذ لها بيتاً بطوس واتخذ بيتاً آخر بمدينة بُخَارا يُقال له برد سورة وبنى آخر من بيوت النار بسجستان يقال له كراكر كان اتخذه بهمن بن إسفنديار بن يستأسف، وبيت آخر ببلاد الشيزوالران، وكان فيه أصنام فأخرجها أنو شروان، وقيل: إن أنو شروان صادف هذا البيت وفيه نار معظمة فنقلها إلى الموضع المعروف بالبركة، وبيت آخر للنار يُقال له كوسجة بناه كيخسر والملك، وقد كان بقومس بيت للنار معظم لا يدرى مَنْ بناه يُقال له جريش، ويقال: إن الإسكندر لما غلب عليها تركها ولم يطفئها ويقال: إنه كان في ذلك الموضع فيما مضى مدينة عظيمة عجيبة البناء فيها بيت كبير عجيب الهيئة فيه أصنام فأخربت تلك المدينة بما فيها من البيوت، ثم بنى بعد ذلك بيت وجعلت فيه تلك النار، وبيت آخر يسمى كنجده بناه سياوخس بن كاوس الجبار، وذلك في زمان لبثه بمشرق الصين مما يلي البركند، وبيت نار بمدينة أرجان من أرض فارس اتخذ في أيام بهراسف.

زرادشت والبيوت التي اتخذها

وهذه البيوت العشرة كانت قبل ظهور زرادشت بن أسبيمان نبي إلمجوس، ثم اتخذ زرادشت بن أسبيمان بعد ذلك بيوت النيران، وكان مما اتخذ بيت بمدينة نيسابور من بلاد خراسان، وبيت آخر بمدينة نَسَا والبيضاء من أرض فارس، وقد كان زرادشت أمر يستأسف الملك أن يطلب ناراً كان يعظمها جمّ الملك، فطلبت فوجدت بمدينة خوارزم، فنقلها بعد ذلك يستأسف إلى مدينة دارَابَجَرْدَ من أرض فارس وكورها بهذا البيت، وهذه النار تسمى في وقتنا هذا- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- زرجوى، وتفسير ذلك نار النهر، وذلك أن آزر أحد أسماء النار وجوى أحد أسماء النهر بالفارسية الأولى، والمجوس تعظم هذه النار مالا تعظم غيرها من النيران والبيوت.

وذكرت الفرس أن كيخسرو لما خرج غازيا إلى الترك سار إلى خوارزم، فمر على تلك النار، فلما وجدها عظمها وسجد لها، ويقال: إن أنو شروان هو الذي نقلها إلى الكاريان، فلما ظهر الإسلام تخوفت المجوس أن يطفئها المسلمون فتركوا بعضها بالكاريان، ونقلوا بعضها إلى نسا والبيضاء من كورة فارس؛لتبقى إحداهما إن طفئت الأخرى.

بيت بإصطخر

وللفرس بيت نار بإصطخر فارس تعظمه المجوس، وكان في قديم الزمان فأخرجته حماية بنت بهمن بن إسفنديار وجعلته بيت نار، ثم نقلت عنه النار فتخرب، والناس في وقتنا هذا يذكرون أنه مسجد سليمان بن داود، وبه يعرف وقد دخلته، وهو على نحو فرسخ من مدينة إصطخر، فرأيت بنياناً عجيباً، وهيكلا عظيماً، وأساطين صخر عجيبة، على أعلاها صور من الصخر طريفة من الخيل وغيرها من الحيوان عظيمة القدر والأشكال، محيط بذلك حيز عظيم وسور منيع من الحجر، وفيه صور لأشخاص قد تشكلت وأتقنت صورها، يزعم من جاور هذا الموضع أنها صور الأنبياء، وهو في سفح جبل والريح غير خارجة من ذلك الهيكل في ليل ولا نهار، ولها هبوب وعَوِيٌّ، يذكر مَنْ هنالك من المسلمين أن سليمان بن داود عليهما السلام حبس الريح في ذلك الموضع، وأنه كان يتغذَى ببعلبك من أرض الشام، ويتعشَى في هذا المسجد، وينزل بينهما بمدينة تَدْمُرَ وملعبها المتخذ فيها، ومدينة تَدْمُرَ في البرية بين العراق ودمشق وحمص من أرض الشام يكون منها إلى الشام نحو خمسة أيام أو ستة، وهي بنيان عجيب من الحجر، وكذلك الملعب الذي فيها، وفيها خَلْق من الناس من العرب من قحطان.

بيت بسابور وبيت بجور

وفي مدينة سابور من أرض فارس بيت للنار معظم عندهم، اتخذه دارا بن دارا. وفي مدينة جور من أرض فارس- وهو البلد الذي يحمل منه ماء الورد الجوري وإليه يضاف- بيت للنار، بناه أردشير بن بابك، وقد رأيته، وهو على ساعة منها على عين هناك عجيبة، وله عيد، وهو أحد متنزهات فارس، وفي وسط مدينة جور بنيان كان تعظمه الفرس يُقال له الطربال أخربه المسلمون، وبين جور ومدينة كوار عشرة فراسخ، وبها يعمل ماء الورد الكوأري وإليها يضاف، وهذا الماء الورد المعمول بجور وكوار أطْيَبُ ماء ورد يعمل في العالم، لصحة التربة وصفاء الهواء، وفي ألوان سكان هذه البلاد حمرة في بياض ليست لغيرهم من أهل الأمصار، ومن كوار إلى مدينة شيراز- وهي قصبة فارس- عشرة فراسخ، ولجور وكوار وشيراز وغيرها من كور فارس أخبار، ولما فيها من البنيان أقاصيص يطول ذكرها قد دونتها الفرس، وكذلك ما كان بأرض فارس من الموضع المعروف بماء النار، وقد بني عليه هيكل.

وكان كورش الملك- حين ولد المسيح عليه السلام- بعث ثلاثة أنفس: دفع إلى أحدهم صرة من لبان، وإلى آخر صرة من مر، وإلى آخر صرة من تبر، وسَيَّرهم يهتدون بنجم وصفَه لهم، فساروا حتى انتهوا إلى السيد المسيح و أمه مريم بأرض الشام، والنصارى تغلو في قصة هؤلاء النفر، وهذا الخبر موجود في الإِنجيل، وإن هذا الملك كورش نظر إلى نجم قد طلع بمولد المسيح عيسى، فكانوا إذا ساروا سار معهم ذلك النجم، وإذا وقفوا وقف بوقوفهم، وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان على شرح هذا الخبر، وما قالت فيه المجوس والنصارى، وخبر الرُّغْفَان التي دفعتها إليهم مريم، وما كان من الرسل وجعلهم الخبز تحت الصخرة وغَوْصها في الأرض، وذلك بفارس، وكيف حفر عليها إلى الماء وأنها وجدت وقد صارت سعلتي نار على وجه الأرض تتقدان، وغير ذلك مما قيل في هذا الخبر.

وقد كان أردشير بنى بيتاً آخر يُقال له بارنوا، وفي اليوم الثاني من غلبته على فارس، ؤبيت نار على خليج القسطنطينية من بلاد الروم، بناه سابور بن أردشير بن بابك- وهو سابور الجنود- حين نزل على هذا الخليج، وحاصر القسطنطينية في عساكره، فلم يزل هذا البيْت هنالك إلى خلافة المهدي، فخرب وله خبر عجيب، وكان مسيوره الجنود اشترط على الروم بناء هذا البيت وعمارته عند حصاره القسطنطينية، وكان مسيرهُ في جيوش فارس وغيرها من الترك وملوك الأمم، فسمى سابور الجنود. لكثرة من تبعه من الجنود.

حصن الحضر

وقد كان سابور لما سار إلى بلاد الجزيرة عَدَلَ عن طريقه فنزل الحصن المعروف بالحضر، وقد كان هذا الحصن للساطرون بن اسيطرون ملك السريانيين في رستاق يُقال له أياجر من بلاد الموصل، وقد ذكرته الشعراء؛لعظم ملكه وكثرة جيوشه وحسن بنائه لهذا الحصن المعروف بالحضر، فممن ذكره منهم أبو عُوَاد جارية بن حجاج الأيادي بقوله:

وأرى الموت قد تدلى من الحض

 

ر على رَبِّ أهله الساطـرون

ولقد كان آمـنـا لـلـدواهـي

 

ذا ثراء وجوهـر مـكـنـون

قول في نسب النعمان بن المنذر: وقد قيل: إن النعمان بن المنزر من ولد الساطرون بن أسيطرون وقال: هو النعمان بن المنزربن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن الساطرون بن اسيطرون والساطرون واسيطرون هذه ألقاب، وهم ملوك ملكوا على السريانيين. ثم تملك تلك الديار بعد مَنْ ذكرنا ممن أفناهم الدهر الضيزن بن جبلة، وجبلة أمة وهو الضيزن بن معاوية ملكا على قومه من تَنُوخ بن مالك بن فهم بن تيم اللات بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وهو الضيزن بن معاوية بن العبيد بن حرام بن سعد بن سليح بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وكان كثير الجنود، مهادِناً للروم، متحيزاً أليهم، يغير رجاله على العراق والسواد، وكان في نفس سابور عليهم ذلك، فلما نزل علىِ حصنه تحصن الضيزن في الحصن، فأقام سابور عليه شهراً لا يجد سبيلا إلى فتحه، ولا يتأتى له حيلة في دخوله، فنظرت النضيرة بنت الضيزن يوماً وقد أشرفت من الحصن إلى سابور فهويته وأعجبها جماله، وكان من أجمل الناس وأمَدِّهم قامة، فأرسلت إليه: إن أنت ضمنت لي أن تتزوجني وتفضلني على نسائك دللتك على فتح هذا الحصن، فضمن لها ذلك، فأرسلت إليه: ائت الثرثار- وهو نهر في أعلاه- فانثر فيه تبناً ثم أتْبَعْه فانظر أين يدخل فأدخِل الرجالَ منه، فإن ذلك المكان يُفْضِي إلى الحصن، ففعل ذلك سابور، فلم يشعرِ أهل الحصن إلا وأصحاب سابور معهم في الحصن، وقد عمدت النضيرة فسَقَت أباها الخمر حتى أسكرته طمعاً في تزويج سابور إياها، وأمر سابور بهدم الحصن بعد أن قتل الضيزن ومن معه وعَرَّس سابور بالنضرة بنت الضيزن فباتت مُسَهّدة، فقال لها سابور: ما لك لا تنامين؟ قالت: إن جنبي يتجافى عن فراشك، قال: ولم فواللّه ما نامت الملوك على ألين منه وأوطأ إن حَشْوُه لزغب النعام؟!!! فلما أصبح سابور نظر فإذا ورقة آسٍ بين عُكَنها، فتناولها فكاد بطنها أن يَدْمَى، فقال لها: ويحك!! بم كان أبواك يغذيانك. فقالت: بالزبد والمحَ والثلج والشهد وصفو الخمر، فقال لها سابور: إني لخدير أن لا أستبقيك بعد إهلاك أبويك وقومك، وكانت حالتك عندهم الحالة التي تَصِفِين، فأمر بها فربطت بغدائرها إلى فرسين جموحين، ثم خلّى سبيلهما، فقطعاها، ففي هذا الملك المقتول ومن كان معه في الحصن يقول حرى بن الدهماء العبسي:

ألم يحزنك والأنباء تـمـنـى

 

بما لاقت سَرَاةُ بني العـبـيد

ومصرع ضيزن وبنـي أبـيه

 

وأحلاف الكتائب مـن تـزيد

أتاهم بالفُـيُول مـجـلـلات

 

وبالأبطال سابور الـجـنـود

فهدَّمَ من بروج الحصن صخراً

 

كأن بنـاءه زُبُـرُ الـحـديدا

وفي قتل سابور للنضيرة بنت الضيزن وما كان منها من الغدر بأبيها وقومها وإرشاد سابور إلى دخول الحصن يقول عدي بن زيد العبادي:

والحضر صُبّـتْ عـلـيه داهـية

 

من قصره قد أبـذَ سـاكـنـهـا

أرَبـيبة لـم تُـوَقّ والـدهـــا

 

لحينـهـا إذ أضـاع راقـبـهـا

وأسلمت أهلـهـا لـلـيلـتـهـا

 

تظن أن الـرئيس خـاطـبـهـا

وكان حظ العروس إذ جشر الصبح

 

دمـاء تـجـري سـبـائبـهـا

والشعر في هذه القصة كثير.

جملة من بيوت النار

وبأرض العراق بيت للنار بالقرب من مدينة السلام، بنته بوران بنت كسرى أبرويز الملكة في الموضع المعروف بأستنيا.

وبيوت النيران كثيرة مما بنته المجوس بالعراق وأرض فارس وكرمان وسجستان وخراسان وطبرستان والجبال وأذر والران، وفي الهند والسند والصين، أعرضنا عن ذكرها، وإنما ذكرنا ما أشتهر منها.

بيت بعل

والهياكل المعظمة عند اليونانيين وغيرهم كثيرة: مثل بيت بَعْلٍ، وهو الصنم الذي ذكره اللّه عز وجل بقوله: " أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين "؛ وهو بمدينة بعلبك من أعمال دمشق من كورة سنير، وقد كانت اليونانية اختارت لهذا الهيكل قطعة من الأرض بين جبل لبنان وجبل سنير فأتخذته موضعاً للأصنام، وهما بيتان عظيمان أحدهما أقدم من الأخر، فيهما من النقوش العجيبة المحفورة في الحجر الذي لا يتأتى حفر مثله في الخشب مع علو سمكهما وعظم أحجارهما، وطول أساطينهما، ووسع فتحهما، وعجيب بنيانهما، وقد أتينا على خبر هذه الهياكل وما كان من خبر القتل على رأس ابنة الملك وما نال أهل هذه المدينة من سفك الدماء.

جيرون بدمشق

وهيكل عظيم في مدينة دمشق، وهو المعروف بجيرون، وقد ذكرنا خبره فيما سلف من هذا الكتاب وأن بانيه جيرون بن سعد العادي، ونقل إليه عمد الرخام، وأنه أرم ذات العماد المذكور في القرآن، إلا ما ذكر عن كعب الأحبار حين دخل على معاوية بن أبي سفيان وسأله عن خبرها وذكر عجيب بنيانها من الذهب والفضة والمسك والزعفران وأنه يدخلها رجل من العرب يتيه له جملان فيخرج في طلبهما فيقع إليها، وذكرحِلْية الرجل، ثم التفت في مجلس معاوية فقال: هذا هو الرجل، وكان الأعرابي قد دخلها يطلب ما ند من إبله؛فأجاز معاوية كعباً، وتبيم صدق مقاتله وإيضاح برهانه، فإن كان هذا الخبر عن كعب حقاً في هذه المدينة فهو حسن، وهو خبر يدخله الفساد من جهات من النقل وغيره. وهو من صنعة القُصاص.

وقد تنازع الناس في هذه المدينة، وأين هي؟ ولم يصح عند كثير من الإخباريين ممن وفد على معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين من العرب وغيرهم من المتقدمين فيها، إلا خبر عبيد بن شَرِية وإخباره إياه عما سلف من الأيام وما كان فيها من الكوائن والحوادث وتشعب الأنساب، وكتاب عبيد بن شرية متداول في أيدي الناس مشهور.

كتاب ألف ليلة وليلة

وقد ذكر كثير من الناس ممن له معرفة بأخبارهم أن هذه أخبار، موضوعة من خُرَافات مصنوعة، نظمها مَنْ تقرب للملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وأن سبيلها الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية، وسبيل تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب هزار أفسانة، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خُرَافة، والخرافة بالفارسية يُقال لها أفسانة، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنه وجاريتها وهما شيرزاد ودينا زاد، ومثل كتاب فرزة وسيماس وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب السندباد، وغيرها من الكتب في هذا المعنى.

أصل مسجد دمشق

وقد كان مسجد دمشق قبل ظهور النصرانية هيكلاً عظيماً فيه التماثيل والأصنام على رأس منارته تماثيل منصوبة، وقد كان بني على اسم المشتري وطالِع سعد، ثم ظهرت النصرانية فجعلته كنيسة، وظهر الإسلام فجعل مسجداَ وحكم بناءه الوليدُ بن عبد الملك، والصوامع منه لم تغير، وهي مَنَائر الأذان إلى هذا الوقت.

البريص بدمشق

وقد كان بدمشق أيضاً بناء عجيب يُقال له البريص، وهو مبقّى إلى هذا الوقت في وسطها، وكان يجري فيه الخمر في قديم الزمان، وقد ذكرته الشعراء في مدحها لملوك غسان من مأرب وغيرهم.

الديماس بإنطاكية

وهيكل إنطاكية يعرف بالديماس، على يمين مسجدها الجامع، مبني بالأجر العادي والحجر، عظيم البنيان، وفي كل سنة يدخل القمر عند طلوعه من باب من أبوابه ومن أعاليه في بعض الأهلة الصيفية، وقد ذكر أن هذا الديماس من بناء الفرس ملكت إنطاكية، وأنه بيت نار لها.

بعض عجائب الدنيا

قال المسعودي: وقد ذكر أبو معشر المنجم في كتابه المترجم بكتاب الألوف الهياكل والبنيان العظيم الذي يحدث بناؤه في العالم في كل ألف عام، وكذلك ذكره ابن المازيار تلميذ أبي معشر في كتابه المنتخب من كتاب الألوف وقد ذكر غيرهما ممن تقدم عصرهما وممن تأخر عنهما كثيراً من البنيان والعجائب في الأرض، وقد أعرضنا عن ذكرها، وذكر السد  الأعظم- وهو سد يأجوج ومأجوج - وقد تنازع الناس في كيفية بنائه كتنازعهم في أرم ذات العماد على ما ذكرنا آنفاً، وكيفية بناء الأهرام الذي بأرض مصر وما عليها من الكتابة المرسومة، وما بصعيد مصر من الْبَرَابِي المصنوعة، وبغير أرض الصعيد من بلاد مصر، وأخبار مدينة العقاب، وما ذكر الناس فيها، وكونها في وهاد مصر وأنها في جهة الواحات مما يلي المغرب والحبشة، وخبر العمود الذي ينزل منه الماء في فصل من السنه بأرض عاد، وأخبار النمل الذي على قدر الذئاب والكلاب، وقصة أرض الذهب التي حذاء سجلماسة من أرض المغرب، ومن هنالك من وراء النهر العظيم، ومبايعتهم من غير مشاهدتهم ولا مخاطبتهم، وتركهم المتاع، وغدؤ الناس إلى أمتعتهم فيجدون أعمدة الذهب وقد تركت إلى جنب كل متاع من تلك الأمتعة، فإن شاء مالك المتاع أختار الذهب وترك المتاع، وإن شاء أخذ متاعه وترك الذهب، وإن أحب الزيادة ترك الذهب والمتاع، وهذا مشهور بأرض المغرب بسجلماسة، ومنها يحمل التجار الأمتعة إلي ساحل هذا النهر، وهو نهر عظيم واسع الماء، وكذلك بأقاصي خراسان مما يلي بلاد الترك من أقاصي ديارهم أمة تتبايع على مثل هذا الوصف منغير مخاطبة ولا مشاهدة، وهم هنالك على نهر عظيم أيضاً، وخبر البئر المُعًطلة والقصر المَشِيدِ، وذاك ببلاد الشَحْر من بلاد الأحقاف بين اليمن وحضرموت، والبئر وما فيها من الخرق واتصالها بالقرى والفضاء من أعلاها وأسفلها وما قاله الناس في تأويل هذه الآية فيها، وهل المراد بالقصر والبئر هذا القصر والبناء أم غيره؟ وأخبار مخاليف اليمن، وهي القلاع والحصون كقلعة نحل وغيرها، وأخبار مدينة رومية وكيفية بنائها وما حوته من عجيب الهياكل والكنائس، والعمود الذي عليه السودانية من النحاس وما يحمل إليها من الزيتون في أي أمه بالشام وغيره، ويحمل ذلك الطائر المعروف بالسودانية في مخالبه ومنقاره؛ فيطرحونه في تلك، السودانية النحاس، فيكثر زيتون رومية وزيتها من ذلك، على حسب ما ذكرنا في أخبار الطلسمات عن بلينوس وغيره في كتابنا أخبار الزمان ثم أخبار البيوت السبعة التى ببلاد الأندلس وخبر مدينة الصُّفْر وقبة الرصاص التي بمفاوز الأندلس، وما كان من خبر الملوك السالفة فيها وتعذر الوصول إليها، ثمِ ما كان من أمر صاحب عبد الملك بن مروان في نزوله عليها، وما تهافتَ فيه المسلمون عند الطلوع على سورها، وإخبارهم عن أنفسهم أنهم وصلوا إلى نعيم الدنيا والآخرة، وخبر المدينة التي أسوارها من الصُّفْر على ساحل البحر الحبشي في أطراف مفاوز الهند، وما كان من أخبار ملوك الهند وعدم وصولهم إليها، وما يجري من وادي الرمل نحوها، وما ببلاد الهند من الهياكل المتخذة للأصنام التي على صورة البدرة المتقدم ظهورها في قديم الزمان بأرض الهند، وخبر الهيكل المعظم الذي ببلاد الهند المعروف بالدري، وهذا عند الهند يُقْصَد من البلدان الشاسعة وله بلد قد وقف عليه وحوله ألف مقصورة فيها جَوَارٍ لم تنظر لتعظيم هذا الصنم من الهند، وخبر الهيكل الذي فيه الصنم ببلاد المولتان على نهر مهران من أرض السند، وخبر سندان كسرى ببلاد قرماسين من أعمال الدينور من ماه الكوفة، وكثير من أخبار العالم وخواص بقاعه وأبنيته وجباله وبدائع ما فيه من الخلق من الحيوان وغيره مما قد أتينا على ذكره فيما سلف من كتبنا، وكذلك ما خص به كل بلد من أنواع الفواكه دون غيره من البلدان، في الإسلام وغيره من الممالك، وما بان به أهل كل بلد من اللباس والأخلاق دون غيرهم، وما انفردوا به من أنواع الأغذية والمآكل والمشارب والشِّيم، وعجائب كل بلد، وذكرنا أخبار البحار وما قيل في اتصال بعضها ببعض وتغلغل مياهها، وما يحدث في كل بحر منها من الآفات وما فيه من الجواهر دون غيوه- من البحار، كتكون المرجان ببحر المغرب وعدمه من غيره، ووجود اللؤلؤ في البحر الحبشي دون غيره.

محاولات قديمة لوصل بحر الروم بالبحر الأحمر

وقد كان بعض من ملك من الروم حَفَر بين القلزم وبحر الروم طريقاً فلم يتأت له ذلك،لارتفاع القلزم، وانخفاض بحر الروم، وأن اللهّ عز وجلّ قد جعل ذلك حاجزاً على حسب ما أخبر في كتابه، والموضع الذي حفره ببحر القلزم يعرف بذنب التمساح على ميل من مدينة القلزم، عليه قنطرة يجتاز عليها مَنْ يريد الحج من مصر، وأجرى خليجاً من هذا البحر إلى موضع يعرف بالهامة ضيعة لمحمد بن علي المافراني من أرض مصر في هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- فلم يتأتَّ له اتصال ما بين بحر الروم وبحر القلزم.

وحفر خليجاً آخر مما يلي تنيس ودمياط وبحيرتهما، ويعرف هذا الخليج بالربر والخبية، واستمر الماء في هذا الخليج من بحر الروم وبحيرة تنيس إلى موضع يعرف بنعنعان حتى اتصل بنحو بلاد الهامة، فكانت المراكب تدخل من بحر الروم إلى نحو من هذه القرية، ومن بحر القلزه في خليج ذنب التمساح فيتتابع أرباب المراكب، ويقرب حمل ما في كل بحر إلى آخر، ثم أرتدم ذلك على تطاول الدهور، وملأت السَّوَافِي من الرمل وغيره.

وقد رام الرشيد أن يوصل بين هذين البحرين مما يلي من أعالي مصبه من نحو بلاد الحبشة وأقاصي صعيد مصر، فلم تتأتَّ له قسمة ماء النيل، فرام ذلك مما يلي بلاد الْفَرَمَا نحو بلاد تنيس، على أن يكون مصب بحر القلزم إلى البحر الرومي، فقال يحيى بن خالد: يخطف الروم الناس من المسجد الحرام والطواف، وذلك أن مراكبهم تنتهي من بحر الروم إلى بحر الحجاز، فتطرح سراياها مما يلي جدة، فيخطف الناس من المسجد الحرام ومكة والمدينة على ما ذكرنا، فامتنع من ذلك.

وقد حكي عن عمرو بن العاص- حين كان بمصر- أنه رام ذلك؛ فمنعه منه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وذلك لما وصفنا من فعل الروم وسراياهم، وذلك في حال ما افتتحها عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وآثار الحفر بين هذين البحرين- فيما ذكرنا من المواضع والخلجان- بينه على حسب ما شرعت فيه الملوك السالفة طلباً لعمارة الأرض، وخصب البلاد، وعيش الناس بالأقوات، وأن يحمل إلى كل بلدٍ ما ليس فيه من الأقوات وغيرها من ضروب المنافع وضروب المرافق، والله تعالى أعلم..

ذكر جامع التاريخ من بدءِ العالم إلى مولد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وما لحق بهذا الباب

بعض قول الطبيعيين

قد ذكرنا فيما سلف من كتبنا جملا من تباين الناس في بدء العالم، ممن أثبت حدوثه ونَفَاه، وما جرت الآراء بهم فيه إلى جهات شتى، وقد أخبرنا أنهم طوائف الهند وفرق من اليونانيين، ومن وافقهم على القول بالقدم من الفلكيين والطبيعيين، وما أوردته الفلكية من وقلها: إن الركة الصانعة للأشخاص المحِلًة فيها الأرواح متى قطعت المسافة التي بين العقدة - التي ابتدأت منها، حتى تنتهي إليها راجعة، ثم تنفصل عنها- أعادت كل ما بدأت به أولاً كهيئته وأشخاصه وصُوَره وضروب أشكاله؛ إذ كانت العلة والسبب اللذان بوجودهما توجد الأشياء قد وجِدَا عَوْداً كما وجدا بدءاً، فوجب ظهور الأشياء مي عادت إلى المبدأ الذي كان عنه الصدر، ثم ما تعقب هذا القول من قول الطبيعيين: إن علة كون الأشياء الجسمانية والنفسانية من قبل حركات الطبائع واختلاطها؛لأن الطبيعة عندهم تحركت في بدؤَها واختلطت فظهر الحيوان والنبات وسائر الموجوداتَ في العالم، وجعلت لها أصلا من التناسل، لما عجزت عن تبقية أشخاص وعدلت إلى النسل، وإن الطبائع تنتقل من مركب إلى بسيط، ومن بسيط إلى مركب، حتى إذا أدى المركب كنه ما فيه عادت الأشياء إلى البسيط إلى، وابتدأ الكون ماراً على طريقه؛ لأن الذي أوجبه أولا قد وجد، فحقه أن يوجد منه بوجود المعنى الذي أوجده، فظهر ذلك الظهور، كالنبات في الربيع، وتحرك قوته تحت الثرى، وذلك أن الشمس تبلغ في الربيع إلى رأس الحمل، بادئه في شرفها، آخذة في ممرها، وهي العلة الكبرى في إحياء النبات ويأخذ الثمر في الظهور من الشجر بادئاً كما كان ظاهرأ بالمثال الأول الذي قد باد في الشتاء ويبسه ويردة، لأن علة الكون الحرارة والرطوبة وعلة لفساد البرد واليبس، فإذا انتقلت الأشياء ممن الحرارة والرطوبة إلى البرد واليبوسة فارقت الكون المتمم ودخلت الفساد، فإذ انتهى بها الفساد إلى غايته وأوصلها إلى نهايته عاقبها الكون بوصول الشمس إلى رأس الحمل، فبدأ بها كعادته في إنشائها، وأبرزها من خساسة الفساد إلى نفاسة الكون، ولو كانت الحواس تضبط شأن الأجسام وتحيط بانتقالها من حال إلى حال لشاهدت ممرها في دائرة الزمان، ومبتدئة من رتبة؛راجعة إليها، مشكلة في محيط الدائرة بأشكال توافق بعضها، والشكول مختلفة باختلاف العلل، متفرقة كاختلاف الأسباب، وفي هذا القول من هذه الطائفة ماورح بالقول بالقدم وأبان عنه.

عليل على حدوث العالم

وقضية الفحص توجب أن الأشياء الموجودة غير خالية من إحدى المنزلتين: إما أن يكون بدء وانتهاء، وإما أن يكون بلا بدء ولا انتهاء، فإن كان بلا بدء ولا انتهاء فواجب أن تكون أجزاؤها وأبعادها غير متناهية، وواجب أن يكون الزمان غير عادٍّ لها ولا حاصر لجميعها، وقد وجدنا التناهي والابتداء في أجزائها وأبعادها على الدوام، وأنا في كل يوم جديد نعاين خلقاً جديداً، وصوراً في العالم لم تكن وصوراً بادئة قد كانت متأثلة، وفي هذا ما يدل على حصر الأشياء ووقوعها في غاية انتهاء صورها، وواجب أن للأشياء بدءاً وانتهاء، وبطل وهم المتوهم أن الأشياء بلا نهاية؛وأن ليس لها ابتداء ولا غاية، وذلك باطل ومحال فاسد، ولو وجب أن تكون الأشياء الموجودة بلا بَدْء ولا نهاية لوجب أن لا يزول شيء من مركزه، ولا يتحول عن رتبته، ولبطلت الاستحالة، وسقطت المضادة، وهذا مستحيل، ولو وجب أن تكون الأشياء على غير نهاية، لما كان لقولنا اليوم وأمس وغداً معنى؛لأن هذه الأزمان تعد ما هو بالنهاية، ويوجد في حوزتها إيجاد ما لم يكن وإدخالها في حوزتها ما هو كائن.

وفيما ذكرنا ما أوضح عن تنقل شأن المعاني، ودل على حدوث الأجسام، وهذه الدلالة مأخوذة من الحس، ومستظهرة للعقول والبحث.

المحدث للعالم

وإذ قد وضح أن الأشياء مُحْدَثة أكونها بعد أن لم تكن فلا بد لها من محدث هو بخلافها لا شكل له ولا مثل، لأن العقل لا يفيم لشيء مثلاً حتى يعلم له قدراً ووَزناً، ويعادله بمثله وشكله، وتعالى وجل وعز من لا تُعبِّرُ عن ذاته اللغات، وتعجز العقول أن تحصره بالصوت، وتدركه بالأشرات، أو يكون ذا غايات ولهايات. قال المسعودي: فلنرجع الآن إلى الكلام في حصر تاريخ العالم ووصف أقاويل الطوائف في ذلك المعنى،لأنا إنما ذكرنا الكلام في حدوث العالم لما ذكرنا قول من قال بقدمه ودل على أزليته، وقد تقدم ذكرنا لقول الهند في ذلك فيما سلف من هذا الكتاب.

عمر الدنيا

وأما اليهود فإنهم زعموا أن عمر الدنيا ستة آلاف سنة وأخذوا في ذلك مأخذاً شرعيّاً، وذهبت النصارى إلى أن عمر العالم ما ذهبت إليه اليهود، وأما الصابئة من الحرانيين والكماريين فقد ذكرنا قولهم في ذلك في جملة قول اليونانيين، وأما المجوس فإنهم ذهبوا في ذلك إلى حد غير معلوم من نفاذ قوة الهرمند وكيده، وهو الشيطان، ومنهم من ذهب في ذلك إلى نحو ما ذهب إليه أصحاب الاثنين في الزاج والخلاص، وأن العالم سيعود بدءاً متخلصاً من الشرور والآفات.

وزعمت المجوس أن من وقت زرادشت بن أسبيمان نبيهم إلى الإسكندر مائتين وثمانين سنة، وملك الإسكندر ست سنين، ومن ملك الإسكندر إلى ملك أردشير خمسمائة سنة وسبع عشرة سنة، ومن ملك أردشير إلى الهجرة خمسمائة سنة وأربع وستون سنة؛ فذلك من هبوط أدم إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ستة آلاف سنة ومائة وست وعشرون سنة: منها من هبوط آدم عليه السلام إلى الطوفان ألفان ومائتان وست وخمسون سنة، ومن الطوفان إلى مولد إبراهيم الخليل عليه السلام ألف وتسع وسبعون سنة، ومن مولد إبراهيم إلى ظهور موسى بعد ثمانين سنة خلت من عمر موسى بن عمران- وهو وقت خروجه ببني إسرائيل، من مصر إلى التيه- خمسمائة وخمس وستون سنة، ومن خروجهم إلى سنة أربع من ملك سليمان بن داود- عليه السلام!- وذلك وقت ابتدائه في بناء بيت المقدس- ستمائة وست وثلاثون سنة، ومن بناء بيت المقدس إلى ملك الإسكندر سبعمائة وسبع عشرة سنة، ومن ملك الإسكندر إلى مولد المسيح ثلثمائة وتسع وستون سنة، ومن مولد المسيح إلى مولد النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وإحدى وعشرون سنة،-يين أن رفع الله المسيح، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وست وأربعون سنة وبين مبعث المسيح وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وأربع وتسعون سنة، وكانت وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم في سنة تسعمائة وخمس وثلاثين سنة من سنِي ذي القرنين، ومن داود إلى محمد صلى الله عليه وسلم ألف سنة وسبعمائة سنة وسنتان وستة أشهر وعشرة أيام، ومن إبراهيم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ألفا سنة وسبعمائة سنة وعشرون سنة وستة أشهر وعشرة أيام ومن نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف سنة وسبعمائة سنة وعشرون سنة وعشرة أيام فعلى هذا القول جميع جملة التاريخ من هبوط آدم إلى الأرض إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف سنة وثمانمائة سنة وإحدى عشرة سنة وستة أشهر وعشرة أيام، فجملة التاريخ من هبوط آدم إلى الأرض إلى هذا الوقت- وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، من خلافة المتقي باللهّ ونزوله الرقة من ديار مضر- خمسة آلاف سنة ومائة وست وخمسون سنة.

وقد ذكرنا جملاً من التاريخ فيما سلف من هذا الكتاب فلم نُعِدْ منه ما تقدم.

وللمجوس في التواريخ أقاصيص يطول ذكرها، وعود المُلْكِ إليهم وإلى غيرهم من الطوائف السالفة في بدوِّ العالم وفنائه، ومن قال منهم ببقائه، وأن لا بَدْءَ له ولا نهاية، ومن ذهب منهم إلى أن له انتهاء ولا بدء له، وقد أتينا على ذلك فيما سلف من كتبنا فأغنى ذلك عن الإعادة في هذا الكتاب؛ لاشتراطنا فيه على أنفسنا الاختصار والإيجاز والتنبيه على ما سلف لنا من الكتب.

رأي أهل النظر من المسلمين

وقد ذهب جماعة من أهك البحث والنظر من أهل الإسلام إلى أن الدلالة قد قامت على حدوث العالم بعد أن لم يكن، وأن المحدث له الخالق الباري جلّ وعز، أحدثه لا من شيء، ويبعثه لا من شيء في الأخرة ليصح بذلك وعده ووعيده،إذ كان الصادق في وعده ووعيده لا مبدل لكلماته، وأن أول العالم من لدن آدم، وقد غاب عنا حصر السنين وإحصاؤها، وتنازع الناس في بدء التاريخ، والكتابُ لم يخبر بحصر أوقاته ولا بَيَّنَ عن كيفيته ولا أعداد سنيه فيما مضى، وليس علم ذلك مما تهجم عليه الآراء، ولا تحصره أقضياتُ العقول وموجبات الفحص وضرورات الحواس عند مذاكرتها لمحسوساتها، فكيف توجب أن يوقت عمر الدنيا بسبعة آلاف سنة، واللهّ عزّ وجلّ يقول، وقد ذكر الأجيال ومن ضمه الهلاك:" وعاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً" والله تعالى ذكره لا يقول الكثير إلا في الشيء الحقيقي الكثير، وأعلمنا في كتابه خلقه أدم، وما كان من أمره وأمر الأنبياء بعده، وأخبر عن شأن بَدْء الخلق، ولم يخبرنا بمقدار ذلك فنقف عليه كوقوفنا عندما أخبرنا به، ولا سيما مع علمنا أن المَدَى بيننا وبينه متفاوت، وأن الأرض كثرت بها المدن والملوك والعجائب، فلا نحصر ما لم يحصره اللهّ عز وجل، ولا نقبل من اليهود ما أوردته؛لنطق القرآن أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويكتمون الحق وهم يعلمون، ونفيهم النبوات وَجَحْدهم ما أتَوْا به ممن الآيات مما أظهره اللّه عز وجل على يَدَيْ عيسى بن مريم من المعجزات، وعلى يَدَيْ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من البراهين الباهرات والدلائل والعلامات، والله عز وجل يخبرنا بما أهلك من الأمم لما كان من فعلهم وكفرهم بربهم، قال اللهّ عز وجل: " الحاقة وما الحاقة؟ وما أدراك ما الحاقة؛ كذبت ثمود وعاد بالقارعة، فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية" و إلى قوله:" فهل ترى لهم من باقية" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب النسابون " وأمر أن ينسب إلى معد، ونهى أن يتجاوز بالنسب إلى ما فوق ذلك؛لعلمه بما مضى من الأعصار الخالية والأمم الفانية؛ولولا أن النفوس إلى الطارف أحَنٌ، وبالنوار أشْغَفُ، وإلى قصار الأحاديث أمْيَل وبها أكْلَف، لذكرنا من أخبار المتقدمين وسير الملوك الغابرين ما لم نذكره في هذا الكتاب، ولكن ذكرنا فيه ما قرب تناولُه تلويحاً بالقول دون الإيضاح والشرح؛إذ كان مُعَوَّلنا في جميع ذلك على ما سَلَفَ من كتبنا وتقدم من تصنيفنا، وإذا علم اللّه عز وجل موقع النية ووجه القصد أعان على السلامة من كل مَخوفٍ.

وقد ذكرنا في هذا الكتاب من كل فن من العلوم وكل باب من الآداب على حسب الطاقة ومبلغ الاجتهاد والاختصار والإيجاز- لمعاً سيعرفها من تأمل، وينبه بها مَنْ راها.

وإذ قد ذكرنا جوامع ما يحتاج المبتدئ والمنتهي من علوم العالم وأخباره،فلنذكر ألان نسب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومولده، ومبعثه، وهجرته، ووفاته، وأيام الخلفاء والملوك: عصراً فعصراً، إلى وقتنا هذا، ولم نعرض في كتابنا هذا لكثير من الأخبار، بل لَوَّحْنا بالقول بها تخوفاً من الإطالة ووقوع الملل؛إذ ليس ينبغي للعاقل أن يحمل البنية على ما ليس في طاقتها، ويسوم النفس ما ليس في جِبِلتها ، وإنما الألفاظ على قدر المعاني فكثيرها لكثيرها، وقليلها لقليلها، وهذا باب كبير، وبعضه ينوب عن بعض، والجزء منه يوهمك الكل، واللّه تعالى ولي التوفيق.